Belfast or Brussels: Jerusalem Awaits the Ruling
Keywords: 
القدس
سياسة الاستيطان
الاستيطان الإسرائيلي في القدس
البناء في المستوطنات
القدس الكبرى
القدس الشرقية
مصادرة الأرض
Full text: 

في حزيران/يونيو 1967، أجرت الصحيفة اليابانية "أساهي شيمبون" مقابلة مع دافيد بن – غوريون، تحدث فيها عن مستقبل المناطق التي احتلتها إسرائيل في حرب الأيام الستة قبل أيام قليلة من موعد إجراء المقابلة. وفي تلك المقابلة قال بن – غوريون إن إسرائيل ستنسحب من شبه جزيرة سيناء، بعد توقيع اتفاق سلام مع مصر؛ "والأمر ذاته، قال بن – غوريون، سيحدث مع سوريا؛ أما في الضفة الغربية فإنه ستقام دولة تتمتع بحكم ذاتي، برعاية الأمم المتحدة: لكننا سنحتفظ بالقدس إلى الأبد، على الرغم من جميع القرارات التي ستتخذها الأمم المتحدة؛ فالقدس كانت عاصمة إسرائيل على امتداد ثلاثة آلاف عام، وستبقى كذلك في المستقبل."

وبعد بضعة أيام، دعا العجوز [أي بن – غوريون] في كلمة ألقاها في اجتماع عقده مركز قائمة عمال إسرائيل – "رافي"، في العشرين من حزيران/يونيو، إلى هدم سور المدينة القديمة، معدداً ثلاثة أسباب لذلك: "أ – لأننا نريد  قدساً واحدة لا اثنتين – يهودية وعربية؛ ب – يجب هدم السور؛ فهو غير يهودي. إذ بناه سلطان تركي في القرن السادس عشر؛ ج–سيكون لهدم السور قيمة سياسية عالمية؛ إذ عندها سيعرف العالم أن هناك قدساً واحدة، يمكن أن تعيش فيها أقلية عربية."

مع ذلك فإن إسرائيل لم تهدم السور، لكنها بذلت ما في وسعها، على امتداد الأعوام الـ 27 التي مرت كي تحوّل القدس إلى مدينة واحدة – يهودية. لكن القدس الكاملة والموحدة، ذلك الإجمال القومي الوحيد الذي بقي قائماً تحت أنقاش بلايا الاحتلال، ليس لها وجود في الواقع. فالعاصمة أصبحت عملياً رقعاً رقعاً من الأحياء اليهودية، تنحشر بينها جيوش عربية منبوذة تحافظ على وجودها ضمن شروط صعبة. والحدود التي كانت تفصل ذات مرة بين جزئي المدينة تجزأت إلى عشرات من خطوط حدود ذات معالم غير مرئية لكن ملموسة جداً، ولا يمكن عبورها. والإحساس بالغربة السائد بين المجموعتين السكانيتين أنشأ وضعاً من المؤكد أن حكومة إسرائيل لم تبغ الوصول إليه، حيث أن الجهود التي وظفت في عمليات البناء والتطوير كانت غايتها تهويد القدس، لكن التمييز ضد السكان العرب أبقاهم كياناً منفصلاً. وهكذا فمن الأسهل على الفلسطينيين الآن المطالبة بالفصل بين المجموعتين السكانيتين، لأن هذا الفصل قائم عملياً.

قبل حرب الأيام الستة، كان مساحة المنطقة الخاضعة لبلدية القدس الغربية نحو 38 ألف دونم. وفي 28 حزيران/ يونيو 1967 نشر وزير الداخلية [آنذاك] موشيه حاييم شابيرا "أمر الضم"، الذي أضاف إلى المدينة 72 ألف دونم أُخرى، أي ضعفي مساحتها السابقة – وذلك استناداً إلى "قوانين التخويل" الثلاثة التي أقرها الكنيست، وشملت المناطق التي ضُمت بالقانون والقضاء والإدارة الإسرائيلية. وقد اشتملت هذه المناطق على القدس الشرقية وعلى أراضي 28 قرية عربية أيضاً، ورُسمت الخريطة على نحو يتيح، قدر الإمكان، أن تضم أقل ما يمكن من التجمعات السكانية العربية وأكبر قدر من الأراضي. وهذا المبدأ يوضح المسار الغريب لخط الحدود البلدية. فأحياناً – على سبيل المثال في عناتا، وبيت حنينا، وكفر عقب، والرام – أبقى هذا المسار جزءاً من القرية في نطاق حدود الضفة، وأُلحق الجزء الآخر بالقدس. وعارض الضمَّ في حينه عضو كنيست واحد وهو مئير ﭭيلنر، من "راكاح" [القائمة الشيوعية الجديدة]. أما الآخرون – ومنهم أعضاء الكنيست اليساريون – فأيدوا القرار بحماسة. فعضو الكنيست [في حينه] أوري أﭬنيري، قال إن "الشعب راغب في توحيد المدينة". وأعلن زعيم الحزب الشيوعي الإسرائيلي – ماكي – شموئيل ميكونيس، أن "القدس هي عاصمة إسرائيل منذ القدم."

في المقابل، كان هناك معارضة واسعة للضم في الخارج؛ ففي الجمعية العامة للأمم المتحدة صوتت 99 دولة في مصلحة مشروع قرار يلغي توحيد القدس. وبقي موقف الأمم المتحدة على حاله حتى اليوم، وكذلك موقف الأكثرية في الكنيست المعارض له.

والمعركة على القدس لم تنته باحتلالها عسكرياً. فمنذ سنة 1967 تتواصل تلك المعركة من خلال التوظيفات الهائلة في مشاريع البنى التحتية، وعمليات البناء الحثيثة لأحياء يهودية على كامل الأراضي التي ضُمت – حتى لو كان الثمن إحداث أضرار لا يمكن إصلاحها في المشهد العام والطبيعة الخاصة للمدينة. ويقيم حالياً في أراضي شرقي القدس وحدها 160 ألفاً من السكان اليهود، في مقابل نحو 155 ألفاً من السكان العرب. وكانت مصادرة الأراضي العربية على نطاق واسع أداة متممة في هذه المعركة، حيث تمت مصادرة 26,200 دونم حتى يومنا هذا، إضافة إلى فرض قيود منهجية على عمليات البناء الخاصة بالسكان الفلسطينيين، وإلى إهمال متعمد للخدمات الأساسية المقدمة إليهم. وعلى مدى الأعوام الماضية، اكتفى سكان القدس العرب بممارسة المقاومة السلبية في الصراع على الأراضي، الأمر الذي تجسد أساساً في نسبة التصويت المنخفضة في الانتخابات لرئاسة البلدية (6% بعد اندلاع الانتفاضة وخلال انتخابات سنة 1989، وأقل من 10% في الانتخابات الأخيرة).

في الساعة العاشرة مساء تغلق بوابات الحي الأرمني في البلدة القديمة، فلا من يدخل إليه ولا من يخرج منه. أما الأحياء اليهودية والعربية في شرقي القدس، فلا بوابات لها – مع أن البلدية، وبناء على طلب السكان، أقامت جدراناً فاصلة في بعضها. وعندما يحل الظلام، تنطوي تلك الأحياء على نفسها أكثر؛ فأضواء المساكن القريبة جداً من بعضها البعض، وأعمدة الإضاءة المنتصبة بانتظام في شوارع نِفي يعقوف، وﭙسغات زئيف، وتالبيوت – مزراح، وغيلو، وراموت تطل على جزر شبه معتمة: شعفاط، وعنبتا، والسواحرة، والرام، وسلوان، وبيت صفافا، وأحياء أُخرى لا تطأها أقدام الإسرائيليين، ولم يسمعوا بها تقريباً. والمنطقة العازلة التي كانت تفصل ذات يوم بين شطري المدينة أصبحت طريقاً جديدة وعريضة، الطريق رقم 1، التي كان الهدف من شقها تسهيل الانتقال من الأحياء اليهودية في الشمال إلى وسط المدينة، وعملياً فإنها تحدد بوضوح كبير الخط الفاصل بين المدينة اليهودية والعربية.

وعموماً، ففي هذا الوقت، أي في العاشرة مساء، عندما تعج طرق المارة في حي نحلات شفعاه بالمتنزهين وتبدأ الحانات في ساحة "المسكوبية" تستعد لاستقبال سيل روادها، تفرغ الطرق في الأحياء العربية داخل الأسوار وخارجها من الناس. وتبدو صورة المركز التجاري في شرقي القدس، حول شارع صلاح الدين، أشبه بمخيم لاجئين يخضع لحظر التجول: الشبابيك مُحكمة الإغلاق، والفنادق شبه معتمة، وشعارات الانتفاضة مكتوبة بالأسود على كل حائط، ودور السينما مغلقة، وإمكانات السهر تقتصر على حانة فندق "أميركان كولوني" – مكان إقامة الصحافيين الأجانب – ومطعمين أو ثلاثة وعدد من الفنادق الصغيرة الرثة في المدينة القديمة وقرب بوابة نابلس. هذه هي القدس التحتا [السفلى] التي لا شَبَه بينها وبين العاصمة الأبدية الموحدة التي يتباهى بها أعضاء الكنيست ورؤساء المدينة: مدينة يشطرها الخوف والتمييز والغربة المطلقة إلى شطرين.

ولا يستسيغ رئيس بلدية القدس الجديد إيهود أولمرت الأقوال التي تتحدث عن القدس المجزأة، وعما اصطلح على تسميته "جغرافية الخوف". إنه يعتبر ذلك "ثرثرة كاذبة – ليس فيها أي قد من الاستقامة." ويقول إنه عاد لتوه من جول صباحية طويلة في المدينة القديمة، حيث أجرى "لقاءات ودية". ويفضل أولمرت أن يتجاهل حقيقة أن المواطنين العاديين من اليهود يتخلون عن عقد لقاءات من أي نوع تكن في المدينة العربية إذا لم ترافقهم حاشية وحراسة من قرب. "هذا وضع موقت"، يقول رئيس البلدية. وأولمرت عازم على توظيف الجهد والمال لتحسين وجه المدينة العربية، ويتهم [سلفه] تيدي كوليك بالإهمال والتجاهل التام لحاجات السكان العرب. وهو، بحسب قوله، بحاجة إلى 140 مليون شيكل من  ميزانية الحكومة من أجل تدارك ما حدث من إهمال.

لكن سكان المدينة العرب يقولون إن أولمرت يريد العمل من أجلهم – إنْ كان ذلك وارداً أصلاً – بشروطه هو، ومع الأشخاص الذين يختارهم. وفي المقابل، فإنه سيواصل مصادرة الأراضي العائدة لهم وتجاهل ممثليهم وطموحاتهم الوطنية. ومن المؤكد أن أولمرت لن يعقد لقاءات ودية مع الأشخاص الذين بادروا إلى إنشاء "المجلس الوطني للقدس – فلسطين" برئاسة فيصل الحسيني. وفي إسرائيل أطلقوا على مبادرة الحسيني اسم "مجلس الظل البلدي". وربما كان مجلس الظل البلدي هو فعلاً الجسم الملائم لإدارة شؤون السكان العرب في شرقي القدس – كيان تحول بالتدريج إلى شبه حكومة ظل.

في القدس، هناك مدينتان متجاورتان: في إحداهما تقام بوتيرة لا مثيل لها في جميع أنحاء إسرائيل أحياء جديدة وآلاف الوحدات السكنية. وتنفق استثمارات طائلة في البنى التحتية: طرق، وحدائق عامة، وإنارة للشوارع، ومراكز للشراء، ومناطق صناعية وتجارية. ومنذ سنة 1967 بنيت 60 ألف وحدة سكنية لليهود في المناطق التي ضُمت إلى المدينة. وهناك الآن عشرة آلاف وحدة أُخرى في مراحل البناء. وفي الجانب الآخر هناك مدينة أُخرى من الصعب اعتبارها مدينة. وهي مؤلفة من جيوب معزولة ذات طابع قروي ترابي: منازل من طبقة واحدة أو طبقتين، والأرصفة لا وجود لها تقريباً، والكثير من الطرق غير معبَّد أصلاً، ومصابيح الإضاءة في الشوارع قليلة ومعظمها لا يعمل، وهناك مكبّ واحد لتجميع النفايات لكل عدة شوارع، ولا وجود للملاعب والحدائق العامة. وبين الحكايات التي تروى في القدس الشرقية حكاية سكان ضاحية شعفاط المصنفة منطقة تطوير (أ) – الدرجة العليا لدفع ضريبة الأرنونا (الأملاك) – الذين يصلون إلى منازلهم عبر طرق ترابية. وتجد حكاية مواطن من سلوان طلب من البلدية إصلاح مصابيح الإنارة المحطمة في شارعه فطالبته بأن يستأجر – على نفقته – حارساً على امتداد ساعات النهار والليل مهمته الحيلولة دون أطفال الانتفاضة وتحطيم المصابيح ثانية، وتجد أيضاً حكاية مكبات النفايات في بيت حنينا طلب من السكان شراؤها على حسابهم – وفقاً للمواصفات البلدية ومن عند المزود الرسمي للبلدية بتلك المكبات – وذلك كي توافق البلدية على نقل النفايات. وعلى مفترقات الطرق التي تخدم السكان العرب فقط، والمكتظة جداً والمحاذية للمدارس – مثل مفترق طرق الرام في شمالي المدينة، ليس هناك إشارات ضوئية. وفي الأحياء العربية كافة في شرقي القدس، هناك مشروع سكني واحد، مشروع نسيبه، وقد أقيم هذا المشروع بمبادرة خاصة. ومن الصعب أن تعثر على أسماء الشوارع أو على أرقام المنازل.

وبينما تقوم شركة الكهرباء الإسرائيلية بتزويد الأحياء اليهودية بالتيار الكهربائي، فإن الأحياء العربية تتزود بالتيار الكهربائي من خلال شركة كهرباء شرقي القدس، وهي شركة يملكها الأردن، ومحطات الطاقة فيها قرب ضاحية شعفاط معطلة منذ أن اضطرت إلى التوقف عن إنتاج الطاقة الكهربائية وعمدت إلى شرائها من الشركة الإسرائيلية.

وعلى صعيد المواصلات، تؤمن شركة "إيغد" الوصول إلى الجزء الغربي من القدس، وإلى الأحياء اليهودية في الشرق. أما الفلسطينيون فيستخدمون حافلات شركات خاصة صغيرة يعمل معظمها من القرى المحاذية، مثل أبو ديس والعيزرية. أما سائقو سيارات الأجرة اليهود في الجزء الغربي، فإنهم مستعدون للوصول بالركاب شرقاً، بعيداً عن خطوط الوضع الراهن، حتى فندق "أميركان كولوني" فقط، لكن معظمهم يرفض نقل المسافرين إلى أماكن أُخرى في الجزء العربي من المدينة (على الرغم من إمكان تعرضه للغرامة بسبب ذلك).

من الممكن الادعاء أن أسلوب الحياة وطابع البناء العربي هما اللذان يمليان الفارق بين طابع الأحياء اليهودية والعربية؛ لكن هذا يبقى جزءاً صغيراً من الحقيقة. فمعظم الأراضي التي ضمت إلى القدس سنة 1967 – 73 ألف دونم – كان أراضي تحولت رغماً عنها إلى جزء من المدينة. ففي سنوات 1968، و1970، و1980، و1990، تمت عمليات مصادرة لأراض خاصة يملكها العرب بلغت مساحتها 26,200 دونم. ووفقاً للمخططات المستقبلية، ستتم مصادرة نحو 2300 دونم أُخرى قريباً: وقد تم بناء عشرات آلاف الوحدات السكنية لليهود على هذه الأراضي. وبهذا الشكل، بنيت وتطورت أحياء على غرار غيلو، وتالبيوت – مزراح، ونِفي يعقوف، وبسغات زئيف وأخواتها. إلى ذلك، تم تجميد أعمال البناء في ما مساحته 35 ألف دونم من الأراضي التي تعود ملكيتها إلى عرب في القدس الشرقية. وإجمالاً، فقد بقي في حوزة العرب ما مساحته 9500 دونم من الأراضي المسموح البناء عليها.

وكان الأسلوب الذي ترسخ في عهد تيدي لنقل الأراضي إلى ملكية اليهود يقوم على تلوين مساحات الأراضي التي يملكها أفراد من العرب باللون الأخضر على الخرائط: مهذا المؤشر يدل على أن هذه الأراضي مخصصة، زعماً، للأغراض العامة ولإنشاء "رئات" خضرا، وبالتالي حُظر البناء عليها. وبعد مرور بضعة أعوام حرر جزء من هذه الأراضي، ثم صُودر وأقيمت عليه أحياء يهودية. والآن، أصبح في مراحل بناء متقدمة حي يهودي باسم "ريخيس شعفاط" (تلة شعفاط) ستخصَّص لتوطين يهود كنديين من طائفة "الحريديم" (المتدينون المتزمتون). وهناك في قيد التخطيط ضاحيتان جديدتان هما "هار حوما" في الجنوب و"شاعر مزراح" [بوابة الشرق] بين نِفي يعقوف والتلة الفرنسية، إضافة إلى منطقة سكنية يهودية في وسط ضاحية راس العمود العربية. والمصادرة يمكن أن تصيب بأذاها كل ملاك عربي في أي وقت: فقبل سنة 1967، اشترى أبناء الطائفة السورية – الأرثوذكسية في شرقي القدس بصورة مشتركة 82 دونماً في واد مزروع أشجار زيتون، كي يبنوا هناك منازل لهم، وكذلك كنيسة ومدرسة. لكن الحكومة الإسرائيلية قضت على هذا المخطط، باعتبارها المنطقة منطقة خضراء. وبعد أكثر من عشرين عاماً من اعتبار أراضيهم منطقة خضراء محظور البناء عليها، علم ملاك الأرض بأنه قد تم إصدار أوامر حجز [لأملاكهم] جراء تراكم ضرائب للبلدية لم يطلب منهم دفعها في أي وقت، بلغت مئات آلاف الشيكلات. وعلموا من ناحية أُخرى بأن أراضيهم – المحاذية لسفوح غيل – قد حررت من أجل شق طريق. وقامت البلدية بحساب مبلغ التعويضات من الأراضي المصادرة على أساس قيمتها المنخفضة، كأراض غير  مخصصة للبناء: ومن الممكن أن توافق على اقتطاع الديون المستحقة لها من أصل مبلغ التعويضات. ومن يمر اليوم في محاذاة المقطع من الطريق، الذي تم تعبيده بين غيلو وطنطور، سيلاحظ على جانبه منازل في قيد البناء؛ حي جديد يشكل امتداداً لضاحية غيلو.

ولغرب القدس خرائط هيكلية؛ أما لشطرها الشرقي فلا يوجد سوى خرائط هيكلية موضعية عالجت فقط على امتداد أعوام طويلة موضوع مسطحات الأحياء اليهودية فيه. وحتى يومنا هذا تمت المصادقة على خرائط هيكلية لستة أحياء عربية فقط، بينما لا تزال ثمانية أحياء أُخرى تنتظر المصادقة على خرائطها الهيكلية منذ عشرة أعوام. وفي سنة 1980 قدمت لجنة تابعة للبلدية خط أشارت فيها إلى ضرورة بناء 18 ألف وحدة سكنية للسكان العرب في المدينة. لكن أمراً واحداُ من ذلك لم يُنفَّذ. ومنذ ذلك الحين ارتفع عدد السكان العرب من 114,800 نسمة إلى 155,500 نسمة. وإذا احتسبنا أن كل خمسة أفراد بحاجة إلى وحدة سكنية، فقد كان هناك حاجة لبناء نحو 26 ألف وحدة سكنية للعرب. وقد أدى النقص والازدحام في المكان إلى بناء خمسة آلاف وحدة سكنية، الكثير منها من دون ترخيص بناء. ففي سنة 1990، على سبيل المثال، أُعطيت تراخيص بناء لنحو ثلاثة آلاف وحدة سكنية في القدس: مئة وخمسون منها للعرب. وبموجب هذه المعطيات التي جمعتها عضو المجلس البلدي سابقاً، ساره كامِنْكر، التي عيّنها كوليك مسؤولة عن الأحياء العربية وإلى حين استقالتها احتجاجاً، يوجد في القدس نحو 21 ألف عائلة عربية، معدومة السكن. ويقولون في منظمة فلسطينية لحقوق الإنسان، أن بعضاً من هذه العائلات يعيش في أوضاع سكنية صعبة لدى أقرباء للعائلة، وبعضها الآخر غادر المدينة إلى قرى أُخرى في الضفة.

وفي حديث معي، نفى رئيس بلدية القدس، إيهود أولمرت، بشدة، وجود هجرة عربية إلى خارج القدس، وأضاف أن النقص في المساكن قد حدث، بين أمور أُخرى، نظراً إلى "عدم وجود رقابة على تسلل أوساط من الضفة إلى داخل القدس." وبموجب المعطيات الفعلية، فمن الصعب معرفة مكان إقامة هذه "الأوساط". وقد أعلن أولمرت أيضاُ أنه عازم على أن يهدم بصورة منهجية كل عملية بناء في المناطق الخضراء أكانت لليهود أم للعرب، إلا إنه استدرك: "لم يحدث تقريباً أن قام يهود ببناء منزل كامل في منطقة خضراء، بل أن ذلك يحدث فقط من جانب السكان العرب." وتقول ساره كامِنْكر إن موقف البلدية من تجاوزات البناء كان يميز دائماً بين اليهود والعرب؛ فبالنسبة إلى اليهود كانت البلدية تهدم دائماً ملحقات البناء، أما بالنسبة إلى العرب فكانت تهدم المنزل بكامله. وهناك أيضاً ترتيب خاص يمكن اليهود من تقديم خريطة هيكلية موضعية من أجل الحصول على مصادقة لاحقة على البناء غير القانوني. وتقول كامنكر: "حاولت مرتين تمرير خريطة هيكلية موضعية لعربي في القدس الشرقية، من أجل المصادقة اللاحقة على عملية بناء غير قانونية، إلا إنني لم أتمكن من ذلك. لكن عندما يقول مقاول كبير ببناء أربعة آلاف متر مربع – زيادة عن المساحة المرخص له ببنائها في حي يهودي – وهذا يعني نحو 40 منزلاً عند العرب، حيث إن مساحة كل منزل عربي تتراوح بين 100 متر مربع و120 متراً مربعاً – فإن في وسعه أن يحصل لاحقاً على ترخيص للبناء."

في الماضي، تقول كامنكر، كانت أعمال هدم منازل عربية تنفذ بمعدل عمليتين في كل شهر. وسياسة رئيس البلدية الجديد أصبحت ملموسة على الأرض: فخلال أسبوع واحد في أيار/ مايو الماضي هدمت البلدية خمسة منازل. والمصيدة التي وقع السكان العرب في شباكها أصبحت واضحة: لا يقتصر الأمر على عدم حصولهم على تراخيص بناء، بل أيضاً، جراء غياب الخرائط الهيكلية وجراء تلوين المساحات من الأراضي غير المصادرة باللون الأخضر [محظور البناء عليها]، فإنهم يضطرون إلى حل الضائقة السكنية من خلال اللجوء إلى البناء غير القانوني. والآن هناك المئات من المنازل العربية التي تنتظر تنفيذ أوامر الهدم.

وتروي كامنكر حادثة س. ف. من قرية صور باهر فتقول: "في أحد أيام ربيع سنة 1993، وصلتُ إلى عملي في البلدية ورأيت عربياً مع أسرته كلها، أطفالاً وأولاداً وعجزة، تجلس أمام مدخل مبنى البلدية، وعلى الجدران الكثير من اللافتان بالعربية والعبرية مكتوب عليها لا تهدموا بيتي. وقلت للعربي إنني سآتي في الغد مع جمهور من اليهود، وإن عليه أن يحضر الكثير من العرب، وسنتظاهر معاً، وهذا ما حدث؛ تظاهرنا أربع ساعات، وأجرينا مفاوضات مع بلدية القدس كي لا تهدم البيت. وفي النهاية وافق ممثلو البلدية على إبقائه مع أسرته – ثمانية أفراد -  في غرفتين فقط. أما باقي المنزل فسيُهدم. وقدم لي هذا الرجل خريطة تظهر مساحة الأرض التي كان يملكها قبل مصادرتها لغرض إقامة حي تالبيوت – مزراح. وتمكنت من تحديد مكان قطعة الأرض – وهي عبارة عن سبعة دونمات ونصف الدونم أقيمت عليها عشرات الوحدات السكنية لليهود. ولن أنسى في حياتي هذا الأمر. لقد أبقوا له دونماً واحداً فقط لم يكن مخصصاً للبناء، وبالتالي لا يمكن الحصول على ترخيص للبناء عليه، وعلى هذا الدونم بنى البيت الذي هدموه. لقد أبقوا له غرفتين لأنه لم يكن لديه مأوى آخر." أما عشرات العائلات التي لم تحتج ولم تتظاهر فوجدت نفسها مع مرور الوقت من دون مأوى.

وفي الوقت الذي تبغي الحصول على ترخيص للبناء، يتضح لك إلى أي قدسٍ تنتمي. فنسب عمليات البناء للعرب تتراوح بين 15% و75% [من مساحة الأرض]. أما لليهود فتصل النسبة إلى 300%. والعرب الذين على أكتافهم، كما يبدو، واجب الحفاظ على الطابع الأصيل للقدس، يستطيعون أن يبنوا منازل ترتفع طبقتين فقط، أما اليهود – فثماني طبقات. وفي تالبيوت – مزراح، وهي ضاحية بنيت على أراض كانت ملكيتها حتى سنة 1967 تعود إلى سكان قرية صور باهر، تصل نسبة البناء إلى 250%، والمباني فيها ترتفع إلى ثماني طبقات. أما قرية صور باهر، التي تتقاطع أراضيها مع أراضي ضاحية تالبيوت – مزراح، فما زالت من دون خريطة هيكلية مصادق عليها، لكن كامنكر تقول إن هناك نية للمصادقة للسكان العرب على ما نسبته 15% من عمليات البناءـ غلى أن تكون المنازل من طبقة واحدة فقط.

وفي حي راس العمود يدور صراع من أجل بناء حي يهودي على أراض اشترتها المدرسة الدينية عطيرت كوهانيم في وسط الحي العربي. ويزعم رئيس البلدية الحالي، إيهود أولمرت، أن رئيس الحكومة – وبحكم قيامه بأعمال وزير الداخلية – يؤخر المصادقة على خطة لبناء نحو 1800 وحدة سكنية للعرب في راس العمود، وذلك فقط من أجل عدم المصادقة في الوقت ذاته على بناء 132 وحدة سكنية لليهود في الحي نفسه.

وبحسب رأي كامنكر، فإن أقوال رئيس البلدية عرض مشوه للحقائق: ففي حي راس العمود 1240 وحدة سكنية للعرب قائمة منذ ثلاثين عاماً، وفي تموز/ يوليو 1990 قُدمت خطة يمكن بموجبها أن يضاف إليها 560 وحدة سكنية أُخرى. وحتى هذا اليوم لم تصادق وزارة الداخلية على الخطة، وهي محفوظة في الأدراج رهينة إلى حين المصادقة على خطة البناء لليهود، التي قُدمت للمصادقة الأولية عليها قبل عام واحد فقط. وهنا أيضاً تبلغ نسب عمليات البناء المخصصة للعرب 50%، على أن تكون المنازل من طبقتين، بينما تصل نسب عمليات البناء لليهود على الأراضي التي تم شراؤها في الضاحية ذاتها إلى 112%، وبارتفاع أربع طبقات. ويعترف أولمرت بوجوب إيجاد حلول سكنية للسكان العرب، ويتحدث عن خطة لإقامة 7500 وحدة سكنية في ضاحية بيت حنينا. وعلى حد قوله، فإنه يؤخر التنفيذ لأن "جزءاً من هذه الأراضي أراض خضراء، أرادوا إضفاء الشرعية فيها على عمليات البناء غير القانونية التي تمت على مساحات من الأراضي، مخصصة لتبقى خضراء."

لقد بدأت  المعركة الحاسمة بشأن مستقبل القدس، وهي ملموسة من خلال تكرار اقتراحات الحل التي تعدها وتقدمها عشرات الهيئات، وأيضاً من خلال سيل لا ينقطع من التصريحات والأعمال الاستفزازية. وما يجري سباق، وذلك استعداداً للموعد المحدد في اتفاق القاهرة، وبموجبه سيدأ البحث في مكانة المدينة في موعد أقصاه الرابع من أيار/ مايو 1996. والتحول الحقيقي في الحرب الدائرة بشأن القدس ليس في تلك التصريحات التي يطلقها زعماء من كلا الطرفين، بل في حقيقة أن الفلسطينيين بدأوا أول مرة باتخاذ تدابير والقيام بأعمال لتحسين مواقعهم. فبمبادة من فيصل الحسيني أُلفت في مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر 1993 لجنة هدفها إقامة "المجلس الوطني للقدس – فلسطين" ووضع خطة عمل في المرحلة الانتقالية. وهذه اللجنة، التي يرئسها الدكتور مهدي عبد الهادي من الجمعية الأكاديمية الفلسطينية لدراسة القضايا الدولية (PASSIA) أعدت عملياً برنامجاً لمجلس بلدي بدوائره كافة، من دائرة تخطيط البناء التحتية إلى دوائر خدمات التعليم، والصحة، والثقافة، والدين، والأمن العام، وجباية الضرائب، إضافة إلى اقتراح بإنشاء قوة شرطة فلسطينية في القدس الشرقية. وفي الندوات التي تنظمها، الجمعية الأكاديمية الفلسطينية بدأوا يبلورون ما كان ينقص سكان القدس العرب حتى الآن: زعامة محلية وطاقم مهني مهمتهما طرح ومناقشة الأفكار المتعلقة بمستقبلهم. ويدور الحديث، بين أمور أُخرى، حول إقامة طاقم من الخبراء الفلسطينيين والإسرائيليين يعمل سوياً على تخطيط البناء في شرقي القدس. وفي المكاتب الأُخرى، ذات الصلة بالأورينت هاوس، على غرار "المركز الجغرافي الفلسطيني"، يتم بحرص شديد توثيق عملية السيطرة الإسرائيلية على الأراضي العربية، والمتابعة بيقظة شديدة لكل تحرك جديد على الأرض، ورسم خرائط مستقبلية لطرحها على طاولة المباحثات.

إن خليل توفقجي، إضافة إلى كونه مدير المركز الجغرافي الفلسطيني، عضو في اللجنة الأمنية المنبثقة عن محادثات طابا، ويتبع لفيصل الحسيني مباشرة. ولديه أرشيف مفصل للخرائط وخطط البناء الخاصة بالقدس منذ عهد الانتداب والحكم الأردني، ومنذ الضم الإسرائيلي للمدينة حتى يومنا هذا. وقد افتتح توفقجي مكتبه في مبنى الأورينت هاوس سنة 1983 وأغلقه الإسرائيليون مرتين. وفي العام الأخير، منذ أن بدأت محادثات السلام، يعمل توفقجي بصورة مضنية: فإضافة إلى رسم الخرائط للمباحثات بشأن قطاع غزة والضفة الغربية، يقوم أيضاً بإعداد مشروع كبير يتعلق بالقدس، بتمويل من حكومة كندا. ويجسد المشروع بواسطة الخرائط والرسومات الخطوات الإسرائيلية أيضاً – بدءاً بإقامة الأحياء حتى شق الطرق.

وبحسب قول توفقجي، فإن رئيس بلدية القدس أولمرت يحاول حالياً مواصلة التوسع اليهودي باتجاه الشرق، نحو الأراضي الواقعة خارج نطاق صلاحية القدس الكبرى، وذلك من خلال حي جديد اسمه "شاعر مزراح" وسيُقام في ما وراء الطريق رقم 9، ويربط بين معاليه أدوميم، وبسغات زئيف. ويحتفظ توفقجي بخرائط هيكلية وضعتها لجنة التخطيط في بلدية القدس لذلك العدد المحدود من الأحياء العربية، وقد تمت المصادقة عليها. وبواسطة هذه الخرائط يقدم توفقجي مثالاً لاغتصاب أراضي الفلسطينيين في القدس. فعلى سبيل المثال، كانت مساحة الأراضي التابعة لقرية العيسوية في إبان عهد الانتداب البريطاني نحو 10,417 دونماً. وقامت إسرائيل بمصادرة ثمانية آلاف دونم من هذه الأراضي. ومن مجموع ما تبقى تمت المصادقة على 666 دونماً فقط كجزء من  الخريطة الهيكلية. ومن هذه المساحة اقتطعت البلدية 1584 دونماً وأعلنتها منطقة خضراء. وهكذا، لم يبق لسكان القرية (سنة 1993 بلغ تعداد سكانها 4700 نسمة) كمنطقة بناء سوى 362 دونماً. وهناك وضع مشابه في ضاحية الطور التي امتدت أراضيها على 8808 من الدونمات في إبان عهد الانتداب، واليوم بقي لها ما مساحته 1020 دونماً، منها 490 دونماً فقط مخصصة للبناء. ويقول توفقجي إن الخطة التي يتحدث رئيس البلدية عنها لحل مشكلة الإسكان في بيت حنينا، من خلال إضافة 7500 وحدة سكنية هناك، هي خطة على الورق. فعملياً، وجراء إشكاليات مختلفة تتعلق بملكية تلك الأراضي، ومطالبة البلدية لأصحاب الأراضي بالتنازل طواعية عن مساحات منها للأغراض العامة، فلا يمكن بناء أكثر من 500 وحدة سكنية في الأراضي المخصصة لتوسع بيت حنينا. ويتعلق الأمر بمنطقة بناء تبلغ مساحتها، وفقاً للخريطة الهيكلية، نحو 2305 دونمات؛ بينما اقتطعت البلدية 2100 دونم وأعلنتها منطقة خضراء. أما ما تبقى من مساحة أراضي بيت حنينا فتمت مصادرته لمصلحة أحياء نِفي يعقوف، وبسغات زئيف، وعطروت، والطريق رقم 1، التي تصل الأحياء اليهودية بوسط المدينة. وأدت ضائقة السكن في بيت حنينا، والحق أنه لم تكن للضاحية خريطة هيكلية حتى سنة 1986، إلى بناء مئتي منزل على مساحة من الأراضي – أعلنت لاحقاً منطقة خضراء والآن يطالب رئيس البلدية الجديد بهدم تلك المنازل. وتشير ساره كامنكر إلى أن هذه السياسة التي ينتهجها رئيس البلدية الجديد شاذة، ولم تعرفها القدس الشرقية فيما مضى حتى في أصعب أوقاتها.

وقد أثارت الأنباء بشأن تأليف "المجلس الوطني للقدس – فلسطين" غضب رئيس البلدية، ولقيت معارضة شديدة داخل الحكومة. وبحسب أولمرت هناك نية للعمل ضد المجلس "وفرض قيود على أنشطة مختلفة يمارسها الفلسطينيون في الشطر الشرقي من القدس، هدفها تقويض مكانة المدينة، كمدينة موحدة." وعلى حد قوله، فإنه يعمل في هذا الشأن بالتشاور مع وزير الشرطة، موشيه شاحال. ومن جانبه، فإن أولمرت عازم المضي في سياسة خلق الحقائق على الأرض: فإقامة تواصل إقليمي يهودي من نِفي يعقوف حتى وسط المدينة تحتل أفضلية عليا، بحسب رأيه. كما أنه يسعى لتوسيع حدود المدينة شرقاً، ووصْل المنطقة الخاضعة لولايتها الجغرافية بمستوطنة [مدينة] معاليه أدوميم. وعلى حد قوله، فإن "المنطق الذي يميز القدس هو السعي للتوسع شرقاً." وفي هذا الشأن يقول نائب وزير الخارجية، يوسي بيلين "إن رئيس بلدية القدس يسير في الاتجاه المعاكس لما يجب عمله، وأنا سعيد لأنه ليس وحده صاحب القرار في هذه الموضوعات."

ويحذر الدكتور مهدي عبد الهادي من أن استمرار سياسة تهويد القدس سيهز الأرض تحت أقدام الزعامة الفلسطينية في منطقة الحكم الذاتي: فـ"الناس لا ينظرون اليوم إلى الزعماء الفلسطينيين كمحررين ولا أيضاً كمتعاونين [مع الاحتلال]، بل كوسطاء ومناقشين. وإذا لم يستعد الزعماء للفلسطينيين قلب ومركز عاصمتهم فإن الإخفاق سيكون من نصيبهم." وعن سياسة رئيس البلدية الجديد، يقول عبد الهادي: "لاأعتقد أن أولمرت يخطط – لا يمكن أن يكون شريراً إلى هذا الحد – لقتل مسار السلام بضربة واحدة. فإذا كانت رصاصات القاتل في الخليل، باروخ غولدشتاين، المحاولة الأولى لفعل ذلك، فإن مشاريع إيهود أولمرت قد تكون الضربة النهائية. إنني أدعو أولمرت إلى العودة إلى المنطق."

هناك مصلحة واضحة للفلسطينيين تدعوهم إلى عدم الانتظار عامين آخرين، إلى حين إنهاء الخلاف بشأن القدس. فبحسب ادعائهم، من الممكن ألا تبقى لهم وقتئذ أراضي للتداول بشأنها. كذلك، فإن حكومة إسرائيل تدرك حقيقة أن التوتر المتزايد في المدينة، ونشاط المؤسسات الفلسطينية فيها – وفي مقدمها الأورينت هاوس الذي يعمل منذ اليوم كمركز سلطة فلسطيني وشبه وزارة خارجية – سيرغمانها على مواجهة المشكلة في وقت مبكر أكثر مما كان متوقعاً. ومواقف الحكومة، كما يطرحها يوسي بيلين، ترتكز على عدد من المبادىء: المبدأ الأول هو إبقاء المدينة موحدة، وهذا هو المبدأ الوحيد المتفق عليه مع الفلسطينيين، الذين لا يحبذون تقسيم المدينة ثانية. أما المبادىء الأُخرى، فليست موضع اتفاق. فبحسب موقف الحكومة، ستكون القدس عاصمة إسرائيل فقط. وكلها – بما في ذلك الأراضي التي ضمت إليها سنة 1967 – ستبقى تحت السيادة الإسرائيلية، ويكون لها مجلس بلدي واحد. ويقترح بيلين تبنّي الإدارات الذاتية التي تنتخب في الأحياء المختلفة للمدينة، وتدير شؤونها بنفسها، لكن في إطار مجلس بلدي واحد؛ وهي الخطة التي طرحها في حينه [رئيس البلدية السابق] تيدي كوليك. وقامت أساساً على الخطة التي اقترحها الدكتور ميرون بنفينستي لتقسيم المدينة إلى أحياء (تضمن اقتراح بنفينستي أيضاً سيادة أردنية على جزء من المدينة، وهذه الفكرة رفضها كل من كوليك وبيلين). وبحسب رأي بيلين، فمن الممكن تلبية المطالب الفلسطينية من خلال خطة الإدارات الذاتية، مضافاً إليها تأمين وضمان الوصول الحر إلى الأماكن المقدسة لكل الديانات، لكن الفلسطينيين يرفضون هذه الخطة جملة وتفصيلاً. والموقف الإسرائيلي، يفترض سلفاً أن هناك إجماعاً قومياً إسرائيلياً في هذا الشأن، وأن القدس الموحدة هي حقيقة قائمة.

في مبنى الهندية المهمل، المقابل لبوابة نابلس، فُتح قبل ثلاثة أعوام المركز الإسرائيلي/ الفلسطيني للأبحاث والمعلومات (IPCRI) برئاسة حنا سنيورة وموشيه عميراف. وأقيم المركز بمبادرة فردية من مديره الدكتور غيرشون باسكين، ويحظى اليوم بدعم وتمويل من صناديق  للأبحاث والدراسات في الولايات المتحدة وأوروبا. ويطلق باسكين على الفرضية الرائجة في أوساط السياسيين الإسرائيليين، من اليمين واليسار، والتي بموجبها لا يوجد في إسرائيل حتى 5% من السكان على استعداد للتنازل عن السيادة الإسرائيلية الكاملة على القدس الموحدة، مصطلح "أسطورة الإجماع القومي". ويحاول باسكين عزل المناقشات في موضوع القدس عما يسميه "شيفرة المواقف المحددة سلفاً"، وتفحص المواقف الفعلية للجمهور الإسرائيلي. وعلى حد قوله، فإن معظم الإسرائيليين لا يعرف إطلاقاً الأحياء العربية في القدس الموحدة، وليس لديه أي اهتمام بها. والمصلحة الوحيدة التي يراها معظم الإسرائيليين في استمرار السيطرة على الأحياء العربية في القدس الشرقية تكمن في الحاجات الأمنية؛ فأماكن مثل صور باهر، وجبل المكبر، وأم طوبا، والسواحرة التي تشكل جميعها جزءاً من "القدس الموحدة" – ليس لها أي معنى بالنسبة إليهم.

والنقطة التي يتفق عليها الفلسطينيون كلهم، بحسب المركز الإسرائيلي/ الفلسطيني المذكور هي أن القدس الشرقية يجب أن تكون عاصمة فلسطين. إلى ذلك، يقول باسكين: "وجدنا مسلّمة واحدة لدى الطرفين: فلا أحد معني بمنح القدس مكانة دولية، باستثناء الفاتيكان. واقتراحنا يرتكز إلى إدراك أن في القدس مجموعتين سكانيتين، لكل منهما هوية وطنية مختلفة، ولا تريد أي منهما الانتماء إلى الأُخرى. وأخذنا كمسلّمة الافتراض بعدم تقسيم المدينة، وألاّ يكون هناك حدود فاصلة بين إسرائيل وفلسطين. ونحن نقترح تقسيماً سياسياً من خلال بناء أجهزة للتعاون المشترك. سيكون هناك مجلسان بلديان، ورئيس لكل مجلس، وسيكون هناك أيضاً لجان أو هيئات مشتركة للتطوير الاقتصادي، والسياحة، والتنسيق في تطوير البنى التحتية، وخلافه."

وكما هو معلوم، فإن بنفنيستي هو الذي بلور اقتراح تقسيم المدينة إلى أحياء؛ هذا الاقتراح الذي يتكرر بأشكال مختلفة حتى من قِبل مصادر حكومية في إسرائيل. والاقتراح الأكثر قبولاً لدى الفلسطينيين هو ذلك الذي يقسم المدينة إلى بلدتين وعاصمتين. وعلى امتداد الأعوام، طُرح هذا الاقتراح بصيغ مختلفة من جانب شخصيات فلسطينية، مثل الدكتور وليد الخالدي، سنة 1978، وسياسيين وعلماء أجانب، مثل البروفسور أنطونيو كساسا (المسؤول عن حقوق الإنسان في المجلس الأوروبي)، وأيضاً في إطار اقتراحات إسرائيلية – فلسطينية مشتركة، على غرار اقتراح سري نسيبه والدكتور مارك هيلر في كتابهما الصادر سنة 1991. وأُسس هذا الاقتراح هي الإبقاء على السيادة الإسرائيلية على الشطر الغربي، وإحلال سيادة فلسطينية أو أردنية، أو مشتركة لكليهما، على الشطر الشرقي، مع إمكان الإشراف الدولي على البلدة القديمة.

وقد طُرحت أيضاً إمكانات بشأن عاصمة مشتركة وموحدة لكلا الشعبين، أو كونفيدرالية مع الأردن وفلسطين، أو عاصمة رمزية وإدارية للكيان الفلسطيني في الحي الإسلامي، الذي سيحظى بمكانة مشابهة لمكانة حاضرة الفاتيكان (اقتراح دافيد ايسش شالون سنة 1987)، إلى جانب العاصمة الإسرائيلية، وإمكانات أُخرى كثيرة ومعقدة. وفي الختام، فالاتفاق الوحيد الذي تحقق حتى هذا اليوم بشأن القدس كان الاتفاق على تأجيل البحث النهائي "إلى موعد لاحق". وهذا الموعد آخذ في الاقتراب، ويبدو أنه يجب التحرر من شحنات ملحوظة من الغرائز والآراء المسبقة من أجل عبور هذا الاستحقاق بسلام.

 

المصدر: ملحق "هآرتس"، 3/6/1994.

Author biography: 

ميخال بيلغ: صحافية إسرائيلية.