إن الأمر الأكثر بروزاً في جميع مسارات الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي سياق الخطوات نحو ترتيبات الحكم الذاتي مع الفلسطينيين، وبالأساس في ردة فعل المجتمع الإسرائيلي – هو النظرة المقدسة إلى القوة وإلى الحديث الفظ المقدِّس لها، اللذين أرسيت هذه التطورات عليهما ونبعت منهما. ظاهرياً، ثمة تناقض في ذلك: "صنع السلام" من خلال نظرة تقدس القوة. لكن كما يبدو، فهذا هو الشكل الأكثر ملاءمة للمجتمع الإسرائيلي لـ"صنع السلام". فداخل هذه النظرة المقدِّسة للقوة يتضافر أيضاً الإدراك مع القيود المفروضة على استخدامها، والتي تشكل الوجه الآخر للعملة نفسها وللحديث نفسه. فمن ينظر إلى العالم من خلال منظار التصويب في البندقية، لكنه في الوقت ذاته، فطن بما فيه الكفاية وشخصيته غير منغلقة تماماً، سيكون أكثر ميلاً إلى فهم حدود اللجوء إلى الاستخدام العنيف للقوة.
فخلافاً لما هو مألوف، فالانقسام الأيديولوجي ذو الدلالة في المجتمع الإسرائيلي، إلى جانب الانقسام بين المتدينين والعلمانيين، غير قائمين بين يسار ويمين، بل بين ثقافة الإحساس بالضعف، وثقافة الإحساس بالقوة، أو بصورة أدق، القوة العسكرية المقاتلة. وهذه المفاهيم، ويستوي في ذلك مفهوما الإحساس بالضعف وبالقوة، موجودة بمقادير مختلفة، أكان ذلك في أوساط اليسار أم في أوساط اليمين. والفرضية الأساسية لثقافة الإحساس بالضعف، هي أن قدرة إسرائيل السياسية والاقتصادية والعسكرية، ليست سوى عامل هامشي في مكونات مكانتها الجيو – سياسية العالمية، إذ إنها تبقى بمثابة أقلية في وسط "بحر" من العداء في الشرق الأوسط وفي عالم "الأغيار" بأسره. فوجود إسرائيل معرض دائماً للخطر، وإمكان إلحاق الأذى بها هو معطى دائم. وفعلاً، من الممكن تحسين هذه القدرة، ومن الممكن أيضاً، وبالأساس تقويضها بسهولة، من خلال الاحتفاظ بمناطق إقليمية "استراتيجية" أو التخلي عنها، على سبيل المثال، لكن هذه القدرة تبقى إلى الأبد قدرة الضعيف.
في المقابل، فإن ثقافة الإحساس بالقوة ترى في إسرائيل وفي قدرتها العسكرية ثروة دائمة ووسيلة مركزية لإدارة السياسة الخارجية. وهذه مقاربة أمنية قتالية تعود براءة اختراعها إلى حزب أحدوت هعفوداه – لكن اليمين يتبناها أحياناً بحكم الضعف الذي لديه إزاء إغواء اللجوء إلى القوة، مع أنه، عموماً، لا يؤمن بها. وهكذا، وعلى سبيل المثال، فإن أريئيل شارون، الذي ينتمي كلياً إلى مدرسة اللجوء إلى القوة، نراه ينجح سنة 1982 في جر مناحم بيغن إلى المغامرة في لبنان لـ"إقامة نظام جديد"، في الشرق الأوسط. أما بيغن، فلم يكن مطلقاً من أتباع هذه المدرسة. وهاتان المدرستان تتمازجان معاً، مشكلتين، معضلة إسرائيلية دائمة، تتأرجح بين أحاسيس الضعف والذل والرعب (الناجمة، على سبيل المثال، عن انعدام القدرة على التمييز بين الأمن الجاري والأمن الاستراتيجي)، وبين الثقة القاطعة بالقدرة الكلية للجيش الإسرائيلي، إذا منحه السياسيون مجال المناورة المطلوب فقط.
إن يتسحاق رابين ليس بحاجة كي يبني لنفسه صورة "المقدِّس للقوة". فهو نموذج فعلي وحقيقي لذلك (وهذه "صدقيته" التي اشتهر بها). ونتاج الثقافة التي تقدس القوة وكاهنها الأكبر. وطابعه كمن يقدس القوة كان الثروة التي مكنته من الفوز برئاسة لائحة "العمل: للانتخابات. ولفوز حزبه في الانتخابات الأخيرة. وكان ذلك في الفترة 1990 – 1992، عندما اهتز الأمن الداخلي بشدة. وزحف العصيان الفلسطيني إلى "مناطق البيت" اليهودي. وزعماء الليكود الذين أكثروا آنذاك من استخدام الألفاظ البلاغية المقدسة للقوة وللفعل القتالي، لكنهم عملياً لم يتمكنوا من تحسين وضع الأمن الداخلي، فانكشفت عورتهم، تحديداً في نظر ذلك الجزء من ناخبيهم الذي يقدس القوة. ورابين عايش هذا الوضع بحكم كونه وزيراً للدفاع في حكومة الوحدة الوطنية، عندما حاول عبثاً قمع الانتفاضة من خلال تكسير الأيدي والأرجل. وعندما سنحت له فرصة ثانية، عاد، وفي هذه المرة بنجاح ملحوظ – إلى ردات الفعل التي تلجأ إلى استخدام القوة، لكن بأساليب أكثر تطوراً وتعقيداً: فقد قام بطرد المئات، وفرض الحصار. لكن كان من الواضح أن خطوات كهذه لن تقضي على العصيان الفلسطيني، مع أنها منحت رابين نقاطاً كثيرة في مصلحته في الحلبة الداخلية، وبالذات في أوساط أنصار مقدسي المقاربة التي تعتمد على القوة، والذين تقوم تجمعاتهم الكبيرة في أوساط اليمين.
لكن أشد المؤمنين بالجيش الإسرائيلي وقوته، وهؤلاء بالذات، لم يعودوا قادرين على تجاهل التأكل المتواصل في هيبة الجيش، عندما تحول إلى قوة بوليسية هائلة في المناطق المحتلة. وقد أصبحت طبيعة الانتفاضة ودروسها مفهومة جيداً في أوساط رجال الجيش، وبالذات أنصار المقاربة التي تعتمد على القوة، والذين لم يكونوا أسرى أيديولوجية "أرض – إسرائيل"، أو المقاربة الدينية الغيبية. والدرسان اللذان استُخلصا من الانتفاضة كانا واضحين تلقائياً:
* ليس هناك جيش في العالم يمكنه، من دون اللجوء إلى أساليب القتل الجماعي، القضاء على عصيان مدني يقوم به سكان مدنيون لا يعترفون بسلطته.
* إن قوة عظيمة كقوة الجيش الإسرائيلي يمكن أن تتأكل عندما تكون أعداد كبيرة من رجاله منهمكة معظم الوقت في مطاردة "مطلوبين" أو مجرد صبية يرشقون الحجارة.
* وهنا برز الخيار بين الحفاظ على القوة الكلاسيكية للجيش، كقوة مقاتلة على مساحات شاسعة بواسطة أرتال المدرعات السريعة وسلاح الجو الماحق، وبين الاحتفاظ بمناطق (ذات قيمة أمنية هامشية ومشكوك فيها) لأسباب أيديولوجية، وفي الأساس دينية وربما أيضاً اقتصادية.
وأُضيف إلى ذلك (وبمحض المصادفة من هذه الناحية) الانقسام الداخلي في أوساط المجتمع الفلسطيني الممزق بين الأصولية الإسلامية التي تراكم زخمها، وبين منظمة التحرير الفلسطينية التي هي حقاً القوة المهيمنة، لكنها بعد حرب الخليج بدأت تخسر قوتها بوتيرة مثيرة. هكذا، ولدت خطة "غزة أولاً"، التي تقاطعت فيها المصالح "الأمنية" الإسرائيلية مع مصالح منظمة التحرير الفلسطينية، التي لا تني تضعف. والدافع الإسرائيلي الأساسي يتماثل مع مصلحة الدول الاستعمارية التي انتهجت أسلوب "الحكم غير المباشر" – فالأعمال القذرة تركت لأبناء البلد أنفسهم (وبالأساس "فتح" ضد "حماس") خدمة للحاكم الغريب، وفي مقابل "حكم ذاتي محدود" وتشريفات ومظهر حكم ذاتي. لكن اتضح بسرعة أن الثمن سيكون أعلى قليلاً، وأن المرشح للحكم الذاتي يطالب بالاعتراف بالمنظمة (على وجه العموم، فالرموز لا تعتبر عملة صعبة في الثقافة التي تقدس القوة) وبشيء إقليمي زهيد في أريحا، مضافاً إليهما خطة أكبر لتطبيق النموذج على المناطق المحتلة كلها تقريباً.
وبالنسبة إلى نمط التفكير في الثقافة التي تقدس القوة، كان في توسيع الخطة تحسن في نقطة الانطلاق المتواضعة. وبحق إلى حد كبير، طرح الاعتبار بأنه في وضع حيث الجيش الإسرائيلي قوي إلى هذا الحد، فما هو الضرر الذي يمكن أن يتأتى من "حكم ذاتي"، وحتى من دويلة فلسطينية مستقلة، مقطوعة الأواصر إقليمياً، ومحشورة كـ"السندويش"، بين الدولة العسكرية الإسرائيلية والمملكة [الأردنية] الهاشمية، التي تقضي مصلحتها في البقاء عدم قيام كيان فلسطيني يملك أية قوة مهما تكن، والجنوب إفريقيون اخترعوا هذه الصيغة قبلنا – محميات في صيغة البانتوستانات. ولا يعني ذلك أن الأمر بقي يعمل وأنه صالح على امتداد الوقت، بل كان من الممكن هنا إدخال بعض التحسينات. وبهذا الشكل برز عجز المعارضة اليمينية غير المؤهلة للتغلب على حوار يعظم القوة من هذا النوع. فالمسارات كلها تمت من خلال موقف قوة ووفقاً لأفضل أساليب الحوار الذي توجهه الاعتبارات الأمنية.
وحقاً، فقد أصبح واضحاً للجميع أنه، على المدى الطويل، سيتحول "الحكم الذاتي، إلى دويلة فلسطينية ستكون وفقاً للمشروع الأمني مسيطراً عليها من قبل الأردن بواسطة الكونفيدرالية. وواضح أن أجزاء ملحوظة من المستوطنات ستتلاشى من دون تفكيكها بالقوة من خلال الافتراض أن معظم اليهود في منطقة الحكم الذاتي، وبعد ذلك في الجزء الفلسطيني من الكونفيدرالية، لن يحبذ العيش في ظل سيادة غير إسرائيلية. إما مساحة الأراضي التي ستبقى خاضعة للسلطة الإسرائيلية بعد ذلك، فستكون موضوع مساومة إكراهية وبراغماتية مع الفلسطينيين، من خلال الثقة بأن ما تمتلكه إسرائيل من قوة سيكون كافياً من أجل تحسين حدود الدولة بصورة ملحوظة (شرقي القدس ومنطقة القدس الكبرى، وغوش عتسيون وربما أيضاً جزء من غور الأردن). وهكذا سيكون منفذو العنف، أيضاً أبطال السلام، أكان ذلك إزاء الداخل أم الخارج، مضافاً إلى ذلك عوائد اقتصادية وسياسية عظيمة للدولة والحزب.
لم تكن هذه الخطة مدروسة أو محسوبة سلفاً، لكنها تقلبت بسرعة فارتدت في الأدمغة التحليلية والأمنية شكلاً وخلعت آخر. وفي مقابل هذه الخطة فإن "الخطة الكبرى" التي طرحها أريئيل شارون تبقى أمراً لا أهمية له.
وإذا تحررنا من النشوة من ناحية ومن الجزع والإحساس بالغدر والعجز من ناحية أُخرى، وتحولنا إلى واقعيين، فإننا سنضطر إلى الاعتراف بأن لا أحد حتى الآن يعرف ما ستكون عليه النتائج بعيدة المدى للوضع المائع جداً، الذي أدت المسارات إليه في الشهرين الأخيرين. ومن الممكن أنه من خلال مواقع القوة ولعبة الاعتماد على القوة التي تمارسها إسرائيل من ناحية، والضعف النسبي للفلسطينيين ومنظمة التحرير الفلسطينية من ناحية أُخرى، سوف تنمو فعلاً دولة فلسطينية مستقلة، وعقب ذلك ستنشأ الأوضاع لمصالحة تاريخية بين اليهود والعرب، ويُقبل "الكيان الصهيوني" كجزء من المنطقة. وهذا سيكون الانتصار الأكبر للحركة الصهيونية كحركة مهاجرين – مستوطنين. لكن "ميوعة" الوضع هذه، كما لم تكن في أي وقت في العلاقات بين العرب واليهود، قد تقود أيضاً إلى نتائج مغايرة، على سبيل المثال، إذا لعب "اللاعبون" الآخرون (نفترض الأردن، الذي يتخوف من السيطرة الفلسطينية) وفقاً لسيناريوهات مغايرة، أو إذا لم ينجح عرفات في "الحفاظ على النظام" في مناطقه، أو إذا حققت المقاربة الأمنية الإسرائيلية القائمة "على المساومة من خلال موقف قوة"، نجاحاً أكثر من اللازم وفرضت إقامة كيان فلسطيني وفقاً لصيغة البانتوستان لأمد طويل. وفي هذه الحال سنجد أنفسنا أننا لا نزال نجلس فوق برميل بارود لحرب شاملة في المنطقة، وقبل ذلك ستكون هناك حروب مدنية في أوساط الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء. وكل هذا [ممكن] على الرغم من ادعاء الأدمغة التحليلية بأنه مع اختفاء "امبراطورية الشر" لم يعد للأعداء راع يعتمدون عليه، ولذا فمن المستبعد أن يخرجوا إلى حرب شاملة. ولكن هل سيكون لإسرائيل عندها راع.
المصدر: "هآرتس"، 8/10/1993.