1- لقاء في مطعم "تندوري"
طوال هذا الأسبوع كان الإحساس السائد هو أن من الأفضل "الدق على الخشب" من دون انقطاع. فللاتفاق مع الفلسطينيين يوجد نُسالة لا تتسم بالجدية، وربما كان ذلك بفعل المفاجأة، وربما كان السبب مظهر الأشخاص العاملين وطابعهم، وربما السرعة التي هبطت بها التطورات على الإدراك، وربما الآراء المسبقة عن العرب. ومن المؤكد أن الإمكان الكامن من سوء الفهم والأزمات هو سبب ذلك. وإذا كانت هذه الأمور كلها بمثابة شبهات في أُناس صالحين، فمن الأفضل مع ذلك تقبيل عضادات الأبواب (المِزوزوت)،1 ولو من قبيل درء الشر.
إن نظرة إلى ما وراء كواليس الاتفاق، وبقدر ما هي ممكنة في حدود الوقت والوضع، تعزز الإحساس بأن الإثارة التي تشاهدها العين هي نتاج قصة خيالية رخيصة جداً، يليق بها أن تجد مكاناً لها في الصحف الصفراء لا في الأضابير السميكة لوزارة الخارجية. ويتضح أن جماعة قليلة العدد من الأشخاص الذين يتسمون بالقليل من غرابة الأطوار والكثير من المثالية، وبنزر يسير من الدهاء والشجاعة وغير القليل من التمسك بالهدف، فعّلت مساراً جرف إلى داخله وزير الخارجية، ثم رئيس الحكومة، وقادت إلى ما يبدو تحولاً في وجه الشرق الأوسط بأسره – إلاّ إذا اتضح أنه هنا خطأ فظيع، حيث أن من ركّبوا الوصفة، مزجوا الغاز بالكبريت، وبالتالي فإن كل شيء سينفجر في اللحظة التي يوضع فيها على أرض الواقع. هذه هي قصة الغواصة الصفراء في وزارة الخارجية التي أبحرت تحت سطح الماء بهدوء في العام الأخير، ومدت جسراً بين القدس وتونس، في حين كان ميناؤها المحلي مدينة أوسلو.
وكما في روايات جون لاكارا، فقد بدأ كل شيء في مطعم "تندوري" في تل أبيب، في مطلع صيف سنة 1992، في لقاء بين مدير "معهد الأبحاث النرويجي"، "فافو" [FAFO]، كارييه راد – لارسن وبين د. يوسي بيلين، رئيس مجلس إدارة معهد الأبحاث الإسرائيلي أي. سي. اف. وكان بيلين قد أسس المعهد بعد أن وجد حزب العمل نفسه في صفوف المعارضة، عقب "المناورة العفنة"،2 من أجل الانشغال بما هو مفيد: دراسات استعداداً لعصر السلام الآتي إلى الشرق الأوسط. وبذلك واصل بيلين، بطريقته، خطاً أيديولوجياً تمسك به عشرين عاماً: الإيمان بإمكان وضع حد للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، على قاعدة الاعتراف المتبادل. وأقام بيلين الوسط الفكري "ماشوف" في إطار حزب العمل، وكان رأس الحربة في المجموعة التي نادت بالحوار المباشر مع منظمة التحرير الفلسطينية (في الأعوام الأخيرة انضم إليه أيضاً كل من الوزيرين الحاليين. عوزي برعام وحاييم رامون، مع أن وزير الصحة [المقصود رامون] أشرق نجمه إلى جانب رابين).
وقام لارسن بإطلاع بيلين على نتائج الدراسات التي أجراها في تلك الفترة معهده في المناطق المدارة. وتركزت تلك الدراسات على الأوضاع الحياتية للسكان الفلسطينيين وعلى الاتجاهات السائدة في أوساطهم. وكانت الاستخلاصات مفاجأة سارة: فمستوى الحياة كان أعلى من المتوقع، والميول عكست رغبة في تصفية النزاع. وادعى لارسن أنه وجد في إسرائيل أيضاً اتجاهاً مماثلاً. ونظراً إلى أن الانتخابات للكنيست [الثالث عشر] كانت على الأبواب، أعرب لارسن عن رأيه في أنه إذا حدث تغيير في السلطة في إسرائيل، فسيقود ذلك إلى خلق إمكان حقيقي للتخلص من الوضع الراهن في العلاقات الإسرائيلية – الفلسطينية. وبين أُمور أُخرى، أرسى تقديره على محادثات أجراها مع زعماء الفلسطينيين في المناطق ومع منظمة التحرير الفلسطيني في تونس.
واستمع بيلين إلى هذه الأمور ولم يعطها أهمية زائدة. ثم قام بإقامة صلة بين ضيفه، وصديقه، البروفسور يئير هيرشفيلد، أحد المستشرقين المحاضرين في جامعة حيفا. وبدا لارسن والبشرى التي يحملها غريبين في ذلك الوقت، على الرغم من كونهما مشبعين بالرغبة الخيرة والمثالية. كما أن البروفسور يئير هيرشفيلد كان في الثامنة والأربعين من العمر، ممتلىء الجسم، نموذجاً للبروفسور هشتت، غريب الأطوار قليلاً، صديقاً للمستشار برونوا كرايسكي، أسير فكرة السلام، وركيزة مهنية قديمة ليوسي بيلين.
2- حديث في "الأميركان كولوني"
غداة الانتخابات وانتصار حزب العمل فيها، حضر لارسن ثانية، ودعا بيلين إلى إجراء حديث مشترك مع فيصل الحسيني في فندق "أميركان كولوني" في شرقي القدس. وقال الحسيني إن الحكومة الجديدة مؤهلة للتقدم في عملية المصالحة الإسرائيلية – الفلسطينية، واقترح لارسن في هذا الشأن الخدمات الحميدة للحكومة النرويجية. ولم يكن هذا الوعد مجرد كلام، فزوجة لارسن تعمل مديرة لمكتب وزير الخارجية النرويجي، بينما تشغل زوجة وزير الخارجية منصب رئيس معهد "فافو". وفعلاً، فبعد وقت قصير من تأليف الحكومة الجديدة، وصل إلى إسرائيل نائب وزير الخارجية النرويجي، يان اغلاند، رجل مفعم بالحيوية ولم يتجاوز نهاية الثلاثينات من عمره، وبدأ يمارس بحماسة دور الوسيط بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. واقترح اغلاند على بيلين أن يجري من خلاله، اتصالات بالمنظمة، لكن بيلين رفض العرض، موضحاً أنه بسبب موقف الحكومة، فهو محظور عليه إجراء اتصالات مباشرة بالمنظمة. وكبديل له، اقترح بيلين صديقه هيرشفيلد، كونه ليس موظَّف دولة. ومع إلغاء القانون الذي يحظر اللقاءات مع منظمة التحرير الفلسطينية، أصبح الدور الذي يقوم هيرشفيلد به أكثر سهولة على الصعيد الرسمي. وضم هيرشفيلد وبيلين إلى هذه المهمة، رون فونداك، وهو صديق مشترك وأكاديمي ذو خلفية اسكندنافية (فأبوه هو الصحافي ناحوم فونداك، المحرر السابق لـ"دفار هشفواع" واليوم محرر صحيفة "بوليتيكان" في الدانمارك).
وبدأ هيرشفيلد وفونداك ينتقلان بين تل أبيب وأوسلو، حيث اجتمعا فيها مع أبو العلاء، المسؤول عن المال3 عند عرفات. وفي كانون الأول/ديسمبر 1992، حدث تسارع في المسار، فقد وضع هيرشفيلد وأبو العلاء، خطياً مسودة أولى لاتفاق يقوم على فكرة "غزة أولاً". أما بنية الوثيقة التي اقترحها هيرشفيلد فاحتفظ بها إلى حين الانتهاء من المباحثات: إعلان مبادئ وملاحق، ومذكرات. وقام هيرشفيلد وفونداك بإطلاع بيلين على آخر التطورات،، قام بيلين بدوره بإطلاع بيرس عليها.
منذ البداية أعطى وزير الخارجية أهمية قليلة لما كان يجري في النرويج: فهو لم ير في ذلك أكثر من تمرين ذهني لإيجاد حل للمعادلة المستحيلة التي يتركب النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني منها. لكن، وبالتدريج، بدأ يقلب النظر بجدية في الفرصة الكامنة في قناة الحوار هذه: في هذا السياق تمت عملية فحص مكانة أبو العلاء ودرسها في أوساط القيادة في تونس، وحظيت أوراق العمل التي تبادلها مع هيرشفيلد بمزيد من الاهتمام.
يجب علينا تفهم دوافع بيرس؛ فهذا الرجل هو عملياً مزيج فريد في نوعه من الحلم (خصومه يتهمونه بالهذيان) والقدرة على العمل. ومنذ فترة وجيزة احتفل بعيد ميلاده السبعين. وفي الأعوام الأخيرة بدأ يتملكه إحساس بأن المهمة الملقاة على عاتق أبناء جيله هي العمل من أجل ضمان وجود الدولة على مر الأعوام، وأن الطريق إلى ذلك هي المصالحة مع العالم العربي. وهذا الرجل، الأمين في أعماق نفسه وفي كل ما فعله في حياته، لم يرتدع عن القول في الغرف المغلقة، خلال العامين – الثلاثة أعوام الأخيرة إنه لن يتردد في التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية، وإن إقامة دولة فلسطينية ليس من الأمور التي تصيبه بالذعر. فانهيار الاتحاد السوفياتي وتوقع اقتراب اليوم الذي تمتلك الدول العربية فيه سلاحاً ذرياً، بلورا التزامه بذل الجهود من أجل الوصول بإسرائيل إلى مصالحة مع جيرانها. والصيغ التي تتم تداولها في أوسلو وصلت إليه على خلفية الإحساس بخيبة الأمل من مسار المفاوضات في واشنطن: كان يقرأ تقارير إلياكيم روبنشتاين عن مجرى المحادثات فيمتلىء إحباطاً وغضباً بسبب الوضع الذي وصلت المحادثات إليه. وهو لم يحبذ المقاربة الإسرائيلية التي سعت لإقامة حكم ذاتي على نحو يبقي الخيارات كلها مفتوحة بالنسبة إلى التسوية الدائمة. لقد أراد تغيير مجرى التاريخ في المنطقة وألا يبقي في يد القدر، على سبيل المثال، إمكان عودة الليكود إلى الحكم، مسألة تحديد العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين، ومسألة طابع العلاقة بينها وبين المناطق.
وفي آذار/مارس من العام الحالي، روى بيرس لرابين عما يجري في قناة الحوار الدائر في أوسلو. وكان رابين بحاجة إلى بعض الوقت للاقتناع بأن هناك فرصة كامنة في القناة النرويجية، ومنذ تلك اللحظة شكل هو وبيرس وبيلين، ما يشبه غرفة قيادة متقدمة، أشرفت على محادثات هيرشفيلد – أبو العلاء، وقامت بتوجيه التعليمات بشأنها. وقد نما استعداد رابين للسير في هذا المسار، على خلفية وضع المفاوضات الرسمية الدائرة في واشنطن. فقد اتضح له، على غرار بيرس، أن العملية السياسية الرسمية لم تؤد إلى أية نتائج. وتوصل رابين إلى استنتاج مفاده أن الفلسطينيين في المناطق غير مؤهلين للتوصل إلى اتفاق مع إسرائيل بشأن إجراء انتخابات لمجلس الحكم الذاتي، وأن المفاوضات بشأن صلاحيات المجلس معقدة تقريباً، على غرار المفاوضات المتوقعة بشأن التسوية الدائمة. فقد أدرك رابين أن المقترحات البديلة التي تم فحصها بموافقة الأميركيين (المعالجة الفورية لقضايا التسوية الدائمة، والإحلال الفوري لبعض مركبات الحكم الذاتي على المناطق) لم تؤد إلى أية نتائج. وهكذا فالفكرة التي كانت موضع بحث في أوسلو – "غزة وأريحا أولاً" – لاءمت المصلحة الإسرائيلية (التخلص من غزة) والفلسطينية (موطىء قدم في أريحا).
ولاقى التحول في مقاربة رابين مساندة من جانب وزراء حركة ميرتس في الحكومة. فعلى امتداد العام الأول من عمر الحكومة، ذاق يوسي ساريد وزملاؤه الأمرّين من وسائط الإعلام ومن مناطقهم الانتخابية لتسليمهم وقبولهم بالقرارات الإشكالية التي اتخذها رابين، ولاستيعابهم وتجاوزهم لكل افتراءات حركة شاس. وبعد أن حدث ما حدث، يجب الاعتراف بأنهم كانوا يدركون ما يفعلونه. فالخط الذي دعوا إليه انتصر، وتبناه رابين. ولم يكن ليوسي ساريد صلة مباشرة بالتطورات في أوسلو، لكن لقاءه مع نبيل شعث المستشار السياسي لياسر عرفات، في مصر كان في سياق الرسائل التي نقلتها إسرائيل إلى تونس. فقد أوضح ساريد لشعث (وقد فعل ذلك بعد حديث مسبق مع رابين تم فيه الاتفاق على المواقف التي يجب نقلها إلى عرفات) أنه من الأفضل لمنظمة التحرير الفلسطينية أن تزيل من جدول الأعمال مطالبها بالنسبة إلى القدس، والولاية الجغرافية للحكم الذاتي، والمستوطنات، والمساس بالسيطرة القاطعة لإسرائيل على مناطق الأمن التي سيتم تحديدها في المناطق. وأكد ساريد أنه يطرح موقف الحكومة، الذي تتماثل حركة ميرتس معه بصورة قاطعة، وأنه من الأفضل لعرفات أن يسارع إلى التوصل إلى اتفاق مع رابين لأنه يلتزم ما يقول.
وعن طريق أوسلو تم تبادل عدد كبير من الأوراق بين القدس وتونس. وقبل ثلاثة شهور طالبت منظمة التحرير الفلسطينية بأن ينضم إلى المفاوضات مصدر إسرائيلي رسمي. ودفع الاختيار على أوري سافير، المدير العام لوزارة الخارجية. وارتدى المسار طابعاً جديداً.
3- التوقيع في أوسلو
لم يكن أوري سافير، الذي يعتبر أحد الشباب اللامعين الذين رعاهم وزير الخارجية بيرس، ضليعاً ببواطن المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية وأسرارها: فخبرته كانت محصورة في العلاقات الإسرائيلية – الأميركية والعلاقات مع أوروبا. وعلى الرغم من ذلك، بدأ يمارس دوره بحيوية، لكن سرعان ما شعر بأنه بحاجة إلى الاستعانة بخبير في الشؤون القانونية، فطلب المساعدة من القدس، فاقترح يوسي بيلين الرئيس السابق لفرع الأحكام الدولي في النيابة العسكرية العامة، يوئيل زينغر الذي عمل إلى جانب اللواء (احتياط) أبراهام تامير في صوغ اتفاقات السلام مع مصر. وكان رابين يعرف زينغر جيداً، فكلفه المهمة من دون تردد. ومع دخول زينغر ساحة الاتصالات، برز تحول في المفاوضات، إذا أصبحت حثيثة وارتدت شكل مسودات – اتفاق ذات طابع قانوني.
وأصبحت مجموعة قليلة من الأشخاص – بيرس وبيلين وآفي غيل – رئيس مكتب بيرس - وشلومو غور – مساعد بيلن ويده اليمنى – مشغولة جداً. وكان هؤلاء يلتقون في الأماسي أو في عطلة نهاية الأسبوع، وأحياناً في مكاتبهم في تل أبيب، وأحياناً أُخرى في منزل بيرس، للتداول بشأن المسودات التي كان زينغر يحيلها عليهم، ويعيدونها إليه، مع ملاحظات بيرس ورابين، ويعالجون الجانب اللوجستي للعملية، أي ما يتعلق بطباعة المواد، وتأمين تذاكر السفر، والتنقلات، كل هذا من دون الاستعانة بالسكرتيرات أو الطابعات. وكان هيرشفيلد وفونداك يجلسان في المنزل ويقلبان بأصابعهما عشرات الصفحات. والمدهش أكثر هو أنه لم يكن هناك تسريبات. ومع اقتراب نهاية شهر آب/أغسطس اتضح أن الوثائق أصبحت جاهزة لتوقيعها. وتزامن التوقيت مع رحلة لبيرس إلى الدول الاسكندنافية، كانت مخططة سلفاً. وقرر وزير الخارجية أن يكون حاضراً ساعة التوقيع.
كانت الرحلة مضنية؛ إذ كان على وزير الخارجية التقيد بجدول الأعمال المخطط له، والتظاهر بأنه يقوم بزيارة سياسية عادية. وفي الليالي، كان يتلقى تقارير عن مسار اللمسات الأخيرة للوثيقة. وكان يجري اتصالات هاتفية برابين في القدس، ثم يصدر التعليمات إلى زينغر. وفي ليلة العشرين من شهر آب/أغسطس كانت في انتظاره تجربة مثيرة: ففي قصر الضيافة الحكومي، وهو عبارة عن دارة [فيلاّ] محاطة بحديقة في ضواحي أوسلو، اجتمع هو ومساعده آفي غيل، وأوري سافير، ويوئيل زينغر، ويئير هيرشفيلد. ومن الجانب الفلسطيني حضر هذا الاجتماع، أبو العلاء، وممثل آخر لمنظمة التحرير الفلسطينية. كما حضره وزير الخارجية النرويجي يوهان يورغان هولست، ومجموعة قليلة من مساعديه. وكان مجموع الحاضرين اثني عشر شخصاً. وكان هناك لحظات توتر ومساومة ومكالمات هاتفية متبادلة مع القدس وتونس، وتدخل وساطة من جانب المضيفين (وبعد إنجاز المهمة لهجت ألسنة الإسرائيليين بالمديح لحكمة النرويجيين).
بعد ذلك أُلقيت كلمات احتفالاً بالمناسبة: أوري سافير عن الجانب الإسرائيلي، وأبو العلاء عن الجانب الفلسطيني، ووزير الخارجية النرويجي. أما بيرس فامتنع من المشاركة النشيطة في الاحتفال، بسبب الدلالة السياسية الرمزية التي كانت لمشاركته في الحدث، إلى جانب مساعدي عرفات. وبعد إلقاء الكلمات وقع زينغر وسافير، باسم إسرائيل الوثائق، ووقع أبو العلاء ورفيقه باسم منظمة التحرير الفلسطينية. وطلب الجانبان من يئير هيرشفيلد إضافة توقيعه تعبيراً عن امتنان الجانبين للدور الذي قام به. ورُفِعت الأنخاب وأكل الجميع وشربوا مما قدمه المضيفون، وأقسم شاهد عيان أنه كان من بين الحاضرين من جفف دموعه. رواية رخيصة.
4- تفاهم خفي
يشكل الاتفاق نموذجاً طبيعياً للأشخاص الذين انتخبوه: بيلين الوديع الذي تحول إلى نمر، وبيرس المتآمر الذي لا يكل – في هذه الحال عن السعي لتحقيق السلام. ورابين الذي أخذ على عاتقه نقطة المسؤولية الإضافية (مصطلح من إنتاج مناحيم بيغن حين هنأ رابين على النجاح في عملية عنتيبي) حين أعطى مباركته للمسار. وفي مديح رابين يقال إنه في هذا الموضوع تصرف أيضاً باستقامة؛ فخلافاً لمعظم وزراء حزب العمل، الذين أوردوا في جلسة الحكومة التي تمت فيها المصادقة على الاتفاقات، اقتباسات من أقواهم، لإثبات كونهم من أنصار المفاوضات المباشرة مع منظمة التحرير الفلسطينية منذ وقت طويل. فقد أبرز رابين في تلك الجلسة تحفظاته وتردده. فقد ارتسم في نظر الوزراء، كمن سلم بالمسار، وكمن توصل إلى استنتاج أن ليس هناك بديل آخر.
وسأل رابين بيرس، بحضور الوزراء، عن مدى صدقية التفاهم الذي تحقق في أوسلو بشأن نشر بيان باسم منظمة التحرير الفلسطينية يعلن فيه وقف الأعمال الإرهابية. وكانت ملاحظات رئيس الحكومة في هذا الشأن ثاقبة: فقد طلب معرفة متى سيصدر البيان وأين. وتعهد بيرس بأن البيان لا بد من أنه سيصدر. ورأت الحكومة بأن بياناً كهذا حيوي من أجل توقيع الاتفاق بصورة نهائية (التوقيع في أوسلو كان بالأحرف الأولى فقط). فمن وجهة نظر الحكومة كانت هناك أهمية بالغة لعرض الاتفاق على الجمهور الإسرائيلي في سياق قرار علني من جانب منظمة التحرير الفلسطينية بالتخلي عن الإرهاب. ومن وجهة نظر رابين، كان هذا شرطاً لا يمكن التنازل عنه.
[.......]
إن اتفاق أوسلو ليس مجرد عملية التفاف نفذتها مجموعة من المتطوعين من أجل مساعدة المتفاوضين في واشنطن في التوصل إلى صيغة متفق عليها لإعلان المبادئ؛ فالاتفاق يعكس تحولاً في المفهوم الإسرائيلي بالنسبة إلى طابع التسوية في المناطق، وبالنسبة إلى الطرف الآخر فيها. فالاتفاق أدخل منظمة التحرير الفلسطينية عملية السلام من الباب الرئيسي (في لقائه مع الوزير كريستوفر، أدرك بيرس أن الاعتراف الأميركي بمنظمة التحرير الفلسطينية ليس أمراً مفروغاً منه، وهو مرتبط بإجراءات قانونية معينة). وهي، أي المنظمة، لا يمكن أن تطرح هكذا على طاولة المفاوضات في واشنطن. لقد تحولت منظمة التحرير الفلسطينية رسمياً إلى طرف محاور في نظر الإسرائيليين، وعليها أن تزود إسرائيل بالبضاعة التي تعهدت بها، والتي أرفقت كشرط او كتفاهم متفق عليه، إلى صيغة الوثائق في أوسلو. وهكذا فالاختبار يكمن في إجراء رسمي وعلني من جانب مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، أو قيادتها، تتنصل فيه منذ الآن فصاعداً من الإرهاب. ويلغي البنود المعادية لإسرائيل في الميثاق الوطني الفلسطيني.
وبالنسبة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، فمن المجدي لها أن تدفع هذا الثمن، لأن الاتفاق يقود، وهذا شبه مؤكد، إلى إقامة دولة فلسطينية، ستتسلم إدارتها. والإسرائيليون والفلسطينيون الذين كانوا ضالعين في المفاوضات السرية، يدركون ذلك. فهناك تفاهم خفي، على أنه من الممكن جداً ألا يقام حكم ذاتي في الضفة والقطاع، على الرغم من أن اتفاق أوسلو يقضي ذلك. وبدلاً من ذلك تبدأ منظمة التحرير الفلسطينية، وعلى الفور، بإحكام سيطرتها على قطاع غزة وأريحا (كما يقضي الاتفاق)، عندما يأخذ على عاتقها جميع صلاحيات الحكم العسكري والإدارة المدنية (وبذلك تعفي المنظمة نفسها من ضرورة منافسة حركة حماس في الانتخابات)، باستثناء الشؤون الخارجية والأمنية. وكما يقضي الاتفاق، فبعد أربعة شهور – في كانون الثاني/يناير سنة 1994 – ستبدأ "إحالة مسبقة" للحكم الذاتي على باقي المناطق في الضفة، وهذا يعني أن جزءاً من صلاحيات الحكم العسكري والإدارة المدنية سيحول إلى الفلسطينيين (الذين ستعينهم منظمة التحرير الفلسطينية)، وأن جزءاً آخر سيبقى في أيدي السلطة الإسرائيلية (خلافاً للوضع في القطاع وأريحا حيث جميع صلاحيات الإدارة في الشؤون الداخلية ستكون في أيدي الفلسطينيين).
ومع أن الاتفاق يقضي إجراء انتخابات لمجلس الحكم الذاتي في حزيران/ يونيو4 1994، فإن هناك احتمالات كبيرة بألاّ تتكلل المفاوضات في هذا الشأن بالنجاح (أكان ذلك جراء الجدل بشأن صلاحيات المجلس أم لأنه من المريح أكثر لمنظمة التحرير الفلسطينية عدم إجراء انتخابات). وبدلاً من ذلك، من المتوقع أن تسعى منظمة التحرير الفلسطينية لإحالة الصلاحيات التي مُنحت لها في القطاع وأريحا على باقي مناطق الضفة. وليس مستبعداً أن تتوصل إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى استنتاج أن من الأفضل الانتقال إلى البحث في موضوع التسوية الدائمة (تلقائياً، ينبغي أن تبدأ في هذا الشأن في كانون الثاني/ يناير 1996). ومن المتوقع أن تتعثر هذه المفاوضات بسبب الخلاف بشأن مكانة القدس. والنتيجة المتوقعة: إن صلاحيات منظمة التحرير الفلسطينية ومكانتها المحددة في اتفاق أوسلو بالنسبة إلى غزة وأريحا ستقوض بالتدريج سيطرة الحكم العسكرية الإسرائيلي على باقي المناطق في الضفة. وإسرائيل ستوافق على ذلك، شرط ألاّ تطبق السيطرة الفلسطينية على المستوطنات الإسرائيلية، ولا على مناطق الأمن ولا على شرقي القدس. وفي الأعوام الخمسة التي ستلي توقيع اتفاق أوسلو، سيتحول الاتفاق المتعلق بالتسوية المرحلية، والذي يحدد مكانة منظمة التحرير الفلسطينية في غزة وأريحا (جميع الصلاحيات الإدارية في المجالات الداخلية، بما فيها الشرطة)، إلى وضع دائم سيطبق على كامل الضفة والقطاع. أما الجدل – بشأن ما إذا كان هذا الكيان هو دولة فلسطينية أم لا – فسيتحول إلى مجرد جدل لفظي.
والواقع الذي سيتطور عقب هذا المسار هو فقط الذي سيحسم ما إذا كانت الجيوب الإسرائيلية في المناطق ستكون مستعدة للبقاء في ظل مثل هذه الشروط، أو أن سكانها سيفضلون العودة إلى تخوم الخط الأخضر. أما القدس، فستبقى مشكلة لا حل لها.
وفوق كل هذا، ومن خلال تزامن كامل، تحوم قضية الوزير آرييه درعي. وحركة شاس تتصرف كمن لديه الاستعداد للتضحية بالسلام أيضاً، من أجل إنقاذ زعيمها من المحاكمة. فماذا أرخص من ذلك؟
المصدر: "هآرتس"، 3/9/1993.
المصادر:
1 رق صغير يكتب عليه إصحاحان من سفر التثنية، الذي هو جوهر ديانة التوحيد اليهودية، ويغلّف ويثبت في عضادة دار كل يهودي. (المترجم)
2 هذا وصف أطلقه رابين في حينه على محاولة شمعون بيرس تأليف حكومة برئاسته، بالتحالف مع الأحزاب الدينية. (المترجم)
3 رئيس الدائرة الاقتصادية في م.ت.ف. (المحرر)
4 الصحيح: تموز/يوليو. (المحرر)