Syrian Security Requirements in a Peace Settlement with Israel
Keywords: 
الجولان
مرتفعات الجولان
أمن إسرائيل
الأمن الإقليمي
الحد من الأسلحة
السلام
Full text: 

مقدمة

تتمحور المفاوضات بين سورية وإسرائيل، سواء مباشرة أو عبر الطرف الأميركي، حول ثلاثة عناصر مترابطة: الأرض، والأمن، وطبيعة السلام. بشأن الانسحاب، ما زالت إسرائيل حتى الآن ترفض أن تلتزم الانسحاب إلى خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967، طبقاً للشرط السوري الأساسي المتفق مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242. وما زالت أيضاً تحاول الابتداء بعملية التطبيع قبل أن تحدد مدى الانسحاب، وذلك بادعاء امتحان النيات السورية. وقد ضرب رئيس الحكومة الإسرائيلية يتسحاق رابين مثال الاتفاق مع مصر حين صرح بأن العلاقات الطبيعية السلمية استُكملت بين إسرائيل ومصر مع إتمام الانسحاب من شبه جزيرة سيناء، كما أنه عرض "انسحاباً رمزياً إسرائيلياً يليه تطبيع للعلاقات بين بلدينا خلال ثلاث سنوات يتيح اختبار النيات السورية"، وبعد ذلك تنسحب إسرائيل إلى "حدود سلام" (من دون تحديدها).[1] أمّا وزير الخارجية شمعون بيرس، فقد أبدى استعداداً للانسحاب إلى خط الحدود الدولية الذي كان قائماً سنة 1948، أي قبل الحرب العربية - الإسرائيلية الأولى 1948 - 1949، وأشار في تصريح لاحق إلى أن الثمن سيكون مثل الثمن الذي دفع لمصر، لكن ليس بالضرورة متطابقاً.[2] هذه المواقف ترفضها سورية طبعاً، لأن محاولة إسرائيل الابتداء بالتطبيع يدخل المفاوضات في مناورات ابتزازية للحصول على مكاسب جغرافية في منطقة الحمة وبانياس، بالإضافة إلى أن مقدمة القرار رقم 242 ونصه في اللغات الرسمية للأمم المتحدة، باستثناء الإنكليزية، ينصان على عدم اكتساب أراضي الغير بالقوة وعلى الانسحاب الكامل. وحين تطالب إسرائيل بالتطبيع المسبق، فإنها تهدف عملياً إلى التهرب من التزام الشرعية الدولية. أمّا الموقف السوري فهو واضح، ويُلخص بعبارة: "السلام الكامل في مقابل الانسحاب الكامل". وخلال زيارة الرئيس الأميركي بيل كلنتون لسورية، عبّر الرئيس الأسد عن "استعداد سورية للالتزام بمتطلبات السلام الموضوعية بإقامة علاقات سلام عادية مع إسرائيل مقابل انسحاب إسرائيل التام من الجولان إلى خط الرابع من حزيران (يونيو) 1967 ومن جنوب لبنان."[3]

ما يمكن استنتاجه من هذا التصريح هو أن سورية مستعدة لدخول عملية تطبيع العلاقات مع انتهاء الانسحاب الإسرائيلي من الجولان، أو على الأقل مع اتخاذ بعض الخطوات خلال عملية الانسحاب، لكن بعد التزام إسرائيل الانسحاب الكامل. وقد اقتُرح مثل هذه الخطوات في ورقة العمل السورية المقدمة سنة 1992، وهي: إنهاء حالة الحرب، والاعتراف المتبادل بالسيادة والاستقلال السياسي، وسلامة الأراضي، أي بحسب ما جاء في متطلبات القرار رقم 242. أمّا المطالبة الإسرائيلية بحدود مفتوحة وإقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية فهي، من وجهة النظر السورية، أمور تخرج عن نطاق المتطلبات الموضوعية للسلام، ويرتبط إنجازها بتحقيق السلام الشامل على الجبهات العربية كافة، وذلك بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، كما جاء في تصريح الرئيس الأسد السابق الذكر. وبما أن مصر والأردن وقّعا معاهدات سلام مع إسرائيل، فما بقي من الأمر متعلق بالجنوب اللبناني والأراضي الفلسطينية المحتلة. وبناء على ذلك، يمكن نظرياً الافتراض أن تحقيق تقدم في حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه الوطنية والسياسية وسيطرته على أرضه، بما يمكن أن تعتبره أغلبية الشعب الفلسطيني (عبر المنظمات الممثلة له) كافياً لممارسة حق تقرير المصير، قد يسهل عملية التطبيع بحسب ما تطالب إسرائيل به. وهنا تكمن المعضلة الكبيرة؛ إذ لدى سورية شك كبير في إمكان تطوير وتنفيذ اتفاق أوسلو (1993) وإنهاء المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية بشأن مشكلات المستوطنات والحدود واللاجئين والقدس والتدابير الأمنية بنجاح، وفي وقت قصير لا يتعدى الأعوام القليلة المقبلة. وللخروج من الجمود الذي طرأ على المفاوضات السورية - الإسرائيلية بسبب مشكلتي الانسحاب الكامل والتطبيع، اقترحت الولايات المتحدة سنة 1994 تركيز المفاوضات على التدابير الأمنية المزمع إقامتها، على افتراض التزام إسرائيل الانسحاب الكامل. وسيعالج هذا المقال مختلف أبعاد هذه التدابير ضمن إطار الأهمية الاستراتيجية لهضبة الجولان، ويفنّد المزاعم الإسرائيلية بضرورة الاحتفاظ بها، أو بقسم منها، تحت ستار الضرورات الأمنية.

أولاً: العامل الجغرافي - الاستراتيجي

يتركز الجدال فيما يتعلق بهضبة الجولان على أهميتها الاستراتيجية بالنسبة إلى الطرفين السوري والإسرائيلي. فسورية تعتبر الموضوع محسوماً؛ حيث إن الهضبة أرض سورية، بغض النظر عن أي ادعاءات إسرائيلية بشأن الاعتبارات الأمنية (تبلغ مساحة الأرض المحتلة نحو 1176 كم2، من مجموع المساحة الإجمالية البالغة 1860 كم2). وإضافة إلى ذلك، فإن الوجود العسكري الإسرائيلي يشكل تهديداً أمنياً لسورية، ولا سيما للعاصمة دمشق؛ إذ إن المسافة بين خط وقف إطلاق النار وبين دمشق تبلغ 60 كم تقريباً، ولا تبعد عن خط الدفاع عن المدينة أكثر من 40 كم. وهناك أيضاً ما يقارب نصف مليون نازح سوري من المنطقة، وهذا ناجم عن طرد إسرائيل ما يقارب 150 ألفاً من مجموع سكانها الذين كان عددهم سنة 1967 يقدر بـ 160 ألفاً. وفي مقابل ذلك، بنت إسرائيل حتى الآن 35 مستوطنة، يسكنها نحو 15 ألف مستوطن. أمّا تعداد السوريين الباقين تحت الاحتلال فيقارب 16 ألفاً.

ويمكن تلخيص الادعاءات الإسرائيلية بالنقاط التالية:

1 - عطّل الوجود العسكري السوري في الماضي نشاط الحياة العادية في شمال إسرائيل.

2 - ينبع من الهضبة مصدران رئيسيان لنهر الأردن، هما نهرا بانياس والدان.

3 - المنطقة ذات عرض ضيق يتراوح معدله بين 15 كم و25 كم، ولذلك، فإنها لا يمكن أن تقوم بوظيفة الإنذار المبكر، مثل صحراء سيناء. ومع ذلك، فهي مفيدة لامتصاص هجوم سوري مفاجئ إلى حين استدعاء القوات الإسرائيلية الاحتياطية ونشرها. كما أن إسرائيل ترفض الحجة القائلة إن الأسلحة الحديثة، وخصوصاً الطائرات النفاثة والصواريخ أرض - أرض، أفقدت الأرض قيمتها العسكرية.

4 - إن الوجود العسكري الإسرائيلي يشكل رادعاً لسورية ضد إمكان هجوم مفاجئ، وذلك بسبب التهديد الماثل للعاصمة السورية.[4]

بالنسبة إلى الادعاءين الأول والثاني، فإنه لم يعد لهما أهمية، وذلك نظراً إلى أن المفاوضات ترمي إلى عقد اتفاق سلام، والأعمال الدفاعية السورية كانت ردّاً على الاعتداءات الإسرائيلية في المناطق المنزوعة السلاح، وعلى تحويل مياه نهر الأردن في الخمسينات والستينات. أمّا موضوع تنظيم اقتسام مياه الأردن، فهو سيخضع لاتفاقات تشمل الأردن وإسرائيل وسورية، مع إمكان انضمام لبنان.

وفيما يتعلق بالادعاء الثالث، فالحجة الإسرائيلية غير مستندة إلى وقائع صحيحة منطقياً وعملياً؛ إذ إن هضبة الجولان لا تشكل منطقة إنذار مبكر، ولا هي مفيدة لامتصاص هجوم مدرع كبير، كما أثبتت تجربة حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973؛ حيث إن الدبابات السورية وصلت إلى نحو 4 كم - 5 كم من خط حدود سنة 1967 خلال 30 ساعة تقريباً من بدء الحرب، ولو توفر لسورية مزيد من القوات المدرعة والميكانيكية آنذاك، أو لو طُبقت الخطة الاستراتيجية الشاملة المتفق عليها مع القيادة المصرية بكاملها، لاختلفت نتائج الحرب اختلافاً كبيراً.[5] أمّا من حيث تأثير الأسلحة الحديثة، فالادعاء الإسرائيلي يبدو منسجماً منطقياً أول وهلة؛ ذلك بأن دروس التاريخ العسكري الشائعة تشير إلى أن المهاجم يحتاج إلى اجتياز الأرض للوصول إلى هدفه، الأمر الذي يعطي المُدافِع الفرصة لعرقلة تحرك المهاجِم، وبالتالي جعله يعاني قابلية التعرض، وهو ما يساعد المُدافِع على حل المعضلة الأمنية جغرافياً. غير أن الشروط الجغرافية في هضبة الجولان مختلفة كلياً؛ إذ إن دروس التاريخ العسكري الشائعة تستخلص النتائج من حملات عسكرية برية دارت رحاها على أراض تتجاوز مساحتها آلاف الكيلومترات المربعة، ناهيك بأن السرعة التي تتمتع المدرعات الحديثة بها تمكِّن المهاجِم من تحقيق الحركة السريعة في أقصر وقت متوفر قبل تمكُّن المُدافِع من الاستعداد لإحباط هجوم واسع، ولا سيما إذا تمتع المهاجِم بعامل المفاجأة. وإلى جانب ذلك، فإن توفُّر الطائرات النفاثة والصواريخ أرض - أرض لدى الجانبين يعطي تأثيراً متبادلاً لكلا الطرفين، أو يحيِّد قيمتها على المستويين التكتي والاستراتيجي.

وأمّا الادعاء الإسرائيلي الرابع، المتعلق بتشكيل رادع لسورية من خلال احتلال الجولان، فهو ادعاء فاسد منطقياً. ويعود ذلك إلى أن الردع لا يقتصر على القدرة العسكرية، بل يشمل أيضاً توازن الإرادات والمصالح الجوهرية القومية. وعلى ذلك، فإن توهُّم إسرائيل أن السوريين سينسون الجولان بمرور الوقت ليس إلاّ مجرد أضغاث أحلام؛ فلولا المتغيرات الدولية الناجمة عن إنهاء الحرب الباردة وانحلال الاتحاد السوفياتي، لكانت سورية لا تزال تتابع مسعاها لبناء قوتها العسكرية وتحقيق التوازن الاستراتيجي بما كان سيمكّنها، ضمن شروط إقليمية ملائمة، من اللجوء إلى حرب أُخرى محدودة الأهداف لتحرير الجولان. ومع هذا، فإن علاقات القوى تبقى دينامية لا ساكنة، وفي حال عدم التوصل إلى تسوية تعيد الجولان إلى سورية، فلا يمكنها إسقاط خيار استخدام القوة مستقبلاً في الوقت الملائم وضمن الأوضاع الملائمة.[6] وسيبقى الحافز لتحدي الردع الإسرائيلي متوفراً ما استمر الاحتلال، وبغض النظر عن الوقت ونظام الحكم القائم.

ثانياً: التدابير الأمنية

اقترحت ورقة العمل السورية المقدمة سنة 1992 أن يقبل الطرفان تدابير أمنية بصورة "متوازية ومتقابلة"، بما في ذلك إمكان إنشاء مناطق منزوعة السلاح، أو مخفضة التسلح، من قبل كلا الجانبين وعلى "قدم المساواة"، وأيضاً الحصول على ضمانات أمنية من مجلس الأمن الدولي، أو من بعض الدول، أو من كليهما. وكان الجواب الإسرائيلي سلبياً، ويتلخص بما يلي:

1 - إن حق الأمن المتبادل، أو المتقابل، لكلا الجانبين غير مقبول، لأن سورية تتمتع بميزة جغرافية في هضبة الجولان؛

2 - لا يمكن أن يكون الأمن على قدم المساواة، أي متماثلاً، ولا يمكن تعريفه بصورة متبادلة؛

3 - يتوجب إعطاء وزن خاص لترتيبات من دون إشراف وتحقق طرف خارجي في المناطق المنزوعة السلاح؛

4 - تشرف الجولان على مصادر مياه بحيرة طبرية، وهي ذات أهمية حيوية لإسرائيل؛

5 - إن القرار رقم 242 ينص على "انسحاب"، ولا ينص على "انسحاب كامل"؛

6 - القرار المذكور لا يذكر المستوطنات.

خلال المحادثات اللاحقة، عدل الإسرائيليون من موقفهم إلى حد ما، إلاّ إن الاجتماع الذي عقد بحضور رئيسي أركان القوات المسلحة السورية والإسرائيلية في واشنطن في كانون الأول/ديسمبر 1994 لم يؤد إلى نتيجة إيجابية؛ إذ تكلم الإسرائيليون على فرض ترتيبات أمنية على حساب أمن سورية وسيادتها، وحاولوا التطرق إلى موضوعات خارج نطاق هذه الترتيبات، مثل انتشار القوات السورية وتعدادها. وأمام هذا الموقف، تدخل الطرف الأميركي ليقدم صيغة، جرى إعلانها في أيار/مايو 1995، تكفل استمرار المحادثات بشأن هذه الترتيبات. وعلى الرغم من عدم توقيع ونشر التفاهم بشأن صيغة الإطار الذي قبله الطرفان، فإنه يُستدل من تصريحات الجانبين ومن التقارير الصحافية أن الطرف الأميركي استطاع إقناع الجانب الإسرائيلي بقبول البحث في الترتيبات على أساس المبادئ السورية العامة، أي المساواة والتقابل والتوازي، لكن من دون تحديد "التماثل" شرطاً مسبقاً وتفسيراً حصرياً من الواجب تطبيقه في جميع الترتيبات، بل يجري أيضاً اعتماد تفسير المساواة "نوعياً" لتحقيق "التوازن". وبذلك، يمكن القول إن صيغة الإطار حققت، من جهة، المطلب السوري بالتزام إسرائيل البحث في ترتيبات متعلقة بالانسحاب مباشرة ولا تخرج عن نطاقه، وضمن إطار المبادئ العامة، ومن جهة أُخرى، لا تعتبر إسرائيل نفسها ملتزمة، كشرط مسبق، قبول "التماثل" في الترتيبات كلها، وخصوصاً لجهة تحديد مساحة المنطقة المنزوعة السلاح؛ إذ سيخضع ذلك للتطبيق العملي طبقاً لطبوغرافية الأرض، ولكل جانب حرية إبداء موقفه، علماً بأن رابين أعلن قبوله بالمساواة مبدأً مطلقاً في ترتيبات أمن الحدود وأجهزة الإنذار، لكنه يعارضها لجهة تحديد مساحة المنطقة المجردة من السلاح.[7]

وطبقاً لهذا الإطار، عقد رئيسا أركان الجانبين اجتماعاً في واشنطن في حزيران/يونيو 1995، تم فيه الاتفاق على النقاط التي سيبحث الخبراء فيها لاحقاً. إلاّ إن سورية رفضت الاقتراح الإسرائيلي لتبنّي إجراءات "بناء الثقة"، كإنشاء خط ساخن بين قيادتي الجيشين، وعقد اجتماعات دورية بين ضباط الطرفين، ومشاركتهما في قوة الأمم المتحدة لمراقبة الفصل المتمركزة في الجولان، نظراً إلى أن الموقف السوري الثابت هو أن مثل هذه الإجراءات يمكن تطبيقه فقط بعد التوصل إلى اتفاق على الانسحاب وخلال مراحل تنفيذه. ورفضت سورية أيضاً اقتراحاً إسرائيلياً لإنشاء محطات مراقبة وإنذار مبكر لكلا الجانبين، مشغَّلة من عناصرهما، كون إسرائيل هدفت إلى الاحتفاظ بمحطة جبل الشيخ (حرمون).[8]

واستناداً إلى الخبرة السابقة بتطبيق اتفاق فصل القوات، وطبقاً لتقرير صحافي أرسل من دمشق، فمن الممكن تصور الترتيبات الأمنية، التي يمكن أن تحقق للجانب السوري الأمن المتوازن ضمن إطار المساواة والتقابل والتوازي، كما يلي:[9]

1 - في السابق اقتُرح رسم خط وهمي في منتصف الجولان، يمر عبر كفر نفاخ ويمتد شمالاً إلى جبل الشيخ، وجنوباً إلى الحدود الأردنية - السورية، ويجري نزع سلاح المنطقة السورية من هذا الخط حتى خط الرابع من حزيران/يونيو 1967، تقابلها منطقة في الجانب الإسرائيلي تشمل سهل الحولة بصورة رئيسية. لكن عقب اجتماع حزيران/يونيو الأخير، صرحت المصادر الإسرائيلية بأن سورية اقترحت صيغة على أساس 10:6، أي في مقابل كل كيلومتر واحد مجرد من السلاح في الجانب السوري تقوم إسرائيل بتجريد 600 متر من جانبها.

2 - بعد هذه المنطقة تخصص مناطق مخفضة التسلح بالتساوي.

3 - يتم توسيع وزيادة التدابير الأمنية المطبقة حالياً، ويجري تطبيقها مع مراحل الانسحاب، وهي تشمل، على سبيل المثال لا الحصر:

أ) هناك الآن ثلاثة مراكز مراقبة رئيسية، أحدها إسرائيلي، وآخر سوري، وثالث تابع لقوات الأمم المتحدة. وقد يكون ممكناً إقامة عدد محدود من هذه المراكز لتقام في المنطقة المجردة من السلاح لدى كل من الطرفين، على أن تخضع لإشراف الأمم المتحدة مع إمكان وجود مراقبين من الجانبين، وهذا يعني إزالة الإشراف الإسرائيلي على مرصد جبل الشيخ. ويمكن تزويد هذه المحطات بأجهزة مراقبة إلكترونية متطورة.

ب) يجري توسيع مدى المراقبة الجوية التي يقوم بها الطرفان والأمم المتحدة حالياً، ومن الممكن طلب مساعدة الولايات المتحدة والاستعانة بمراقبة الأقمار الصناعية، وهذا الخيار مفضَّل من الجانب السوري على إنشاء محطات المراقبة والإنذار المبكر.

ج) تسيير دوريات، وإنشاء لجان مشتركة تحت إشراف الأمم المتحدة لمعالجة الحوادث ومنع الخروقات.

د) زيادة المدى الجغرافي للتفتيش الموضعي بناء على طلب مراقبي الأمم المتحدة.

إن مثل هذه الإجراءات للتفتيش والمراقبة والتحقق يؤمن الشفافية المطلوبة لتخفيض إمكان القيام بهجوم مفاجئ من جانب أي من الطرفين. أمّا الإجراءات الواسعة المعتمدة في الاتفاقات الأوروبية لبناء الثقة والأمن، فلا يمكن اعتمادها في المراحل الأولى لتنفيذ الانسحاب. ومن هذه الإجراءات الإشعار المسبق بشأن المناورات العسكرية خارج نطاق المنطقة الأمنية، أو تبادل الزيارات بين اللجان العسكرية لحضور المناورات وتفتيش المراكز العسكرية. فهذه تتطلب حالة من زوال الشكوك وزوال تصور وجود تهديد، وهذا أمر لا يتأتى في مجال الصراع العربي - الإسرائيلي إلاّ في فترة لاحقة، حين يسود السلام الشامل الجبهات كافة؛

4 - أشارت ورقة العمل السورية إلى استعداد سورية لقبول ضمانات دولية يقدمها مجلس الأمن الدولي أو بعض الدول الأعضاء فيه أو كلاهما. وهذا قد يشمل مشاركة الولايات المتحدة في قوة الأمم المتحدة لمراقبة الفصل المتمركزة في المنطقة المنزوعة السلاح لدى كل من الطرفين. ولم يجر البحث في هذه النقطة رسمياً، لكنها تبقى ضمن الأفكار المتداولة؛

5 - تُزال المستوطنات الإسرائيلية بالتدريج، مع تنفيذ مراحل الانسحاب الإسرائيلي، المفترض ألاّ يتجاوز أعواماً قليلة، من عام واحد إلى ثلاثة أعوام كحد أقصى، وإن كانت سورية تشترط تقصير المدة إلى أقل فترة ممكنة.

لا شك في أن مجمل هذه التدابير والترتيبات يزيل ما تتذرع إسرائيل به من أنه يهدد أمنها في حين أن الوضع الحالي، أي الوجود والاحتلال الإسرائيليين، يهدد الأمن السوري. ومهما يكن من أمر، فإن حلول حالة السلم محل حالة الحرب ينفي نظرياً وجود أي نية للعودة إلى القيام بعمليات عسكرية في حال استعادة الحقوق العربية. كما أن الرئيس الأسد أعلن مراراً أن السلام خيار استراتيجي بشرط أن يكون عادلاً وشاملاً.[10]

وإلحاقاً بالترتيبات الأمنية، تحاول إسرائيل من وقت إلى آخر إثارة موضوع انتشار القوات السورية حول منطقة الجولان، وخصوصاً في الخط الدفاعي الرئيسي لمدينة دمشق وضواحيها، وتطالب بتخفيض عدد الفرق العسكرية في المنطقة. وسورية ترفض رفضاً قاطعاً مناقشة هذا الأمر لأنه يتعلق بمجال الأمن القومي السوري والسيادة، ولا علاقة له بالترتيبات الأمنية في منطقة الجولان؛ فالخط الدفاعي الممتد بين محاور سعسع وقطنة والكسوة، وإلى الحدود اللبنانية والأردنية، لا يشكل أي تهديد لإسرائيل، وعدد الفرق المنتشرة عليه ناجم عن مقتضيات المتطلبات الدفاعية السورية، وخصوصاً أن القوات المسلحة السورية تتبنى العقيدة العسكرية الروسية (السوفياتية سابقاً) التي تقضي بتنظيم الدفاع في العمق. ومع ذلك، يمكن الافتراض نظرياً أنه مع بناء علاقات سلمية، ومع مرور الوقت، يمكن النظر في تخفيض عدد هذه الفرق. ويتجاهل الإسرائيليون أنهم يشكلون تهديداً للأمنين السوري واللبناني؛ وما الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982 واحتلال قسم من العاصمة بيروت إلاّ مثال واضح للنيات العدوانية وللمنطق الذي يسيطر على القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين، والذي مفاده أنه من خلال تهديدهم العواصم العربية يمكنهم قهر الإرادة العربية. وستضع التدابير الأمنية التي من الممكن التوصل إليها النيات الإسرائيلية على محك التجربة، وتظهر ما إذا كانت ترغب فعلاً في التوازن والمساواة في مجال الأمن. وستساعد هذه التدابير في تخفيض مستوى تصور التهديدات، وتحول دون اشتباكات يمكن أن تنشأ عن سوء تفاهم أو عن تقديرات مغلوط فيها جرّاء حوادث أو أزمة، وبذلك يتجنب الطرفان حرباً قد لا يريدها أحد منهما. غير أن مثل هذا النظام الأمني المحدود لا يكفي وحده لتحقيق الاستقرار الأمني، إذ لا بد من أن يُستكمل لاحقاً، في المستقبل المتوسط والمستقبل البعيد، بنظام لضبط التسلح يضمن استقرار الردع المتبادل العام.

ثالثاً: ضبط التسلح والتوازن العسكري

حتى الآن، ترفض سورية ومعها يرفض لبنان، الانضمام إلى المحادثات المتعددة، التي تجري من حين إلى آخر، بشأن التعاون العسكري وضبط التسلح والتعاون في مجالات الاقتصاد والمياه والبيئة واللاجئين. والشرط السوري لدخول هذه المحادثات هو تحقُّق تقدم جوهري في المحادثات الثنائية، أي التزام إسرائيل الانسحاب الكامل، ليكون هناك فائدة من المحادثات المتعددة، وبالتالي فهذه ورقة تفاوضية في يد المفاوض السوري لن يقدمها حتى معرفة النيات الإسرائيلية بالتحديد تجاه طبيعة السلام الذي ترغب إسرائيل فيه، والتأكد من أنه ليس قائماً على الهيمنة والسيطرة والاحتفاظ بالأراضي المحتلة. وقد ثبتت صحة الموقف السوري؛ فالمحادثات المتعددة ما زالت تدور في حلقة مفرغة، بل إن الدولتين العربيتين اللتين وقّعتا صلحاً مع إسرائيل (مصر والأردن)، تبين لهما أن ما يراد هو فقط تسريع عملية التطبيع وضمان الهيمنة الإسرائيلية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. ففي نطاق ضبط السلاح والتعاون العسكري، تحاول أميركا وأوروبا وإسرائيل إقناع الدول العربية بتطبيق النموذج الأوروبي المنبثق من اتفاقات هلسنكي وستوكهولم وفيينا، متغافلة عن اختلاف خصائص البيئتين الأمنيتين من حيث طبيعة النزاعات في الخليج، والنزاع العربي - الإسرائيلي، والأهداف القومية للدول المتخاصمة، والصفات المميزة للأنظمة الإقليمية. وفيما يتعلق بالموقف السوري، فقد سبق أن أعلن الرئيس الأسد أن تحديد السلاح يُبحث فيه في مضمار الشروط الموضوعية للسلام، وإذا كان أي إجراء سيطبق قبل ذلك، فلا بد من مناقشته على أساس "شموليته وعدالته".[11]

ومهما يكن الجدال بشأن الحاجة إلى نظام لضبط التسلح وضرورته في منطقة الشرق الأوسط، فهناك واقع مبرهن من تاريخ النزاع العربي - الإسرائيلي مفاده أن أي تسوية سلمية لهذا النزاع تتطلب توفُّر الحد الأدنى من الردع المتبادل. وإسرائيل تحاول إثارة بعض الادعاءات عن قوة سورية العسكرية، زاعمة أنها تتجاوز حاجات سورية الدفاعية، وإن كان هناك بعض العسكريين الإسرائيليين بات يتوخى الموضوعية.[12] إن الواقع الراهن للقدرة العسكرية السورية ما زال غير كاف للوفاء بجميع متطلبات الأمن القومي، وتبين النقاط التالية بعض جوانب الوضع العسكري:

1) بعد الصلح المصري - الإسرائيلي، تبنت سورية مفهوم "التوازن الاستراتيجي" للتعويض عن خروج مصر من المعادلة العسكرية ضد إسرائيل، ويتضمن هذا المفهوم "التعادل العسكري" كعقيدة عسكرية على مستوى الاستراتيجيا الشاملة. لكن لا بد من ملاحظة أن المفهوم في حد ذاته لم يكن جديداً بالكامل؛ فعقب حرب سنة 1973، ونظراً إلى فشل القيادة المصرية في تطبيق الخطة الاستراتيجية الشاملة، كما أشير سابقاً، وتلكؤ العراق والأردن عن مساعدة سورية في احتواء الخرق الإسرائيلي، قررت القيادة السياسية السورية اعتماد مفهوم تنمية "القدرة الدفاعية الذاتية".[13] وقد أكد الرئيس الأسد مراراً ضرورة تحقيق توازن القوى الصحيح للتوصل إلى تسوية عادلة تضمن الحقوق والمصالح العربية، وذلك قبل سنة 1979، أي حين وقِّعت المعاهدة المصرية - الإسرائيلية. إلاّ إن تولي ميخائيل غورباتشوف سدة الحكم في موسكو، وتبنّيه سياسة الانفراج الدولي لإنهاء الحرب الباردة، وبالتالي إعادة رسم الأهداف السوفياتية في المنطقة، كل ذلك أثر إلى حد كبير في متابعة السياسة الأمنية السورية لبناء "التوازن الاستراتيجي". ففي سنة 1987 نصح غورباتشوف للرئيس الأسد اتّباع سياسة "توازن المصالح" عوضاً عن "التوازن الاستراتيجي"، كما بينت موسكو أن علاقاتها العسكرية بسورية ستُبنى على أساس "الكفاية الدفاعية". وكان جواب الرئيس الأسد واضحاً في هذا المجال، وهو أن سورية تقرر بنفسها سياستها العسكرية الأمنية.[14] لكن على الرغم من هذه المتغيرات والمعطيات الدولية المستجدة، فإن السياسة الأمنية السورية ما زالت ثابتة؛ وتقضي بوجوب تحقق الميزان العسكري الصحيح، سواء تم التوصل إلى تسوية سلمية أو لم يتم، وإن كان هناك الآن صعوبة في الحصول على السلاح الجديد المتقدم وبكميات كبيرة وكافية. وفي العام الماضي عُقد بين روسيا وسورية اتفاق لتنظيم التعاون العسكري، وفصل ذلك عن مشكلة الديون المترتبة على سورية تجاه الاتحاد السوفياتي السابق.[15] طبعاً، ما زال من المبكر معرفة تأثير ذلك في تطوير القدرة العسكرية السورية. والهدف الأساسي لتنمية مثل هذه القدرة هو ردع أي هجوم إسرائيلي من خلال رفع درجة الخسائر التي يمكن أن تصيب القوات المهاجِمة بالنسبة إلى الهدف المراد تحقيقه، أي التأثير في ميزان الحسابات الاستراتيجية لدى العدو الإسرائيلي إذا فكّر في شن هجوم، وتزويد القوات السورية بقدرة دفاعية في حال فشل الردع لحماية المصالح والقيم القومية. وفي حال الفشل في التوصل إلى تسوية تعيد الأرض السورية، فهذا يقتضي إعداد القوات المسلحة للقيام بحرب محدودة في المستقبل، عندما تكون علاقات القوى الإقليمية، ولا سيما القوى العربية، ملائمة لاستخدام القوة العسكرية لتحرير الأرض.

2) طبقاً للمصادر العسكرية الغربية، يوجد لدى سورية حالياً نحو 12 - 13 فرقة عسكرية مدرعة وميكانيكية، وتدّعي إسرائيل أنها تشكل تهديداً لها بسبب أن أغلبيتها قوات ضاربة، لكن هذا غير صحيح، لأن مثل هذا التعداد لا يأخذ في الحسبان تفاوت الكفاءة القتالية لجميع الفرق والوحدات، وهذه الفرق ليست، في معظمها، في تعدادها الكامل، ولا بد من استدعاء الاحتياطي لاستكمال هياكلها وتشكيلاتها. أمّا إسرائيل فيصل تعداد فرقها إلى نحو 20 - 22 فرقة بعد استدعاء كامل الاحتياطي. ويضاف إلى ذلك أن أكثر من نصف الدبابات والعربات المدرعة القتالية السورية من طُرز متقادمة، ولا بد من استبدالها بطُرز حديثة للحصول على فعالية أعلى في مجال سرعة الحركة والقوة النارية والميزات التكتية الأُخرى، قياساً بالمدرعات الإسرائيلية.

3) وفيما يتعلق بالمطلب الإسرائيلي بأن تقلد سورية إسرائيل في الاحتياطي، أو في تشكيل قواتها، فهو غير خاضع للمناقشة والتفاوض بين سورية وإسرائيل. فالمسافات الجغرافية في سورية هي بصورة عامة أطول بضعفين أو أكثر منها في إسرائيل، إضافة إلى ضعف نظام المواصلات. كما أن القوات المسلحة تمثل قطاع استخدام مهمّاً في اقتصاد غير متطور صناعياً. وفيما يخص تشكيل القوات، فهذا يتبع العقيدة العسكرية المتبناة والقيود المالية المحددة لحجم الوحدات. وإلى جانب هذه الأمور، فإن لسورية هموماً أمنية أُخرى غير إسرائيل، كالوضع اللبناني، وإن كان هذا سائراً في طريق الاستقرار، والمشكلة الكردية وغير ذلك، وهذا ما يتطلب وحدات ضاربة بنسبة عالية. فإذا كانت إسرائيل قادرة على استدعاء الاحتياطي خلال 24 - 72 ساعة ووضع وحدة في حجم لواء في ساحة المعركة خلال هذا الوقت، فيمكن القول إنه سيكون إنجازاً كبيراً إذا استطاعت سورية فعل ذلك خلال أسبوع.

4) أمّا سلاح الجو، فلا مجال لمقابلته بسلاح الجو الإسرائيلي بسبب الفجوة التقنية بينهما، وبسبب الدعم الأميركي غير المحدود لإسرائيل. فباستثناء العدد المحدود من طائرات "ميغ - 29" و"سوخوي - 24" التي تملكها سورية لا يوجد تعادل مع الطائرات الإسرائيلية "ف - 15" و"ف - 16"، من حيث القدرات القتالية والميزات الفنية. وأكثر من ثلث سلاح الجو السوري في حاجة إلى التجديد وإلى تزويده بطائرات متطورة حديثة. وإلى جانب ذلك، هناك مشكلة القيادة والسيطرة والاتصالات والاستطلاع، والتفوق الإسرائيلي هنا واضح جداً، كون إسرائيل جزءاً من العالم الغربي المتطور تقنياً وصناعياً.

5) ونظراً إلى ضعف سلاح الجو السوري قياساً بسلاح الجو الإسرائيلي، عمدت سورية إلى تطوير قوة صاروخية تشمل قدرة على ضرب الأهداف العسكرية، بصورة أساسية، لتوفير صدقية الردع الاستراتيجي، وإن كان ذلك لا يستبعد إمكان ضرب الأهداف المدنية في حال لجوء إسرائيل إلى ذلك.

فبعد تجربة حرب سنة 1973، حين استطاعت إسرائيل تدمير جزء مهم من البنية التحتية الاقتصادية السورية، ابتدأت سورية حيازة صواريخ "سْكَد - ب" السوفياتية الصنع، وحصلت بعد الغزو الإسرائيلي للبنان على صواريخ "س. س - 21" قصيرة المدى، لكنها أدق في إصابة الأهداف. ثم تمكنت منذ سنة 1989 من الحصول على صواريخ "سْكَد - سي" من صنع كوريا الشمالية، وهي صواريخ أكثر من "سْكَد - ب" مدى ودقة. وعلى الرغم مما يدعيه معظم الخبراء الغربيين والإسرائيليين، فإن الصواريخ المتوسطة المدى إقليمياً هي أفضل سلاح لتحقيق التوازن الاستراتيجي، وخصوصاً في نطاق التوازن العربي - الإسرائيلي، وخصوصاً أيضاً إذا استُكملت القوة الصاروخية بنظام دفاع جوي متكامل، وهذا بالتالي ما يشكل ردعاً ذا صدقية عالية لثني إسرائيل عن شن حرب، كما أنه يحدد مجال العمليات العسكرية في منطقة الجولان ويحول دون انتشارها إلى العمق الاستراتيجي. فالقوة الصاروخية إذاً هي أفضل علاج لتحييد التفوق الجوي الإسرائيلي، من خلال تشكيل قوة لتوجيه ضربة انتقامية إذا ما لجأت إسرائيل إلى قصف الأهداف الاستراتيجية والمدنية السورية؛ إذ إن الصواريخ تؤمن سرعة الحركة والإخفاء والانتشار والحماية بدرجات أعلى من الطائرات، التي هي في حاجة إلى مطارات ومخابئ. ويضاف إلى ذلك سهولة التدريب على تشغيل وإطلاق الصواريخ وصيانتها قياساً بأسلحة الجو المتقدمة.

والقوة الصاروخية السورية ليست هجومية، بمعنى أنها تتمتع بميزة الضربة الأولى، كما تحاول إسرائيل تصويرها. ونظرياً تتمتع إسرائيل بأفضلية الضربة الأولى لقدرتها على جعلها نووية، وأقصى ما يمكن أن ترد سورية به ضربة صاروخية برؤوس تقليدية أو كيميائية. وبحسب التقديرات الإسرائيلية، فإن لدى سورية نحو 1000 صاروخ من طرازي "سْكَد - ب" و"سْكَد - سي".[16] وما دفع سورية إلى زيادة العدد هو، بلا شك، حصول إسرائيل على نظام "پاتريوت" الأميركي للدفاع ضد الصواريخ الباليستية، كما أنها تطور نظام "آرو" بمعونة أميركا، وبالتالي، فإن ذلك يستتبع لجوء سورية إلى اتباع تكتيك "إشباع الهدف"، أي توجيه عدة صواريخ إلى هدف واحد. طبعاً، إن حصول سورية على النظام الروسي المعادل لـ "پاتريوت"، أي "سام - 10"، سيؤدي إلى تعزيز قدرتها الردعية من خلال تخفيض فعالية الصواريخ الإسرائيلية من طُرز "يريحو 1/2/3".

6) رفضت سورية حتى الآن الانضمام إلى معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية لسنة 1993 بسبب عدم انضمام إسرائيل إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية لسنة 1968، ورفضها إخضاع منشآتها النووية للتفتيش الدولي. وقد انضمت سورية إلى المعاهدة الأخيرة وإلى معاهدة حظر الأسلحة البيولوجية لسنة 1972، وهذا شيء لم تفعله إسرائيل بحجة أن أمنها مهدَّد من جانب كل بلد في المنطقة، امتداداً من الباكستان وصولاً إلى الجزائر، وأيضاً بحجة أن نظام التفتيش والتحقق في كلا المعاهدتين ضعيف. وليس انضمامها إلى المعاهدة الكيميائية إلاّ من قبيل ذر الرماد في العيون، لأنها تملكها وتريد إحباط جهود الدول العربية لامتلاكها، كون ذلك يدخل ضمن قدراتها الصناعية. طبعاً، لا يمكن المقارنة بين السلاح النووي والسلاح الكيميائي، لكن توفُّر سلاح غير تقليدي أفضل من عدم تملك شيء؛ إذ إنه يؤدي إلى تعقيد الحسابات العسكرية للخصم. وخلال المؤتمر الأخير لتجديد معاهدة انتشار الأسلحة النووية، تحفظت سورية عن تمديدها غير المحدد، نظراً إلى رفض إسرائيل الانضمام إليها. ومن الملاحظ أن التشدد السوري الجديد في هذا المضمار يختلف عن الموقف العملي السابق، وهو عدم إعطاء القدرة النووية أهمية كبيرة، نظراً إلى أن الأولوية في النزاع العربي - الإسرائيلي تكمن في تحرير الأرض، واستخدام السلاح النووي غير عملي في الحروب المحدودة بسبب تقارب المسافات الجغرافية، وهذا ما حدث في حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، إضافة إلى العامل الدولي الذي لا يجعل استخدامه كسلاح عادي أمراً سهلاً. وواقعياً لم تستطع القدرة النووية الإسرائيلية حتى الآن إكراه العرب على قبول الشروط الإسرائيلية بالتسوية، سواء من ناحية مصر أو من ناحية سورية. ويعود قبول الأردن بتأجير أراض وتبادل أُخرى إلى عوامل سياسية واقتصادية، لا إلى الإكراه النووي الإسرائيلي. فالسلاح النووي الإسرائيلي هو سلاح "الملاذ الأخير"، أي لمواجهة أي تفكير في تدمير دولة إسرائيل، وهذا أمر أقلع العرب عنه منذ حرب سنة 1967. بيد أن هذا لا يبرر تملّك إسرائيل القدرة النووية بصورة منفردة في المنطقة لممارسة الابتزاز في المستقبل. ويمكن أن يُعزى التغيير في الموقف السوري العملي من هذه المسألة إلى كون ذلك يشكل ورقة تفاوضية قوية إذا جرت محادثات بشأن مراقبة التسلح.

ملخص القول هو أن الطريق ما زال طويلاً أمام سورية لتحقيق التبادل في التوازن العسكري كمّاً ونوعاً. والتعاون الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل يضمن لإسرائيل تفوقاً نوعياً كبيراً جداً مقارنةً بالدول العربية. إلاّ إن سورية استطاعت في المقابل تملك الحد الأدنى من الردع الاستراتيجي المتبادل، وهو ما يستبعد هجوماً إسرائيلياً مبنياً على استغلال الفرصة لتحقيق مكاسب غير مهمة أو غير حيوية. وفي الوقت نفسه، فإن هذا التوازن الاستراتيجي يؤدي إلى تناقض ظاهري يمنع التوصل إلى تسوية سريعة. فلو كانت إسرائيل تشعر بتهديد لأمنها في الوقت الراهن في حال احتفاظها بالجولان لكانت قبلت الشروط السورية. وبالدليل نفسه، لو كانت سورية تشعر بتهديد إسرائيل لكانت قبلت الشروط الإسرائيلية.

رابعاً: الترابط مع الأمن اللبناني

إن التلازم والترابط بين المسارين اللبناني والسوري ناجمان عن عدة عوامل أهمها:

1 - الدور السوري منذ سنة 1976 في ضبط الحرب الأهلية اللبنانية، التي وضع حد لها باتفاق الطائف الذي وقّع سنة 1989. ومع ذلك، فإن المشكلات السياسية والاجتماعية - الاقتصادية الكامنة وراء الحرب لم يتم إيجاد حلول جذرية ونهائية لها.

2 - إن عدم التوصل إلى هذه الحلول بصورة عملية، وإن كانت نظرياً موجودة في اتفاق الطائف، وعدم اكتمال قدرة السلطة اللبنانية على حفظ الأمن الداخلي بوسائلها الخاصة، ما زالا يستدعيان استمرار الوجود العسكري السوري في لبنان.

3 - يشكل وضع لبنان الجيو - استراتيجي بالنسبة إلى سورية نقطة ضعف مهمة برهن الغزو الإسرائيلي عنها سنة 1982، من حيث إمكان قيام الجيش الإسرائيلي بعملية التفاف عبر سهل البقاع على جناح خط الدفاع السوري عن العاصمة دمشق.

4 - نظراً إلى الترابط التاريخي والسكاني والاقتصادي والسياسي بين البلدين، فإن لأمنيهما القوميين تأثيراً متبادلاً في كلا الطرفين. ونتيجة ذلك، فإن أي اتفاق يعقده لبنان مع إسرائيل بشأن الانسحاب من الجنوب، سواء طبقاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 425 لسنة 1978، أو في حال التوصل إلى معاهدة سلم شاملة، سيؤثر إلى حد كبير في الأمن القومي السوري، وخصوصاً فيما يتعلق بالترتيبات الأمنية في الجنوب والبقاع اللبنانيين. وقيام سورية وحلفائها اللبنانيين سنة 1984 بإفشال الاتفاق اللبناني - الإسرائيلي المعقود سنة 1983 يوضح بجلاء أن سورية ولبنان لن يقبلا اتفاقاً منفرداً بين لبنان وإسرائيل، وأن في إمكانهما الحيلولة دون ذلك. ولتحقيق هذا الهدف، عُقدت معاهدة الأُخوّة والتعاون والتنسيق بين سورية ولبنان سنة 1991.

وعلى الرغم من هذا الدرس التاريخي، فما زالت إسرائيل تحاول ممارسة مختلف أشكال الضغوط على لبنان لجعله ينفصل عن المسار السوري، تارة بتقديم الوعود الكاذبة بالانسحاب الكامل والقول أن لا أطماع لها في أرض لبنان ومياهه، وتارة باستخدام القوة والحصار بذريعة الرد على أعمال المقاومة اللبنانية. وفي الوقت نفسه، تثير إسرائيل الشكوك بين الطرفين السوري واللبناني عندما تلمّح إلى موافقتها على بقاء الوجود العسكري السوري في لبنان في إطار معاهدة سلام، مع أن هذا الأمر يخص لبنان وسورية ولا علاقة لإسرائيل به.[17]

وبالنسبة إلى نشاط المقاومة اللبنانية، ترى سورية فيه حقّاً مشروعاً ووسيلة ضغط لجعل الجانب الإسرائيلي يدفع ثمن احتلاله، لكن سورية وافقت في صيف سنة 1993، من خلال الولايات المتحدة، على اتفاق متوازن يقضي بأن تتوقف المقاومة عن إطلاق صواريخ الكاتيوشا على المستوطنات في الجليل في مقابل امتناع إسرائيل من قصف المدنيين اللبنانيين في الجنوب. والأمر المتفق عليه الآن بين الحكومة اللبنانية والمقاومة، بالتوافق مع سورية، هو وقف نشاط المقاومة في حال التزام إسرائيل القرار رقم 425، ووضع الترتيبات لانسحابها.[18] وعلى الرغم من الادعاءات الغربية والإسرائيلية، فإن دور إيران في التحكم في نشاط المقاومة، ولا سيما نشاط "حزب الله"، هو دور ثانوي، لأن إيران تعرف تماماً أن سورية ولبنان أدرى بحماية مصالحهما خلال عملية المفاوضات.

الخاتمة

ليس هناك شك في أن الخيار الأمثل لسورية، ضمن المعطيات الدولية والإقليمية الراهنة، هو في استعادة الجولان من خلال الوسائل الدبلوماسية. بيد أنه لا بد من الأخذ في الاعتبار أن سورية لا تنظر إلى النزاع العربي - الإسرائيلي من زاوية ثنائية فقط؛ فالصراع جزء من نظرتها الشاملة إلى الوضع الإقليمي والعربي ودورها فيه. وهي ما زالت تعتبر إسرائيل عنصراً أجنبياً دخيلاً لا بد من امتصاصه في البيئة الإقليمية، لا العكس، أي السماح لإسرائيل بأن تكون مهيمنة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. وبناء على ذلك، فإن مفهوم سورية للسلام الشامل يعتمد على ماهية السلوك الإسرائيلي في المنطقة؛ فالعامل الحاسم لتحقيق مثل هذا السلام هو حل المعضلة الفلسطينية، نظراً إلى الترابط التاريخي والتأثيرات العقائدية والسكانية والسياسية، وهو ما يؤدي إلى إعطاء المشكلة الفلسطينية بعداً أمنياً يمس الأمن القومي السوري. ويجعل مجمل هذه العوامل كذلك من القضية الفلسطينية عنصراً حاسماً في شرعية أي نظام حكم في سورية. وينطبق ذلك، إلى حد ما، على الأردن ولبنان. لذلك، فإن دور الدول الثلاث في التوصل إلى حل نهائي للمشكلة الفلسطينية يعتبر حاسماً، وهو ما لا ينطبق على باقي الدول العربية بالقوة نفسها والتأثير نفسه. وبالتالي، فإن هذا ما يوضح عدم ترحيب سورية ولبنان باتفاق أوسلو (1993) بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل والشكوك الأردنية بشأنه، وحتى بالنسبة إلى إيجاد حلول للمسائل المهمة، كالمستوطنات والحدود واللاجئين والقدس، فسنرى موقفاً سورياً ولبنانياً حذراً قبل الاندفاع على طريق توقيع معاهدتي سلام مع إسرائيل.

في الأردن هناك موقف سياسي مختلف عن موقف سورية ولبنان، وهو أن المسؤولية هي في يد قيادة منظمة التحرير. أمّا سورية ولبنان، فعلى الرغم من تسليمهما باستقلالية القرار الفلسطيني منذ سنة 1989، أي عقب اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر سنة 1988 وإعلانه قبول مفهوم الدولتين على أرض فلسطين، فإن ذلك لا يعني اتخاذ القرارات من دون التشاور والتنسيق مع الدول الثلاث التي تتأثر مصالحها الأمنية بالمسار الفلسطيني إلى حد كبير. وعلى الرغم من الشكوك السورية بشأن مصير المشكلة الفلسطينية وتطوراتها، التي ستحدد مصير السلام الشامل في المنطقة، فإن سورية تتابع التفاوض مع إسرائيل عبر الطرف الأميركي أو مباشرة، محاولة الاستفادة من الدور الأميركي إلى أقصى درجة ممكنة، آملة بأن يتقدم الراعي الأميركي في مرحلة ما باقتراحات تتغلب على المعضلات الأساسية، وهي الانسحاب الكامل والتطبيع، بحيث تستجيب للشروط السورية، وتضع إسرائيل في زاوية ضيقة، وهو ما يحمّلها مسؤولية فشل العملية السلمية في حال فشلها. وفي الوقت نفسه، يمكن النظر إلى استمرار المفاوضات بأنه نوع من استراتيجيا ضبط النزاع بين سورية وإسرائيل. فحتى الآن، ما زالت سورية متمسكة بثوابتها، وفي مقدمها الانسحاب الكامل، ومصرة على أن التطبيع المطلوب بحسب القرار رقم 242 لا يشمل تبادل العلاقات الدبلوماسية والحدود المفتوحة والعلاقات الاقتصادية، فهذه تأتي في مرحلة لاحقة مع حلول السلام الشامل. وستبين المفاوضات بشأن التدابير الأمنية مقدار جدية إسرائيل في التوصل إلى تسوية، ما لم تكن تستخدم ذلك لإرضاء الطرف الأميركي ومحاولة ابتزاز التنازلات من الطرف السوري.

وواقعياً، هناك قراءة أميركية وإسرائيلية لطريق التسوية مختلفة عن التصور السوري له. فأميركا وإسرائيل تريان في الموقف السوري وتشدده حيال الثوابت موقفاً تفاوضياً ليس إلاّ، وبالتالي، ومع مرور الوقت وازدياد الضغوط الدولية والعربية، فربما تقْدم سورية على إعطاء التنازلات.[19] وإلى حد ما، نرى توجهاً إسرائيلياً مفاده أن الوضع لاستراتيجي الراهن هو أفضل من قبول الشروط السورية مهما تكن المخاطر المستقبلية،[20] وهو ما يجعل التوصل إلى اتفاق سوري - إسرائيلي في المدى القصير، أي خلال هذا العام، بعيد الاحتمال ما لم يتغير التوجه الحالي للحكومة الإسرائيلية.

وفيما يخص ضبط السلاح والأمن الإقليمي، فسورية لا تزال ترى أن موضع ذلك هو في نطاق السلام الشامل، وهي غير مستعدة لنبذ اعتبار التهديد أو استخدام القوة لحماية المصالح القومية، وسيلة شرعية. وهذا ما يستتبع تعزيز القدرة العسكرية السورية إلى أقصى درجة ممكنة، وبأي وسيلة متاحة؛ فالهموم الأمنية السورية لا تتوقف بحل المشكلات الثنائية بينها وبين إسرائيل، فإلى جانب الوضعين اللبناني والعراقي ومستقبل العلاقات مع تركيا، ترى سورية لنفسها دوراً محورياً في علاقات القوى العربية والإقليمية.

 

المصادر:

[1] "الحياة" (لندن)، 22/7/1994؛ 26/5/1995 على التوالي.

[2] المصدر نفسه، 20/4/1995؛

International Herald Tribune (Paris), May 26, 1995.

[3] "الحياة" (لندن)، 28/10/1994.

[4] بشأن الادعاءات الإسرائيلية، انظر:

Yigal Allon, "Israel: The Case for Defensible Borders," Foreign Affairs, vol. 55, no. 1 (October 1976), pp. 42-44; Aharon Yariv, "Strategic Depth," Jerusalem Quarterly, no. 17 (Fall 1980), pp. 3-12.

([5])  Chaim Herzog, The War of Atonement (London: Weidenfeld and Nicolson, 1975), chs. 6-10;

عميد خولي ومحمد زهير دياب، "المنعطف الكبير" (دمشق: مؤسسة تشرين للصحافة والنشر، 1979)، الفصل 3؛ محمد عبد الغني الجمسي، "مذكرات الجمسي: حرب أكتوبر 1973" (باريس: المنشورات الشرقية، ط1، 1989)، ص 386-387.

[6]  انظر اعتراف رابين بذلك في: "الحياة"، 24/6/1994.

[7]  انظر: "الحياة" (لندن)، 17، 25، 26 ،27/5/1995؛ International Herald Tribune, May 17 & 25, 1995؛"العرب" (لندن)، 17/5/1995.

[8]  انظر: International Herald Tribune, June 30, 1995؛ "الحياة" (لندن)، 30/6/1995؛ 4/7/1995.

[9]  "الحياة" (لندن)، 21/11/1991؛ "الحياة" (لندن)، 4/7/1995؛ "العرب" (لندن)، 4/7/1995.

[10] بشأن تطور الموقف السوري تجاه التسوية، انظر: محمد زهير دياب، "احتمالات السلام بين سوريا وإسرائيل"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 14 (ربيع 1993)، ص 87 - 100.

[11] خطاب الرئيس حافظ الأسد في 8 آذار/مارس 1992، "الثورة" (دمشق)، 9/3/1992.

[12] انظر تصريح اللواء أوري ساغي، رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق، "الحياة" (لندن)، 6/4/1993.

[13] انظر قرارات المؤتمر القطري الخامس الاستثنائي لحزب البعث العربي الاشتراكي. حزب البعث العربي الاشتراكي، القيادة القومية، مكتب الثقافة والإعداد الحزبي، "الحركة التصحيحية من المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي إلى المؤتمر القومي الثالث عشر، 1970 - 1980" (دمشق، 1983)، ص 153.

[14] مقابلة مع الرئيس الأسد في: Time, March 27, 1989.

[15] "الحياة" (لندن)، 28/4/1994.

[16] "الحياة" (لندن)، 17/3/1995.

[17] تصريح رابين، "الحياة" (لندن)، 6/9/1994.

[18] "الحياة" (لندن)، 26 - 31/7/1993؛ 27/4/1995. وبالنسبة إلى الموقف السوري، انظر تصريح نائب الرئيس عبد الحليم خدام في: "العرب"، 18/11/1993.

[19] على الرغم من وصف الرئيس الأسد لهذا النموذج بـ "الكفر"، انظر: "الحياة" (لندن)، 19/10/1994.

[20] تصريح رابين: "الحياة" (لندن)، 16/5/1995.

Author biography: 

محمد زهير دياب: باحث في الشؤون الاستراتيجية، قسم الدراسات العسكرية، كلية كينغز - جامعة لندن.