في قطاع غزة خاضت إسرائيل حرباً خاسرة سلفاً؛ فأمة صغيرة كإسرائيل ما كان في إمكانها أن تنتصر هناك. هذه الحقيقة هي التي أملت إلى حد كبير استعداد إسرائيل لإعادة النظر في وضعها إزاء الفلسطينيين، والبدء بمفاوضات عملية مع منظمة التحرير الفلسطينية. وما حسَمَ المعركة كان العامل الجغرافي وعدم قدرتنا، حتى لو توفرت لدينا الإرداة الخيرة، على تسخير موارد لإنقاذ قطاع غزة من ضائقاته. وقطاع غزة، حيث يولد طفل فلسطيني كل أربع عشرة دقيقة، تحول بمرور الوقت إلى قِدْر مضغوط بالنسبة إلى إسرائيل، وإلى خرّاج ديموغرافي بكل معنى الكلمة. لقد عدنا إليه مرتين وفي حربين عاصفتين سنتي 1956 و1967، ونحن الآن نفارقه، ونأمل بأن يكون ذلك إلى الأبد.
يجب ألا ننسى أن كل من سيتسلم مقاليد السلطة في قطاع غزة بعد انسحاب إسرائيل سيكون من الصعب عليه تحقيق النجاح. فالقطاع سيبقى ذلك القِدْر المضغوط ذاته، وفرص عرفات في النجاح ضئيلة جداً، حتى لو كان كل ما سيبقى في يديه هو قطاع غزة ومنطقة أريحا.
إضافة إلى العامل الديموغرافي، فمن ناحية عسكرية أيضاً زادت الخسائر على الأرباح؛ فالجيش، ومعه شعب إسرائيل كله، ابتُلِعا في القطاع. وأصبحت مسألة السيطرة على القطاع بالنسبة إلى إسرائيل احتلالاً بأسوأ أشكاله. فمن يوم إلى آخر أصبح القطاع عبئاً ناءت إسرائيل بحمله. وأصبح القطاع بمثابة قنبلة موقوتة بالنسبة إلى إسرائيل. وفي الواقع، فقد كان في إمكان الاستراتيجيين الإسرائيليين توقع هذه الصورة منذ وقت طويل لأن المعطيات كلها كانت في حوزتهم؛ إذ إن إشارات الانسحاب من غزة كانت مكتوبة على الحائط بوضوح، لكن الأيديولوجية القديمة، المنادية بالاحتفاظ بالمناطق بأي ثمن، أدت إلى تحجر فكري عندنا.
في لحظة معينة – في عهد الليكود – بدأ يتسلل إلى جهاز الأمن إدراك أن على إسرائيل أن تقلص خطوطها في القطاع، لأن الخطر الكامن في البقاء في القطاع أكبر كثيراً من الخطر الكامن في الخروج منه في إطار اتفاق مع الفلسطينيين. وفي البداية طرحت الأمورفي الغرف المغلقة. كما أن وزير الدفاع السابق، موشيه آرنس، الذي توصل إلى استنتاج مماثل، امتنع من الحديث عن ذلك علناً. وعندها بدأوا يتحدثون عن انسحاب من طرف واحد في القطاع؛ أي الخروج من هناك، أو الهرب، لتفادي التحدث مع منظمة التحرير الفلسطينية. وكانت مقترحات أُخرى صدرت في الأساس عن أوساط المستوطنين واليمين المتطرف. وكان فحوى هذه المقترحات: سنواجه هذا الوضع الصعب من خلال إقامة المزيد من المستوطنات في القطاع. وإذا واصل الفلسطينيون الانتفاضة نقوم بتنفيذ عمليات طرد جماعي. وكان معنى هذا المقترح استخدام القوة بصورة وحشية، والاستيلاء أيضاً على الاحتياطي القليل من الأراضي وعلى ما تبقى من مصادر المياه القليلة في القطاع. وهذا يعني دفع الفلسطينيين في القطاع نحو المزيد من اليأس ونحو وضع لا يبقى فيه لهم ما يخسرونه. وفي طبيعة الحال، كان سفك الدماء سيتعاظم. ولم يكن هذا المقترح جاداً ولا بديلاً فعلياً [للسياسة المتبعة].
إن الوضع الراهن، الذي لم يكن سوى تدهور دائم، قد تسبب في خسارة إسرائيل المزيد من النقاط في حرب الاستنزاف هذه. ويجب ألا يفهم من ذلك أن الفلسطينيين فازوا آلياً بالنقاط التي خسرتها إسرائيل. إذ إن عرفات كان يعاني ضائقته الخاصة. وقد وجد نفسه عملياً في طريق لا مخرج له، ذلك بأن الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه في حرب الخليج عندما دعم صدام حسين جعله يفقد مكانته في العالم العربي، وخزانته التي كانت العربية السعودية ودول الخليج تملأها في الماضي أخذت تنضب. وكان توجه المنظمة إلى إسرائيل لإجراء مفاوضات، حتى لو اقتصر الأمر على قطاع غزة، قد نبع تقريباً من انعدام الخيارات. وهنا التقت مصالح إسرائيل ومصالح رئيس منظمة التحرير الفلسطينية.
وكانت حكومة رابين مستعدة للتخلص من قطاع غزة بل كانت مستعدة أيضاً لدفع ثمن في مقابل ذلك – من خلال إضافة منطقة أريحا إلى الصفقة، والاعتراف رسمياً بمنظمة التحرير الفلسطينية، فقط في مقابل أن يتسلم الفلسطينيون منها القطاع، وتتمكن إسرائيل من الانسحاب منه في إطار اتفاق. وهذا اتفاق بدايته في غزة وأريحا، ثم الضفة، وهدفه وضع نهاية للنزاع بيننا وبين الفلسطينيين. وكانت منظمة التحرير الفلسطينية مستعدة للقبول بالقيود الأولية القاسية، فقط من أجل أن يكون لها موطىء قدم في المنطقة وأن تقيم فيها رأس جسر. ومما يدعو إلى الأسف أن هذا المسار لم يبدأ قبل أعوام عدة.
وعموماً، كانت النظرة إلى قطاع غزة تقوم على اعتباره منطقة متخلفة لا تستحق الكثير من الاهتمام. وقد تمحور الاهتمام حول الضفة الغربية؛ إذ إن قرب الضفة من القدس، والقنصليات الأجنبية فيها، والمكاتب الصحافية، وكذلك الذين يُطْلَق عليهم الانتلجنسيا الفلسطينية في مثلث القدس – رام الله – بيت لحم؛ كل هذا دفع القطاع بعيداً عن الإدراك. ويتضح أن هذا الأمر كان أمراً مغلوطاً فيه، ففي قطاع غزة تعايش العنف والانفتاح في آن معاً. وكان القطاع الرائد في أمور كثيرة: الانتفاضة اندلعت في مخيمات اللاجئين فيه (جباليا)، وحركتا حماس والجهاد الإسلامي ولدتا هناك على أرضية يأس البروليتاريا, وكان للقطاع أيضاً قسط كبير من السلبيات: ففيه تم تنفيذ أكبر عدد من عمليات الإعدام الوحشية في حق متعاونين مع إسرائيل، إضافة إلى أشخاص أبرياء لم يكن لهم أية صلة بذلك. وفيه، لا في الضفة، سمعت أيضاً الأصوات الأولى ضد هذه الظاهرة. وفيه سمعت أيضاً الأصوات الأولى التي لم تكتف باللقاءات مع الإسرائيليين، بل دعت أيضاً إلى التوصل إلى تسوية معهم. وهنا قام الأوائل الذين دعوا إلى وقف الإضرابات الحمقاء في المدارس في إطار فعاليات الانتفاضة. وقد قال أحد الزعماء في القطاع: "إذا كان يجب القبول بتخليد الجهل كحقيقة فقط من أجل الحصول على الدولة الفلسطينية، فإنني أدعو إلى التنازل عن الدولة."
وفي قطاع غزة سيتم تنفيذ التجربة الكبرى بيننا وبين الفلسطينيين. وكانت بداية التجربة على طاولات المفاوضات بشروط دقيقة جداً. حيث أراد الطرفان النجاح، لكن اتضح لاحقاً في المفاوضات أن الطرفين يضعان في حساباتهما إمكان أن تصل عملية السلام إلى طريق مسدود وتتوقف. ذلك بأن الصعوبات في المفاوضات مع الفلسطينيين منذ محادثات أوسلو أثارت في إسرائيل الشكوك والمخاوف، وجعلت رابين يوعز إلى رؤساء الوفد الإسرائيلي إلى المفاوضات بوجوب أن ينطلقوا من فرضية أن ما لم يتضمنه اتفاق غزة وأريحا – لن يكون من الممكن تحقيقه بعد ذلك. وهذا يعني أنه قد لا تكون هناك مراحل أُخرى بعد المرحلة الأولى. والفلسطينيون من جانبهم خافوا من أن يكون هذا ما تسعى إسرائيل له. وفي طبيعة الحال، كان هذا أحد أسباب الصعوبات التي واجهتها المفاوضات، والمطالب العريضة التي طرحها كل جانب.
والمفاوضات حتى الآن يجب اعتبارها "بروفة" عامة استعداداً للجولات المقبلة، التي ستكون على ما يبدو أكثر صعوبة لأن موضوعات أكثر تعقيداً ستطرح فيها، مثل موضوعات المستوطنات، والقدس، واللاجئين، والحدود. وقد أصبح واضحاً منذ المرحلة الأولى أن الفلسطينيين حددوا لأنفسهم أربعة أهداف مركزية. وسيتشبثون بهذه الأهداف في المستقبل. ومن الممكن أن يضيفوا إليها أهدافاً أُخرى.
- الاستقلال والسيادة: إن الخط الأساسي الذي يخترق كل موضوع تقريباً هو تحقيق أكبر قدر ممكن من رموز الاستقلال للكيان الفلسطيني. إذ ليست الغاية حكماً ذاتياً، بل إدارة حكومية على طريق الدولة، والحصول على أكبر قدر ممكن من السيادة الواسعة على الأرض من دون قيود أو شروط. لذا طالب الفلسطينيون بأن يكون لهم جوازات سفر، وطوابع بريد، ورقم منطقة اتصال هاتفي كدولة، وعلم فلسطيني في نقاط الحدود، وشركة طيران وطنية، وإمكان إقامة علاقات مع القنصليات، وصلاحيات قضائية إزاء الأجانب في المناطق، والمسؤولية عن سجلات السكان، وغيرها من الأمور. وقد سعوا للانفصال الكامل قدر الإمكان. ونجحوا في تحقيق الكثير من هذه الرموز.
- المرابطة على الحدود مع الأردن: بذل الفلسطينيون كل ما هو مستطاع من أجل المرابطة على الحدود الأردنية، وإقامة تواصل جغرافي مباشر مع المملكة الهاشمية من دون أن تكون إسرائيل في الوسط، وكذلك عدم الاكتفاء بمرابطة شرطة فلسطينية في نقاط الحدود، بل أن يكون هناك وجود فلسطيني على الحدود فعلاً، على خط طويل قدر الإمكان. ويجب اعتبار هذا الهدف هدفاً استراتيجياً للفلسطينيين، ومدخلاً لمشاريعهم المستقبلية إزاء الأردن. وكان من الطبيعي أن يبدي الأردنيون منذ بداية المفاوضات بعض الانزعاج حيال كل ما يجري بين إسرائيل والفلسطينيين.
- المعاملة بالمثل: منذ مرحلة معينة [في المفاوضات] انتقل الفلسطينيون إلى المطالبة بأن ما يحق لإسرائيل يحق لهم على نحو آلي. وحتى إذا لم يكن هناك تماثل كامل في هذا الشأن، فإنهم يطالبون بمعاملة رمزية بالمثل. لماذا يكون لإسرائيل جيشها ويحظر ذلك على فلسطين. وإذا كان لا بد من أن تكون الأراضي الفلسطينية منزوعة السلاح، فعلى إسرائيل أن تتعهد على الأقل بتجريد مساحة، ولو رمزية، من أراضيها من السلاح. وفي مقابل مطالبة إسرائيل بحق التحليق في أجواء منطقة الإدارة الفلسطينية لأغراض الاستطلاع، فإنه ينبغي لها على الأقل طلب إذن مسبق لعمليات الاستطلاع الجوي. وهذا مطلب سيتكرر كثيراً في المستقبل.
- حد أدنى من المناطق المجردة: قبل اتفاق أوسلو سمعت شخصيات فلسطينية تقول أن لا حاجة لها لقوات عسكرية؛ إذ يكفي أن يكون هناك شرطة حفاة يرتدون ملابس رسمية حتى بلا أزرار. لكن كلما تقدمنا في المفاوضات، تزايدت المطالب، فهؤلاء لا يكتفون بما حُدد في اتفاق كامب ديفيد واتفاق أوسلو بشأن الحاجة إلى شرطة فلسطينية قوية. ويوجد بينهم الآن من يتحدث عن قوة فلسطينية تصل إلى حجم فرقتين (من أين سيحصلون على المال للرواتب؟)، حيث يرابط ربما جزء من هذه القوة في الأردن. ونجد مثالاً لتوسيع نطاق المطالب الفلسطينية بالنسبة إلى شاطىء قطاع غزة. ففي البداية طالب الفلسطينيون بحماية مصالح صيادي السمك في غزة، وطالبوا بعد ذلك بتأليف حرس فلسطيني للسواحل، ثم طالبوا بمياه إقليمية حتى مسافة 12 ميلاً، وبكاسحة ألغام، وحق العمل خارج المياه الإقليمية أيضاً، وهكذا دواليك.
ومنذ اللحظة التي ينسحب فيها الجيش الإسرائيلي، يبدأ الامتحان الذي يتوجب على الفلسطينيين الصمود فيه، وهذا أمر يقلقهم جداً. وهم يدركون حقاً أن إسرائيل لا تنسحب من القطاع كي تعود إلى احتلاله مرة ثالثة، لكنهم يخشون إمكان صعود الليكود إلى الحكم في إسرائيل، ذلك لأن من شأن حكومة يمينية أن تفتش، بحسب أقوالهم، عن مبررات لإفشال الاتفاق وعدم الانتقال إلى مراحله التالية. وهي [حكومة اليمين] قد تبادر إلى شن حرب يحتل الجيش الإسرائيلي فيها مجدداً تلك الأجزاء من الأراضي التي ستنتقل حتى ذلك الوقت إلى أيدي الفلسطينيين في إطار اتفاق. هذه الخشية، وربما أيضاً انعدام الثقة في نجاحهم في التقيد بالاتفاق بسبب جهات متطرفة في أوساطهم، يدفعانهم إلى المطالبة بوجود مراقبين دوليين حيثما يمكن ذلك. وفي اتفاق أوسلو حققوا وجوداً موقتاً للمراقبين الدوليين في غزة وأريحا. وجاءت مجزرة الحرم الإبراهيمي لتساعدهم في جلب المراقبين إلى الخليل أيضاً.
وتبدو المطالبة الإسرائيلية بالعمل داخل الأراضي الفلسطينية في حال استمرار الإرهاب صعبة على نحو خاص. حقاً إن الإدارة الفلسطينية ملزمة بالوفاء بالاتفاقات التي وقعتها، لكن الامتحان الذي سيجتازه الفلسطينيون ليس امتحاناً خلقياً، على حد قولهم، إذ لا يجوز أن يكون لإسرائيل الحق في إعادة العجلة إلى الوراء، بحسب قولهم، حتى لو استمرت أعمال الإرهاب مدة ما. يكفي أن تبذل الإدارة الفلسطينية الجهود للحيلولة دون هذه الأعمال، وأن تصمد في الامتحان. لا يجب مطالبتها بتحقيق نجاح بنسبة مئة في المئة في حين أن إسرائيل بكل قواتها لم تنجح في ذلك على امتداد أعوام. وبناء عليه، لا يريد الفلسطينيون أن تكون الفترة الانتقالية مشروطة بأي اختبار، بل أن تتقدم مباشرة إلى الهدف النهائي، وهو إقامة الدولة، من دون أي اعتبار لما قد يحدث على الطريق. وإذا ضاعفت إسرائيل ضغوطها، فقد تقوض استقرار الإدارة الفلسطينية، كما يقول أحمد الخالدي، المختص بالشؤون الأمنية، الذي كان عضواً في الوفد الفلسطيني إلى المفاوضات. ولو تعهدت إسرائيل بممارسة الضغط على المستوطنين العازمين على العمل ضد الاتفاق، في موازاة مطالبتها المنظمة بالعمل ضد معارضي عملية السلام في الجانب الفلسطيني، لنشأ توازن معين في المطالب.
وعلى الرغم من انعدام الخبرة والتجربة، ومن التشرذم الكبير في المجتمع الفلسطيني، فمن الممكن أن تكون الإدارة الفلسطينية الجديدة مفاجأة سارة على هذا الصعيد. إذ من الممكن أن تنجح في فرض إرادتها على معارضي عملية السلام وأن تثبت تعاملها الجاد مع الأمور. لكن يمكن أن تحدث سيناريوهات أُخرى أقل إثارة للسعادة والارتياح. على سبيل المثال: الوفاء بمقتضيات الاتفاق في قطاع غزة وأريحا، في حين تواصل منظمات في باقي أنحاء الضفة، بقيادة حركة حماس، أعمال الإرهاب ضد إسرائيل، بموافقة من عرفات. وبذلك يجد عرفات مبرراً لادعائه أنه إذا أسرعت إسرائيل في نقل السيطرة على باقي أنحاء الضفة إليه فإنه سيفرض فيها الهدوء، على غرار ما فعله في قطاع غزة. وفي الإدارة الأميركية أيضاً من يتخوف من سيناريو كهذا. وفي المقابل، قال لي أحد زعماء منظمة التحرير الفلسطينية إن هذا سيناريو غير ممكن: أولاً، إن الاستخبارات الإسرائيلية ستكتشف بسرعة ما إذا كان هناك توافق كهذا مع حركة حماس. والأهم من ذلك: إن السماح لحماس، ولو عن طريق الموافقة الصامتة، بمواصلتها أعمال الإرهاب، سيضاعف شعبية حماس في المناطق. إذاً، لماذا يعمل عرفات على تقوية معارضيه؟
وبدلاً من ذلك، في وسع عرفات أن يعمل على اختصار مراحل الفترة الانتقالية بالطرق الدبلوماسية وبالإقناع. فالمفاوضات كانت معقدة أكثر مما ظنوا في أوسلو، عندما حددوا جداول زمنية حثيثة لإنهاء المداولات والمراحل الانتقالية. فما ظنوه أنه سيستغرق بضعة أسابيع استمر بضعة أشهر، وفي هذه الأثناء وقعت مفاجآت مختلفة، مثل المجزرة في الحرم الإبراهيمي التي ارتكبها د. باروخ غولشتاين. ومع أن اتفاق أوسلو أبقى حقاً ست قضايا صعبة للمفاوضات بشأن المرحلة النهائية، فإنه لا يحول دون البدء بالمباحثات بشأنها قبل ذلك - بالعكس؛ إذ إن الاتفاق يوصي بالتبكير قدر الإمكان في البحث في القضايا المتعلقة بنقل السلطة.
ولا يجب أن نعجب عندما يتقدم الفلسطينيون من إسرائيل في وقت قريب بمطلب للتبكير في المباحثات بشأن عدد من القضايا؛ فهم لن يطالبوا بتغيير اتفاق المبادىء بل بإضافة أمور إليه. على سبيل المثال: سيطالبون بالتبكير في البحث في قضية المستوطنات بحجة وجوب البحث في المشكلات الأمنية التي يسببها المستوطنون للسكان الفلسطينيين، وفي ضوء ما جرى في الخليل إنهم محقون. أما قضية القدس، فسيطالبون بالتبكير في البحث فيها بدعوى أن الانتظار حتى انتهاء الفترة الانتقالية سيمكن إسرائيل من مواصلة فرض الحقائق على الأرض، الأمر الذي سيحول دون تغيير الوضع في منطقة القدس.
من الواضح أن عامل الزمن قد يكون حاسماً في تحقيق الاتفاق. فإذا تم لأي سبب إطالة المراحل الانتقالية أكثر من اللازم، كما طالت المرحلة الحالية، فإن المخاطر ستتزايد أمام تحقيق الاتفاق. ذلك لأن من طبيعة الاتفاقات المرحلية أن تتسم بالغموض في أجزائها المختلفة. ولما كانت موقتة منذ البداية، فإنها تتضمن أموراً هي موضع خلاف بالضرورة. يجب أن نأخذ في الحسبان أن معارضي الاتفاق، أكانوا في الجانب الفلسطيني أم في الجانب الإسرائيلي، سيشعرون بالخطر أكثر لاحقاً. فحتى توقيع الاتفاق في القاهرة، اعتقد الكثير من المعارضين أنه سيكون من الصعب إنقاذ المسار بعد أن غرز في الرمال. أما الآن، فإنهم يدركون أن ساعة الامتحان أصبحت قريبة، وبالتالي، يجب أن نتوقع أعمال تشويش وتخريب في كلا المعسكرين. والمجزرة في الخليل قد تشكل إيحاء لأفكار مختلفة وغريبة في عقول المعارضين، ولا حاجة هنا إلى رسم سيناريوهات محتملة.
في هذا الامتحان، عرفات ورابين في قارب واحد، فإذا أخفق عرفات في الوفاء والالتزام بالاتفاق، فإنه سيتسبب بإفشال رابين، وعندها سيُتهم رابين بأنه ارتكب خطأ خطراً في حساباته وبأنه عرض أمن إسرائيل للخطر. إذ إن ادعاءه أنه أراد فقط التيقن من إمكان صنع السلام مع منظمة التحرير الفلسطينية من المشكوك فيه أن يسعفه يوم الانتخابات. وعلى الفلسطينيين – وكذلك السوريين – أن يدركوا أن فشلاً كهذا سيأتي بزعيم الليكود بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية. وقد نرى في وزارة الدفاع رفائيل إيتان. في مثل هذه التشكيلة ليس للفلسطينيين فرصة استمرار عملية السلام معهم. ومن المشكوك فيه أيضاً أن يبقى الجسر الذي حققوه على ما هو عليه. ذلك لأن حكومة كهذه لن تمكن حتى من تحقيق سلام يقوم على حل وسط مع السوريين. أما التطورات الممكنة بعد ذلك، فأتركها لخيال القراء.
المصدر: "هآرتس"، 6/5/1994.