ستشهد السنوات الخمس المقبلة تزامناً مدهشاً في ذكرى عدد من الأحداث الجسام. فمع اقترابنا من نهاية الألف الثاني لميلاد السيد المسيح (وهي، في حد ذاتها، مناسبة مثيرة لأعمق المشاعر الدينية في نفوس اليهود والمسيحيين والمسلمين على السواء) سنشهد الأحداث التالية: نهاية فترة السنوات الخمس الانتقالية، المنصوص عليها في صيغة أوسلو؛ إجراء الانتخابات العامة الإسرائيلية والأميركية؛ الذكرى المئوية لتأسيس المنظمة الصهيونية العالمية (1997)؛ ذكرى مرور 30 عاماً على ضم إسرائيل للقدس الشرقية (1997) وعلى انتصارات حرب حزيران/يونيو؛ ذكرى مرور 50 عاماً على إقامة إسرائيل (1998). وأخيراً لا آخراً، تنطوي السنوات القريبة القادمة على نهاية فترة كان الكونغرس الأميركي الحالي قد حددها، في أحد تشريعاته، لنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى ما يدعى "القدس الموحدة".
وفي وسع المرء أن يكون على يقين تام من أن هناك خططاً في قيد التنفيذ حالياً، لإيصال المساعي الصهيونية إلى ذروة أُخرى في هذه السنوات القريبة، الحافلة بهذه المناسبات كلها. وفعلاً، ثمة قرار اتخذ منذ سنة 1992 في المؤتمر الصهيوني العالمي الأخير، الذي عُقد في تلك السنة، ينص بالتحديد على ذلك.
وسأتطرق فيما يلي إلى ثلاثة موضوعات:
l الوضع الفلسطيني عقب اتفاق أوسلو (إعلان المبادئ)؛
lالاستراتيجيا العليا لرئيس الحكومة الإسرائيلية، يتسحاق رابين؛
lالاستراتيجيا البائسة لإدارة كلنتون.
الوضع الفلسطيني بعد اتفاق أوسلو
يستسهل كثيرون توجيه اللوم، فيما يتعلق باتفاق أوسلو، إلى عرفات وحده حصراً. ولست هنا في معرض الدفاع عن عرفات؛ فأنا من الذين على دراية تامة (وما أكثرهم) بطاقته الإبداعية على ارتكاب أفدح الأخطاء. بيد أن أخطاء م.ت.ف.، برئاسته، تسبق اتفاق أوسلو بفترة طويلة. وسأعدد فيما يلي الأكثر هولاً بينها:
- الفكرة المركزية التي وجهت خطىى م.ت.ف. فترة طويلة، والقائلة بإمكان خلق "هانوي" عربية، سواء في عمان أو في دمشق أو في بيروت؛
- خيانة المبدأ الأصلي لـ"فتح"، والقائل بضرورة إبقاء المشكلة الفلسطينية بعيدة عن النزاعات العربية؛
- انغماس م.ت.ف. الكلي، خلال 15 عاماً حاسماً، في قِدْر السياسات اللبنانية المحلية، محولةً لبنان دفعة واحدة إلى ستالينغراد وفيتنام وأفغانستان فلسطينية- إنجاز مدهش بأي معيار!؛
- ولا يقل إثارة للدهشة نجاح م.ت.ف. لا في تنفير الأردن ولبنان وسورية تباعاً فحسب، بل في تتويج هذا كله خلال حرب الخليج بتنفير جميع العوائل الحاكمة في دول النفط أيضاً؛
- مماطلة م.ت.ف. عبر أعوام حاسمة في تبني مقاربة براغماتية.
وإذا كان من المؤكد أن هذه الأخطاء كلها ساهمت في صنع اتفاق أوسلو فلا بد، إنصافاً لعرفات، من إضافة أنه كان هو - بمساعدة المرحومين أبو جهاد وأبو إياد - من تبنى، ولو آجلاً، المقاربة البراغماتية التي أفضت إلى قرارات مؤتمر قمة فاس سنة 1982، ثم إلى قرارات المجلس الوطني الفلسطيني الذي عُقد في الجزائر سنة 1988.
مما لا شك فيه أن اتفاق أوسلو، بنيةً ومصطلحاً، غايةً وتفصيلاً، هو نتاج صهيوني، ويمثل - كما قال رابين نفسه في الكنيست - "انتصار الصهيونية" ("The Triumph of Zionism") على العرب جميعاً. لكن إذا كانت الأخطاء الفلسطينية الفادحة التي سبقت اتفاق أوسلو ساهمت في صنعه، فإن هذا الاتفاق هو أيضاً، وأساساً، محصلة الميزان العام للقوى، لا بين إسرائيل والفلسطينيين ثنائياً فحسب، بل أيضاً بين إسرائيل والصهيونية العالمية والولايات المتحدة بصورة رئيسية من جهة، وبين الفلسطينيين والأقطار العربية والإسلامية وحلفائها من جهة أُخرى. إنه الحصاد التراكمي الوفير والحتمي لما أقدمت الأقطار العربية على فعله، أو لم تقدم، منذ أواسط الأربعينات. وقد زادت حرب الخليج في رجحان كفة الميزان إلى مصلحة إسرائيل زيادة فادحة. وما عيوب اتفاق أوسلو إلاّ انعكاس لكل ذلك؛ وبالتالي، ليس من الصحيح القول إنه لو توفر للفلسطينيين خبراء قانونيون أو لغويون أفضل، في أثناء المفاوضات، لأتت النتيجة أفضل كثيراً؛ وما كان لها أن تكون غير ذلك.
هناك ثلاثة مواقف يمكن اتخاذها تجاه اتفاق أوسلو: الإشادة به، أو إسقاطه، أو العمل من داخله.
بالنسبة إلى الخيار الأول، من البديهي أن ليس في الاتفاق ما يستوجب الإشادة. أمّا أولئك الذين يدعون إلى إسقاطه، فيجب أن يأخذوا في الاعتبار عدة أمور: أولاً، إن إسقاطه سيؤدي حتماً إلى اقتتال فلسطيني داخلي، وإلى حمام دم سيكون هو حقاً "الانتصار النهائي" للصهيونية؛ ثانياً، سيقوض هذا الإسقاط نهائياً صدقية أية قيادة فلسطينية عتيدة، إذا أخذنا في الاعتبار الترحيب الدولي بالاتفاق (على علاته)، والهالة والدلالات الرمزية التي غلّفت عمداً طقس التوقيع والمصافحة في البيت الأبيض. كما أنه ينبغي لدعاة إسقاط اتفاق أوسلو أن يقدموا بديلاً - لا مجرد بديل فحسب، بل بديل يمكن أيضاً أن يُبرهَن عن أنه قادر، ضمن موازين القوى القائمة، على تحقيق نتائج أفضل من تلك التي تحققت في اتفاق أوسلو.
وهناك، على حد علمي، بديلان مرشحان لا غير:
- استئناف الكفاح المسلح وتصعيده؛
- الانتظار وعدم الفزع من ميزان القوى القائم.
فيما يختص بـ "الكفاح المسلح"، ينبغي لأولئك الذين يدعون إلى اتباع هذا السبيل أن يفكروا فيما يدعون إليه في ضوء ميزان القوى إياه، وفي ضوء التجربة المسلّحة في العقود الثلاثة الماضية، وفي ضوء حسابات الربح والخسارة دولياً، وحسابات مشابهة من زاوية تأثير هذا الكفاح في الرأي العام الإسرائيلي. وفي مصفاة مثل هذه الاختبارات يصعب، ضميرياً، التهرب من الحكم على هذا الخيار سلبياً.
يجب أن أضيف هنا أنني أرفض من دون تردد وَسْمَ "حماس" أو "الجهاد الإسلامي" أو "حزب الله" بالإرهاب، كما أرفض مماثلة أعضائها بالجبناء الذين أقدموا على ارتكاب جريمتي مركز التجارة العالمي وأوكلاهوما. وإذا كان أولئك الذين يقاومون الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني والمناطق المحتلة إرهابيين، فإن المقاتلين الأميركيين خلال حرب الاستقلال الأميركي ضد بريطانيا، ورجال المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية، هم أيضاً كذلك.
أمّا وقد قلت ذلك، فإن على المرء أيضاً أن يدين من غير تردد أية هجمات متعمدة على المدنيين، ولو كانت في إطار مقاومة وطنية؛ علماً بأن الجيش الإسرائيلي ينفذ روتينياً من الجو هجمات إرهابية ضد قرى لبنانية ومخيمات لاجئين فلسطينيين في لبنان، من دون رادع أو وازع.
أمّا الخيار الثاني المرشح بدلاً من اتفاق أوسلو، أي الانتظار وعدم الفزع من ميزان القوى القائم، فإن الاستيطان المستمر والمتنامي يومياً في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، يجعل من المستحيل التفكير في أنه خيار أفضل.
وهذا يتركنا، شئنا أم أبينا، مع خيار العمل من داخل اتفاق أوسلو، علماً بأن من البديهي أن رابين ليس هيرتسل فلسطين، وما كان له أن يكون كذلك. واتفاق أوسلو ليس إطاراً وضعه رابين ليقدم لنا من خلاله دولة فلسطينية على صينية من فضة. بل من المؤكد أنه سيفعل كل ما في وسعه كي لا نحصل على دولة. لكننا سنفعل كل ما في وسعنا لانتزاع دولة لنا من بين فكي اتفاق أوسلو. بناء عليه، لا مندوحة عن أن نستغل لا النوافذ فقط، بل أيضاً كل ثقب مفتاح في الفرصة التي ينطوي هذا الاتفاق عليها.
ما هي هذه النوافذ وثقوب المفاتيح؟ إن الرئيسية بينها هي، في رأيي، وباختصار شديد:
1) اعتراف إسرائيل والولايات المتحدة بـ م.ت.ف.؛
2) الاعتراف بـ مبدأ الانسحاب، وبـ مبدأ إعادة انتشار القوات الإسرائيلية؛
3) الانتخابات، التي هي أكثر من مجرد انتخابات بلدية؛
4) وجود جدول زمني لتنفيذ الاتفاق؛
5) استعداد المانحين الدوليين لتقديم مبالغ مالية كبيرة، في حال توفر الشفافية في إنفاق الأموال؛
6) نقل الصلاحيات والسلطات إلى يد السلطة الفلسطينية نقلاً واسعاً.
إن أياً من هذا كله لا يخلو من شوائب واضحة وصريحة. بعضه ليس جديداً أصلاً، وإنما كان قد أُقرّ في اتفاق كامب ديفيد إياه. مثلاً، هناك جدول زمني لكن إسرائيل عبثت بالمواعيد المحددة فيه. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الأمور مجتمعة ترسم أول مرة صورة جديدة. وفي المنظور التاريخي الاسترجاعي المطل على حقبة تصفية الاستعمار الغربي بعد الحرب العالمية الثانية، يصعب عدم رؤية التالي: بذور يمكن أن تنضج؛ احتمالات يمكن أن تنمو؛ إمكانات يمكن أن تتحقق؛ حركة يمكن أن تتسارع - بشرط أن نعرف كيف نستغل هذه المنافذ على أساس استراتيجيا "خذ وطالب". وعلى الرغم من كل شيء، هل أراد غورباتشوف تفكيك الاتحاد السوفياتي؟ هل أراد دو كلارك أن يصبح مانديلا رئيساً له؟ ألم يقل المثل العربي: "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"؟ لكن من يقول إن الرياح لا تجري إلاّ إلى حيث تشتهي إسرائيل؟
وهنا، أيضاً، أختلف مع الذين يريدون من عرفات أن يتخلى الآن عن السلطة. إن من شأن ذلك أن يصب مباشرة في طاحونة إسرائيل: إنه سيعفي إسرائيل مما التزمته في اتفاق أوسلو (على علات ذلك)؛ إنه سيبعث مجدداً الحديث عن عدم وجود طرف فلسطيني يمكن التفاوض معه؛ إنه سيزيل الصلة الرمزية الوحيدة (أي عرفات بالذات، شئنا أم أبينا) القائمة حالياً بين الفلسطينيين في المناطق المحتلة وبين الفلسطينيين في الشتات؛ إنه سيؤدي إلى صراع دموي بشأن خلافته، من شأنه أن يولد حالة من الفوضى اللامتناهية في أحرج مرحلة من مراحل التاريخ الفلسطيني. وهذا كله سيؤدي، حتماً وضرورة، إلى تجفيف ما تبقى من التعاطف معنا لدى مؤيدينا في الساحة الدولية.
كلا. اتركوا لعرفات أن يقود السعي نحو الانتخابات القادمة، وأن يقلع بأظفاره الأشواك التي زرعها، واتركوا للفلسطينيين في الداخل أن يقرروا كم يريدون من عرفات في هذه الانتخابات. ولتنبعث من ممارستهم لحق الانتخاب الحر موجات تصدم غير المنتخَبين جميعاً، المتربعين على كراسي الحكم من المحيط إلى الخليج.
ثمة نقطة أخيرة تتعلق بالوضع الفلسطيني هي: إن كل حركة سياسية تحتاج إلى هدف. وكلما كان الهدف معقولاً أكثر كان إمكان تحقيقه أكبر، وكان القبول به دولياً أسهل. ولدينا نحن الآن هدف كهذا؛ إنه أقل كثيراً جداً مما يحق لنا خُلُقياً وتاريخياً ووطنياً. لكنه، في ظل موازين القوى الراهنة، هدف جدير بالسعي نحوه: دولة فلسطينية ذات سيادة داخل حدود 1967، عاصمتها القدس الشرقية، وتعيش بسلام وأمن مضمون إلى جانب إسرائيل. وهذا الهدف من الممكن استيلاده من رحم اتفاق أوسلو، إذا عرفنا كيف نتصرف بالعزم والدهاء المطلوبين.
ودولياً، هو هدف مقبول من جميع العواصم، باستثناء تل أبيب، وربما واشنطن. ومدى تقدمنا إلى الأمام يجب أن يقاس بمدى اقترابنا من تحقيق هذا الهدف، أو بمدى ابتعادنا عنه. وترداد هذا الهدف مراراً وتكراراً ضرورة حتمية لا انفكاك عنها. والناس لا تضحي من أجل مجارير بلدية.
والدولة ذات السيادة هي النجم الذي نهتدي به، اليوم وغداً وبعد غد.
استراتيجيا رابين العليا
ننتقل الآن إلى البعد الإسرائيلي. وهنا، ربما كان أول ما يجب أن نتذكره هو أن حزب العمل الإسرائيلي ليس عش "حمائم" يشغلها هديل السلام. لقد كان هذا الحزب في السلطة في فترة ما قبل قيام الدولة وبعد ذلك، من سنة 1933 إلى سنة 1977. وكل ما اقترفته الحركة الصهيونية أو إسرائيل، في هذه الفترة الطويلة، تمّ بفعل القيادة العمالية. وقد كان أول ما فعله بن - غوريون، أبرز زعماء حزب العمل وإسرائيل، بعد حرب 1967 مثلاً، هو المطالبة باستيطان فوري وكثيف في القدس الشرقية. كما دعا بن - غوريون إياه إلى هدم أسوار البلدة القديمة التي بناها العثمانيون، لأنها كانت شاهداً جليلاً على طابع المدينة الإسلامي. وقد كان حزب العمل شريكاً ائتلافياً في الحكم مع الليكود في معظم الفترة بين سنة 1977 وسنة 1992؛ وكان رابين في جزء كبير من هذه الفترة وزيراً للدفاع. ويحتاج المرء إلى حاسوب متطور ليحسب عدد كواحل ومعاصم فتياننا وفتياتنا التي سحقتها صفوة قوات رابين الصاعقة بناء على أوامر شخصية منه.
ولا يعني ذلك أن لا وجود لمعسكر سلام حقيقي في إسرائيل. فهناك طبعاً: حركة ميرتس، وحركة السلام الآن، وأفراد بارزون - أمثال ماتي بيلد، وموشيه عميراف، ويسرائيل شاحاك - جديرون جميعاً بالثناء. لكن هؤلاء كلهم لا يجعلون من رابين "حمامة".
كيف يمكن، إذاً، تفسير موافقة رابين على اتفاق أوسلو؟ لقد وصل إلى أوسلو من خلال طرق متعددة: الأول منها قراءته لميزان القوى في ضوء "عاصفة الصحراء" (تدمير العراق عسكرياً) وانهيار الاتحاد السوفياتي (خسارة العرب لمساندة قوة عظمى لهم)؛ وهذا ما أوصل إسرائيل إلى ذروة سطوتها العسكرية منذ تأسيسها. والطريق الثاني إدراكه، في ضوء "عاصفة الصحراء" أيضاً، أن لا أهمية عسكرية للمناطق المحتلة؛ وذلك لأنها لم تمنع سقوط صواريخ "سْكَد - س" على تل أبيب نفسها؛ والطريق الثالث يتصل بالسياسة الإسرائيلية الداخلية. ذلك بأن كل حزب يسعى للوصول إلى السلطة. وقد ظل حزب العمل في المرتبة الثانية بعد الليكود من سنة 1977 حتى سنة 1992. ومن أجل العودة إلى التربع على كرسي الحكم، كان لا بد من أن يميز حزب العمل نفسه من الليكود؛ وأحدى السبل إلى ذلك، التميُّز في الموقف من القضية الرئيسية التي تواجه إسرائيل، أي العلاقات بالدول العربية وبالفلسطينيين. ولمّا كان حزب العمل لا يستطيع التميُّز بالاتجاه يميناً أبعد من الليكود، فقد اضطر إلى اختيار موقف يعطي الإسرائيليين أنفسهم، ويهود الشتات، وكذلك الأقطار الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، انطباعاً برؤية جديدة للحياة، على الأقل. وهكذا، فإن لدى رابين مصلحة راسخة في أن يبدو أنه يتحرك في اتجاه الحل وكأنه يعرض بديلاً سلمياً؛ وأخيراً لا آخراً، هناك تأثير العمليات البطولية لكل من "حماس" و"الجهاد".
إن رابين براغماتي جزئياً فقط؛ إنه لا يزال بلماحياً وتلميذاً مخلصاً لبن - غوريون، ومن صميم أبناء جيل 1948. وفي الأساس، إن جذوره تضرب عميقاً في الأيديولوجيا الصهيونية المراهنة على الانتصارات العسكرية. لكن إذا كان من المؤكد أن رابين ليس هيرتسل الفلسطينيين، فيجب أن نتبين عن طريق التجربة والخطأ إنْ كان يمكن أن يكون، راضياً أو ساخطاً، ديغول إسرائيل.
لكن ماذا عن رؤيته للسلام اليوم؟
أعتقد أن رؤية رابين للسلام حتى الآن تشتمل على ثلاثة عناصر مندمجة في خطة مفردة شاملة:
أولاً: إنه يريد أن يستغل، إلى أبعد مدى، صيغة المفاوضات الثنائية التي فرضها مؤتمر مدريد. ومن الملاحظ أن هذه الصيغة تفتت "الجبهة" العربية، المفتتة أصلاً، إلى جبهة إسرائيلية - سورية، وجبهة إسرائيلية - أردنية، وهلم جراً. دبلوماسياً، يضفي ذلك على إسرائيل مكانة اللاعب المركزي الوحيد على الجبهات كافة. وهكذا تصبح إسرائيل كلاعب الشطرنج "المعلِّم" الذي يبارز عدة لاعبين في وقت واحد، لكن كلاًّ منهم على حدة، أو تصبح كـ "المايسترو" في الأوركسترا الذي يضبط الإيقاع في كل "جبهة من الجبهات" وينقل التشديد أو عكسه من جبهة إلى أُخرى بحسب مشيئته، مع استغلال وتغذية التوترات والمخاوف القائمة بين الجبهات المعنية؛ أي الدول العربية. وفي هذا النمط من التفاوض، تتمتع إسرائيل بميزة تمثل المعادل الدبلوماسي لميزة التمتع بخطوط مواصلات داخلية عسكرياً. كما يتيح لها ذلك أن تستغل إلى أقصى حد تفوقها في مواجهة اللاعبين العرب المعزولين بعضهم عن بعض.
ثانياً: إن رابين - خلافاً لليكود - كان يملك من البصيرة ما يكفي ليدرك أنه يجب أن تبدو خطوته الافتتاحية أنها تحقق اختراقاً على الجبهة الفلسطينية، بينما كان لدى عرفات أسبابه الخاصة للتجاوب. ومن هنا، مرة أُخرى، اتفاق أوسلو. وقد كان اتفاق أوسلو اختراقاً بمعنى ما. وكان اختراقاً، على الأقل، بالنسبة إلى رابين وعرفات. لكنه كان أيضاً اختراقاً مصمَّماً ليخدم خطة رابين وأغراضه العليا.
من وجهة النظر الفلسطينية، فإن أم وأب جميع عيوب اتفاق أوسلو يكمنان في أنه لم يتضمن تجميداً للنشاط الاستيطاني. ومن منظور رابين، فقد ضرب الاتفاق عصفورين بحجر واحد:
- كان بمثابة كلمة السر، أو "افتح يا سمسم"، المفضية إلى كنوز الحكام العرب؛
- منحه الوقت اللازم لتحقيق العنصر الثالث في خطته.
أمّا العنصر الثالث في رؤية رابين للسلام، فيتمحور حول القدس، إذ إن لديه حسابات شخصية يريد تصفيتها؛ فقد كان في سنة 1948 قائد البلماح الذي فشل في احتلال البلدة القديمة. وعندما نجح، لمّا كان رئيساً للأركان سنة 1967، في تحقيق ذلك - بين أمور أُخرى - كان من معسكر القادة الإسرائيليين الداعين إلى الحد الأقصى فيما يتعلق بالقدس الشرقية. وقد أراد دعاة الحد الأقصى في سنة 1967 ضم مساحة تشمل نحو 000,200 دونم إلى القدس الغربية، بما في ذلك القدس في حدودها البلدية الأردنية (600 دونم) و22 قرية كان مجموع عدد سكانها يبلغ وقتئذ ما لا يقل عن 000,100 فلسطيني. بينما دعا أنصار الحد الأدنى إلى الاكتفاء بضم القدس الشرقية في حدودها البلدية الأردنية. وكان "الحل الوسط" بين الفريقين في سنة 1967 ضم مساحة 000,70 دونم، أي ما يعادل أحد عشر ضعف مساحة بلدية القدس الأردنية، لكنْ ثلث المساحة التي طالب دعاة الحد الأقصى بضمها. ولا يوجد لديّ أدنى شك في أن رابين اليوم لم يتراجع قيد أنملة عن سعيه لتحقيق أحلامه الإقليمية القصوى، التي عبّر عنها سنة 1967، في المنطقة المحيطة بالقدس الشرقية. وهذا طبعاً ليس سياسته المعلنة، لكنه بالتأكيد سياسته العملية التي يجري تنفيذها بخطى حثيثة، حتى في لحظة كتابة هذه السطور.
ويتمثل الفك الآخر لكماشة رابين المطبقة على القدس في الضغط على الدول العربية من أجل تطبيع العلاقات بينها وبين إسرائيل، حتى مع استمراره في تنفيذ سياسة الحد الأقصى تجاه القدس. ويأمل رابين بأن يكون التطبيع المسبق، عندما تدرج مسألة القدس أخيراً في جدول الأعمال، قد قطع شوطاً بعيداً أصبح الفلسطينيون معه معزولين عن الدول العربية، وأصبحت التغييرات على الأرض، ديموغرافياً ومادياً، كثيفة على نحو يحمل الجميع على الاعتراف بأنها غير قابلة للعكس. وهكذا تضطر الدول العربية والإسلامية، وفقاً لحساباته، إلى الاكتفاء بالطقوس المعهودة المتمثلة في ضجيج إعلامي من قبيل "القيام بالواجب". وها هما مصر والأردن قد طبّعا العلاقات. وتقف سورية وحيدة حجر عثرة أمام عدة دول خليجية وشمال إفريقية تتحفَّز للقفز إلى عربة التطبيع المسبق.
ويسعى رابين لِـ "تسهيل" قبول الدول العربية والإسلامية لاستراتيجيا بشأن القدس، من خلال الفصل بين مظهرَيْ المدينة "الديني" و"السياسي". ويشهد على ذلك الاتفاقُ مع الملك حسين بشأن رعاية الأماكن الدينية الإسلامية في القدس. وقد ابتلع الملك حسين، لأسباب خاصة به، هذا الطعم.
إن الخطر الجسيم، الذي تنطوي استراتيجيا رابين عليه، يكمن في أنها يمكن أن تلغي وتحيد فعلاً أية تنازلات جغرافية يدّعي حزب العمل أنه مستعد للإقدام عليها في الأجزاء الباقية من الضفة الغربية ضمن معادلات اتفاق أوسلو؛ ذلك بأنه بمقدار ما تكبر المساحة المضمومة رسمياً (De jure)، أو في الواقع (De facto)، من الضفة الغربية إلى القدس الغربية الإسرائيلية، يصغر "المجال" السياسي والجغرافي والنفسي المتاح لتعويض الفلسطينيين، ولو جزئياً، مما لحق بهم من مظالم؛ وذلك من خلال إقامة الدولة الفلسطينية التي أشرتُ إليها أعلاه.
تواطؤ كلنتون الصامت
أنتقل الآن إلى البعد الأميركي. إن سياسة الإدارة الأميركية الحالية تستند، كما يبدو، إلى مقدمتين افتراضيتين:
- تأجيل جملة من القضايا، بما في ذلك المستعمرات والقدس، استناداً إلى اتفاق أوسلو.
- حقيقة استمرار المفاوضات الثنائية بين إسرائيل وم.ت.ف.
وتستخدم الإدارة الأميركية هاتين المقدمتين لتبرير الحجة القائلة بأنه يجب ألا يحدث، كما تزعم، أي "تدخل" في العملية من قِبل طرف ثالث، سواء أكان الأمم المتحدة أم الولايات المتحدة نفسها.
وما تعنيه هذه الحجة الأميركية، بكل بساطة، هو أنه يرجع إلى الطرفين المتفاوضين فقط أن يحلا خلافاتهما بشأن القضايا المؤجلة في إطار التسوية الشاملة.
وينبثق من هاتين المقدمتين الافتراضيتين طيف واسع من المواقف:
أولاً: إن جميع القرارات المتعلقة بالقضية الفلسطينية والصادرة عن مختلف هيئات الأمم المتحدة في الأعوام الخمسين الأخيرة، أُطلقت عليها رصاصة الرحمة من قِبل المندوبة الأميركية إلى الأمم المتحدة، أولبرايت؛ وذلك بتصريح طائش مؤلف من ثلاثة سطور، تطلب فيه من الأمم المتحدة "إسقاط" ("Drop") قراراتها المتعلقة بجميع القضايا المؤجلة (القدس، اللاجئون، السيادة، حق العودة). وبذلك تجعل هراءً من جهود مئات من الدبلوماسيين من أقطار العالم كافة، وهراءً من آلاف الساعات من الخطب والمناقشات، وهراءً من الآمال والطموحات التي علقها ملايين من المضطهدين على هذه القرارات، وهراءً من الادعاء الأميركي باحترام القانون الدولي والرأي العام العالمي!
ثانياً: لقد كانت هذه الحجة، وهاتان المقدمتان الافتراضيتان، السبب في الصمت المدوي الذي لا سابقة له، والذي تواجه هذه الإدارة به الممارسات والسياسات الإسرائيلية في المناطق المحتلة. وهكذا، عندما يقول رابين إن مواعيد اتفاق أوسلو التي باركتها واشنطن ليست مقدسة، تكون ردة فعل واشنطن الصمت المطبق، مع أن هذه المواعيد حلقات مفصلية في تطبيق إعلان المبادئ الذي أخرجه البيت الأبيض إلى العالم. وعندما يفرض رابين عقوبة جماعية على 000,850 نسمة في غزة، بإغلاق القطاع فترة طويلة رداً على أفعال أفراد، تكون ردة فعل واشنطن صمتاً مطبقاً. ويتواصل الصمت المطبق مع أن كل إغلاق يكلف، بحسب التقديرات المتداولة، اقتصاد غزة الذي يعاني بطالة تصل إلى ما يقارب 60%، نحو 2 - 3 ملايين دولار يومياً؛ وهذه خسارة تحيّد كلياً نفع أية مساعدة من الولايات المتحدة نفسها أو من المانحين الدوليين الآخرين، وتزيد الجماهير في غزة فقراً على فقر، وتغذي الإحباط واليأس اللذين ساهما في توليد أعمال اليأس الانتحاري أصلاً. وعندما يستورد رابين عمالاً من خارج منطقة الشرق الأوسط بعشرات الآلاف، موحياً بأنه ينوي الاستمرار في معاقبة غزة إلى ما لانهاية، تكون ردة فعل واشنطن الصمت المطبق. وكذلك الأمر عندما يصادق رابين على توسيع الاستيطان، سواء داخل القدس أو خارجها في الضفة الغربية، وعندما يضم واقعياً مزيداً من المساحات إلى القدس المضمومة أصلاً، وأيضاً عندما يملأ الضفة الغربية بالطرق الالتفافية من اجل إحكام سيطرته عليها.
وقد كان من وطأة هذا الصمت أن مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، السفير روبرت بلليترو، عجز على نحو يدعو إلى الرثاء حتى عن أن يستخدم أمام إحدى لجان الكونغرس عبارة "من جانب واحد" في وصف الأفعال الإسرائيلية، كما لو أن العبارة فحش لا يستسيغه ذوقه السياسي.
ماذا يعني ذلك كله؟ إنه يعني أن الإدارة الأميركية، لأسباب تخصها، قابلة ضمناً بأفعال رابين. إن هذا ليس ضوءاً أخضر متقطعاً موجهاً إلى الحكومة الإسرائيلية والرأي العام، وإنما هو ضوء أخضر ساطع ومتوهج. وهو يعني أن الإدارة الأميركية تحل نفسها من الضمانات التي قدمتها إلى م.ت.ف. في إطار مؤتمر مدريد. ويعني أنها تتخلى عن تعهدها بأن تكون "وسيطاً نزيهاً" و"القوة الدافعة" وراء العملية السلمية، وأنها تضرب عرض الحائط بالتزامها الأكيد معارضة أي عمل من شأنه أن يؤثر سلباً في نتيجة المفاوضات، وأنها تفسح لميزان القوى مجال تغليب إرادة الطرف الذي يميل الميزان إلى مصلحته بصورة ساحقة على إرادة الطرف الآخر. كما يعني أنها تختار التخلي عن التزامها الأدبي ومكانتها بصفتها القوة العظمى التي أطلقت العملية السلمية ورعتها، وبصفتها القوة التي تقود العالم اليوم.
ولا تستطيع الولايات المتحدة الادعاء أنها تجهل نيات رابين أو ما يجري ميدانياً. إن المرء لا يحتاج إلى منجّم ليعرف أن مسألة القدس بالنسبة إلى رابين غير مؤجلة؛ إنها مدرجة في جدول أعماله اليومي، وموضوعة في رأس قمة هذا الجدول بوضوح شديد. وفي الحقيقة، إن ما يخطط رابين له هو أن يأخذ بيده اليسرى، من خلال قدس "الحد الأقصى"، ما أعطته يده اليمنى في أوسلو.
إن تواطؤ واشنطن، بل مصادقتها أيضاً على أفعال إسرائيل بالنسبة إلى مسألة القدس، التي يتوقف عليها مصير العملية السلمية بأكملها، هما ما يثيران القدر الأكبر من السخط والاشمئزاز تجاه واشنطن. وهنا نجد أن المفهوم الرئيسي الذي تختبئ واشنطن خلفه هو ورقة التين المسماة "القدس الموحدة" أو "القدس غير القابلة للتجزئة". ففي آذار/مارس 1994، تفاخر نائب الرئيس الأميركي، آل غور، بفهمه "معنى القدس" في سياق تحرك الولايات المتحدة لممارسة حق النقض تجاه أية إشارة إلى القدس الشرقية بصفتها "منطقة محتلة". لكن هذا التحرك بالذات هو ما يكذب ادعاء غور أنه يفهم حقاً معنى القدس.
ونقول للسيد غور إن معنى القدس الحقيقي، بالنسبة إلى الإنسانية، هو أن القدس قائمة على مبادئ أساسية: عدم احتكار أي طرف للسيادة عليها؛ المساواة بين الأديان فيما يختص بها؛ عدم سيطرة أحد الأطراف على حساب الطرفين الآخرين؛ التشارك؛ عدم الإكراه؛ العدالة الملموسة؛ استبعاد معادلة منتصر - مهزوم؛ عدم فرض تراتبية روحية تضع اليهودية في رأس الهرم. إن رفض السيد غور لوصف القدس الشرقية بأنها منطقة محتلة، واختباءه خلف مفهوم "القدس الموحدة" أو "القدس غير القابلة للتجزئة"، هما نقيض جميع هذه المبادئ التي تجسد معنى القدس الحقيقي. وإن المصادقة المطلقة على السياسات الإسرائيلية، المتعلقة بالقدس الشرقية، هي دعوة مفتوحة لإسرائيل كي تستمر في توسيع حدود إسرائيل الشرقية، لا على حساب الضفة الغربية فحسب، بل أيضاً على حساب السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، وفي القرن الحادي والعشرين.
كما أن احتضان إدارة كلنتون لما يسمى مكانة الملك حسين التاريخية، فيما يتعلق بالأماكن الدينية الإسلامية، لن ينزع فتيل التفجير الكامن في المسألة. إنه مجرد دليل آخر على قبول هذه الإدارة بالاستراتيجيا الإسرائيلية القائمة على الفصل بين الجانبين الديني والعلماني كوسيلة تمكِّن إسرائيل من قضم مزيد ومزيد من أراضي الضفة الغربية، في سياق تنفيذ طموحات رابين القصوى بالنسبة إلى القدس.
وأخيراً: هناك العملية الحثيثة الجارية من أجل استصدار تشريع يمهد الطريق لنقل السفارة الأميركية إلى القدس؛ وهي عملية ابتدأت بالتعديل القانوني الذي بادر السيناتور هيلمس إلى اقتراحه سنة 1988 والذي يحمل اسمه - وهذا السيد المحترم هو هيلمس نفسه رئيس لجنة العلاقات الخارجية التابعة لمجلس الشيوخ، الذي يدل على خبرته بالعلاقات الخارجية عجزُه - عند زيارة رئيسة الحكومة الباكستانية لواشنطن مؤخراً - عن التمييز بين الهند وباكستان. وقد قامت سلطة أراضي إسرائيل (Israel Land Authority) فعلاً، في سنة 1989، بتأجير الولايات المتحدة موقعاً في القدس الغربية لإقامة "منشآت دبلوماسية" و"مقر الممثل الدبلوماسي الأعلى رتبة." وسلطة أراضي إسرائيل هذه هي الجهة التي وُضِعت الأراضي التي صودرت من اللاجئين الفلسطينيين سنة 1948 في عهدتها. والولايات المتحدة، من خلال عقدها هذا الاتفاق مع سلطة أراضي إسرائيل، لا تكون قد صادقت على السياسات الإسرائيلية في القدس فحسب، بل تكون أيضاً صادقت بمفعول رجعي على حرمان ملايين اللاجئين من وطنهم، وعلى مصادرة إسرائيل لأملاكهم الخاصة. كما تكون قد نقضت بنفسها تبنّيها المتواصل عبر العقود لحق الفلسطينيين في الاختيار بين التعويض والعودة، الذي أقرته واشنطن منذ سنة 1949.
وباختصار، لا يوجد أدنى ذرة من الشك بشأن أي ذَنَبٍ يحرك أي كلب في هذه الإدارة.
مصادر قوة فلسطينية
على الرغم من الاختلال الهائل في ميزان القوى لمصلحة إسرائيل، وشهية الصهيونية الجشعة إلى التراب الفلسطيني التي لا إشباع لها كما يبدو، فإن لدى الفلسطينيين عدداً من مصادر القوة التي يمتلكونها. وسأعدّد عشرة من مصادر القوة هذه، مرتبة بحسب أهميتها كما أتصورها.
1) الحق التاريخي كان، وما زال، إلى جانبهم.
2) لا نظير لشجاعة الجماهير الفلسطينية، وقوة احتمالها، وصلابة إرادتها، وقدرتها على تجديد الكفاح.
3) النخبة الفلسطينية يقلُّ نظيرها في العالم الثالث، إنْ لم يكن في سائر الأقطار. والنساء الفلسطينيات أكثر تحرّراً من نساء أي قطر عربي أو إسلامي آخر.
4) الفلسطينيون في المناطق المحتلة مرابطون ثابتون على تراب أجدادهم؛ كثيفون ديموغرافياً؛ أقوياء جسدياً؛ فتية أعمارهم؛ غزير تناسلهم. والحلم الصهيوني القديم بطردهم جماعياً عفا عنه الزمن.
5) الفلسطينيون يقفون على عتبة انتخابات حرة لقيادة جديدة.
6) هدفهم السياسي مستساغ دولياً ولا يهدد إسرائيل، فضلاً عن أنه لا يلغي وجودها.
7) ثمة بين صفوفهم عدد من أنجح رجال الأعمال في العالم.
8) لديهم داخل إسرائيل حليفان مهمان: معسكر السلام الإسرائيلي، ونحو 000,900 من العرب الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية.
9) الرأي العام في العالم العربي، بغض النظر عن الحكام، وفي الكثير من سائر دول العالم، يؤيدهم غريزياً.
10) المانحون الدوليون مستعدون لتقديم مساعدات كبيرة إذا توفرت شفافية الحسابات لدى السلطة الفلسطينية.
ويجدر بالفلسطينيين أن يعوا جيداً أموراً معينة ينبغي لهم فعلها، وأموراً أُخرى ينبغي لهم تجنبها. أولاً: مهما يكن الثمن، عليهم أن يتجنبوا الاقتتال الداخلي، ويجب استيعاب "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في العملية السياسية. وإذا كان "حزب الله" قد استطاع الانضمام إلى العملية السياسية اللبنانية، فإن في وسع "حماس" الانضمام إلى العملية السياسية الفلسطينية. ثانياً: ينبغي للفلسطينيين ألا يسمحوا لإسرائيل، مهما تكن الظروف، بالإفلات من صنارة اتفاق أوسلو على علاته. ثالثاً: ينبغي لهم أن يعملوا بهمة قوية لدفع إسرائيل، عن طريق الرأي العام العالمي، إلى التقيد بالتزامها السماح بإجراء انتخابات فلسطينية حرة بإشراف دولي. رابعاً: يجب أن يواصلوا، بهمة لا تعرف الكلل، الضغط على عرفات وعلى إسرائيل فيما يتعلق بمسائل حقوق الإنسان. خامساً: يجب أن يُبقوا نصب أعينهم دولتهم المستقلة الحرة المتعايشة بسلام مع إسرائيل، وأن يجعلوا منها المعيار والفيصل في الحكم على أفعالهم كافة.
دور الأميركيين العرب
للأميركيين العرب دور لم يؤدوه بعد. والتحدي الأكبر الذي يواجهونه هو الأسلوب الذي تتبعه النخبة السياسية في الكونغرس في صوغ سياسة الولايات المتحدة الخارجية فيما يختص، حصراً، بالقضايا العربية - الإسرائيلية والفلسطينية: وراء الكواليس؛ بعيداً عن الأنظار؛ في الأروقة؛ بلغة قانونية بيروقراطية ذات مظهر حيادي خادع؛ من خلال "تعديلات" في القوانين موحى بها أصلاً من قِبل مجموعة الضغط (اللوبي) اليهودية، ومصوغة على أيدي عملائها، ومموهة كي يصعب إدراك مقاصدها.
لقد استمع الأميركيون العرب في الولايات المتحدة، مراراً وتكراراً، إلى مناقشات طويلة وحامية بين الساسة في الحكم والمعارضة بشأن السياسة المتبعة تجاه كل بلد في العالم، من الصومال إلى كوريا الشمالية، ومن تشيلي إلى البوسنة. وكل ما لهذه السياسة أو لتلك، أو عليهما، تجري مناقشته بإسهاب علناً وأمام الجمهور وفق الأصول الديمقراطية. وهذا ما يجب أن يكون. لكن، هل سمع أحد منا مناقشة كهذه في شأن مزايا وسلبيات هذه السياسة أو تلك تجاه إسرائيل، أو تجاه خصم من خصومها؟ إن التشهير بخصوم إسرائيل لا حد له؛ والمديح لإسرائيل لا حد له! لكنْ مناقشة بسيطة للمزايا والسلبيات؟ أبداً. وهذا هو السبب في أن السياسة الأميركية بشأن هذه المسألة يمكن أن تُرْسَم، مرة بعد أُخرى، على نحو مخالف تماماً للقيم الخالدة التي نادى بها واضعو الدستور الأميركي: ماديسون، وجفرسون، وهاميلتون.
إن السياسة الخارجية المرسومة خِفية يجب أن تكون مستقبلاً، وابتداءً من اليوم، نقطة الارتكاز بالنسبة إلى جهود الأميركيين العرب وحلفائهم. إذ ينبغي لهم أن ينسقوا جهودهم ويركّزوها على إخراج المسائل من عتمة غرف الكونغرس إلى ضوء ساحة الرأي العام الأميركي ليتمكن من تفحصها بحرية. ولن يكونوا وحدهم في مسعاهم هذا؛ فهناك كثيرون غيرهم في الولايات المتحدة يعنيهم الأمر أيضاً: في الكنائس، في الصحافة، في العالم الأكاديمي، في الإدارة، في مراكز الدراسات وفي أوساط الزعامات الإثنية.
لكن على الأميركيين العرب، أولاً، الخروج من الحالة النفسية المتمثلة في الاعتماد على الحكام العرب وانتظار "غودو" عربي كي يبادروا إلى العمل. بعبارة أُخرى: الكلمة المفتاح هي الاعتماد على النفس. وهنا، فإن الضرورة الحتمية هي التنظيم، والتنظيم، والتنظيم. فليس في وسع أي أميركي عربي فرد، أو أية جمعية مفردة، أو أي عدد من الأفراد أو الجمعيات الناشطة كل منها وفقاً لجدول أعمال منفصل، أن يصل وحده إلى أي هدف. يجب أن يكون هناك تجميع للإمكانات، وتقسيم عقلاني للعمل، وائتلاف مع أوسع طيف ممكن من المواطنين الأميركيين الآخرين المعنيين.
وأية قضية أجدر بالتعاون في سبيلها من قضية القدس الشريف؛ تلك المدينة الذهبية الخالدة؟
* هذا المقال، في الأساس، كلمة أُلقيت بالإنكليزية في 7 أيار/مايو 1995، أمام "المؤتمر السنوي للجنة الأميركية العربية لمكافحة التمييز العنصري"، في أرلنغتون (فيرجينيا).