"مع توقيع الاتفاق، ندشن، نحن والفلسطينيون، عصراً جديداً. فللمرة الأولى، نبني معاً مستقبلاً قائماً على مفاوضات مكثفة لا سابق لها، لشبكة علاقات جديدة، قائمة على التعاون المشترك. وسيرافق عملية تطبيق الاتفاق وتحقيقه نشاط اقتصادي متشعب ومساعدات دولية واسعة. وبذلك، ستنشأ أجواء جديدة ستجعل العودة إلى الوراء صعبة. إني أؤمن بأننا بدأنا مساراً لا عودة عنه." بهذا القول لخص د. يئير هيرشفيلد، الذي ذُكر اسمه في هذا الأسبوع أول مرة كواحد من الذين أداروا المفاوضات السرية عن الجانب الإسرائيلي، التي أثمرت الاتفاق الآخذ في التبلور بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.
وأضاف هيرشفيلد: "أتصور أن في سياق هذه العملية الطويلة، المعقدة والمضنية، سنشهد حالات هبوط وصعود. ويمكن تصور أن تحاول حركة حماس من الجانب الفلسطيني وأوساط متطرفة في إسرائيل نسف الاتفاق. لكن، كلما حاولت حركة حماس نسفه، ستزداد الحاجة إلى تعاون بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. وإسرائيل تدخل هذه المرحلة من التعاون مع الفلسطينيين، حيث حاجتهم إلى هذا التعاون معها هائلة. وبحسب اعتقادي فالحاجة لدى الطرفين، إلى التعاون، وبالأساس، في المجال الاقتصادي حيوية جداً، بحيث أن كليهما لن يدخر وسعاً من أجل تطبيق الاتفاق، بهدف الحفاظ على الطفل الجديد، وعدم تركه يموت، بل بالعكس – منحه الفرصة لينمو ويكبر."
[.......]
لقد تعرفت إلى هيرشفيلد، أول مرة في تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، وذلك في إطار لقاء دولي نُظم في مدريد، وعالج موضوع العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين. وكان المشاركون في اللقاء جميعهم موحدين في الرأي القائل إن د. هيرشفيلد ألقى إحدى أكثر المحاضرات إثارة وأهمية. وبرز في محاضرته، الامتناع من إطلاق الشعارات وإلمامه بالصعوبات الكبيرة التي رافقت، على امتداد الأعوام، الحوار الإسرائيلي – الفلسطيني. ولم يمتنع من توجيه النقد الموضوعي، إلى الطرفين. وقراءة ثانية لمحاضرته تلك، بعد أن حدث ما حدث، تكشف عن بعض المسارات التي قادت قطاعات من حزب العمل إلى تغيير موقفها من القضية الفلسطينية، ولا سيما إزاء منظمة التحرير الفلسطينية.
وفي الجزء الختامي من محاضرته، التي كانت أساساً موجهة إلى الفلسطينيين، قال هيرشفيلد: "لدي رجاء وهو أن تفهمونا، وعليكم فعل ذلك، ألقي ذلك استحساناً لديكم أم لم يلاق. عليكم فهم الواقع السياسي في إسرائيل. عليكم أن تفهموا أن الأمر يتعلق بحكومة ضعيفة، وعلينا أن ندرك أنه من أجل أن نتمكن من التقدم في هذا المسار، يجب أن تنجح هذه الحكومة وأن تفوز مجدداً في الانتخابات المقبلة. علينا أن نضعف المعارضة. إن حجج اليمين وتعليلاته مرعبة، وتثير التقزز، لكنها قوية، وهي قوية جداً من ناحية سياسية. لا يتوجب علينا القبول بها بل مكافحتها. وعليكم أنتم أن تزودونا بجزء من الحجج التي تساعدنا في مكافحتها." وهذا الجزء من المحاضرة، يطرح، ولو جزئياً، المفهوم الذي وجه خطى هيرشفيلد في اتصالاته بالفلسطينيين.
وكما يبدو، بدأ هيرشفيلد يكتسب ثقة الفلسطينيين به في أواخر السبعينات، عندما نظم، بناء على طلب من المستشار النمساوي برونو كرايسكي، الذي كانت تربطه علاقات وثيقة به قبل ذلك، زيارة لوفد فلسطيني من المناطق [المحتلة] إلى النمسا. وعقب زيارة الوفد، بدأت هذه الدولة [أي النمسا] تقديم مساعدات متنوعة إلى الفلسطينيين في المناطق [المحتلة]. وفي ذلك الحين استعان هيرشفيلد بجهود رئيس بلدية الخليل سابقاً، المرحوم، فهد القواسمة، الذي طردته إسرائيل بعد ذلك إلى الخارج ثم اغتيل في الأردن في كانون الأول/ ديسمبر 1984.
"في تلك الأعوام توصلت إلى استنتاج أن الفجوة بين المواقف السياسية للإسرائيليين والفلسطينيين كبيرة جداً، وهو ما يجعل من الصعب ردمها إلاّ إذا اتجه الطرفان نحو تطوير مصالح مشتركة، وفي هذه الحال في المجال الاقتصادي. وكان عملي الأول في هذا المضمار إحضار وفد فلسطيني من المناطق إلى المستشار كرايسكي." ولأعوام أقام هيرشفيلد اتصالاته بجزء من الزعامة الفلسطينية في المناطق، على أساس شخصي، مستمداً التشجيع في ذلك من المستشار كرايسكي. ومنذ مطلع كانون الثاني/يناير 1982، رتب لقاءات بينهم وبين عدد من الشخصيات في حزب العمل؛ من بينهم يوسي بيلين وشمعون بيرس ونفتالي بلومنتال.
ورداً على سؤال بشأن كيف تمكن هيرشفيلد في حينه من إقناع شمعون بيرس بإجراء اتصالات ومحادثات مع الفلسطينيين في المناطق، قال: "إن العلاقة بين الفلسطينيين وحكومة النمسا، والتي ساعدت في إقامتها، قادت إلى حوار بين كرايسكي والملك حسين في عمان والملك الحسن الثاني في المغرب. وتوجهت إلى بيرس بهذا الشأن مسلحاً بردات الفعل الإيجابية للملكين؛ ويبدو لي أن هذا الأمر قد ولد لديه انطباعاً ممتازاً."
وفي سنة 1983، وعقب انضمامه إلى المنبر الفكري "ماشوف" في حزب العمل، أصبح هيرشفيلد مسؤولاً عن اللجنة التي كانت تعالج موضوع المناطق. وكانت هذه اللجنة تقدم إلى حزب العمل من حين إلى آخر أفكاراً جديدة بشأن الفلسطينيين في المناطق. ويقول هيرشفيلد: "لقد حرصت على إجراء الاتصالات بالفلسطينيين في المناطق لا بمنظمة التحرير الفلسطينية، ما دام أن منظمة التحرير لم تكن تعترف بإسرائيل بعد. إذ امتنعتُ من إجراء اتصالات بممثلين عن منظمة التحرير ما دامت المنظمة غير معترفة بنا. لكن منذ كانون الأول/ ديسمبر 1988، وعقب إعلان رئيس المنظمة، ياسر عرفات، في جنيف، اعترافه بحق إسرائيل في الوجود، وإعرابه عن استعداده لإجراء مفاوضات معها على أساس القرار رقم 242، غيرت سلوكي وبدأت أُجري اتصالات ببعض قادة المنظمة."
وفي شباط/فبراير 1989، نظّم هيرشفيلد لقاء في بناية روتردام في القدس الشرقية، بين وفد من حزب العمل، ضم في صفوفه، بين شخصيات أُخرى، كلاً من يوسي بيلين، وأبراهام بورغ، وأفرايم سنيه، ونمرود نوفيك، وبين وفد فلسطيني من شخصيات في المناطق معروفة بعلاقاتها بالمنظمة، منها فيصل الحسيني ود. حنان عشراوي. وقناة الاتصال هذه، التي كان لهيرشفيلد فيها دور مركزي، بدأت تنمو وتتطور. وفي كانون الأول/ديسمبر 1992، بدأت الاتصالات الأولى بمبعوثين يمثلون منظمة التحرير في تونس. وتلقت الاتصالات اندفاعة مع تغيير القانون الذي كان يحظر الاتصالات بين إسرائيليين وأعضاء في منظمة التحرير. وكان أبو العلاء الشخصية الأهم في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي التقى هيرشفيلد بها.
وإلى جانب هيرشفيلد، عمل في هذا المجال المستشرق د. رون فونداك، أحد تلامذته السابقين وشريكه حالياً في جمعية للبحث والدراسات، أُسست قبل نحو عامين باسم "صندوق التعاون الاقتصادي" (economic cooperation foundation). وبمساعدة من نائب، وزير الخارجية يوسي بيلين، أقام الاثنان صلات بمعهد كبير للأبحاث في النرويج يدعى "فافو" (FAFO)*، يعمل في مجال الدراسات والأبحاث الاقتصادية – الاجتماعية في العالم. "وفي مرحلة معينة طلبنا من إدارة معهد 'فافو'، الذي ينشط أيضاً في الضفة الغربية وقطاع غزة، ورعاية الاتصالات بالفلسطينيين، وبمنظمة التحرير الفلسطينية.”
وفي هذا العام، مرت الاتصالات بمنظمة التحرير الفلسطينية في ثلاث مراحل: "في المرحلة الأولى، منذ كانون الثاني/يناير حتى أيار/مايو، كان جل عملنا الإصغاء، وفحص واستيضاح ما إذا كانت القيادة الخارجية لمنظمة التحرير الفلسطينية مستعدة للتوصل إلى تسوية مقبولة، أي مقبولة من صانعي القرار في إسرائيل، أي الحكومة الحالية. وفي هذه المرحلة الأولى، فحصنا ثلاثة مبادئ: (أ) إمكان التوصل إلى تسوية بالتدريج في الطريق إلى تسوية مرحلية واسعة، تستمر إسرائيل خلالها في المحافظة على معظم حاجاتها الأساسية في المناطق. وكان واضحاً لي أنه إذا أردنا التوصل إلى تسوية، من ناحية الجوهر، فيجب أن تكون أفضل من اتفاق كامب ديفيد. (ب) إذا كان في الإمكان تطبيق فكرة "غزة أولاً"، التي طرحت أول مرة من جانب الفلسطينيين. (ج) إذا كان في الإمكان بناء شبكة من التعاون الواسع جداً في مختلف مجالات الحياة، وتحديداً في المجال الاقتصادي، المفترض أن يبدأ العمل به فوراً مع توقيع الاتفاق الأول. والفرضية الأساسية التي انطلقت منها هي أنه توجد منذ الآن شبكة من العلاقات الاقتصادية الوثيقة، قائمة بين إسرائيل والفلسطينيين في المناطق. ولذا فإن كل تسوية ستقوم بين الطرفين يجب أن تكون راسية على التعاون والتنمية الاقتصادية اللذين يعودان بالفائدة على الجانبين.
"إن هدفي هو تغيير طابع العلاقات بني إسرائيل والفلسطينيين، من العداء إلى التعاون، من الإرهاب إلى البناء. هناك عامل مهم في العلاقات بين الشعوب والدول، هو الاستقرار. والاستقرار يبنى على علاقات اقتصادية، يحرص طرفاها على الحفاظ عليها، أي ما يسمى بالإنكليزية Mutual Invested Interest [مصلحة مستثمرة متبادلة].
"وفي المرحلة الثانية من المحادثات، عندما انضم أشخاص آخرون إليها، أجريت عملية فحص أُخرى لمختلف المقترحات. وفي المرحلة الثالثة تمت المفاوضات المباشرة، بتوجيه وتعليمات مباشرة من رئيس الحكومة، يتسحاق رابين ووزير الخارجية، شمعون بيرس."
ورداً على سؤال عما أذاب الجليد بين الطرفين، قال هيرشفيلد: "هذا ما لا يمكن معرفته أبداً." وبحسب رأيه، فإن أربعة شروط ساعدت في نجاح المفاوضات: "الحفاظ على السرية المطلقة؛ أجواء وشروط الضيافة الممتازة التي حرص النرويجيون على توفيرها؛ علاقة التفاعل التي نشأت بين المشاركين في المفاوضات من كلا الجانبين؛ حقيقة كوننا جئنا، قبل أي شيء آخر، كي نوضح للفلسطينيين رأينا، وننقل إليهم إحساساً بالواقع الفعلي مع عدم خلق أوهام لديهم، أكثر من كوننا جئنا للبحث عن حل. فقد أوضحنا، على سبيل المثال، أن القدس لن تكون مشمولة في موضوع التسوية المرحلية، وأنهم لن يتمكنوا من السيطرة على المناطق كلها."
س – ماذا لديك لتوضحه للمواطن الإسرائيلي: هل ستقول إن الاتفاق إيجابي، وإنه "في مصلحة اليهود"؟
ج – "حتى بعد الانسحاب من غزة – وحسناً أننا تخلصنا من غزة – ستبقي إسرائيل بيدها كل موضوع الأمن هناك. فالاتفاق يتضمن إعلان مبادئ يعالج الطريق التي سنصل بموجبها إلى التسوية المرحلية. وهذا الإعلان يتضمن، بين أمور أُخرى، نصاً يقضي بأن المسؤولية عن موضوع الأمن العام ستبقى من اختصاص إسرائيل، وأن القدس هي خارج نطاق الحكم الذاتي في هذه المرحلة.
"إن مبدأ التقدم المتدرج يقضي، عملياً، بأنه في هذه المرحلة، لن يحدث أي شيء على الأرض، بل تبدأ مفاوضات لتحقيق الانسحاب من غزة. في المقابل ستؤلَّف لجان التعاون في المجالات الرئيسية. والانسحاب من غزة سيبدأ خلال أربعة شهور من توقيع اتفاق الانسحاب منها. وتقديري هو أن هذا الانسحاب سينتهي بعد سبعة شهور بموجب اتفاق مفصل أكثر، سيشارك في صوغه جهاز الأمن والجيش. ولاحقاً، ومع الانتهاء من الانسحاب من غزة، تبدأ المرحلة التي يتم فيها نقل الصلاحيات في مجالات معينة، مثل التعليم، والصحة، والرفاه الاجتماعي، والسياحة، والضرائب المباشرة، إلى الفلسطينيين. وفي غزة وأريحا، ستحافظ إسرائيل على تفوق أمني، وستواصل السيطرة المطلقة على المستوطنات اليهودية في جميع المناطق في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكذلك ستتولى المسؤولية المطلقة عن حركة الإسرائيليين في المناطق وأمنهم. أما مصدر الصلاحيات فسيبقى في يد إسرائيل.
"من هذه النقطة ستبدأ المفاوضات بشأن التسوية المرحلية القائمة على الحكم الذاتي. ومنذ لحظة الانسحاب، من غزة، يبدأ سريان مفعول التسوية المرحلية، المفترض أن تستمر خمسة أعوام. وفي بداية العام الثالث، تبدأ المفاوضات بشأن التسوية الدائمة. ومن ناحية قانونية، فإسرائيل ستحافظ علة مكانتها في المناطق، ومن ناحية أمنية، فالجيش الإسرائيلي سيقوم بدوره من دون أي إزعاج، ومن ناحية اقتصادية ستُبنى شبكة جديدة من العلاقات الاقتصادية."
المصدر: "هآرتس"، 3/9/1993.
* Fagbevegelsens Senter For Forskning.