س – استمعتَ في الكنيست إلى خطابات المعارضة، إلى مزاعم اليمين. هل تجد سنداً ما لمخاوفهم؟
ج – إنني أتعاطف مع كل مخاوفهم، ولي سؤال واحد فقط، هل الوضع الحالي لا يثير مخاوف؟ يمكن التفكير كما لو أن إسرائيل هي النرويج وأن شخصاً ما جاء فجأة واقترح أمراً جنونياً. يعيش في إسرائيل أربعة ملايين يهودي في مقابل ثلاثة ملايين عربي، وبالنسبة إلى التكاثر الطبيعي، الله يعرف ماذا سيحدث. لقد ازداد عدد السكان البالغ ثلاثة ملايين، كما ازدادت الكراهية. ما هو البديل؟ لنقل إن م. ت. ف. اختفت. لقد أكثر بيبي نتنياهو من مهاجمتها إلى حد أنني بت أعتقد أن لا مكان بعد ذلك لـ م. ت. ف. ماذا إذاً، هل حماس أفضل؟ عم يتحدثون أصلاً؟ ماذا يعني القول إننا لن نتنازل عن غزة؟ هل غزة في أيدينا؟ هل ستختفي غزة؟ وهل يوجد الآن أمن كامل؟ ألا يُقتل شخص ما كل يوم؟ ألم يقتل الكثير من الأشخاص في عهدهم؟ ومن سيدفع نفقات الأمن؟ هل علينا أن نثير العالم كله ضدنا؟ وكل العالم العربي؟ ما هو منظورهم؟
س – هل تخشى دول فلسطينية؟
ج – هل لا توجد خشية اليوم؟ ليست الدولة الفلسطينية سوى قصاصة ورق. الخطر قائم دائماً. إن ما نقترحه يخلق فرصاً أُخرى – كونفيدرالية إسرائيلية – فلسطينية، إسرائيلية – فلسطينية – أردنية، فلسطينية – أردنية. وميزة هذا المقترح ليست في أنه يحل المشكلات كافة، بل في أنه يخلق فرصاً لم تكن موجودة حتى الآن. هذا هو المضمون الحقيقي. أنا لا أُخفي المخاطر. شعبان يعيشان هنا في بلد صغير إلى هذا الحد، وبمقدار ما هو أصغر، بمقدار ما هو الخطر أكبر. لماذا العالم مندهش؟ تسلّمنا الوضع، الذي لم يكن في العالم وضع أكثر تعقيداً منه، وعلى الرغم من ذلك وجدنا طريقاً لنبدأ الخروج منه. وجدنا ضوءاً في بداية النفق، والآن ينبغي أن نعبره.
س – ما هو سر نجاح "المسار النرويجي"؟ لقد كان هناك أقنية أُخرى أيضاً، لكن الاختراق حدث في المسار النرويجي بالذات.
ج – كان هناك ثلاثة مسارات: نرويجية ومصرية، وإسرائيلية أيضاً. وقد كانت للمسار الإسرائيلي أيضاً أهمية كبيرة. كانت أهمية المسار النرويجي في كونه سرّياً. عموماً، في مفاوضات علنية، يحاول أكثر من طرف أن يقنع صاحبه، وكل طرق يحاول أن يقنع موفديه. المسار العلني هو في الواقع مؤتمر صحافي متواصل. وهكذا، من دون مؤتمر صحافي، جرت محاولة جادة للتوصل إلى حلول وسط.
قدم "المسار النرويجي" لنا خدمة كبيرة. فبدلاً من أن نقدم نحن مقترحاً إلى الفلسطينيين، جاؤوا هم وعرضوا مقترحاً علينا، مثلاً "غزة أولاً". لو كنا نحن اقترحنا على الفلسطينيين "غزة أولاً" لما كان لمقترحنا أية فرصة للنجاح. لكن عندما توضحت لدينا الشروط التي يمكن للفلسطينيين بموجبها أن يقبلوا "غزة أولاً، وأوضح المصريون هذه [الشروط] للفلسطينيين، وجاء الفلسطينيون بمقترح، أصبح التفاوض ممكناً.
القناة الثالثة هي القناة الإسرائيلية. جرت محادثات تفصيلية بين يتسحاق رابين وبيني. لم تتسرب كلمة واحدة. تحدثنا مواجهة، وفي الموضوع مباشرة، وبصراحة. لم يدونها أحد للتاريخ. كل المحادثات جرت من دون تسجيل، من دون مَحاضِر، من دون شهود. لم تهدف المحادثات إلى ترك انطباع أو آثار. كانت محادثات من أجل دفع المسألة إلى الأمام، إن هذا التضافر، النادر للغاية، بين المسارات الثلاثة هو الذي أدى إلى الاختراق.
س – متى عرفت أن المفاوضات مع الفلسطينيين هي حقاً جدّية؟
ج - كنتُ مسؤولاً عن المفاوضات المتعددة. فور بدء المفاوضات في لجنة اللاجئين في كندا، حدث توقف، لأن رئيس الوفد الفلسطيني كان من أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني. وهذا وضعنا في وضع غير محتمل. وحدنا حلاً وسطاً، بمساعدة مصر. واتضح فيما بعد أن الشخص الذي كان يقف وراء الوفد الفلسطيني إلى اللجنة كان أبو العلاء. واقترح إجراء محادثات. وكان أحد الأشياء التي طلبتها ألاّ يزيدوا في أرباكنا في اللجان بممثلين من أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني. والتزموا هذا الشرط. وفجأة، بدأت المحادثات المتعددة كلها تنتظم، من دون تدخل أميركي ومن دون تدخل أحد. بعض الناس لم يفهموا ما حدث. مفاوضات أوسلو بدأت في المتعددة. أحسست بأن المفاوضات جدية حقاً. في المناسبة، كان هناك ثلاثة من مصر مطلعين على سر الموضوع: الرئيس حسني مبارك، ووزير الخارجية عمرو موسى، ومستشار الرئيس أسامة الباز. لقد حافظت مصر، وكذلك النرويج، وكذلك م. ت. ف. وكذلك نحن، على سرية المفاوضات، ولم يتسرب شيء [....]
س – متى عرف الأميركيون تفصيلات الاتفاقات، في لقائك مع وارن كريستوفر أم قبل ذلك؟
- لُمّح لهم بصورة عامة. وهم لم يطلبوا تفصيلات. ولم نكن ملزمين إبلاغهم. ولم يدر في خلدهم إجمالاً أننا حققنا مثل هذا التقدم. لكن في المحادثات مع كريستوفر، لمّح رابين، ولمّحت إلى الموضوع أنا أيضاً. والتفصيلات تحدثت عنها في اللقاء. وقالوا إن الأفكار التي طرحناها لم تدر في بالهم. وباركوا الأمر من دون تحفظ. وقيل إن هذا مدهش، سواء من قِبَل كريستوفر أو من قِبَل دنيس روس.
س – ما الذي تخشاه في الاتفاقات؟
ج - أنا لا أخشى أي شيء. أنا آخذ في الحسبان أن صعوبات ستبرز [....]
كان العرب يستفيدون من ثلاثة أشياء، تلقوا السلاح، نتيجة الصراع بين الشرق والغرب، وحصلوا على الأصوات [في الأمم المتحدة]، نتيجة الانقسام بين الشمال والجنوب، وتلقوا الأموال، نتيجة الصهيونية، نتيجة الصراع بين الصهيونية والعرب. العناصر الثلاثة كلها الآنفة الذكر اختفت. لا سلاح من الشمال، ولا أصوات من الجنوب، ولا أموال من الشرق. السعودية لم تعد تعتقد أن إسرائيل تشكل خطراً على وجودها. إنها تخشى الأصولية. ومكان إسرائيل كخطر احتله إيران. إلى من يتوجه العرب؟ إلى عالم الأمس؟ هل يمكن ضرب موعد مع الأمس؟ وعندنا أيضاً كثيرون غارقون في الأمس. يشرحون الماضي طوال اليوم. قالوا لي، مثلاً، من دون الولايات المتحدة لا يمكن إجراء مفاوضات. أنا مع أن يشارك الأميركيون في المفاوضات. لكن ثبت أنها ممكنة من دونهم أيضاً، إذا دعت الضرورة. قالوا إنه لا يمكن حل المشكلة الفلسطينية. ممكن. لقد اقترحتُ "غزة أولاً" قبل 13 عاماً. وفي فترة معينة، إذا لاحظتم، بدأت أُظهِر فتوراً إزاء هذا المقترح. لماذا؟ لأنني أردته أن يأتي من جانب الفلسطينيين. ذلك لأن حقيقة أنه جاء من عندنا، نزعت منه القدرة على الحياة.
س – فكرة من كانت "أريحا أولاً"؟
ج – لا أريد الإجابة.
س – ألم يؤد الاتفاق مع م. ت. ف. إلى زيادة الخطر على مستقبل القدس كمدينة موحدة، تحت السيادة الكاملة لإسرائيل؟
ج - لقد كان هناك دائماً مخاوف تجاه القدس. وما أستطيع قوله هو إن هذا الاتفاق يقلص هذه المخاوف ولا يزيدها. لماذا؟ هذه هي المرة الأولى التي تتناول القدس فيها وثيقة واحدة فقط، لا ثلاث. لم يحدث مرة طوال تاريخنا، تاريخ إسرائيل الحديث، لم يكن فيها هناك ثلاث نصوص بشأن موضوع القدس: عربي، وأميركي، وإسرائيلي. يوجد هذه المرة نص واحد فقط، وهذا النص يقول إن القدس هي خارج الحكم الذاتي. عرفات، في كلمته في حديقة البيت الأبيض، لم يذكر القدس، وقابل ذلك بكلمة الرئيس المصري السادات في الكنيست، عندما كان مناحم بيغن رئيساً للحكومة. حينها، تحدث السادات في الكنيست عن القدس، وعرفات، في البيت الأبيض، لم يتحدث عنها.
س – هل تعتقد أن الاتفاق مع م.ت.ف. سيؤدي إلى تعزيز الأمن الشخصي لمواطني إسرائيل؟
ج – أجل. أخذنا على عاتقنا أمراً لم يخطر في بال. إن ما فعلناه هو مدهش: إسكات بنادق أقلية فلسطينية مسلحة، والدفاع بالبنادق عن أكثرية غير مسلحة. دع العرب يدافعون أن أنفسهم. ماذا نفعل أصلاً هناك في وسطهم؟
[.......]
س – كيف ترغب في أن تكون التسوية الدائمة؟
ج – إنني أقول: لن يكون هناك تسوية دائمة، إذا لم يقم شرق أوسط جديد [....] من أجل إقامة اقتصاد سليم، ينبغي التخلص، أولاً، من النفقات السلبية، التي لا يقبلها العقل، كسباق التسلح مثلاً. كيف طلب الأموال من أميركا وأوروبا، في حين يُصرف سنوياً 50 مليار دولار على السلاح؟ لماذا سيدفع الأميركي ذلك؟
الشيء الآخر يبدد [الأموال] هو الدكتاتوريات. إنها شيء غالي الثمن في حساب العالم. إنها شرطة سرية، إنها جيش استعراضي، شك دائم، إغلاق حدود. من في العالم سيمول هذا؟ لا يمكن التوصل إلى وقف سباق التسلح، لا يمكن التوصل إلى فتح حدود، من دون تسويات إقليمية. ومن جهة أُخرى، يمكن التوصل في الإقليمية إلى أمور إيجابية، خصوصاً ثلاثة أمور: الحرب على الصحراء من أجل إنتاج الغذاء، تطوير السياحة، التي هي صناعة كبيرة وحديثة وصناعة سياسية أيضاً لأنها توجِد السلام؛ وكذلك بنية تحتية [....]
العرب يخشون الآن أن نسيطر عليهم، أن نتعالى عليهم، أن نفرض عليهم. هذه مساخر. أنا لا أقترح أية مساعدة إسرائيلية، وأي تعال وأية سيطرة إسرائيلية. إن منطقة يتم بناؤها كما ينبغي ستفيد الأطراف كافة، بما فيها الطرف الإسرائيلي. وهي ستفيد، سواء استراتيجياً أو سياسياً أو اقتصادياً. والمشكلة الكبرى القائمة في البلد هي أن معظم الأجهزة والمؤسسات ينتمي إلى الماضي. إنها تقاتل بضراوة حفاظاً عما تألفه وتعرفه. ومنذ اليوم، فإن الصراع أكثر من أن يكون بين يمين ويسار، بين صقور وحمائم، إنه صراع بين رجال الأمس ورجال الغد. الآن يمكن للإسرائيليين والعرب أن يشتروا بطاقة دخول إما إلى فيلم قديم وإما إلى فيلم جديد؛ إما إلى القرن التاسع عشر وإما إلى القرن الحادي والعشرين. وثمن البطاقة واحد.
س – لِنَعُدْ إلى موضوع المستوطنات.
ج – كانت هذه المشكلة الأصعب. لو وافقنا على إزالة مستوطنات لكُنّا، ببساطة شديدة، سببنا حرباً أهلية، وهذا ما لم أُرِدْه. نحن لا نستطيع العودة إلى الأقفاص الحديدية الخاصة بإيريك شارون. يستوطن هناك 130 ألف نسمة. وثمة أشياء بكل بساطة لا تُحتمل. كل واحد مضطر إلى أن يواجه الواقع كما هو. ليس مهمّاً كيف ولد الصبي، نتيجة الحب أو خطأ ما.
[.......]
س – هل انتهى الحلف التاريخي بيننا وبين الأردن؟
ج – لم ينته أي شيء. ليس بيننا وبين الأردن حلف تاريخي، ثمة حلف جغرافي. ينبغي أن نفهم أن الأمر يتعلق بمثلث له ثلاثة أضلاع: إسرائيل والأردن والفلسطينيون. والسؤال هو هل يقف رمح في رأس كل ضلع، أو تكون هناك حلقة واصلة؟ وأحد الأسباب التي تجعلني أقف ضد إقامة دولة فلسطينية هو أن إقامة مثل هذه الدولة إعلان حرب، في موعد ما، على الأردن. وليس لدينا مصلحة في مثل هذه الحرب.
س – كيف ستخترقون الجمود في المفاوضات مع سوريا؟
ج – نحن مع مواصلة المفاوضات، لكن ينبغي أن تكون مفاوضات بين متساوين. لا يجوز للسوريين أن يملوا علينا كل الشروط، بما في ذلك رفض اللقاء. أنا لا أفهم لماذا. إذ كانوا يريدون السلام، فإن أحد الأشياء الأكثر أوّلية هو لقاء بين وزير خارجية سوريا ووزير خارجية إسرائيل. إنهم يريدون النهاية المصرية من دون البداية المصرية. نحن غير مستعدين للالتزام مقدّماً. نبقي كل شيء للتفاوض. وما سيكون النهاية نبقيه إلى النهاية. لا أريد أن أبدأ البداية مع النهاية. في لبنان يستطيع [الرئيس] الأسد أن يضر، لكن ليس فيما يتعلق بالفلسطينيين، لأن ليس للفلسطينيين مكان ينسحبون إليه [....]
[.......]
س – هل سيكون، عقب الاتفاق مع م.ت.ف.، تفكير أميركي – إسرائيلي جديد في موضوع أمن إسرائيل؟
ج – بالتأكيد سيكون. السلام هو جزء من الأمن. وهناك تداخل بين السلام والأمن والاقتصاد.
[.......]
المصدر: "دافار"، 24/9/1993. أجرى الحديث: موطي بسوك ودانيال بلوخ.