The Israeli Arab: A Reading in the Mutilated Political Rhetoric
Keywords: 
الفلسطينيون في إسرائيل
الأقلية العربية في إسرائيل
البلاد العربية
الكنيست الإسرائيلي
Full text: 

بعد أن حلّ الإعجاب القائم على الهزيمة في السبعينات محل تخوين الأقلية العربية في إسرائيل، أو تجاهلها في أفضل حالات الخطاب السياسي العربي، عاد الارتباك من جديد ليحكم تقويم أوضاع ودور هؤلاء العرب في إسرائيل، الذين غدوا يطلون على الدول العربية المجاورة من على الهامش الديمقراطي للتلفزة الإسرائيلية. إنهم يقاطعون رؤساء الحكومات والوزراء في جلسات الكنيست، فهل هذا دليل على وطنية فلسطينية أم دليل على توطد الجانب الإسرائيلي الواثق في النفوس المبتورة، أم هو تقليد عربي للإسرائيلي الواثق بنفسه في دولته؟ العربي الإسرائيلي يمثل دور الإسرائيلي. ومن ناحية أُخرى تراهم يهنئون الوزراء والرؤساء في يوم "استقلال" إسرائيل في حفلات أُعدت خصيصاً للتهاني بـ "العيد". العرب يهنئون بـ "الاستقلال"، لا كما هنأ عضو الكنيست العربي في حينه رئيس الدولة بعبارة: "نحيي دولة إسرائيل المزعومة"، حاسباً أن "المزعومة" من "الزعامة"، والزعامة أثيرة على قلوب ممثلي الحمائل/العشائر في حينه الذين كانوا يتوسطون العلاقة بين السلطة الإسرائيلية والمجتمع العربي؛ إنهم هذه المرة يهنئون من دون خوف الخمسينات والستينات في "الدولة المزعومة". ومن ناحية أُخرى، ومنذ أيام "استقلال" ثلاثة، تسمح إسرائيل للعربي الإسرائيلي لا بتهنئتها من خارج الاحتفال فحسب، بل أيضاً بالمشاركة في الحدث المركزي ليوم "الاستقلال". لقد أُفرد مكان لعربي واحد في كل مرة لإشعال واحدة من الاثنتي عشرة شعلة التي تمثل مختلف قطاعات الحياة في إسرائيل.

لقد ولى إلى غير رجعة عربي "دولة إسرائيل المزعومة". لكن، كما يبدو، فقد ولى أيضاً عربي "البقية الباقية" الصامد على أرضه. لقد كان الصمود والبقاء متخيلاً في شتات فلسطيني يبحث في أجواء الهزيمة عن صورته المعكوسة، ثم غدا الصمود والبقاء آلية نرجسية تعوض من غياب الاستراتيجيا السياسية عند أقلية مهزومة في الدولة القائمة على أنقاض شعبها. وأخيراً، أصبح البقاء والصمود عملية أسرلة عندما تجردا من بُعدهما القومي. وهي أسرلة مبتورة بالضرورة لأنها لا تقوم، ولا يمكن أن تقوم على المساواة، وليس ذلك لأن العرب جزء من أمة في "حالة حرب" مع إسرائيل، ولا لأن فجوة الحداثة تفصلهم عن تحقيق المساواة، كما تدعي نظريتا العلوم الاجتماعية الأساسيتان في إسرائيل. ففي أفضل الحالات تفسر هاتان النظريتان ما هو قائم، هذا إذا سلمنا بهما جدلاً، لكنهما لا تفسران لماذا لن تكون المساواة ممكنة في المستقبل، حتى في حالة علاقات سلمية بالدول العربية، ما دامت دولة إسرائيل تحافظ على مبناها الحالي.

إن وضع الأقلية الفلسطينية ليس ثابتاً. وعلى الرغم من استمرار وجود الفجوة في معدلات الدخل والمستوى المعيشي وغير ذلك بين العرب واليهود، فإن العرب في إسرائيل جزء من عملية التطور المستمرة منذ سنة 1967 في ازدياد معدلات الاستثمار، وارتفاع المستوى الثقافي، وارتفاع معدلات الاستهلاك وإلى ما هنالك. والسؤال الذي لا إجابة عنه هو ما العامل الأكثر تأثيراً: هل هو ارتفاع مستوى المعيشة بالنسبة إلى الأمس أم استمرار وجود الفجوة بين العرب واليهود اليوم، أكان ذلك في الوظائف الحكومية، أم في الوظائف الإدارية غير الحكومية، أم في المستوى الثقافي، أم وضع البنية التحتية في القرية العربية؟ وعدم إمكان الإجابة عن هذا السؤال لا يعني أنه لا يتبلور إطار يعمل المتغيران فيه: التطور المستمر واستمرار التمييز، في الوقت ذاته. وهذا الإطار هو الإطار الإسرائيلي - لقد تأسرل العرب في إسرائيل حتى في كيفية تعاملهم مع الفجوة التي تفصلهم عن اليهود، وهم في خطابهم السياسي السائد يحاولون قدر الإمكان تجنب السؤال الجوهري بشأن العلاقة الأداتية (instrumental relationship) بين اليهود ورفاهيتهم وبين الدولة.

لقد طرأ تغيير على أحد المؤشرات الأساسية التي استخدمها العرب للتدليل على التمييز ضدهم، وهو الميزانيات المخصصة للسلطات المحلية محسوبة بالنسبة إلى الفرد. فقد كانت المخصصات للفرد العربي لا تتجاوز عُشر المخصصات للفرد اليهودي في السبعينات، وقد وصلت حالياً إلى الثلث. ولم يبدأ هذا التغيير في فترة حزب العمل، بل هو تغير مستمر بالتدريج منذ أن نشأ في إسرائيل نظام الحزبين، أي منذ نهاية السبعينات؛ هذا النظام الذي جعل للعرب في إسرائيل أهمية ما في الخريطة السياسية الإسرائيلية.

لكن هذا التغيير، أو هذه الدينامية في أوضاع الأقلية العربية الفلسطينية لا تطال ثلاثة أمور جوهرية: 1) استمرار التمييز في توزيع الخير العام والثروة الاجتماعية بين اليهود والعرب، إضافة إلى، أو استناداً إلى: 2) أن دولة إسرائيل هي دولة الأكثرية اليهودية في طابعها وجوهرها، وسلم أولوياتها أيضاً، 3) أن العرب في إسرائيل لا يتمتعون بحقوق جماعية - حقوق الأقلية القومية - ما عدا كطوائف دينية (مِلل). وحتى هذا الحق منقوص في حالة المسلمين، ولا سيما فيما يتعلق بحق الطائفة الإسلامية في إدارة شؤون أوقافها أو حقها في تعيين قضاتها الشرعيين.

كيف يمكن عقلنة هذا الوضع القائم في دولة تعرّف نفسها بأنها دولة ديمقراطية في نهاية القرن العشرين؟ من الواضح أن تفسيرات منظِّري المؤسسة الإسرائيلية التقليديين لم تعد تكفي. وقد تعاملت هذه التفسيرات عموماً مع الغبن اللاحق بالمواطنين العرب من منطلق نظرية التحديث التي تقول بوجود فجوة بين مجتمع المستوطنين اليهود صاحب الحداثة وبين مجتمع "السكان المحليين" (natives) الذي يمر بعملية تحديث وافدة عليه. والادعاء المركزي في تفنيد هذه النظرية لا يمكن أن يأتي إلا من خارج الأسرلة على وجه العموم. وهو أن الحداثة الإسرائيلية كانت تعني بالنسبة إلى الفلسطينيين كشعب إجهاضاً تاريخياً لعملية تحديثهم، التي بدأت قبل سنة 1948، ثم سُد طريق التحديث أمام الأقلية الفلسطينية بعد سنة 1948، وذلك بفقدان هذا المجتمع نخبه الاقتصادية والسياسية والثقافية. والأهم من ذلك كله فقدانه المدينة الفلسطينية وبقاؤه مجتمعاً قروياً يعتاش عن طريق العمل في المدينة اليهودية التي لا تستوعبه. ثم فقد القرية بفقدانه الزراعة، فبقي لا هو مدني ولا هو قروي - وربما كان هذا هو العربي الإسرائيلي؛ الحداثة الوحيدة التي يعرفها هي الحداثة اليهودية، ينضم إليها مقلداً ومهمَّشاً ومطالباً في أفضل الحالات. والقرية التي فقدت القرية هي الأصالة الوحيدة التي يعيشها أو يحاول أن يستعيدها كـ "فولكلور". والفولكلور عادة يعاد إحياؤه في المدينة عن الريف، أمّا أن يعاد إحياؤه في الريف، فهذا يدل على أن القرية أصبحت تمثل دور ذاتها. وتفنيد نظرية التحديث يجب ألا ينسي الأثر المشوه لكن الحقيقي الذي كان للتحديث القسري المفروض على بقايا المجتمع الفلسطيني في الداخل. لكن كما قلنا، فإن هذه الحجج لا يمكن إلا أن تأتي من خارج عملية الأسرلة، أي من منطلق الانتماء إلى الذاكرة الجماعية الفلسطينية، ذاكرة السكان الأصليين.

أمّا المنطلق الثاني لتفسير أوضاع الأقلية العربية، وما زال يُستحضر سلباً وإيجاباً، فهو الصراع العربي - الإسرائيلي وانعدام الثقة بـ "ولاء المواطنين العرب للدولة"، وهو يستحضر إيجاباً[1] لدى أولئك الذين ما زالوا يعتقدون باستمرار الصراع القومي وبعدم ولاء الأقلية القومية العربية،[2] وسلباً عند المؤمنين بأن المنطقة متجهة نحو السلام، وبأن الأقلية الفلسطينية أثبتت ولاءها لدولة إسرائيل بصورة عامة، وهم أكثرية العلماء الاجتماعيين في إسرائيل من المنتمين إلى المعسكر المؤيد للعملية السلمية.

وبغض النظر عن عدم ليبرالية خطاب "الولاء للدولة" (ماذا يعني الولاء في الدولة الديمقراطية الليبرالية، ولماذا يجب أن يكون شرطاً لمنح الحقوق المتساوية، وما هي وسائل فحصه أصلاً؟)، وبغض النظر عن مطالبة العربي، وهي مطالبة مشوهة، بأن يكون موالياً للدولة التي قامت على أنقاضه ككيان قومي، فإن الأمر الأساسي هنا هو تبني هذا الخطاب السياسي الصهيوني، خطاب الولاء للدولة، وكأن الدولة علاقة عاطفية شخصية للمواطن، لدى فئات واسعة من ممثلي الأقلية العربية ونخبها في لقاء مع "الديمقراطيين اليهود"، الذين يطالبون بحقوق الأقلية القومية العربية من منطلق ولائها للدولة، وبذلك لا يبترون عروبة العرب فحسب، بل ليبراليتهم هم أيضاً.

إضافة إلى ذلك، فقد أثبت العرب في إسرائيل فعلاً أنهم من أكثر الأقليات القومية هدوءاً في القرن العشرين.

إن العرب في إسرائيل لا يعيشون في أوضاع من المساواة في الحقوق أو في الفرص، لكن العلاقة بينهم وبين الدولة ليست مجرد علاقة رقابة وسيطرة (domination and control) بل هي علاقة أكثر تركيباً. وإذا كان نموذج الاستعمار الداخلي (internal colonialism) صالحاً لشرح نشوء قضية هذه الأقلية تاريخياً، فإنه لا يشرح بنية العلاقة التي يعاد إنتاجها في الحاضر بين الدولة والأقلية القومية بتركيباتها كافة، بما في ذلك عنصر تشكل الوعي. وفي أشكال الوعي السائدة في إسرائيل، ليست العلاقة مجرد علاقة رقابة وسيطرة أو استعمار داخلي.

وقد تطور مؤخراً نموذج جديد لفهم الديمقراطية الإسرائيلية أكثر ملاءمة لتفسير واقع الأقلية الفلسطينية، لكنه أكثر ملاءمة، لا من منطلق نقد الواقع، أي عقلنته بتغييره، وإنما من منطلق عقلنته بتكريسه. وبذلك تكون هذه النظرية في فهم واقع العرب في إسرائيل الأكثر خطورة لأنها أيضاً الأكثر توافقاً مع الواقع. ويبنى هذا النموذج على الفرضيات التالية بشأن الديمقراطية الإسرائيلية: 1) ليست إسرائيل دولة متعددة القومية، وديمقراطيتها ليست ديمقراطية توافقية (Consociational Democracy) محايدة بين مجموعات قومية، لكل منها إرادتها المبلورة جماعياً وحقها في النقض. فهي ليست من الناحية الحقوقية دولة متعددة القومية أو اللغة أو الثقافة بحكم التعريف، كما هي الحال في بلجيكا أو سويسرا أو كندا. إن الأقلية القومية ليست مجموعة قومية على قدم المساواة مع مجموعة قومية أُخرى، وهي أصلاً غير معترف بها كأقلية قومية، وإنما هي مجموعة سكانية معرفة بتعبير "غير اليهود". وفي كتاب الإحصاء الإسرائيلي السنوي لا ترد كلمة عرب وإنما مصطلح "غير اليهود". وإسرائيل ليست دولة ديمقراطية توافقية لتجمع بين الديمقراطية الليبرالية والاتفاق والتوازن بين مجموعات قومية ذات إدارة ذاتية متفاوتة الصلاحيات. 2) إسرائيل ليست من الناحية الأُخرى ديمقراطية ليبرالية اندماجية تنطلق في التعامل مع أي مواطن فيها من مجرد تعريفه كمواطن، أي من دون الأخذ في الاعتبار انتماءاته القومية أو الدينية. كما أن ديمقراطيتها لا تنطلق من تعريف مدني للأمة، كما هي الحال في فرنسا والولايات المتحدة (على الرغم من اتجاه الأخيرة بالتدريج نحو احترام تعدد الثقافات)؛ فإسرائيل ليست دولة جميع مواطنيها وإنما هي دولة اليهود. كما أن العرب الذين يعيشون فيها لا يشكلون مع اليهود أمة إسرائيلية ديمقراطية واحدة، فـ "شعب إسرائيل" (باللغة العبرية "عام يسرائيل") يعني الأمة اليهودية فقط. 3) من ناحية أُخرى، من الصعب اعتبار إسرائيل دولة تمييز عنصري (أبارتهايد) أو "ديمقراطية الأسياد" (Herrenvolk Democracy)، حيث تقتصر الديمقراطية على فئة سكانية بعينها. العرب في إسرائيل ليسوا مستثنين من الديمقراطية الإسرائيلية، مع أنها ديمقراطية لليهود. وهم يتمتعون بحقوق فردية متساوية رسمياً. وعلى الرغم من أن هذه الديمقراطية لا يمكن أن تصمد في أي امتحان قومي، ومن أنها تتعامل مع مواطنيها كأنهم أعداء عندما يضعونها على المحك القومي، في يوم الأرض 1976 مثلاً، فإن إسرائيل ليست دولة تمييز عنصري إلا إذا أخذنا الضفة والقطاع في الاعتبار، وهنالك أسباب كثيرة، في رأي كاتب هذه الدراسة، لأخذها فعلاً في الاعتبار، منها بناء البنتوستانات مؤخراً، لكن لهذه القضية موضعاً آخر.

ماذا بقي إذاً؟ بدلاً من تطبيق نموذج للديمقراطية على الواقع القائم، بقي أن نحول الواقع القائم إلى النموذج. وقد وُجد أيضاً من يقوم بذلك تحت عنوان "ديمقراطية إثنية" (Ethnic Democracy).[3] الدولة هنا عبارة عن أداة في يد الأغلبية القومية أو العرقية أو الثقافية، وبالتالي، لا مجال للحديث عن أمة مدنية. لكن من الناحية الأُخرى ينعم أبناء الأقلية كأفراد بحقوق مواطنين، ويستطيعون نظرياً أيضاً التطلع إلى الحصول على حقوق جماعية كأقلية قومية، والعمل من أجلها ضمن هذا النموذج. هذا أقصى ما يمكن الحصول عليه. وتدل التجربة على أن في الإمكان التعايش بصورة لا بأس فيها مع مثل هذا الوضع. النموذج النظري هنا عبارة عن محاولة لعقلنة الواقع أو تحويله إلى نظرية، بدلاً من تحويل النظرية الديمقراطية إلى أداة في نقد الواقع.

إن الخطأ النظري الأساسي الذي يقع هذا النموذج فيه هو اعتباره الإدارة الذاتية للأقلية القومية والديمقراطية الليبرالية أمرين منفصلين، وفصله فصلاً تاماً بين الديمقراطية الليبرالية التي لا تحافظ بالضرورة على خصوصية العرب أو اليهود الثقافية وبين الديمقراطية التوافقية التي لا يمكن الحديث في إطارها عن مساواة بين المواطنين كأفراد، وإنما بين المجموعات القومية. والحقيقة أن لا تناقض بين النموذجين، وإن كان شكل تطبيق الديمقراطية الليبرالية، في دولة متعددة القومية في عصرنا، يجب أن يشمل أيضاً الاعتراف بوجود مجموعات قومية وثقافية متمايزة، وليس أمام الديمقراطيين العرب واليهود من نموذج آخر يصبون إليه. وبدلاً من اعتبار الواقع كما هو ديمقراطياً، لكن من نوع خاص، فإن على النظرية فضح عدم ديمقراطية الواقع السياسي وعيوبه.

قبل سامي سموحا بعدة أعوام، حاول منظِّر آخر، هو كلود كلاين، عميد كلية الحقوق في الجامعة العبرية في القدس سابقاً، طرح حكم ذاتي للأقلية القومية الفلسطينية في إسرائيل، لا كخطوة نحو المساواة وإنما من أجل تجنب معركة المساواة في إسرائيل، وهي معركة لا بد من أن يُطرح فيها جوهر الدولة اليهودية للنقاش.[4] لم يُطرح اقتراح الحكم الذاتي للعرب في إسرائيل بداية من قِبل مثقفين عرب، كما يعتقد البعض، وإنما من قِبل المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية الحقوقية. وقد تم هذا الطرح من منطلق بُعد نظر وميل لتجنب وإجهاض طرح آخر للحكم الذاتي العربي الفلسطيني داخل إسرائيل لا يجعل الإدارة الذاتية بديلاً من المساواة، وإنما يجعلها قائمة على المساواة وعلى السعي لإعادة تعريف جوهر الدولة.[5]

أمّا الخطأ النظري الآخر فكامن في محاولة تحويل واقع العرب في إسرائيل، القائم أصلاً على كونهم أقلية هادئة تتمتع بمستوى معيشي لا بأس فيه، إلى نموذج يمكن تعميمه. ويذكر سامي سموحا مثلاً مصر ودولاً أُخرى في العالم الثالث كدول مرشحة لتبنّي "الديمقراطية الإثنية" في حال دمقرطتها. وهنا يظهر ضعف هذا النموذج، لأن تعميمه على تلك الدول يعني تفجير حرب أهلية. ففي مصر أمة مصرية تشمل المسلمين والمسيحيين، وتحويلها إلى ديمقراطية إثنية يعني اعتبار المسلمين أكثرية إثنية تملك الدولة، وتحويل الأقباط إلى أقلية لا تعتبر مصر دولتها: هذه وصفة جاهزة للحرب الأهلية. إن ثقة إسرائيل الزائدة بضرورة أن يتعلم العرب الديمقراطية منها، وحمّى الإعجاب العربي بإسرائيل، هما من الناحية العلمية مجرد هذيان.

لقد كرست الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة حتى الآن تمييزها ضد الأقلية العربية، وسيطرتها، ورقابتها على هذه المجموعة السكانية، عن طريق تسخير جهاز الدولة لخدمة الأكثرية اليهودية أو لمصلحة الأكثرية اليهودية، كما تعرّفه هي طبعاً. ومن نافل القول إن هذه السياسة، أي استثمار الدولة كأداة في خدمة اليهود، مسؤولة عن مصادرة الأراضي وعن الفجوة الاقتصادية والبنيوية القائمة بين العرب واليهود، وعلى هذا يتفق الكثير من الباحثين في أوضاع هذه الأقلية.[6]

لكن النموذج الجديد يدعي أن في الإمكان تطوير هذا الواقع على نحو يسمح بنوع من التوازن بين عدم حيادية الدولة قومياً وبين الحقوق الفردية والجماعية للأقلية القومية. ويدعي بعض الباحثين المعارضين[7] لهذا النموذج أن هذا هو مكمن فشله في المدى البعيد. فقد أثبتت التجربة، ولا سيما في إيرلندا الشمالية، وسري لانكا، وقبرص قبل سنة 1974، أن التمييز البنيوي ضد الأقلية القومية لا بد من أن يؤدي إلى الانفجار في النهاية.

إن التحديد الأدق في هذا السياق هو أن هنالك فارقاً بين التمييز ضد أقليات مهاجرة أو متنقلة وبين التمييز ضد فئات قومية تشكل السكان المحليين الذين يعتبرون أنفسهم أصلاً أصحاب البلد الأصليين.[8] وتظهر التجربة، وهو ما يدل العقل السليم عليه أيضاً، أن إرضاء السكان الأصليين، أو القومية المرتبطة بالمكان، بديمقراطية منقوصة أمر شبه مستحيل، وأن في مثل هذه الحالات يتأجج الصراع القومي أو الديني أو الثقافي باتجاه الانفصال أو باتجاه إعادة صوغ حل وسط تاريخي في شكل ديمقراطية توافقية.

لكن هذا التحديد المهم لا يكفي إذا لم يعقبه تعديل؛ فوضع الأقلية الأصلية أو السكان الأصليين ليس قضية ولادة وإنما قضية ثقافة. وإذا سادت في أوساط الفلسطينيين العرب مواطني إسرائيل، نتيجة عوامل كثيرة، ثقافة إسرائيلية مهمشة، فقد يعني ذلك قبولهم في المدى المنظور بوضع الأقلية في دولة "الديمقراطية الإثنية"، أي بما هو أقل من المساواة التامة للأفراد والحقوق القومية للمجموع. والخطاب السياسي السائد، وهو ناتج من الثقافة وفاعل فيها، أي مكون لها في الوقت ذاته، يقبل بنموذج الديمقراطية المنقوصة، أي الديمقراطية الإثنية.[9] وهذا القبول العربي الإسرائيلي هو قوة هذا النموذج الأساسية لا تماسكه العلمي أو قوته البرهانية. إن الرضى الذي يطرح نفسه عربياً كنوع من البراغماتية (وكثيراً ما يخلط العربي بين البراغماتية والفهلوية) هو في الحقيقة جزء لا يتجزأ من الثقافة العربية الإسرائيلية السائدة: التضرع إسرائيلياً لمزيد من الحقوق على أساس قبول يهودية الدولة وعلى أساس الولاء لها في الوقت ذاته، وتعليل ذلك عربياً بأنه تعامل مع الواقع. وما هي الثقافة إن لم تكن كيفية التعامل مع الواقع؟ هذا النوع من التعامل مع الواقع هو الثقافة العربية الإسرائيلية، أو ما أسميه عملية الأسرلة. وهي باختصار عملية الشكل الثقافي والنفسي للقبول بوضع نصف مواطن من ناحية، ونصف جماعة من ناحية أُخرى.

إن "الواقع"، مثل التعامل معه، ليس معطى وإنما هو ناشئ ومتكوّن، والقبول به جزء من تكونه.

الأسرلة

أشار الكثير من الباحثين الفلسطينيين إلى ظاهرة نهوض الوعي القومي في أوساط العرب في إسرائيل في السبعينات، كظاهرة "فلسطنة" الوعي، كجزء من عملية نهوض الوعي القومي الفلسطيني. وقد أشار بعض الباحثين الإسرائيليين في الفترة نفسها إلى أن الموضوع أكثر تركيباً وأن العرب في إسرائيل يمرون بعمليتين متوازيتين: عملية أسرلة وعملية فلسطنة.[10] ويعترض الوعي الوطني الفلسطيني على وجود عملية الأسرلة.

والباحث العربي الذي يعبئ استمارة سوسيولوجية لا يسأل عن معنى الأسرلة، والمقاييس غير المباشرة التي تعتمد لقياسها، مثل إجابة المواطن العربي بالنفي عن سؤال تركه إسرائيل إلى الدولة الفلسطينية في حال قيامها، أو الإجابة بشأن نسبة مخالطته للإسرائيليين منسوبة إلى مخالطة سكان المناطق المحتلة سنة 1967 للإسرائيليين. هذه الإجابات كلها لا تصلح مقياساً للأسرلة، مثلها مثل مدى معرفة اللغة العبرية. فالعربي لا يترك إسرائيل إلى الدولة الفلسطينية، لأنه مرتبط بالأرض لا بإسرائيل، ومعرفة اللغة العبرية ومخالطة اليهود هما من الضرورات الحياتية في دولة إسرائيل.[11] هذه ادعاءات صحيحة بذاتها، لكن لا شيء يقف بذاته في العمليات الاجتماعية المركبة. فصحيح أن الأسرلة ناجمة عن عمليات "اضطرارية" في بداية الأمر، لكنها سرعان ما تشكل في ظروف سياسية واجتماعية معينة جزءاً لا يتجزأ من الثقافة القائمة، وخصوصاً إذا لم تعد الظروف المعيشية ظروف ضيق، وإذا ارتفع مستوى الدخل ومعدلات الاستهلاك، وأصبح "الاضطرار" أيضاً مرغوباً فيه، والتمييز قضية إحصاءات صحيحة بشأن الفجوة القائمة بين العرب واليهود. لكن هناك فارقاً بين التمييز الذي يهدد الحياة بالجوع وبين التمييز الذي يسمح بمستوى معيشي لائق مقارنة بالماضي، ومقارنة بالعرب في غزة والمناطق المحتلة الأُخرى. إن المشكلة الأساسية في الاعتراض على مفهوم الأسرلة كامنة في اعتبار الأسرلة مسألة هوية فحسب. ولذلك عندما يعترض نديم روحانا على هذا المفهوم، فإنه يقول: "إن الهوية تتضمن معاني لا يتضمنها مفهوم الأسرلة مثل: (الكبرياء، الولاء، الانتماء، الرابطة العاطفية)."[12] فهذه كلها غائبة عن علاقة العرب في إسرائيل بالدولة.

إن الاعتراض يقصر موضوع الأسرلة على الهوية، وفي حالات عديدة أقل تركيباً، تقتصر الهوية على إجابة اختيارية عن سؤال: "عرِّف نفسك!". والاعتراض يعتمد على كيف يعرِّف الفلسطيني، مواطن إسرائيل، نفسه من بين عدة خيارات تُطرح عليه في استمارة سوسيولوجية مثل: عربي، فلسطيني، إسرائيلي، مسلم، مسيحي. إن عيب هذا التوجه لا ينحصر في قصر الهوية على التحديد الذاتي لها بمختلف دوافع هذا التحديد فحسب، بل يكمن فيه أيضاً وضع المواطن العربي في موقع قوة وسيطرة من حيث علاقته بالواقع. إنه ينتقي الهوية بثقة بالنفس تشابه وثوق المشتري في السوق، المتأكد من المبلغ الذي في حيازته، وهذا عكس "الاضطرار تماماً"، لكنه لا يقل عنه ميكانيكية.

وكما يبني النموذج المعترَض عليه الأسرلة كلها على ضرورات حياتية، محولاً إياها إلى هوية، فإن النموذج المعترِض يقصر الأسرلة كلها على هذه الأمور الاضطرارية، وينقّي الهوية منها تنقية تامة. إن النموذج الذي يعطي العربي امتياز تحديد هويته بين أربعة أو خمسة احتمالات ممكنة يجعل العربي في موقع تعامل من الخارج مع هويته، فهو يحددها كما يروق له. لكن، كما ادُّعي ضد الأسرلة أنها مجرد أداة في يد العربي من أجل العيش في إسرائيل أو من أجل تحصيل الحقوق المدنية، كذلك من الممكن الادعاء أن اختيار الهوية الفلسطينية في الإجابة عن استمارة سوسيولوجية هو أداة للمحافظة على التوازن النفسي أو الخلقي، أو للتعويض من الممارسة الحياتية الإسرائيلية المتمثلة في المطالبة بالمساواة المجتزأة في دولة إسرائيل القائمة على خرائب الشعب الفلسطيني.

إن اعتبار الأسرلة موضوع هوية فحسب، وقصر الهوية على التحديد الذاتي لها المرتبط بالكبرياء، وغير ذلك من المشاعر التي يفضل الإنسان العادي أن يعتبر نفسه مالكاً إياها على أن يكون عارياً منها، كل هذا جعل الباحثين العرب لا يرون عملية الأسرلة الجارية أمام أعينهم. وهي جارية ضد أي منطق، لكنها جارية. وإذا تعارض واقع المنطق مع منطق الواقع، فلا مهرب من تغيير الأول أو العمل على تغيير الثاني.

ليست علاقة العرب في إسرائيل بالواقع الإسرائيلي علاقة أداتية فحسب. وفي العملية الاجتماعية في المدى الطويل تختلط الأداة بحاملها فتؤثر فيه وفي ثقافته كما يؤثر فيها. وتتضح الصورة إذا أضفنا إلى هذا التعميم النظري التطورات التالية لعلاقة العرب بـ "الأداة" الإسرائيلية: 1) ارتفاع متدرج في مستوى المعيشة في مقابل تدهور متدرج في الضفة والقطاع منذ منتصف الثمانينات، من دون أن يرافق هذا الارتفاع نشوء اقتصاد عربي مستقل أو شبه مستقل، وإنما من خلال عملية اندماج، لا على قدم المساواة، في الاقتصاد الإسرائيلي. 2) ازدياد في الوعي الفردي والمؤسسي للحقوق الكامنة في المواطنة الإسرائيلية، وازدياد التطلع إلى ممارسة هذه الحقوق مع ارتفاع مستوى التعليم والتنظيم وتمايز الوظائف الاجتماعية. 3) من ناحية، تبلوُر علاقة فلسطينية - فلسطينية يتميز فيها الطرف الذي حظي بمواطنة إسرائيلية بعدد لا بأس فيه من الحقوق والامتيازات يشكل الجانب المحبّذ في إسرائيليته، ومن ناحية أُخرى تبلوُر سياسة فلسطينية تعبر عن اندفاع المواطن الفلسطيني نحو الأسرلة سياسياً باعتبارها أداة ضرورية في خدمة عملية السلام الجارية. بهذا المعنى، فإن دعماً عربياً داخل إسرائيل لحزب العمل مثلاً أصبح يحمل معاني أُخرى بالنسبة إلى القوى التي تمثل الشرعية الوطنية الفلسطينية. 4) الثورة الإعلامية الإسرائيلية منذ منتصف الستينات، هذه الثورة في وسائل الإعلام المطبوعة والإلكترونية، تعيد إنتاج الحيّز العام الإسرائيلي في كل بيت عربي، وأهميتها آخذة في الازدياد. ومع أن وسائل الإعلام العربية هي أيضاً عربية إسرائيلية، فإن هنالك، بالإضافة إلى ذلك، انتشاراً متزايداً للتعاطي مع وسائل الإعلام العبرية ومصطلحات خطابها السياسي والترفيهي والثقافي، متجهة بالتدريج نحو تبوُّء مكانة الهيمنة الثقافية (cultural hegemony).[13] 5) تطور أوضاع على مستوى منطقة الشرق الأوسط يستطيع فيها العربي المواطن في إسرائيل زيارة دول عربية (مصر والأردن والمغرب) بجواز سفر إسرائيلي. ويتم التعامل العربي الرسمي معه كإسرائيلي*. والعربي يكتشف أن التعامل معه كإسرائيلي ليس أسوأ ما وقع له، ولا سيما إذا قارن التعامل معه كإسرائيلي بالتعامل مع الفلسطيني ابن المناطق المحتلة على حدود الدولة العربية نفسها. وانفتاح المجال للسياحة في العالم العربي لم يؤد بالضرورة إلى تعمق الثقافة العربية المناقضة للثقافة الإسرائيلية، بل إلى نموها في الإطار الإسرائيلي. فبعد اكتشاف المجتمع العربي كمكان سياحة، لا كوطن عربي، تتم العودة إلى الهوية الإسرائيلية كالعودة إلى البيت. ولذلك أيضاً، فإن اعتبار انتماء العربي إلى الثقافة العربية، ثقافة الأكثرية في المنطقة، حاجزاً كافياً أمام الأسرلة هو وهم وضلال. فالأسرلة أصلاً لا تعني تهود العرب في إسرائيل، ولا تعني تخليهم عن ثقافتهم، وإنما تعني تعديل هذه الثقافة وتغييرها على نحو يجعل تأطيرها في الإطار الإسرائيلي ممكناً؛ أي، باختصار، تشويهها. وهذه هي بالضبط عملية نشوء العربي الإسرائيلي. وتعبير "العربي الإسرائيلي" لم يعكس واقعاً في الماضي وإنما أيديولوجيا صهيونية. لقد كان هنالك عرب في إسرائيل، أو عرب فلسطينيون في إسرائيل، لكن الجديد هو بالضبط نشوء العربي الإسرائيلي. والتعبير متناقض في ذاته؛ هذا صحيح، لكن مأساة الهوية المشوهة لا تقتصر على ذلك، فهي لا تحافظ على توازن النقائض لكنها تخضع الواحد للآخر.

تدل الجداول التالية على مجمل العملية الجارية باتجاه اندماج العرب في إسرائيل على هامش العمليات الاقتصادية الجارية. والسؤال طبعاً هو: ما العامل الأكثر تأثيراً في الوعي: أهو وعي التحسن المتدرج على هامش عملية الأسرلة، أم هو وعي الفجوة التي لم تتقلص، وإنما تزداد باستمرار، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بتشكل الرأسمالية الجديدة في إسرائيل القائمة على الثورة التكنولوجية وتركيز وسائل الإنتاج في أيدي التجمعات المالية/الصناعية الرئيسية الخمسة. 

 

 

 

 

معاينة الواقع: ثلاث وقائع ودلالاتها

l لنراقب، مثلاً، ظاهرة متناقضة في ذاتها مثل رفع العرب في إسرائيل الأعلام الإسرائيلية على سياراتهم في ذكرى "الاستقلال" في العديد من القرى والمدن العربية. والظاهرة آخذة في الانتشار بالتدريج منذ أكثر من ثلاثة أعوام، بعد فترة انقطاع طويلة (منذ نهاية السبعينات حتى نهاية الثمانينات) كانت فترة نهوض قومي ومدني، وفترة بناء المؤسسات العربية.

وقد درج أصحاب السيارات القليلون في الستينات على جعل علم الدولة يرفرف على سياراتهم، إمّا مباهاة بوجود السيارة في حينه ولْيرفرف عليها أي شيء، وإمّا محاولة لإرضاء "رجالات السلطة" خوفاً من سطوتهم. وكان التصويت للأحزاب الصهيونية في حينه وللأحزاب العربية الدائرة في فلكها تعبيراً عن العلاقة نفسها بالدولة، علاقة الخوف والغربة. فالتظاهر بالولاء ليس ظاهرة أسرلة وإنما ظاهرة غربة عن الأسرلة؛ لكن ظاهرة رفع العلم الإسرائيلي في التسعينات لمدة أسبوع قبل ذكرى "الاستقلال" وبعدها لا تعبر عن خوف؛ فمرحلة الخوف ولت، والعلاقة بين السلطة والمواطن تغيرت على نحو لم يعد يتطلب معه مثل هذا النوع من التظاهر بالولاء: الدولة ازدادت ثقة بنفسها من ناحية، والمواطن العربي أصبح أكثر وعياً لحقوقه من ناحية أُخرى، وواجباته لا تتطلب رفع العلم، وليس هناك قانون يجبره على ذلك.

إن ظاهرة رفع العلم الإسرائيلي على السيارات العربية ظاهرة مشوهة ومتناقضة، لكن هذا التحديد وحده لا يجدي لأنه يتجاهل دلالاتها ومدلولاتها؛ فهي محاولة تظاهرية لإبراز الهوية الإسرائيلية. وعلى الرغم من إدراك المواطن العربي أنه لا يمكن أن يكون إسرائيلياً كاملاً، فإنه مستعد لأن يحتفل بكونه نصف إسرائيلي، أي بكونه عربياً إسرائيلياً.

لقد عادت الظاهرة كتعبير عن تحولات اجتماعية واقتصادية في العقد الأخير، لكن تلك التحولات وحدها لا تكفي لتفسير الموقف السياسي/الثقافي الكامن فيها. فعودة الظاهرة تتزامن مع انهيار آخر الأوهام بشأن البديل العربي في حرب الخليج، ومع انهيار حركة التحرر الوطني الفلسطيني بهزيمتها وتقبلها للشروط الإسرائيلية. وليس للحدثين تأثير مادي مباشر في العرب في إسرائيل، لكنهما ساهما في خلق الفراغ المعنوي اللازم لمرور ظاهرة رفع الأعلام الإسرائيلية وكأنها ظاهرة طبيعية.

من غير الممكن الاستمرار في رؤية تعامل العربي مع إسرائيليته باعتبار أنها مجرد أداة. وقد أصبحت الأسرلة في الثقافة والسياسة (فضلاً عن الاقتصاد) مركباً مكوناً في هوية المواطن العربي، لا كإجابة عن سؤال في استمارة سوسيولوجية وإنما كعملية تشكل دينامية جارية. وربما تنفجر تناقضاتها في المستقبل بعد جيل، أو ربما قبل ذلك، لكن ذلك الانفجار لن يكون ناجماً عن تطور الوعي القومي الفلسطيني وإنما عن: 1) وصول الوعي المدني الإسرائيلي إلى طريق مسدود ما دامت الدولة دولة اليهود؛ 2) البحث عن حقوق جماعية للأقلية القومية. غير أن هذا الانفجار ليس ضرورة تاريخية وإنما هو إمكان فحسب، وواقعية هذا الإمكان مرتبطة بتطور نخبة سياسية تطرح هذين السؤالين. بيد أن هنالك سيناريوهات أُخرى تصور تعايشاً مع الهوية الإسرائيلية المنقوصة في ظل زيادة تراكمية في الحقوق المدنية والمعيشية.

l في الأسبوع الأول من أيار/مايو 1995، وقع في أوساط المواطنين العرب حدث غريب. وكالنار في الهشيم، انتشر بين أبناء الطائفة المسيحية، ولا سيما في حيفا والناصرة، مزاج تصدٍ حاد وشديد لإحدى قنوات الكوابل التلفازية التي أعلنت نيتها عرض فيلم "الإغراء الأخير للمسيح".[14] ومن دون أي نقاش جدي في فحوى الفيلم أو رسالته، انتشرت عرائض الاحتجاج، ثم الاجتماعات، ثم التظاهرات العنيفة التي وحدت بين رجالات السلطة سابقاً[15] وبين غيرهم. وشارك في التحريض على شركة الكوابل، التي تبث ليلياً - من دون أن تواجه أي اعتراض - أفلام الجنس والعنف المعادية للمسيحية ولأي دين، بعض الشخصيات الاجتماعية التي عُرفت بمواقف وطنية في السبعينات، والكثير من رموز التعامل مع السلطة في الفترة نفسها، ثم تضامن معهم مثقفو الطائفة الإسلامية ورجالاتها، ثم بدأ قادة إسرائيليون استنكار هذا الفيلم الذي يمس بمشاعر المسيحيين، باعتبار أن التخلف أحد معطيات رعايا الدولة العرب وأن الديمقراطية وحرية التعبير قضية ثانوية في التعامل معهم.

لم يسبق للعرب في إسرائيل أن تعاملوا مع محطة التلفزة الإسرائيلية كما لو أنها محطتهم، ولم يتوقعوا أن تراعي مشاعرهم وأحاسيسهم، وفي هذا الحدث تبرز الأسرلة في التعامل معها كما يتعامل المتدينون اليهود. وعندما أخذ المتدينون اليهود يحتجون على ما تبثه وسائل الإعلام الإسرائيلية المعلمنة من برامج تمس بمشاعرهم، بدأوا عملياً التخلي عن فكرة أن إسرائيل دولة منفى - وهذا موقفهم الأصلي - وبدأوا بالتدريج التعامل معها كدولتهم. وعندما بادر العرب إلى التظاهر ضد مضامين برامج التلفزة الإسرائيلية، بدأوا عملياً التعبير عن انتمائهم إلى الثقافة الإسرائيلية بالمطالبة بأن تترك حيزاً لأحاسيسهم ومشاعرهم الطائفية المنبهة، مع رقود الأحاسيس والمشاعر القومية في سبات عميق. طبعاً، لم تستطع الطائفة في النهاية الوقوف أمام قوة الرغبة الاستهلاكية المعبَّر عنها بالارتباط بشبكة الكوابل التلفازية؛ وهذا أمر له دلالاته بالنسبة إلى مستقبل العرب في إسرائيل كمجتمع استهلاكي، أو بكلمة أدق كجزء من المجتمع الاستهلاكي الإسرائيلي.

الأمر الأهم هو أن مناقشة الفيلم لم تكن ثيولوجية أو دينية مبدئياً، بل مناقشة طائفية متعلقة بالوعي الجماعي لطائفة ما، وبأحاسيس هذه الطائفة ومشاعرها. ومن خلال مثل هذه الوقائع تتكون وتتشكل، في عملية استحضار، جماعية الهوية البديلة. فالأسرلة وحدها لا تشكل هوية، وتبرز حاجة إلى ملء فراغات الأسرلة بهوية أكثر تعايشاً معها من الهوية القومية، وهذا هو دور الكيانات العضوية والبنى الجمعية التي يعاد إحياؤها على مستوى القرية: الحمولة، وعلى المستوى القطري: الطائفة. والانتماء إلى الحمولة لا يفتقر إلى مشاعر الولاء والكبرياء والرابطة العاطفية، التي تنقص الهوية الإسرائيلية وتجعلها بذلك غير مؤهلة للقب هوية، غير أن الواقع أكثر تركيباً، والأسرلة لا توجد مجردة كهوية إسرائيلية بسيطة، وهي تعني فيما تعنيه تكميلها بانتماءات أُخرى.

إن انتخابات المجالس المحلية العربية، التي تجري غالباً على أساس قوائم عائلية أو عشائرية أو تحالفات بين عشائر أو بين أحزاب وعشائر، يشارك فيها نحو 90% من أصحاب حق الاقتراع عادة، في حين تقترب المشاركة في انتخابات الكنيست من نسبة 70% من أصحاب حق الاقتراع. أما المشاركة في انتخابات السلطات المحلية في الوسط اليهودي، فتقترب من 35%.[16]

ويميل المختصون بقضايا الأقلية العربية إلى اعتبار هذه النسبة المتفاوتة بين انتخابات الكنيست وانتخابات السلطات المحلية ناجمة عن الشعور بالقدرة على التأثير في انتخابات السلطة المحلية، في حين تقل الثقة بالقدرة على التأثير المباشر في مجرى الأمور في المستوى السياسي القطري.[17] وربما يكون هذا التقدير صحيحاً، لكن من غير الممكن تجاهل التعويض من فقدان البعد القومي في الانتماء الإسرائيلي بالتوجه نحو التشديد على انتماءات عضوية وبنى جمعية، مثل الحمولة والطائفة؛ فالموضوع ليس مجرد حسابات عقلانية لإمكان التأثير، والممارسة الاجتماعية الكثيفة للانتماء إلى البنى العضوية ليست مجرد قرار عقلاني.

وتتبين سريالية الانتماء العربي الإسرائيلي بصورة خاصة في اعتماد بعض الحمائل والعائلات الممتدة طريقة الانتخابات التمهيدية (primaries) لانتقاء مرشح الحمولة للانتخابات المحلية الأخيرة (وقد اتُّبعت هذه الطريقة مؤخراً في الأحزاب الإسرائيلية، وتعتبر من تجليات نظام الحزبين في الولايات المتحدة). وربما كانت هذه الواقعة هي الأكثر تعبيراً عن المركّب الهجين: "العربي الإسرائيلي".

يظهر الجدول رقم II الارتفاع الذي طرأ في الانتخابات الأخيرة (1993) على القوائم العائلية في المجالس المحلية. وعلينا ألا ننسى عند قراءة الأرقام أن القوائم الحزبية القطرية مستندة إلى حد بعيد إلى دعم حمولة أو اثنتين في القرية.

l في الأسبوع الواقع بين 20 و27 أيار/مايو 1995، شهد الكنيست الإسرائيلي عاصفة صغيرة من عواصف كثيرة في حياته البرلمانية، التي لا تتسم بالسكينة. فقد تقدم الحزبان العربيان (الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، والحزب الديمقراطي العربي) باقتراح نزع الثقة عن الحكومة الإسرائيلية على خلفية توقيع وزير المال اقتراح وزير الإسكان القاضي بمصادرة 500 دونم في شرقي القدس، قرب مستوطنة راموت.

ولقد حافظت الأحزاب العربية عموماً على ولائها للائتلاف الحكومي. وعندما قدمت اقتراحاً لحجب الثقة، كان واضحاً أنها ستفشل لأنها تقترح نزع الثقة من منطلق خارج الإجماع القومي الإسرائيلي، وهو ما يوحد هذا الإجماع، بما في ذلك الليكود، ضد اقتراحها. ولم يخرج عن ذلك اقتراح نزع الثقة الأخير على خلفية مصادرة الأرض في شرقي القدس. فموضوع شرقي القدس هو موضوع إجماع قومي رسمياً، وكان من المتوقع أن يقوم الليكود واليمين عموماً بدعم الحكومة في عزمها على المصادرة، وبذلك يفشل حجب الثقة، ويتأكد قرار المصادرة.

لكن قيادة الليكود كانت أغبى من جميع التوقعات. فقد أرادت استغلال تخلي الأحزاب العربية عن الائتلاف يوماً واحداً من أجل إسقاط الحكومة، وذلك بانضمامها إلى اقتراح حجب الثقة، وبذلك فسحت في المجال لحكومة حزب العمل للتنازل عن قرار مصادرة الأرض ذاتها، واتهام الليكود بإفشالها، إضافة إلى التهمة الأكثر تشهيراً، أي تحالفه مع العرب ضد مصادرة أراضٍ في القدس، وذلك لتفضيله المصلحة الحزبية الضيقة على الإجماع الوطني.

أمّا اعتبار التحالف مع العرب في الكنيست أمراً غير شرعي، وهو الاعتبار الذي حسم المسألة في دعاية حزب العمل، فهو من مواقف الماضي ولا جديد فيه، أي لا جديد في تشهيرات حزب العمل ضد الليكود. وإذا كان هنالك جديد في هذه الواقعة، فإنه كامن في تصرف قيادة الليكود، التي كانت مستعدة بدافع من أهداف آنية براغماتية للدخول في تحالف تكتي مع العرب مدة يوم واحد. ولا شك في أنها أضفت بذلك شرعية أكبر على دور الأحزاب العربية في الخريطة السياسية الإسرائيلية. ومع أن مثل هذه الواقعة لن يتكرر في المدى القريب، بسبب الضجة التي أحدثتها في الرأي العام، فإن الليكود واليمين الإسرائيلي عموماً لن يستطيعا المطالبة بالجدية نفسها بأن تُحصَّن استفتاءات الانسحاب من الجولان، مثلاً، بأكثرية خاصة (فوق الـ 50%) لتجنب تأثير الصوت العربي.

إن العرب الذين توجهوا بتثاقل إلى الدار البيضاء للاجتماع من أجل التشاور في شؤون مواجهة فرضت عليهم، ولا يريدونها، مع قرار مصادرة استفزازي في القدس في أثناء عملية السلام، تنفسوا الصعداء بعد إلغاء القرار، وحولوا غباء الليكود إلى "دور نوعي جديد للأحزاب العربية"، و"تحول جذري في دور العرب في إسرائيل". ومرة أُخرى حُمِّل العرب في إسرائيل ما لا يحملون فعلاً.

لكن، ألا يلاحظ ازدياد في قدرة العرب في إسرائيل على التأثير؟ لقد استنتج شموئيل طوليدانو[18] من هذه الواقعة تحولاً جذرياً في التعامل مع الأحزاب العربية. لكن التحول جارٍ في الاتجاهين، أي أن التعامل مع العرب كجزء من الخريطة السياسية الإسرائيلية يعني في الوقت ذاته تعاملهم مع أنفسهم كجزء منها أيضاً. وكان التحول متدرجاً، وبدأ سنة 1984 عندما أجرى حزب العمل مفاوضات غير علنية مع الأحزاب العربية. وفي سنة 1992 تمت المفاوضات بصورة علنية، وانتهت إلى أوراق مكتوبة ومذكرات ووعود خطية للمواطنين العرب، لكن على أساس دعم الائتلاف العمالي من دون أن يؤذن للأحزاب العربية في الانضمام إليه. وما زالت هذه الأحزاب تدعم الائتلاف من خارجه بحجة دعم النهج السلمي للحكومة الإسرائيلية. لكن العملية الأعمق هي الأسرلة السياسية والانضمام المتدرج إلى الخريطة السياسية الإسرائيلية، إمّا كأحزاب عربية وإمّا من ضمن الأحزاب الصهيونية. 

 

التأثير كتأثر

إن ازدياد تأثير العرب في إسرائيل في السياسة الإسرائيلية يعني، فيما يعنيه، زيادة تأثير السياسة الإسرائيلية فيهم. فالتأثير هنا، مثله مثل الهوية، لا يتم بالتحكم من الخارج، واللاعب لا يقف خارج اللعبة، وإنما يتناسب التأثير تناسباً طردياً مع الانضمام إلى اللعبة السياسية الإسرائيلية بقبول مسلماتها الأولية. ومن أجل صنع خطاب سياسي مؤثر إسرائيلياً من داخل الخريطة الإسرائيلية، لا من خارجها، يجب أن يكون الخطاب إسرائيلياً في منطلقاته.

وتسري هذه العملية أيضاً على خطاب المساواة العربي الإسرائيلي الذي يحاول إقناع إسرائيل، من منطلقات مثل "الولاء للدولة"، و"الاستقرار في الدولة"، و"صورة إسرائيل في العالم"، بضرورة منح المساواة الكاملة للمواطنين العرب. وتتبين معالم هذا الخطاب على نحو خاص في توجه جمعية "سيكوي" (جمعية من أجل تكافؤ الفرص)، وهي جمعية ضغط (Lobby) أُقيمت، بمبادرة يهودية ومشاركة عربية، بغرض ممارسة ضغوط في أروقة المؤسسات الرسمية لتحسين معالجة قضايا العرب في إسرائيل على المستوى الرسمي. وتحافظ الجمعية على منصب مديرَين: أحدهما يهودي والآخر عربي. وكنموذج واحد للغة التي تستخدمها هذه الجمعية في الإقناع بضرورة تكافؤ الفرص، نأخذ مقتطفات من رسالتها الدورية في تشرين الأول/أكتوبر 1991، وقد وقّعها مديرا الجمعية فيصل عزايزة وألوف هارئيفن. تبدأ الرسالة بجملة مثل "كلنا في إسرائيل وفي المهجر نعي مسؤولية كذا..." (مع أن أحد الموقعين عربي، فإن صفة المتكلم يهودية). وتنتهي الرسالة بجملة مثل: "نحن نعلم أن موجة الهجرة (والحديث عن هجرة اليهود السوفيات) هي أولوية إسرائيل الأساسية، لكن علينا ألا ندع هذه الأولوية تتحول إلى حجة لتجاهل قضية جدية أُخرى..." وينطلق خطاب المساواة وتكافؤ الفرص في هذه الحالة من قبول أولويات الخطاب الصهيوني ثم استخدامها لإقناع السلطة والأكثرية اليهودية بضرورة الاهتمام بمعالجة أكثر جدية لقضايا المواطنين العرب. والمطلب الأساسي لمثل هذه الجمعية هو "الدمج" (Integration) باعتباره مقبولاً من أغلبية اليهود والعرب، "ما عدا الفئات المتطرفة من الطرفين" (رسالة نيسان/أبريل 1992). لكن الأولويات المقبولة ليتم هذا "الدمج" على أساسها هي أولويات صهيونية، أي أن "الدمج" قولاً هو تهميش للذات فعلاً.

كان حزب مابام في الماضي الحزب الصهيوني الوحيد الذي سمح بعضوية العرب في صفوفه. ومن ناحية توجهه إلى موضوعي المساواة والدمج، تشابه إلى حد بعيد مع الحزب الشيوعي الإسرائيلي. أمّا حزب العمل، فقد سمح بالعضوية فقط لأولئك الذين أدوا خدمة في الجيش منذ سنة 1970، ولسائر العرب منذ سنة 1973. والطريف أن زعيمة حزب العمل وقتذاك، غولدا مئير، عللت الأمر في حينه بمنطق العقل السليم (common sense) عندما قالت إنه من غير الممكن أن يطلب من العربي أن يدعم الصهيونية والهجرة اليهودية إلى إسرائيل و"جمع الشتات".[19] طبعاً، لقد فاق العرب في إسرائيل توقعات غولدا مئير.

وهذا هو أيضاً الفارق الأساسي بين عملية الأسرلة الجارية وبين مجرد العمالة للصهيونية. لقد اعتمد ماباي أو حزب العمل في حينه القوائم العربية التي تدور في فلك الحزب، لكنه تجنب قبول العرب أعضاء فيه. وكانت هذه القوائم تعبيراً في الوقت ذاته عن وضع اجتماعي تسيطر عليه قوى تقليدية حولتها السلطة إلى أدوات للوصاية (patronage politics). أمّا الانضمام إلى الأحزاب الصهيونية وإلى الحيز السياسي الإسرائيلي، فلا يتم بدافع الخوف أو الوصاية، وإنما بهدف التأثير باتجاه مصلحة تسعى للاصطفاف ضمن المصالح الإسرائيلية وخلف مختلف الأولويات الإسرائيلية.

إن تحول إسرائيل من نظام الحزب الواحد إلى نظام الحزبين منذ نهاية السبعينات قد فسح في المجال أمام زيادة هامش المناورة بين الحزبين لدى العرب في إسرائيل. وربما كان هذا هو الخطر الذي استشعره السياسي اليميني أمنون لين، الذي عمل ذات مرة مستشاراً لرئيس الحكومة في الشؤون العربية في مرحلة سياسة الوصاية، عندما كتب عن تحويل العرب في إسرائيل إلى أداة في يد الأحزاب اليهودية على حساب مصالح إسرائيل. "ففي الأعوام الأخيرة"، يقول أمنون لين، "أصبح حزبا الليكود والعمل أكثر استعداداً للتضحية بمصالح إسرائيل الحيوية في خدمة مصالحهما الحزبية الضيقة."[20]

ماذا نقصد بقولنا إن إسرائيل غدت دولة ذات نظام حزبين؟

كانت إسرائيل، حتى السبعينات، دولة حزب واحد عملياً هو حزب ماباي ثم حزب العمل (بعد اتحاد ماباي وأحدوت هعفودا). وكان المجتمع السياسي الإسرائيلي عبارة عن تشابك جهاز الحزب مع جهاز الهستدروت (وسائر أجهزة القطاع العام الاقتصادي) والدولة، ولا سيما الجيش، بحيث كانت النخبة السياسية تنتقل بين هذه الأجهزة انتقالها بين أروقة البيت الواحد. وغالباً ما كانت هذه الأجهزة مجرد محطات في السيرة الذاتية لقياديي حزب العمل. وكان الارتباط العربي بحزب العمل في تلك الفترة ارتباطاً بالدولة والسلطة أولاً وقبل كل شيء، ثم أنه كان تعبيراً عن حاجة الأقلية المهزومة إلى الأمن أكثر منه تعبيراً عن حاجة حزب العمل في صراعه مع المعارضة اليمينية.

لكن منذ نهاية السبعينات، ولأسباب اقتصادية واجتماعية لن نخوض فيها، قام في إسرائيل مركز سياسي مؤلف من حزبين لا يشكل الفارق بينهما قفزة ثورية، وإنما يتراوح فيما بين تفاوت الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة وبين تفاوت الاشتراكي الديمقراطي والديمقراطي المسيحي في ألمانيا. الفارق أكبر من الحالة الأولى وأصغر من الحالة الثانية. لكن على غرار أنظمة الحزبين، يتقاسم الحزبان المركز السياسي لا الهوامش. غير أن الشد باتجاه الهامش، أو القوة الطاردة عن المركز، ناجم عن وجود معسكرين لا حزبين فقط، أحدهما يجمع الليكود والأحزاب الموجودة من عن يمينه، والآخر يجمع حزب العمل والأحزاب القائمة من عن يساره. والحزبان يحتاجان إلى تلك الأحزاب لتشكيل ائتلافات، وإن كانت ائتلافات غير شاملة. وهذه الائتلافات تشد باتجاه اليمين وباتجاه اليسار. وكانت الأحزاب الدينية تشكل وسطاً غير مؤدلج سياسياً في القضايا التي تهم اليمين واليسار، لكن هذه الأحزاب آخذة في الاتجاه المتدرج نحو اليمين. وما زالت حركة شاس، قيادة لا قاعدة، تراوح في المركز.

ومنذ أن جرت انتخابات سنة 1977 لم تتغير صورة الخريطة السياسية جذرياً؛ أي لم يتغير التوازن بين معسكرين، وحتى انتخابات سنة 1992 لم تخرق هذا التوازن فعلاً.

فقد الليكود في هذه الانتخابات 8 مقاعد برلمانية، لكن تمثيل معسكر اليمين بكامله هبط من 52 مقعداً إلى 49 مقعداً. أي أن معظم خسارة الليكود بقي في صفوف المعسكر اليميني. أمّا الأحزاب الدينية، فخسرت 3 مقاعد، الأمر الذي جعل ائتلافاً ممكناً بينها وبين اليمين الإسرائيلي يصل إلى 59 مقعداً بدلاً من 65 مقعداً في انتخابات سنة 1988. لدينا هنا قاعدة أساسية من قواعد نظام المعسكرين في إسرائيل، وهو أن الأصوات تميل إلى عدم الانتقال من معسكر إلى آخر. وهكذا، شُكل الائتلاف الحكومي الحالي بما مجموعه 61 عضو كنيست من مجموع 120 عضواً، منهم 5 أعضاء في الحزب الديمقراطي العربي والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، ويدعمون الائتلاف من خارجه.

وحصلت الأحزاب العربية وحزب ميرتس مجتمعة على 17 مقعداً، أي بزيادة مقعد واحد عن انتخابات سنة 1988. أمّا الأحزاب اليمينية (تسومت، وموليدت، ومفدال)، فقد رفعت تمثيلها من 13 عضو كنيست سنة 1988 إلى 17 عضواً سنة 1992. ولم تحدث ثورة ولا انقلاب انتخابي سنة 1992.[21] وفي مثل هذه الحال من التوازن بين المعسكرين، ازدادت أهمية الأصوات العربية. وقد رجّحت، إضافة إلى أصوات القادمين الجدد والأصوات العربية، معسكر اليسار، من دون أن يطرأ تغير جدي على الخريطة السياسية الإسرائيلية.

منذ أن نشأ في إسرائيل نظام الحزبين، أو المعسكرين، ونشأ إمكان المناورة بينهما، لم يعد التصويت للأحزاب العربية الصغيرة تصويتاً احتجاجياً فحسب، بل أصبح له أيضاً وجه إسرائيلي ذو علاقة بالقدرة على المناورة بين الحزبين الكبيرين، أو على الأقل المناورة من أجل منع صعود حكومة يمينية إلى ىسدة الحكم. وأصبح الصوت العربي بهذا المعنى صوتاً "اندماجياً" في الخريطة السياسية الإسرائيلية، حتى لو كان لمصلحة الأحزاب العربية. وقد وصلت نسبة التصويت لهذه الأحزاب ذروتها سنة 1988، وطرأ هبوط سنة 1992. وقد يتحول هذا الهبوط إلى نزعة تاريخية. وهذا الإمكان قائم ويكمل عملية الأسرلة الجارية، لأن طرح هذه الأحزاب لموضوعي السلام والمساواة لا يختلف جذرياً عن طرح أحزاب اليسار الصهيوني ويسار حزب العمل على الأقل. ومع اعتبار القضية الفلسطينية قضية خارجية يتعامل العرب معها من منطلق كونهم "قوة ديمقراطية داخل إسرائيل"،[22] بدعمهم المطلق وغير المشروط لاتفاق أوسلو، ومع حصر هذه الأحزاب التعامل مع المساواة فيما يسمح الخطاب السياسي الصهيوني به وضمن مسلماته، يصبح من غير الواضح للمواطن العربي لماذا لا يمنح صوته مباشرة للأحزاب اليسارية الصهيونية، أو لماذا لا يتحول إلى الضغط من داخلها لا من خارجها. وقد يتعمق هذا التوجه إذا اتضح أن الطريق إلى منصب وزير عربي في الحكومة الإسرائيلية، وهو مطلب الحزب الديمقراطي العربي، لا يمر عبر هذا الحزب، وإنما عبر الأحزاب الصهيونية، وذلك عندما يعين حزب العمل أحد أعضائه العرب في هذا المنصب بعد فوزه في الانتخابات، إذا تم له ذلك في الانتخابات القادمة.

إن الخطاب السياسي المبتور، الذي يرضى بما هو أقل من تعريف المساواة تعريفاً ديمقراطياً، وبما هو أقل من الوعي القومي للسكان الأصليين، يؤدي في النهاية إمّا إلى التصويت للأحزاب الصهيونية وإمّا إلى التركيز على العمل المحلي وتجنب السياسة القطرية قدر الإمكان. وقد تبقى الأحزاب العربية قائمة، لكن كتعبير عن قوة اجتماعية أكثر مما هي تعبير عن توجهات سياسية متميزة. بيد أن هذه الأحزاب العربية جزء لا يتجزأ من عملية الأسرلة، لأنها تتحول بالتدريج إلى أحزاب عربية إسرائيلية. 

 

 

بدلاً من الخلاصة

إن عملية الأسرلة لا تنساب انسياباً، وإنما تتعرج وتتعثر بين عثرة الوعي القومي والذاكرة الجماعية التاريخية لسكان البلد الأصليين، وبين وعي الفجوة المتوسعة باستمرار بين العرب واليهود، مع أن الفئتين تمران بالعمليات الاجتماعية/الاقتصادية نفسها. هذه هي العوائق القائمة أمام عملية الأسرلة، لكن التعويل عليها لإفشالها لا طائل فيه، لأن الوعي الإنساني قادر على تطوير آليات للمحافظة على توازنه أو للتعايش مع المتناقضات. والآليات الأساسية التي طُورت لهذا الغرض في حالة العرب في إسرائيل هي:

1 - الدعم غير المشروط، وبأي ثمن، لسلام إسرائيلي - فلسطيني، أياً يكن شكل هذا السلام. والدعم شبه الجارف عند عرب إسرائيل لاتفاقات أوسلو/القاهرة وما بعدها ليس ساذجاً تماماً، كما أنه ليس قائماً على مجرد الإيمان الحقيقي بخطة المراحل المؤدية بـ "الضرورة" إلى الدولة الفلسطينية. إن الدافع الأساسي وراء الدعم غير المشروط لأي سلام إسرائيلي - فلسطيني هو إرضاء البعد القومي في الهوية الذاتية.

وكي يستطيع العربي الفلسطيني المواطن في إسرائيل ممارسة إسرائيليته بحرية أكبر، عليه أن يقنع نفسه بأن القضية الفلسطينية حُلت، أو على الأقل بأنها في طريقها إلى الحل. والواقع أنها في طريقها إلى الانحلال، وليست أسرلة العرب في إسرائيل إلا أحد تجليات هذا الانحلال.

2 - البحث عن بدائل في الهوية الجماعية من البعد القومي يتخذ شكل إعادة إحياء الانتماءات الطائفية على المستوى القطري وشكل الحمائلية على المستوى البلدي المحلي.

3 - الوقوع في وهم أن القبول بمسلمات الخطاب السياسي الصهيوني يجعل العرب في إسرائيل أكثر تأثيراً في السياسة الإسرائيلية، والحقيقة أنه يحولهم إلى عرب إسرائيل، وبذلك يصبحون أكثر تأثيراً.

4 - تبنٍّ متدرج لعناصر في اللغة والثقافة والعادات الإسرائيلية، وخصوصاً في ظل تطور وسائل الإعلام وولوجها الحياة المنزلية، وفي ظل انعدام الحداثة العربية وغياب المدينة العربية، وفي غياب هيمنة ثقافية لمركز ثقافي عربي. وللتعويض من ذلك، يقبل العربي الإسرائيلي بمنصب ضيف في برامج التلفزة الإسرائيلية الترفيهية: "العربي المناوب". وفي الحياة الثقافية يبدأ العربي تقليد دوره هو كعربي إسرائيلي كما تطرحه وسائل الإعلام. وبدلاً من أن تكون الصورة مشتقة ومستنتجة من الواقع، أصبح الواقع مشتقاً من الصورة. وعندما يصبح العربي الإسرائيلي مجرد تقليد لـ "العربي الإسرائيلي" أو مجرد تمثيل له، تتحول الحالة العربية الإسرائيلية إلى حالة من الرضى عن النفس، بل حتى إلى النرجسية.[23]

ليست هذه العلمية قدراً مقدوراً، لكن التعويل على تناقضاتها لعرقلتها لا يكفي. فهذه التناقضات لا تتحول إلى منغّص فعلي لوعي العربي الإسرائيلي إلا إذا تمت ترجمتها سياسياً على شكل خطاب سياسي ديمقراطي يجمع بين البعدين القومي والمدني في مقابل واقع يبترهما كليهما، وفي مقابل خطاب سياسي سائد لا يعدو أن يكون انعكاساً لهذا الواقع. ومن دون نشوء القوة السياسية الواعية، التي تترجم وعيها في برامج سياسية نقدية للواقع ولوعيه المبتور، تبقى التناقضات قائمة، لكن ضمن الإطار العربي الإسرائيلي.

 

المصادر: 

[1] أنظر مثلاً:

Jacob M. Landau, The Arab Minority in Israel, 1967-1991: Political Aspects (Oxford: Clarendon Press, 1993).

[2] أفنير ريجيف، "عرب إسرائيل، إشكالات سياسية" (بالعبرية) (القدس: القدس لدراسة إسرائيل، 1989).

لكن أبرز من يمثل هذا التوجه هو أستاذ الجغرافيا في جامعة حيفا أرنون سوفير.

[3] أنظر:

ٍSammy Smooha, “Minority Status in an Ethnic Democracy: The Status of the Arab Minority in Israel,” Ethnic and Racial Studies, 13(3), pp. 389-413.

[4] أنظر:

Claude Klein, Israel as a Nation State and the Problem of the Arab Minority in a Search of a Status (Tel-Aviv: International Center for Peace in the Middle East, 1977).

أنظر أيضاً مساهمة سامي سموحا، مؤخراً:

Ethnic Democracy as a Mode of Conflict Regulation in Deeply Divided Societies: for Presentation in the Conference: “The New Politics of Ethnicity, Self-determination and the Crisis of Modernity,” The Morris E. Curiel Center for International Studies (Tel-Aviv: Tel-Aviv University, May 30-June 1, 1995).

[5] أنظر:

عزمي بشارة، "الأقلية الفلسطينية في إسرائيل: مشروع رؤية جديدة"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 11، صيف 1992، ص 15 - 42.

[6] أنظر مثلاً:

Ian Lustick, Arabs in the Jewish State: Israeli Control over National Minority (Austin: University of Texas Press, 1980); Henry Rosenfeld, “The Class Structure of the Arab National Minority in Israel,” Comparative Studies in So. 390-391.

[7] Oren Yiftachel, “The Concept of Ethnic Democracy and its Applicability to the Case of Israel,” Ethnic and Racial Studies, 15(1) (1992), p. 120.

[8] Ibid., p. 129.

[9] في هذا السياق، من المفيد التعامل مع خطاب الأقلية القومية للسكان الأصليين لا كموقف جاهز معادٍ بالضرورة لهذا النوع من "الديمقراطية"، وإنما بحسب نظرية بوردييه، أي كحقل تتنازعه قوى مختلفة، منها الاندماجي ومنها الانفصالي ومنها التوفيقي أو المتعايش مع التناقضات.

أنظر أيضاً مساهمة روجرز بروبيكر بشأن الأقليات القومية في أوروبا الشرقية:

Rogers Brubaker, “National Minorities, Nationalizing States, and External National Homelands in the New Europe,” Daedalus, 124(2) (Spring 1995), pp. 107-131.

[10] أنظر مثلاً:

Sammy Smooha, “The Orientation of the Arab Minority in Israel,” Ethnic and Racial Studies (1982), pp. 71-98; Sammy Smooha, Arabs and Jews in Israel (Boulder, Colo.: Westview Press, 1988).

[11] Nadim Rouhana, “Accentuated Identities in Protracted Conflicts: The Collective Identity of the Palestinian Citizens in Israel,” Asian and African Studies, 27(1993), pp. 97-127.

[12]   Ibid., p. 104.

ويلزم التنويه بأن نديم روحانا لا يقصر موضوع الهوية على سؤال: "عرّف نفسك!" وإنما يتناوله على أساس المقابلة التحليلية المفتوحة.

[13] يشير ماجد الحاج في ورقة نشرتها مؤخراً جامعة حيفا عن المعلم العربي إلى أن 71% من المعلمين العرب الذين شملتهم عينة البحث أشاروا إلى أنهم يفضلون قراءة الصحف العبرية على قراءة الصحف العربية. أنظر: ماجد الحاج، "المعلم العربي، مكانه، أسئلة، تطلعات" (بالعبرية) (جامعة حيفا: مركز دراسة التربية، آذار/مارس 1995)، ص 42.

*    إضافة إلى استغلال بعض الدول العربية العلاقة بالعرب في إسرائيل من أجل التغلب على حجر عثرة معارضة التطبيع عند بعض أوساط الرأي العام المحلي لديها.

[14] راجع أعداد "الصنارة"، 2/5/1995، 12/5/1995، 16/5/1995. وقد استمرت المقالات والتعقيبات حتى 23/6/1995.

[15] نقول سابقاً لأن معنى هذه الكلمة حالياً غير واضح.

[16] أسعد غانم وساره أوستسكي لازار، "انتخابات السلطات المحلية العربية في تشرين الثاني 1993، نتائج وتقرير" (بالعبرية) (غفعات حفيفا: تقرير رقم 13، كانون الثاني/يناير 1994)، ص 17.

[17] أنظر: ماجد الحاج وهنري روزنفلد، "السلطة المحلية العربية في إسرائيل" (بالعبرية) (غفعات حفيفا، 1990).

[18] "هآرتس"، 20/6/1995.

[19]   Benyamin Neuberger, “The Arab Minority in Israeli Politics 1948-1992: From Marginality to Influence,” Asian and African Studies, 27(1993), p. 151.

[20]   "يديعوت أحرونوت"، 26/6/1987.

[21] راجع أيضاً في هذا الصدد:

Daniel J. Elazar & S. Sandler, “The 1992 Knesset Elections Revisited: Implications for the Future,” Israel Affaris, I(2) (Winter 1994), pp. 209-224.

[22] هذا المفهوم هو من إنتاج الحزب الشيوعي الإسرائيلي، مثل الكثير من المفاهيم التي أطّرت عملية الأسرلة.

[23] كما تتجلى في كتابات إميل حبيبي، وهو التعبير الثقافي الأبرز للعربي الإسرائيلي. وحبكته التاريخية هي أن عرب إسرائيل عرفوا الحقيقة دائماً، وصمدوا وبقوا البقية الباقية وغير ذلك، وكأن "بقاءهم" كان قراراً اختيارياً وقراراً حكيماً أيضاً، في مقابل حماقة اللاجئين الذين صدقوا وعود العرب وتركوا بيوتهم، ثم في مقابل مجمل الحركة الوطنية الفلسطينية التي رفضت تصديق الواقع إلى أن هُزمت، وعندما هُزمت جاءت هتافات العربي الإسرائيلي: "قلنا لكم!!".

Author biography: 

عزمي بشارة: باحث وأستاذ الفلسفة في جامعة بير زيت.