Regional Arms Control in the Arab-Israeli Conflict: A Syrian Point of View
Keywords: 
النزاع العربي - الإسرائيلي
التسلح
الأسلحة النووية
الأسلحة الكيميائية
الأسلحة البيولوجية
الصواريخ
الصناعة العسكرية
سورية
Full text: 

استجابة للمتغيرات في البيئة الدولية السياسية، وفي إثر حرب الخليج الثانية ضد العراق سنة 1991، قبلت سوريا مبادرة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، المعلنة في آذار/ مارس 1991، لعقد مؤتمر مدريد للسلام في تشرين الأول/ أكتوبر من السنة نفسها. لكن على الرغم من اختيارها البديل الدبلوماسي لاستعادة الجولان والتوصل إلى سلام شامل مع إسرائيل، فإن سوريا تعتقد أن الشروط الاستراتيجية السائدة غير مثالية لإنجاز هذا الهدف، وبالتالي فالمطلوب هو تفعيل الدور الأميركي لتعزيز موقفها التفاوضي. ولهذا السبب، ونظراً إلى أنها تنظر إلى موضوع ضبط التسلح باعتباره عنصراً للمساومة وجائزة تمنح لإسرائيل في ظروف محددة مواتية، رفضت سوريا حتى هذا الوقت المشاركة في المحادثات المتعددة التي تعالج، ضمن أمور أُخرى، هذا الموضوع، وذلك إلى أن يتم تحقيق تقدم جوهري في المفاوضات الثنائية. ويمكن الافتراض أن مثل هذه الخطوة سيتخذ إذا التزمت إسرائيل الانسحاب الكامل من الجولان، وطبعاً من المنطقة المحتلة في جنوب لبنان. وقد أوضح الرئيس الأسد هذا الموقف بكل جلاء حين قال:

نحن نريد الحد من السلاح وإنْ كنت أعتقد أن الظرف الموضوعي المناسب للحد من السلاح هو تحقيق السلام. وإذا أرادوه قبل تحقيق السلام فلنناقش على أساس شموليته وعدالته...[1]

في ضوء هذا الموقف العام تجاه السيطرة على التسلح، سنحاول هنا إعطاء رؤية موجزة للمشكلات المهمة في هذا الموضوع. وستعالج في إطار تصور نظام أمني إقليمي لضبط التسلح يشمل الأفرقاء الرئيسيين في النزاع العربي – الإسرائيلي، نظراً إلى الترابط الوثيق بين المشكلات السياسية والعسكرية. 

أولاً: المتطلبات الأساسية

لن تتوفر لنظام إقليمي للسيطرة على التسلح والحد منه في النزاع العربي – الإسرائيلي فرصة واقعية للنجاح، ما لم يستند هذا النظام إلى عدة مبادىء توجيهية:

  • يشكل الردع المستقر والمتبادل مفهوماً يرجع إليه على الرغم من الانتقادات التي وجهت إليه حديثاً. فلا بد من الإشارة إلى أن الردع يقترح في إطار التسوية الشاملة لقضايا الاحتلال، وهذا ما يجرد أعضاء هذا النظام من دوافع تحدي هذا الردع.
  • يتطلب الاستجابة إلى المتطلبات الأمنية القومية لجميع الأطراف بصورة كافية. ومع أنه ليس من الممكن تصور كل حالة طارئة، فإن من المستطاع تحديد التهديدات الرئيسية الواقعية والكامنة في البيئة الأمنية للنزاع.
  • يتوجب ضمان الأمن طبقاً لمبدأ المساواة، لا على أساس تفوق جانب على حساب الآخر. وبالنسبة إلى الذريعة الإسرائيلية بأنها تواجه تهديداً مشتركاً من الأطراف العربية كافة، فلا بد من التكافؤ في القدرة الردعية والدفاعية لكل طرف رئيسي في مصر وسوريا وإسرائيل.
  • يفترض أن تأخذ الموازين العسكرية التقليدية في عين الاعتبار الاختلاف في البنية العسكرية وفي العقيدة القتالية، إضافة إلى الفجوة التقنية بين إسرائيل والدول العربية.
  • إن أي اقتطاع أو تقييد في تملك بعض منظمات الأسلحة يجب أن يبنى على التبادلية، وإنْ كان هذا لا يعني عدم التناظر أو التبادل بين منظومات مختلفة، لكنها تؤدي وظيفة مشابهة. فالأسلحة غير التقليدية قد تشكل زمرة منفصلة، لكن كما توجد رابطة بين الأسلحة النووية والكيميائية، فإن هناك أيضاً رابطة بين الصواريخ القصيرة والصواريخ المتوسطة المدى وبين أسلحة الجو.
  • إن عاملي الوقت والتدرج أساسيان في الشروع في تطبيق الإجراءات للسيطرة على التسلح، بسبب الشكوك وتصورات التهديد المتبادل المتأصلة.
  • لا يمكن تطبيق نظام أمني شامل لضبط التسلح والحدّ منه حتى يتم إنجاز التسوية السياسية الشاملة.
  • توفُّر نظام تحقيق ومراقبة لضمان تنفيذ الالتزامات والتقييدات المفروضة في النظام الأمني.

من نافل القول إن تطبيق هذه المبادىء سيتطلب وقتاً طويلاً، لكن تبني مفهوم متدرج سيساعد من دون شك في التخفيف من خطورة أبعاد المعضلة الأمنية الحادة بين أطراف النزاع. والأرجح أن عضوية هذا النظام المقترح ستشمل إسرائيل، ومصر، وسوريا، والأردن، ولبنان، والدولة الفلسطينية المستقبلية، أكانت متحدة فيدرالياً أم كونفيدرالياً مع الأردن. ولا بد من تحديد النظام الأمني بهذا الشكل لتجنب الجدال الذي لا نهاية له بشأن الأبعاد الجغرافية لجميع مصادر التهديد المحتمل. وطبعاً يفترض أن تطبيق نظام الحد من التسلح بين فرقاء النزاع يتلازم مع استقرار أمني في منطقة الخليج، نظراً إلى ترابط القضايا والهموم الأمنية عن طريق اشتراك بعض الدول في البيئتين الاستراتيجيتين كالعراق، ومصر، وسوريا، والسعودية. ومن أجل توطد النظام واستمراره، قد يتطلب من الأطراف العربية تجنب أية تحالفات موجهة ضد إسرائيل بعد تنفيذ التسوية الشاملة، وهذا ينطبق على إسرائيل أيضاً على اساس متبادل. بيد أن هذا الشرط لا يعني تقييد حرية عمل أي عضو خارج المنطقة المحددة في النظام.

ولا بد من الإشارة إلى أن أي نظام شامل لضبط التسلح يتطلب تطبيق بعض "إجراءات بناء الثقة والأمن"، وهي إما أن تسبق تنفيذ تدابير الحد من الأسلحة وإما أن تصاحبه ولا تثير خلافات كبيرة فيما يتعلق بالأمن كنظام السيطرة على التسلح بالمعنى الدقيق. وأهميتها تكمن في الإقلال من خطر الحرب بسبب سوء الفهم أو خطأ التقدير. فما أن يتم الاتفاق على التسوية السياسية، لن يكون صعباً تبني قسم منها، علماً بأن بعضها في قيد التطبيق الآن، كالمناطق العازلة، والمناطق المجردة من السلاح، أو المناطق المحددة التسليح، أو التفتيش الجوي، كما هي الحال بين مصر وسوريا من طرف وإسرائيل من طرف آخر. ومن الواضح أنه مع ابتداء الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة، يتطلب توسيع هذه الإجراءات في المجال الجغرافي ومدى استطلاعها لنشاط الخصم العسكري، وخصوصاً إقامة مراكز الإنذار المبكر والتنصت والإشعار المسبق بالتحركات، للإقلال من أخطار الهجوم المفاجىء. غير أن بعض الإجراءات المتقدمة المطبقة في أوروبا والتي تزيد في درجة "الشفافية" كإنشاء مراكز لتبادل المعلومات العسكرية وإدارة الأزمات وتبادل الزيارات وحضور المناورات العسكرية، سيصعب تطبيقه عملياً في المدى القريب، نظراً إلى حالة العداء الباقية لدى كلا الجانبين. ومن الملاحظ أن إسرائيل تلح في البدء بهذه الإجراءات قبل الالتزام بالانسحاب الكامل وتنفيذه، ذلك لأن في مصلحتها، كونها الدولة الأقوى، أن تزيد في معلوماتها عن القدرة العسكرية العربية، كما أن ذلك ينشىء جواً من التعاون العسكري من دون التعهد بتسوية سلمية من جانبها، إضافة إلى محاولة التأثير في الإرادة العربية بعرض قدراتها العسكرية المتفوقة. وفعلاً، فإن الاجتماع الأخير للجنة الحد من التسلح والأمن الإقليمي، التابعة للمفاوضات المتعددة، والذي عقد في الدوحة – قطر في أيار/ مايو المنصرم كشف مدى الهوة بين الموقف العربي من جانب، والموقف الإسرائيلي، المدعوم من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي من جانب آخر. فالأطراف الأخيرة أصرت على استصدار "بيان نيّات" يتضمن بنوداً سياسية لتحقيق العلاقات السلمية الكاملة، والانفتاح، والثقة المتبادلة، والبدء بالتعاون من خلال إجراءات الثقة المتقدمة، بينما رفض الطرف العربي هذه الأمور حتى التوصل إلى السلام الشامل، وأصر أيضاً على البحث أولاً في توازن القدرات العسكرية التقليدية، وإنشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل.[2]                        

ثانياً: الموازين العسكرية التقليدية

من المؤكد أن معالجة مسائل تشكيلات القوى العسكرية وحجمها، وبعض منظومات الأسلحة والعقائد العسكرية ستبرهن عن أنها ستكون من الصعوبة بمكان. ويمكن تصور مشكلتين أساسيتين من شأنهما عرقلة إمكان التوصل إلى اتفاقات سريعة بشأن هذه القضايا. الأولى، تنجم عن صعوبة التوصل إلى إجماع على تعريف متطلبات الأمن القومي لكل دولة. والثانية هي أن تقدير الكم والنوعية للقوات العسكرية الضرورية لحماية المصالح القومية بفعالية لكل طرف، وإتاحة الفرصة لإمكان التعامل مع كل تهديد غير متوقع ليس بأمرٍ بسيط. فالتحيز الذاتي والعناصر غير المحسوسة، كالقيادة والمعنويات والانضباط ومستوى التدريب، التي تدخل في تقويم القدرات العسكرية، تعرقل وضع معيار موضوعي للقوى العسكرية. وإلى جانب هذه التعقيدات، تجنح الدول عادة إلى الاحتفاظ بهامش من التفوق العسكري ضد الخصوم الحاليين والمحتملين، وذلك لضمان الأمن المستقبلي.

وبالنسبة إلى الموازين العسكرية التقليدية بين إسرائيل ودول المجابهة العربية، فإن هذه المشكلات تزداد تعقيداً بسبب الاختلافات في المستويات الاجتماعية – الاقتصادية والتطور التقني بين مجتمعات هذه الأطراف. وإضافة إلى هذه الإشكالات، تبنت إسرائيل مفهوماً أمنياً شاملاً بالحد الأقصى من خلال تزاوج العامل الإقليمي والأمن المطلق، وهو ما يجعله توسعياً على حساب أمن الأطراف العربية. وكنتيجة لذلك، لا بد من أن تعيد إسرائيل تعريف مفهومها الأمني الأساسي لفك هذا الترابط مع العامل الإقليمي، الأمر الذي يولد اختراقاً جوهرياً للتغلب على العقبة الرئيسية في التوصل إلى إجماع في حده الأدنى على متطلبات الأمن القومي لسائر الأطراف.

أ - حجم القوات وتشكيلاتها

إذا كانت إسرائيل تدعي أن التهديد الرئيسي ضدها يتأتى من هجوم عسكري منفرد، من قبل إحدى دول المواجهة، أو هجوم مشترك تشنه دولتان أو أكثر، مع دعم عراقي أو خليجي، فإن المشكلة بالنسبة إلى الأطراف العربية أكثر تعقيداً. ويعود ذلك إلى عاملين أساسيين: الأول هو أن دول المواجهة ليست طرفاً في النزاع العربي – الإسرائيلي فحسب، بل هي أيضاً أفرقاء في البيئة الاستراتيجية الإقليمية التي تحوي خلافات قد تتطور إلى نزاعات مسلحة. والثاني هو أن للجيوش العربية دوراً مهماً في توطيد الاستقرار الداخلي. وإلى جانب ذلك، تشكل القوات المسلحة في المجتمعات العربية، والتي هي في قيد النمو الاقتصادي، قطاعاً كبيراً لامتصاص مشكلات البطالة. ويمكن القول إنه في حال السلام لن تحتاج دول المواجهة إلى جيوش تشكل القوات الضاربة فيها نسبة عالية، ولا سيما أن تخفيض النفقات الدفاعية سينعكس إيجاباً على النمو الاقتصادي وعلى العمالة في القطاعات المدنية الأُخرى. غير أن مثل هذا الوضع يتطلب وقتاً ليس بالقصير، لأن مشكلات النمو الاقتصادي لا تقتصر على الحجم الكبير للنفقات الدفاعية، كما أثبتت تجربة مصر منذ معاهدة السلام مع إسرائيل. لكن من الممكن نظرياً، مع استكمال تنفيذ التسوية السلمية، أن يتوصل إلى معدل معقول يسمح لأعضاء النظام الأمني الجديد يجعل نمو حجم قواتها خاضعاً للتنبؤ المسبق والتحقق الدوري طبقاً للأوضاع. ويتوجب أن يأخذ مثل هذا المعدل في عين الاعتبار العوامل الجوهرية المحددة للحاجات الأمنية لكل طرف. لكن لا جدوى في مطالبة الجانب العربي بتقليد نظام الاحتياط الإسرائيلي، كما طالبت إسرائيل بذلك، نظراً إلى الفجوة التقنية، والإدارية، ووسائل المواصلات، والمسافات الجغرافية بين الطرفين. وعموماً، تحاول إسرائيل دوماً المبالغة في حجوم القدرات العسكرية العربية، ولا سيما من زاوية القوة البشرية ونسبة القوة الضاربة منها. إن هذا الادعاء لا يقوم بالضرورة على تقويم صحيح للقدرات القتالية والأداء الفعلي لجميع القوات العربية في ساحة المعركة؛ فبعضها ذو مستوى وكفاءة عاليين، لكن الأغلبية تعاني مشكلات وثغرات في مجالات التدريب والقدرة على استغلال الخصائص التقنية للأسلحة الحديثة – بصورة كاملة.

وفيما يتعلق ببنية التشكيلات القتالية، وخصوصاً التوزيع بين صنوف الأسلحة الرئيسية، من مشاة ومدرعات ومدفعية وطيران وبحرية، وبنية كل سلاح على انفراد، فالمطلوب تجاوز ذلك كعقبة لأن الجيوش العربية تتبنى عقائد قتالية مختلفة، وما زال أمامها وقت ليس بالقصير للتمكن من تشغيل التقنية العسكرية الحديثة على غرار الحال في إسرائيل. وليس أمام الأطراف العربية من خيار في المستقبل المنظور سوى الاعتماد بصورة أساسية على اقوات البرية كوسيلة دفاع محورية في حال فشل الردع. والقاعدة الأساسية في هذا السياق يمكن أن تكون المرونة والانفتاح للتحقق من النيات أكثر من التحقق من القدرات، ما دام أن أعضاء النظام قد توصلوا إلى سلام تعاقدي نهائي.

ب سباق التسلح والأسلحة المتطورة

المقولة المثبتة تاريخياً هي أن سباق التسلح في حد ذاته لا يشكل علاقة سببية لنشوب الحرب. إلا إنه مع التأثير المتبادل لعوامل ومعطيات أُخرى، من الممكن لهذا السباق أن يسهل عملية اتخاذ القرار باللجوء إلى استخدام القوة العسكرية، مثل الحصول على نوع سلاح متطور يتفوق على ما لدى الخصم، أو خشية الحصول عليه مستقبلاً للإخلال بالتوازن العسكري القائم. لكن بما أن هدف النظام الأمني هو ضمان استقرار البيئة العسكرية، وكون سباق التسلح يشكل عاملاً قد يؤدي إلى عدم استقرارها، فيفترض كبح جماحه بين أطراف النظام. بيد أن التقييدات التي ستفرض لا بد من أن تكون ضمن الضوابط العامة المبينة أعلاه، كما لا يجب أن تعوق حيازة منظومات السلاح الحديث والمتطور.

يختلف الخبراء بشأن تأثير الأسلحة الحديثة في عقيدة الهجوم أو عقيدة الدفاع، وبشأن فعاليتها في تقصير مدة الصدام المسلح والإقلال من الخسائر المدنية. ومهما تكن نواقصها، فلا يمكن إنكار واقع أن التحسينات وتطور المزايا الفنية والتعبوية لهذه الأسلحة أدخلت تغييرات مهمة في تكتيك استخدام الوسائط المختلفة في مسارح المعارك. فوسائل التقاط الهدف، والقوة النارية، والمدى المجدي للأسلحة، وأجهزة القيادة والسيطرة والاتصالات والاستطلاع في الوقت الفوري، والذخائر الموجهة بدقة، ووسائل التشويش الإلكتروني، والتشويش المضاد، كل ذلك زاد في فعالية وسائل القتال التقليدية مثل الدبابة والطائرة والمدفع، إلى حد كبير. والجواب عن السؤال عما إذا كانت التطورات التقنية تعزز الردع والدفاع أو الهجوم، أو بالعكس، يعتمد في الحقيقة على عوامل ومعطيات أُخرى في النزاع المسلح.

وبناء على ذلك، على الرغم من أن من المفترض أن أعضاء النظام سيلتزمون الامتناع من اللجوء إلى القوة المسلحة في علاقاتهم، فإنه لا يمكن الطلب منهم التنازل عن حقهم في تطوير أنظمتهم القتالية وتحديثها لضمان أمنهم. بل على النقيض من ذلك؛ فالإقلال من الشعور بالضعف، والتخفيف من مشاعر الانكشاف أمام الآخرين سيعطيان الأعضاء في النظام الأمني الجديد الثقة بالنفس لممارسة ضبط النفس في أوقات الأزمات، وذلك لعدم تخوفهم من التأثير الحاسم لهجوم مفاجىء.

ج العقائد العسكرية

يطرح دور العقائد أو المذاهب العسكرية في استقرار الردع جدالاً حاداً بين خبراء ضبط السلاح. فالمعضلة هي أن دولاً كثيرة، بما في ذلك إسرائيل، تدعي أنها تتبنى عقيدة دفاعية استراتيجياً، لكنها مرغمة على انتهاج عقيدة هجومية تكتياً. ويؤكد مثل هذه الدول أنه بسبب العوامل الجغرافية، وبنيتها العسكرية، وقوتها البشرية، لا بد لها من الاحتفاظ بخيار الضربة المسبقة. لكن الواقع أن مسألة العقيدة مسألة ثانوية نسبياً إذا ما عولجت أسباب النزاع الأُخرى بين خصمين. وتتنوع مصادر المذاهب العسكرية بين الدول، إذ إنها تعتمد على مجموعة من العوامل التي تحدد المفاهيم الاستراتيجية الشاملة لها، مثل: التاريخ، والحضارة، والجغرافيا، والقوة البشرية، والموارد الاقتصادية. ومن الواضح أنه إذا ما كانت دولة ما تؤكد أن الحرب الوقائية أو الضربة المسبقة هي أساس سياستها الأمنية في أي ظرف كان، فلا شك في أنها تبدي نيّات عدوانية، ولن يُساعد مثل هذه السياسة في استقرار البيئة الأمنية.

وفي جميع الأحوال، فإنه من غير المعقول أن يُطالَب أعضاء النظام الأمني باتباع مذهب عسكري موحد لا يأتلف مع ظروفهم وأوضاعهم الخاصة. ومع ذلك يمكن حث الأعضاء على تأكيد العقائد الدفاعية. وفي هذا الإطار تؤدي "إجراءات بناء الثقة والأمن" دوراً كبيراً في تجنب حرب غير مرغوب فيها تتصاعد نتيجة حوادث حدود، أو خطأ في الحسابات خلال الأزمات، وهذا مما يقلل من الحاجة إلى الضربة المسبقة. 

ثالثاً: الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية

أصبح من المتعارف عليه أن تسمى وسائل العنف هذه "أسلحة التدمير الشامل"، مع إضافة وسائط نقلها من الصواريخ المتوسطة والصواريخ الطويلة المدى. وقد أصبحت الأنواع الثلاثة الأولى موضوع أنظمة دولية. فمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية لسنة 1968 مؤسسة على مبدأ التمييز بين الدول الخمس التي أعلنت أنها نووية، بينما طلب من الدول الأُخرى نبذ تطوريها وامتلاكها. لكن عدة دول يُعتقد أنها تملك القدرة على إنتاج هذه الأسلحة، ومن بينها إسرائيل، رفضت الانضمام إلى المعاهدة. أما الدول العربية، فإنها أعضاء فيها، آخذين في عين الاعتبار وضعها التقني الذي يجعل تطوير هذه الأسلحة صعباً عليها، على الرغم من أن العراق حاول، من دون تحقيق نجاح نهائي، أن يطور برنامجاً نووياً عسكرياً.

والطرح المركزي في الدعاوى الإسرائيلية لإبقاء خيارها النووي مفتوحاً هو أنها تريد "سلاح الملاذ الأخير" لكون خصومها يتفوقون عليها عدداً، ولا يمكن لها الاعتماد على الضمانات الدولية. ومع أنه يمكن الادعاء أن القدرة النووية الإسرائيلية ساهمت في ردع الدول العربية عن مهاجمة إسرائيل ضمن حدود 1967، وقبول وجودها على أرض الواقع، فإن هذه القدرة فشلت حتى الآن في إكراه الجانب العربي على القبول بالشروط الإسرائيلية بالنسبة إلى مصير الأراضي المحتلة. ومهما تكن صحة هذا الإدعاء، فإن من الصعب التكهن بإمكان تخلي إسرائيل عن خيارها النووي في المديين القريب والمتوسط بسهولة، لأنها ستستمر في النظر إليه كـ"وثيقة ضمان" يعتمد عليها.

وقد اتخذ النقاش بشأن امتلاك السلاح النووي منعطفاً جديداً بعد أن فُتِحَ الباب أمام الانضمام إلى الاتفاق الدولي لحظر الأسلحة الكيميائية منذ كانون الثاني/ يناير 1993. فمصر، وسوريا، والأردن، ولبنان امتنعت حتى الآن من الالتحاق بهذه المعاهدة، ما لم تصبح إسرائيل عضواً في معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وإن كانت قد وقعت الاتفاق بشأن الأسلحة الكيميائية. كما تزداد المشكلة تعقيداً حين توسّع إسرائيل دائرة التهديد النووي المزعوم باتجاه إيران وباكستان، فضلاً عن كل دولة عربية، سواء في المغرب أو المشرق. وبحسب الأدلة المتوفرة حالياً، لا يمكن إلا الاستنتاج بأن القدرات النووية في الشرق الأوسط أو في مناطق أُخرى من العالم سنتعايش معها في المستقبل المنظور.

وهذا ما يستتبع الشك في إمكان التوصل إلى منطقة خالية من أسلحة التدمير الشامل في الشرق الأوسط في المدى المتوسط، لأن للمشكلة أبعاداً عالمية. وقد احتوت مبادرة الرئيس الأميركي السابق بوش بتاريخ 29 أيار/ مايو 1991 على بعض الإجراءات الأولية، كوقف إنتاج المواد المشعة الداخلة في صنع الأسلحة الذرية، وفتح المنشآت والمفاعلات النووية أمام التفتيش الدولي، والانضمام إلى معاهدة حظر الأسلحة النووية، إلا إنه من المستبعد تنفيذها من قبل إسرائيل. فواقع الأمر أن التخلي عن القدرات والأسلحة النووية والكيميائية يتطلب تغييراً جذرياً في المناخ السياسي.

وبالنسبة إلى معاهدة حظر الأسلحة البيولوجية لسنة 1972، فقد انضمت جميع الدول العربية إليها، لكن إسرائيل امتنعت حتى الآن. ويمكن أن يُرد الانضمام العربي إلى أن هذه الأسلحة ذات قيمة ردعية منخفضة... وبخلاف الاتفاقين النووي والكيميائي، فإن هذه المعاهدة لا تتضمن نصوصاً لإنشاء نظام للتفتيش والتحقق. فالرأي السائد هو أن الإدانة الخلقية لاستخدام هذه الأسلحة تقيد لجوء الدول إليها أو التهديد بها، إلى جانب صعوبة متطلبات التفتيش التي قد تفترض التخلي عن ميزات السيادة إلى حد كبير، كما حدث للعراق.

والخلاصة هي أن هنالك رابطة بين الأسلحة الكيميائية والأسلحة النووية في الشرق الأوسط، وهو ما يعقد الاتفاق بشأن نزعها قبل التسوية السياسية بين إسرائيل والجانب العربي، أو استمرارها وقتاً غير قصير. وإضافة إلى ذلك، فإن اتفاقات الحد منها أو نزعها تفترض وجود نظام صارم للتحقق والتفتيش لا يعتقد  أن أطراف النزاع مستعدون للقبول به في الوقت الحاضر. وكإجراء انتقالي، يمكن لأطراف النظام الأمني إصدار التزامات علنية بـ"عدم الاستخدام الأول" لهذه الأسلحة حتى إدخالها ضمن النظام الأمني الجديد في وقت لاحق. والادعاء الإسرائيلي أن مثل هذا الالتزام يفقدها قيمتها الردعية لا يتوافق مع احتفاظها بتفوقها التقليدي الذي يردع العرب عن التفكير في الهجوم على إسرائيل ضمن حدود 1967، وفي الوقت نفسه، ليس لهذه الأسلحة قيمة ردعية في حروب محدودة ضمن الأراضي المحتلة، نظراً إلى آثارها الجانبية الضارة لجميع الأطراف. فهي إذاً رادعة لحرب هدفها فرض الاستسلام الاستراتيجي، وهذا خارج طاقات أطراف النزاع، وصعب المنال دولياً. 

رابعاً: الصواريخ الباليستية

ترتبط أنظمة الصواريخ الباليستية أرض – أرض ذات المدى المتوسط والمدى البعيد في النطاق الإقليمي بأسلحة الدمار الشامل، كونها وسائط الإيصال الرئيسية لها. وقد وثِّق هذا الترابط في نظام السيطرة على نقل تقنية هذه الوسائط لسنة 1987، الذي أقامته الدول الصناعية الغربية وانضمت إليه روسيا فيما بعد. أما الصين فقد أعلنت التزامها به من دون توقيعه. وهو يهدف إلى منع نقل صواريخ وتقنية صواريخ ذات مدى يبلغ 300 كلم ورأس متفجر زنته ابتداء من 500 كلغ من الدول المنتجة إلى الدول النامية. وأقل ما يقال في هذا الصدد أن مثل هذا التصنيف للقذائف والصواريخ القصيرة المدى، والتمييز بينها وبين وسائط الإيصال الأُخرى، كالطائرات، هما أمران اعتباطيان لسببين رئيسيين: الأول، هو أنه في النطاق الجغرافي للنزاعات الإقليمية، بما فيها النزاع العربي – الإسرائيلي، ليست الصواريخ القصيرة المدى السلاح الوحيد القادر على حَمْل رؤوس نووية وكيميائية، بل يمكن إيصال الرؤوس إلى عدة أهداف استراتيجية وحيوية، سواء مدنية أو عسكرية، بواسطة الطائرات القاذفة أو القاذفة – المقاتلة أيضاً. ثانياً، إن الإدعاء أن من الممكن للصواريخ اختراق شبكة الدفاعات الجوية بفاعلية أقوى من الطائرات، وهي ذات دقة أعلى، ليس صحيحاً كما أثبتت حربا الخليج حديثاً؛ فالوسائل الإلكترونية التي تشوش على الرادارات وتعطلها تطورت إلى درجة كبيرة، وهو ما حسّن كثيراً القدرة الاختراقية للطائرات، إضافة إلى تطوير الصواريخ التي تطلق من بُعد من الطائرات، وتقنية التقاط الأهداف وتحديدها. وإلى جانب ذلك، فقد تم تطوير وسائط مضادة للصواريخ مثل نظام "باتريوت" الأميركي و"أس – 300" الروسي.

وبناء على ما سبق، فإن مقولة أن الصواريخ الباليستية تخل في حد ذاتها بالاستقرار العسكري غير صحيحة بالمطلق؛ إذ لا بد من دراسة المشكلة في إطار البيئة التنازعية الخاصة. فالدافع الرئيسي لاقتناء الصواريخ الباليستية من قِبل الدول النامية هو في العادة لمواجهة التفوق في أسلحة الجو التي تملكها الدول المتطورة تقنياً كإسرائيل. والصواريخ أقل ثمناً وتكلفة صيانة، كما أنها أسهل تشغيلاً واستخداماً، إذ إنها لا تتطلب تدريب فرق صيانة وطيارين بمستوى عال. والغاية الرئيسية إيجاد ردع متبادل يقيد حرية المتحاربين في توسيع نطاق العمليات العسكرية إلى الهداف الاستراتيجية والمدنية. فالصواريخ الباليستية يمكنها توفير جميع خصائص الضربة الثانية الانتقامية بعد امتصاص الضربة الأولى، وهذه الخصائص هي قابلية الحركة، والانتشار، والاختباء، والحماية، بدرجة أعلى من خصائص الطائرات. وإذا ما تمت تسوية الخلافات السياسية، فالحافز الأساسي لتحدي الردع ينتفي، وبالتالي يتضاءل إمكان الهجوم المفاجىء عبر ضربة صاروخية نظراً إلى صعوبة اكتشافها. وإلى جانب ذلك، فمن المستبعد جداً أن تلجأ سوريا، مثلاً، إلى ضربة صاروخية أولى، آخذة في عين الاعتبار الضربة الانتقامية الإسرائيلية الشديدة المحتملة. فقد أوضح الرئيس الأسد الهدف الردعي من امتلاك مثل هذه الصواريخ حين قال:

إن إسرائيل لا تزال متفوقة تكنولوجياً وتستطيع أن تلحق بالعرب كوارث بشرية في حال الحرب، ولكن العرب يستطيعون بما يملكون أن يبادلوها الكوارث بمثلها، وإسرائيل تعرف هذا وتعرف أن التفوق التكنولوجي الذي تملكه لا يستطيع أن يحول دون تبادل الكوارث في حالة الحرب بواسطة ما هو متوافر لدى العرب ولدى إسرائيل.[3]

وبموازنة مزايا القوى الصاروخية وخصائصها، يمكن القول إنها تشكل في إطار النزاع مع إسرائيل عامل استقرار للبيئة الأمنية أكثر من كونها مسببة للإخلال به، وخصوصاً بعد التسوية السياسية. ومن المستبعد أن يتم الحد منها أو نزعها في المستقبل القريب. وفي الإمكان تصور إدخالها في نظام ضبط السلاح في فترة متقدمة من بنائه، لكن إذا أمكن تحديد أعدادها ومجالاتها ووزن الرأس المتفجر، سواء كان تقليدياً أو غير تقليدي، في المرحلة الأولى، فقد تكون خطوة مساعدة إذا ربطت بتقييد تفوق سلاح الطيران الإسرائيلي، وكإجراء بناء ثقة أيضاً يمكن الموافقة على الإشعار المسبق بتجربتها. 

خامساً: الصناعات العسكرية الوطنية

تتميز إسرائيل بين دول منطقة الشرق الأوسط بأنها تملك أكثر الصناعات العسكرية شمولية وتطوراً. كما أنها تتزود بالتقنية العسكرية الأميركية والأوروبية الغربية، بل تجري عمليات تبادل معها في بعض الأحيان، وفقاً لما وصلت إليه في مجال البحث والتطوير لتصنيع الأسلحة. وقد تم تقنين ذلك عبر اتفاق التعاون الاستراتيجي مع الولايات المتحدة سنة 981، كما أعيدت العلاقة مع فرنسا في الاتفاق الأخير في آذار/ مارس من السنة نفسها، إضافة إلى التعاون مع معظم دول حلف شمال الأطلسي. وما زاد في هامش التفوق الإسرائيلي تردد روسيا الاتحادية في تزويد وتطوير القدرات العسكرية السورية، إلى جانب استمرار خضوع العراق للعقوبات والرقابة الدوليين. ومع أن مصر والعراق ينتجان بعض المعدات والذخائر محلياً أو بالتعاون مع شركات أجنبية، فإن صناعاتهما العسكرية تبقى ذات مستوى محدود قياساً بالصناعات العسكرية الإسرائيلية.

ولا يقتصر الإشكال الرئيسي في إخضاع الصناعات العسكرية المحلية للتفتيش الدولي على كشف الأسرار العسكرية، وهو ما يتطلب الانفتاح، بل يتعداه إلى حماية الأسرار الصناعية والتجارية أيضاً. وأفضل ما يمكن الموافقة عليه في هذا المجال هو وضع سجل بالمعدات النهائية المسلمة للقوات المسلحة لأعضاء النظام الأمني. ومن الطبيعي أن هذا التدبير ينفذ مع الموافقة على تحديد سقوف معينة للوسائط، من دبابات وطائرات وناقلات جنود ومدافع ثقيلة وقطع بحرية. 

سادساً: نظام التحقق والتفتيش

لا يوجد بصورة عامة عقبات كبيرة أمام التوصل إلى اتفاق بشأن إجراءات الأمن في المناطق الحدودية، والتي يمكن أن تجري بصورة مشتركة بإشراف الأمم المتحدة. وفي مقابل ذلك، ليس من السهل التوصل إلى إجراءات تفتيش متبادلة داخل أراضي أعضاء النظام المقترح، فيما إذ اتُفِقَ على تحديد أو حظر بعض صنوف الأسلحة التقليدية أو غير التقليدية. فمثل هذه الإجراءات يتطلب درجة عالية من الاطلاع على ما يُعتبر عادة من الأسرار العسكرية، ولا بد من  توفر الوضع السياسي الملائم. وعلى ذلك، يفترض ترك مثل هذه المشكلات المعقدة إلى المراحل الأخيرة من تطبيق نظام ضبط التسلح والحد منه. والأساس في البداية هو التركيز على توفير مستلزمات الاستقرار في العلاقة الاستراتيجية. وعلى سبيل المثال يمكن لأعضاء النظام، سواء ضمنياً أو صراحة، اتباع استراتيجية تقوم على "تأكيد حسن النية" (reassurance) للأطراف الأُخرى من خلال التركيز على بناء قدرات عسكرية تستجيب لحاجاتهم الدفاعية فقط. ومن ثم يمكن السماح للتفتيش المتبادل بالتدريج بعد أن يشعر الأعضاء بأن من مصلحتهم الذاتية المحافظة على النظام الأمني.

ولا يغفل عن الذكر أن الوسائل التقنية للتنصت والاستطلاع أصبحت من الفعالية بحيث تغني في بعض الأحوال عن التفتيش الموضعي. لكن التفتيش الموضعي المباشر ما زال ضرورياً في حال التوصل إلى اتفاقات بشأن تحديد وحظر الأسلحة غير التقليدية، من منشآت نووية وكيميائية ومصانع للصواريخ. ومع مرور الوقت، يمكن لوكالات الأمم المتحدة المتخصصة أن تشكل فرق تفتيش تتضمن أفراداً من أعضاء النظام متمتعين بصلاحية التفتيش المفاجىء. وفي أثناء ذلك يمكن الاكتفاء بالاستطلاع الجوي وبواسطة الأقمار الاصطناعية لتحديد مواقع المطارات العسكرية، والقواعد البحرية، والتجمعات الكبيرة للوحدات المدرعة. ولا بد لهذا النظام من أن يشمل تدبيراً فورياً في حال خرق التحديدات المتفق عليها. وهنا يأتي دور مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، إذ يمكن أن يُطلب منه معالجة أي خرق خطر لإيقافه، ولا سيما في حالات التهديد والخرق الناشئة عن الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية. 

سابعاً: توريد السلاح

إن فاعلية أي نظام أمني يشمل السيطرة على التسلح تتطلب بالضرورة تعاون الدول الكبرى، وخصوصاً في مجال تصدير الأسلحة والتقنيات العسكرية المتقدمة. فمبادرة الرئيس بوش دعت الدول الخمس ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن إلى الشروع في تكوين نظام لتنسيق أنشطتها في هذا المجال. إلا إنه لا يزال من المبكر التنبؤ بما إذا كانت هذه الجهود ستنجح أو تفشل، ويصعب التفاؤل المفرط بإمكانات النجاح. ويعزى السبب الرئيسي في ذلك إلى أن سياسات تزويد الأسلحة تخضع لعملية معقدة تتداخل فيها عدة عوامل داخلية وخارجية سياسية واستراتيجية ومالية يجب الموازنة بينها. والعلاقة بين الدولة المصدرة والدولة المستوردة تحدد في الأغلب طبقاً لمعايير ذاتية أكثر من التقويمات الموضوعية للحاجات الأمنية الفعلية. وتزداد المشكلة تعقيداً بوجود الدول المصدرة "الثانوية"، التي تبقى دوافعها الأساسية مالية واقتصادية، مثل جنوب إفريقيا، والهند، والأرجنتين، وكوريا الشمالية. وإلى جانب ذلك فإن انهيار الكتلة الشرقية قد أغرق سوق الأسلحة بفائض ضخم، إضافة إلى القدرات المستمرة لهذه الدول الصناعية العسكرية.

وكنتيجة لهذه العوامل، لا يكفي الاعتماد على سياسة التقييد والضبط التي يمكن أن يمارسها الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن. قد يكون مفيداً إذا ما تم التوصل إلى تحديد الأسلحة غير التقليدية وتحريمها، علماً بأن إسرائيل أصبح لها قدرة نووية ذاتية، لكن باستثناء نظام التقييد الدولي على تقنية الصواريخ الباليستية التي لا تسبب بالضرورة المزيد من عدم الاستقرار الإقليمي، ولا سيما في حال تزويدها بالرؤوس المتفجرة التقليدية. لكن الأمر يختلف فيما إذا اتفق بين أطراف النزاع العربي – الإسرائيلي على تحديدها وحظرها. وفي جميع الأحوال، سيكون من الضروري أن يقوم أعضاء النظام الأمني الإقليميين بكبح سباق التسلح بين أطراف النزاع، بعد التوصل إلى تسوية سلمية، وحتى التطبيق الكامل للنظام الأمني الشامل لضبط السلاح. ويضاف إلى ذلك، الطلب من الدول الخارجية أن تعيد النظر بصورة جوهرية في تعاونها العسكري مع أعضاء النظام الأمني، ليشمل حاجاتهم الدفاعية فقط. وفي هذا المضمار فإن خسارة الاتحاد السوفياتي قد أثر في الطرف العربي – بما في ذلك سوريا – الأمر الذي يفترض بالولايات المتحدة وأوروبا الغربية الحد من تعاونهما العسكري مع إسرائيل، لا العكس، كما يجري الآن. 

خاتمة

يتفق الافتراض الرئيسي في الموقف السوري تجاه ضبط السلاح والأمن الإقليمي مع الحكمة التقليدية القائلة إن السلاح وسباق التسلح هما أعراض للنزاع، لا العامل المسبب له. لكن إذا كان تكديس بعض صنوف الأسلحة يؤدي إلى تصعيد التوتر، فإن سوريا لا ترفض سياسة السيطرة على التسلح بصورة كاملة. غير أنه لا بد من توفر شرطين مسبقين أساسيين: الأول، تسوية الجوانب السياسية للنزاع؛ والثاني، وكي ينجح نظام ضبط التسلح، يجب أن يكون هدفه إعادة التوازن العسكري على أسس المساواة والتكافؤ والتبادلية والشمولية. ويضاف إلى هذا أنه كما أن سوريا تصر على التسوية السياسية الشاملة لجميع أبعاد النزاع العربي – الإسرائيلي فهي تنظر كذلك إلى القضايا الأمنية من الزاوية نفسها. فهي تعتبر النزاع وحدة متكاملة، ولا سيما بالنسبة إلى الأطراف المعنية مباشرة. وبصورة أخص، تمتد الاهتمامات الأمنية السورية، بحكم البيئة الجيوستراتيجية، إلى لبنان والأردن وفلسطين. وبناء على ذلك، فقد تم التشديد هنا على أهمية الترابط، خلافاً للمحاولات الإسرائيلية والأميركية لفصل العلاقة العسكرية بين سوريا وإسرائيل عن هذه البيئة، ومعاملتها معاملة منفردة. وقد يبدو بعض ما جاء أعلاه طموحاً من حيث الزمن والشروط الواقعية السائدة حالياً، غير أنه إذا ما تم التوصل إلى اتفاق يلبي المطالب العربية بالانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي المحتلة، فيمكن عندئذ السير على طريق الاستقرار في العلاقات العسكرية والأمنية في المنطقة. والثوابت المحورية في أي نظام أمني يجب أن تكون استراتيجية الردع الشامل، مع التركيز على "تأكيد حسن النية"؛ فالتاريخ يؤكد أنه عبر ذلك فقط يمكن ضمان استقرار البيئة الأمنية. إذ عندما يشعر جميع أطراف النزاع بالأمن تتناقص مخاوفهم العميقة إزاء محاولة الهيمنة والتوسع الإسرائيليين. وللنظام الأمني فائدة إضافية هي عزل البيئة الاستراتيجية للنزاع العربي – الإسرائيلي عن المناطق غير المستقرة الأُخرى في منطقة الشرق الأوسط.

 

المصادر:

[1]  "الثورة" (دمشق)، 13/3/1992.

[2] "الحياة" (لندن)، 2/5 – 6/5/1994.

[3]  خطاب الرئيس الأسد في افتتاح مجلس الشعب، 11/6/1990. "الثورة"، 12/6/1990.

Author biography: 

محمد زهير دياب: باحث في الشؤون الاستراتيجية، قسم الدراسات العسكرية، جامعة كينغز، لندن.