لا يمكن لأحد إطلاقاً أن يتصور أن رابين وبيرس لم يدركا دلالات الوثائق التي وقّعاها. فهذه الوثائق واضحة كالشمس في يوم خال من الغيوم: إنها تتيح للشعب الفلسطيني الفرصة لتحقيق حقه في تقرير المصير في ختام خمسة أعوام من بدء سريان مفعول الاتفاقات الموقعة. وفترة الحكم الذاتي، وفقاً لما هو وارد في تلك الاتفاقات، الغاية منها أن تقود إلى تحقيق الحقوق الشرعية والسياسية للشعب الفلسطيني. وأي سياسي يزعم أن هناك شكّاً في دلالة هذه الكلمات، بعد 75 عاماً على إعلان الرئيس ويلسون بشأن حق تقرير المصير لكل الشعوب. سيُعتبر سياسياً غير محترم. وتجدر الإشارة إلى أنه منذ توقيع الوثائق تتصرف حكومة إسرائيل تماماً وفقاً لما يمكن توقعه ممن هو عازم على الوفاء بالتزاماته بكامل المسؤولية. فالجدول الزمني المعلن والترتيبات لتحويل المسؤولية [إلى الفلسطينيين] في الشؤون والمجالات المتفق عليها، كلها تدل على كامل الاستقامة من جانب الحكومة.
في الأقوال التي وجهها وزير الخارجية شمعون بيرس إلى الزعامات اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية، نصح لمستمعيه، وللقيادة الفلسطينية من خلالهم، بعدم اتخاذ مواقف قاطعة وغير قابلة للتأويل في الموضوعات الحساسة، كيلا يقود الأمر إلى صدام. ومن المؤسف أنه شخصياً، وكذلك رئيس الحكومة، لا يتصرفان وفقاً لهذه النصيحة الحكيمة. فتصريحاتهما، التي يشتم منها لهجة تقريرية قاطعة بشأن موضوعات القدس، وحق العودة، وإقامة الدولة الفلسطينية، تغفل بالضبط ما نصح وزير الخارجية للفلسطينيين بالامتناع منه. وحتى إذا كان ممكناً تفهّم إحساسهم بضرورة استخدام هذه التعابير وهذه اللهجة، لأغراض داخلية، فلا يجب أن نتجاهل خطر أن تجد الحكومة نفسها مقيدة أكثر مما كانت تقصده في ذلك اليوم، عندما تحين ضرورة البحث في صلب هذه الموضوعات.
حقاً، يمكن تفهم المنطق الذي يقود إلى اتخاذ مثل هذه المواقف العلنية. فبعد ثلاثة أعوام، وعندما يحين موعد البحث العملي في المسائل التي أُجّل البحث فيها، تكون حكومة إسرائيل قد تجاوزت امتحان الانتخابات العامة المقبلة. فإذا أثبتت حتى ذلك الحين أن ما تم الاتفاق عليه، أنجز كله بنجاح، فإن فرصتها في الفوز ثانية ستكون ممتازة. وعندها ستشعر الحكومة أيضاً بأنها حرة أكثر في مواصلة الوفاء بالتزاماتها الواضحة، مع أنها غير مفسرة بصورة كاملة، في الاتفاقات الموقعة. وكانت الحكومة وحزب العمل محقين في رفضهما محاولة الليكود فرض قيود على حرية الحكومة في العمل على تقدم عملية السلام، لكن المقلق في الأمر، هو حقيقة أنه لم يرافق رفض مقترح الليكود رفض آخر لا لبس فيه لعناصر ذلك المقترح، أي "المبادئ الخمسة" التي تضمنها.
إن الموضوعات الأساسية التي تتطلب التوضيح في هذه المرحلة، على الرغم من أن البحث العملي فيها سيُجرى فقط بعد ثلاثة أعوام، هي ثلاثة: فقد حان الوقت لإيضاح مكانة مدينة القدس، بعد 25 عاماً من التضليل وذر الرمال في العيون. فالتخوم البلدية للقدس في فترة الحكم الأردني، امتدت على مساحة كيلومتر مربع تقريباً في شرق المدينة، كما كانت عليه أيام الانتداب. إلى هذه المساحة ضمت إسرائيل بعد حرب الأيام الستة فوراً مساحة تفوقها بعشرين أو بثلاثين ضعفاً. وبعيداً عن هذه المساحة أقيمت مستوطنات في المجال الذي اعتبر بمرور الوقت جزءاً من القدس الكبرى، وهو عبارة عن 25% من المساحة الإجمالية للضفة الغربية، فهل كل هذا المجال هو تخوم مدينة القدس التي تزعم الحكومة أنها لن تقسم "إلى الأبد"؟
من الصعب أن نتصور وجود زعيم فلسطيني أو سياسي في هذا العالم، غير إسرائيلي، يقبل بهذه الفرضية. ولذا يجب أن نعيد مصطلح القدس إلى حجومه الطبيعية. وعندها سنجد أن المدينة القديمة، التي هي مكان مقدس للديانات الثلاث، هي مسـألة واحدة تتطلب إيجاد حل لها، يتفق مع قادة الديانات الثلاث عليه. أما في باقي المساحة الأصلية للقدس – ومعظمه إلى الشرق من المدينة القديمة، وهو بلا أية قيمة دينية – فمن الممكن أن تقام مباني الحكومة الفلسطينية، من دون أن يلحق ذلك أضرارً بأي أحد.
والموضوع الثاني هو حق العودة. هذا الحق مُنح للاجئي سنة 1948 في قرار الأمم المتحدة الذي وافقت عليه في حينه. وهذا القرار لن يلغى لأنه يحاول تسوية مشكلة حقيقية وصعبة. وينص هذا القرار على أنه يحق للاجئين الفلسطينيين العودة كأفراد إلى أماكن سكناهم، أو استبدال هذا الحق بدفع تعويض عن ممتلكاتهم التي تركوها وراءهم. وعلى أساس هذا القرار، وتماشياً معه، وضعت حكمة إسرائيل تلك الممتلكات المتروكة تحت إدارة خاصة، قادرة في أي وقت على تحديد ممتلكات كل لاجئ، وتثمين قيمتها الاقتصادية. ومن الواضح أن عدد اللاجئين الذين سيعودون، وعدد أولئك الذين سيحصلون على تعويضات، يجب أن يتقرر من خلال المفاوضات. فالأمر لن يكون خاضعاً لرأي كل فرد، لأسباب عملية. فاللاجىء الذي سيحصل على تعويض مالي، يتحتم عليه الاعتراف بأنه استبدل حقه في العودة بالإمكان الاقتصادي الذي منح له لتأهيل نفسه في مكان آخر. ومنذ سنة 1976، عندما بدأت الاتصالات بين المجلس الإسرائيلي للسلام الإسرائيلي – الفلسطيني وبين ممثلين عن منظمة التحرير الفلسطينية، كان واضحاً للمتحاورين أن عدد العائدين عملياً سيكون رمزياً في الأساس، وأنه سيخضع لاعتبارات إنسانية، مثل جمع شمل العائلات. أما الأغلبية الحاسمة فإنها ستستبدل حقها في العودة بالحصول على تعويضات. لكن ما دام هذا الأمر لم يسوّ، فمن الواضح أن أي فلسطيني لا يستطيع التنازل عن حق العودة، كون هذا الحق، هو الذي يمنحه حق الحصول على التعويضات. ولذا، فبدلاً من رفض حق العودة، المعترف به دولياً، من الأفضل التحدث عن كيفية تنفيذه وعن السبل لتحقيقه وفقاً لما هو منصوص عليه في قرار الأمم المتحدة.
أما الموضوع الثالث، فيتعلق بالمستوطنات. من الواضح أيضاً أنه من دون أية صلة بمسألة إقامة دولة فلسطينية، سيكون هناك الكثير من المستوطنين الذين سيؤثرون العودة إلى الأماكن التي جاؤوا منها، والتخلي عن المغامرة التي قاموا بها، وهم يدركون ما يمكن أن تكون نتائجها. لكن، حتى لو أن بضع عشرات الآلاف منهم فضّل مواصلة العيش والإقامة في أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، فإنه لن يكون هناك مفر من عملية فحص جديدة لحجم الأراضي التي صودرت من أجلهم من خلال مناورات ومكائد قانونية رخيصة، إضافة إلى كيفية توزيع المياه. فليس من المعقول أن أكثر من نصف الأراضي الصالحة للزراعة في منطقة زراعية في الأصل يبقى في أيدي نسبة ضئيلة من المستوطنين اليهود، بينما مئات آلاف الأشخاص الذين يعتاشون على الزراعة يضطرون إلى التسليم بنهب أراضيهم.
والحكم ذاته بالنسبة إلى المياه. فالاتفاق مع منظمة التحرير الفلسطينية يقضي بإقامة سلطات فلسطينية للأراضي والمياه، وليس هناك ذرّة شك في أنها ستطرح هذه القضايا سريعاً. وبعد إصلاح ما تشوه في السياسة الإسرائيلية المتعلقة بمصادرة الأراضي، سيضطر المستوطنون إلى اتخاذ القرار إذا كانوا يرغبون في ضوء الشروط الجديدة الطبيعية أكثر، أن يواصلوا العيش في المناطق الفلسطينية. ويجدر بنا أن نفترض أنه في الأحوال كافة سيبقى القرار النهائي في أيديهم.
لقد أعرب رئيس الحكومة عن ثقته بأنه ستكون لمنظمة التحرير الفلسطينية مصلحة خاصة في الحفاظ على الأمن، بما في ذلك أمن السكان اليهود في المناطق، لأن ذلك سيكون امتحاناً لصدقيتها وقدرتها على الوفاء بالالتزامات التي أخذتها على عاتقها. وعندما بدأنا، أنا وزملائي، عقد اللقاءات مع رجال منظمة التحرير الفلسطينية في أوروبا وفي بلاد عربية، قمنا باستيضاح مشكلتنا الأمنية. والمرحوم عصام السرطاوي الذي كان صلة الوصل بيننا وبين القيادة الفلسطينية قال لنا في حينه: عليكم أن تؤمنوا بأننا سنحرص على الحفاظ على سلامتكم أكثر من حرصنا على الحفاظ على سلامة أبنائنا. وكان منطقه واضحاً، ووثقنا بكلامه. ولا شك في أن هذا ما ستكون عليه مقاربة السلطات الفلسطينية إزاء أمن أولئك الإسرائيليين الذين سيرغبون في العيش في كنفها.
لقد كان من الأفضل لو أن الحكومة والمتحدثين باسمها أوضحوا هذه القضايا للجمهور، وتوقفوا عن الانجرار وراء معارضي السلام، والقسم بأغلط الأيمان بأنه هذا وذاك لن يحدثا "أبداً" – وعود يبدو وقْعها في هذه الأيام سخيفاً أكثر من كونها لا تتمتع بأية صدقية.
المصدر: "دافار"، 3/10/1993.