حتى لو أردتم ـ فهذه أسطورة
Keywords: 
إعلان المبادىء بشأن ترتيبات الحكم الذاتي المؤقت 1993
منظمة التحرير الفلسطينية
إسرائيل
Full text: 

إزاء إمكان التحول في نسج العلاقات بيننا وبين العرب عن طريق تسوية سلمية، جدير بنا أن نسأل أنفسنا عن الخلل في فكرنا القومي حتى كنا بحاجة إلى هذا التحول.

سوء فهم المعارضة العربية: لو كنّا أردنا إقامة دولة على أراضي النرويج أو ألمانيا أو الولايات المتحدة الأميركية، لقاتَلَنا سكانها بقوة وأفشلوا هذا الإمكان، لكن هذا لم يحدث هنا [أي في فلسطين] جراء ضعف المقاومة العربية الفلسطينية، ذلك الضعف الذي نبع من تخلف المجتمع الفلسطيني وعدم قدرة البلاد العربية على بلورة جبهة واحدة في ما بينها. لكن مجرد المعارضة لوجودنا كانت، وما زالت، ردة فعل متوقعة وطبيعية. إننا نستطيع أن ننتقد أسلوبهم في الحرب، لكن ليس إصرارهم على محاربتنا. ولو كنا أدركنا هذا المعطى البسيط، لكان المناخ السياسي السائد عندنا قد تغير. فمن أجل تحسين فعالية صراعنا مع خصومنا، كان يتوجب علينا فهم دوافعهم.

لقد اعتبر العرب إقامة دولة إسرائيل بمثابة فضيحة – ربما هي الكبرى في التاريخ . فنحن لم نقُم هنا مستوطنة موقتة، بل وطناً، وبذلك، كما يزعمون، ألحقنا ظلماً بسكان البلد، ولد يجد العرب حلاً آخر سوى إعادة الوضع إلى ما كان عليه، من خلال القضاء على إسرائيل. لكن هدف القضاء [على إسرائيل] كان أيضاً مصدر ضائقتهم، لأنه تعارض مع أسس البنية السياسية العالمية: احترام وحدة أراضي الدولة القائمة. ونشأ لديهم ضغط داخلي لتغيير الموقف الداعي إلى القضاء [على إسرائيل]، وانعكس ذلك بإيضاح احتكامهم إلى "الشرعية الدولية"، التي يكثر المتحدثون العرب من الإشارة إليها.

وأنا أفترض أنه كانت هناك عوامل أُخرى: الإحساس بالذنب بسبب ضعف صراعهم، ونجاحنا في ترسيخ أقدام الدولة وتعزيزها. والأوضاع التاريخية لحرب الأيام الستة، التي قادت الدول العربية إما إلى الإقرار والاعتراف بأنه من دون التخلي عن هدف القضاء [على إسرائيل] فإنها لن تتمكن من استعادة الأراضي التي خسرتها في حرب سنة 1967. لذلك، فبينما أقر وسلم معظمهم بنتائج حرب سنة 1948، فإنهم يرفضون التسليم بنتائج حرب سنة 1967، وليس في يدنا الوسائل لحملهم على ذلك.

الفخ المشترك: لقد توصلت إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى الاتفاق غير سعيدتين بذلك، بل من خلال الإدراك أن هذه ربما هي الفرصة الأخيرة للتسوية، قبل أن يتحول النزاع إلى خصام على الوجود لا هوادة فيه، وباهظ الثمن. والقول إنه لا داعي إلى الإسراع عديم المسؤولية. فقد خضي الطرفان أنهما إذا تأخرا في التوصل إلى تسوية، فإن حركة حماس ستسيطر على الفلسطينيين، وكنتيجة لذلك، ستتعزز مكانة حلفائها في الدول العربية، ويتلاشى إمكان التوصل إلى تسوية، ويتخذ هذا الصراع الدموي منحى نووياً يشمل جزءاً كبيراً من الدول العربية. وهذا ما تسعى حركة حماس له، وتستعد لبذل كل شيء من أجل هذا الهدف. ويعتقد المتطرفون اليهود والعرب أن النزاع هو حرب استنزاف سيضطر الخصم في نهايتها إلى تقديم تنازلات. وكلاهما مخطىء؛ فتسوية النزاع لن تقود الأطراف إلى جنة عدن، لكن استمرار النزاع سيقودهم إلى جهنّم. وهكذا، فبسبب الخشية من الدمار والخراب، نشأ أول مرة ضغط متبادل من أجل التوصل إلى تسوية. فالطرفان أصبحا أسرى ضائقتهما المشتركة.

من طبيعة البشر أن تراودهم الآمال، في أعماق أنفسهم، من أنه ستسنح لهم لاحقاً فرص لتحسين شروط التسوية. لكن لو آمن المتطرفون الفلسطينيون بإمكان تحقيق نظرية المراحل، لكانوا الأكثر حماسة للتوصل إلى اتفاق ليستخدموه في أسرع وقت ركيزة انطلاق للتحرش بإسرائيل واستئناف الصراع ضدها. وها نحن نرى أن المتطرفين الفلسطينيين تحديداً، يعارضون أية تسوية، بدعوى أن الضمانات التي ستعطى لتلك التسوية من جانب الأسرة الدولية، إضافة إلى زخم المشاريع المشتركة الإسرائيلية – العربية، ستساعد في تحصين التسوية التي ستصبح حقيقة راسخة.

عمّ سيتنازل العرب، وعمّ لن يتنازلوا: لقد تم رسم الحدود في العالم بواسطة صراعات لم تخل من استخدام القوة. والمشكلة ليست في القيود المفروضة على استخدام القوة، بمعناها المجرد، بل من خلال المقارنة بقوة العدو في إطار ضغوط الواقع الدولي في زمن معطى. فانتصاراتنا العسكرية لم تمنحنا القدرة على إملاء الشروط على المهزومين. ولهذا السبب كانت مجرد انتصارات تقنية. وهذا لا يعود فقط إلى التدخل الخارجي، بل أساساً إلى ضغوط الواقع التي تجسدت في قدرة العرب على مواصلة القتال، وعدم قدرتنا على احتلال بلادهم. وكما شرح كلاوزفيتز، فليس نابليون القائد العسكري هو الذي أخطأ عندما تحرك سنة 1812، صوب موسكو، بل نابليون القائد السياسي، الذي علل نفسه بإمكان هزيمة روسيا في وقت لم يكن هدفه قابلاً للإنجاز، ودافيد – بن غوريون أدرك أن قيداً مماثلاً ينطبق علينا، عندما حدد، كمبدأ، عدم قدرتنا على حل مشكلتنا بواسطة الحرب، أي بواسطة القوة.

وبسبب هذه الشروط للواقع التاريخي، فإن مصر ما كانت، في أية حال من الأحوال، لتقبل فقدانها شبه جزيرة سيناء أو جزء منها، والحكم ذاته ينطبق على سوريا والجولان، وبما لا يقاس على الفلسطينيين. فمن المؤكد أنهم لن يوافقوا، بأية شروط، على فقدان القليل مما تبقى لهم من أرض وطنهم، بعد أن تنازلوا عن المطالبة بكامل ترابهم الوطني، ورضوا بـ25% منه (يهودا والسامرة وقطاع غزة). ويشتق من الادعاء أن الأردن هو وطن الفلسطينيين الاستنتاج أن الفلسطينيين في الضفة والقطاع يعيشون في مناطق هي بمثابة منفى بالنسبة إليهم. وهذا ما سيرفضه الفلسطينيون، وليكن ما يكون. لأن ما هو مطروح امتحاناً في هذا النزاع، هو من ناحيتهم، وجودهم كشعب. وعلى الرغم من ضعف الفلسطينيين، فهم يمتلكون المفتاح لتسوية النزاع الإسرائيلي – العربي. وفي استطاعة إسرائيل أن تساومهم على شروط الاستقلال الفلسطيني، وعلى حدوده وقيوده: والدول العربية قد تكون عاملاً مساعداً لنا، فتضغط عليهم كي يستجيبوا لبعض مطالبنا، لكن ليس بالنسبة إلى مبدأ استقلالهم بالذات. والهدف من إقامة المستوطنات كان القضاء على إمكان الاستقلال. وما أخشاه هو أنه سيتضح لاحقاً إلى أي حد كان هذا الحلم عبثياً.

الواقع الداخلي والواقع الخارجي: من ناحية إسرائيل، فإن إنجاز التسوية مرتبط ببدء إدراكنا إلى أي مدى كانت السياسة الإسرائيلية مخطئة، وما هو مصدر الخطأ؟ يبدو لي أنه نبع من تشوه في فهو العلاقة بين الواقع الداخلي والواقع الخارجي، جراء الميل السائد في صفوفنا، إلى الإيمان بأن إنجاز أهدافنا مرتبط بإدراكنا ما نريد وبحرصنا على وحدة الصف. ومثال بارز لذلك هو المفهوم الذي لا اعتراض عليه بأن الخلل في حرب لبنان نجم عن أسباب داخلية – انعدام الإجماع. وهذا يعني أنه لو كان هناك إجماع في صفوف الشعب، لكانت نتائج الحرب مختلفة. لكن الحرب بدأت وهي تحظى بدعم شبه عام. وبانبهار من النتائج في مرحلتها الأولى. ونقطة الضعف فيها كانت الفجوة القائمة بين هدفها الرئيسي، أي العمل على تغيير النسيج السياسي في الشرق الأوسط، وبين العمل الميداني – القتالي. فمن أجل تحقيق خطة كهذه، كانت هناك ضرورة لا لاحتلال لبنان كله فقط، بل الشرق الأوسط كله تقريباً.

صحيح أن إرادة قومية قوية، إلى جانب التفاني والوحدة الداخلية، تعزز وتضاعف القدرة على ترجمة القوة الداخلية واستنفادها، لكن هذه العوامل في حد ذاتها لا تكفي ضمان النجاح. وعلى ما يبدو لي فاليابان وألمانيا تميزتا بوحدة صف داخلية، وبالتفاني والتصميم القوي على الانتصار – أكثر من الولايات المتحدة الأميركية، وعلى الرغم من ذلك، فقد لحقت بهما هزيمة نكراء. كذلك فإن خراب الهيكل الثاني، لم يكن سببه "الكره المجاني"، بل ضعفنا في مواجهة الجيش الروماني. وحتى لو أصبحنا مجتمعاً منتظماً مثيراً للإعجاب، وحتى لو أصبح نظامنا السياسي كاملاً من الوجوه كافة – فالسياسة الداخلية، ومهما كانت راقية، لا تكفي. فأكثر من أي عامل آخر، فإن ما سيحسم مستقبل مصيرنا هو سياستنا في الشؤون الخارجية.

إن الميل إلى إضفاء عوامل ذاتية على أسباب النجاح عميق ومزروع في ثقافتنا وفي نظرتنا إلى أنفسنا. فالقول المحبب لدينا "حتى لو أردتم – فهذه ليست أسطورة"، هو نقطة الالتقاء بين الأمور السامية والغباء. فجزء كبير من الإرادات لا يتحقق. وعن الإنسان قال حكماؤنا طيب الله ذكراهم "لا يخرج إنسان من هذا العالم وقد حقق نصف ما اشتهاه." "لقد عمل حكماؤنا على إعدادنا بالوجه المتعلق بكيفية تصرف دولة يهودية مع جيرانها ومع العالم. لأنهم خصصوا هذه المهمة للمسيح المنتظر. وكل تراثنا الثقافي خالٍ من الحكمة في المجال الدولي. وهذه فجوة يتوجب على قادتنا أن يملأوها، كمهمة قومية من الدرجة الأولى.

 

المصدر: "يديعوت أحرونوت"، 15/10/1993.

 

Author biography: 

يهوشفاط هركابي: خبير بالقضايا الاستراتيجية والعلاقات العربية – الإسرائيلية.