Confusion is a Timed Mine in the Palestinian-Israeli Agreement
Keywords: 
عملية السلام الإسرائيلية – الفلسطينية
السلام
اتفاق غزة - أريحا أولاً
منظمة التحرير الفلسطينية
Full text: 

لا يزال الاتفاق الذي أُبرم بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة إسرائيل يثير جدلاً واسعاً في الشارع العربي، لا الشارع الفلسطيني فحسب. وقد اختلفت الآراء على نحو لم يسبق له مثيل بين قوى في الساحات العربية لا شبهة في "وطنيتها" و"قوميتها" حلو كيفية مواجهة هذا الاتفاق، وكيفية تقويمه، وهل ينبغي رفضه، أم القبول به حتى مع تقصيره في تحقيق الحد الأدنى من الآمال الفلسطينية والعربية.

فثمة إدراك لصعوبة المجازفة برفضه، وثمة إدراك أيضاًَ لصعوبة اعتباره منطلقاً لتسوية يمكن أن يُكتب لها النجاح، ولا تتعرض لقلاقل متجددة.

إن هنالك الرأي الذي أبداه الرئيس حافظ الأسد، وقوله إنه لا يؤيد الاتفاق ولا يعارضه. وهو رأي عبّر محمد حسنين هيكل عنه، ربما بصيغة مختلفة وحجج أُخرى، في محاضرة ألقاها في الجامعة الأميركية في القاهرة. ومثل هذا التعبير قد يحمل معنى إظهار الرغبة في عدم التدخل في الشؤون الفلسطينية، مع تأكيد عدم الموافقة، وترك المجال مفتوحاً لانتقاد الاتفاق انتقاداً شديداً في حال ثبوت فشله.

والأمر في النهاية رهن بمحاولة اكتشاف آلية، أو مرجعية، نستطيع أن نقوم بها هذا الاتفاق. ذلك بأن كثيراً من المرجعيات السابقة لم يعد صالحاً، ولم يُعثَر  بعده، على ما يبدو لي، مرجعية كفيلة أن تكون مقبولة من الأطراف المعنية عموماً، وبالذات من القوى التي ننسبها إلى الرأي العام "الوطني" و"القومي" في صفوفنا العربية خصوصاً. ومن هنا صعوبة التقويم.

لكن هناك، قبل التقويم، قضية لا مفر من مواجهتها، وهي أوجه الالتباس المتعددة والمختلفة التي تحيط بهذا الاتفاق، والتي أضحت تشكل ألغاماً موقوتة تفسد وضوح الرؤية، وتهدد السلوك العربي، وعندما أقول أوجه التباس، فإنني أعني أن هنالك آليات حقيقية تحكم مجريات الأمور، وهي آليات تختلف. وقد تتعارض، مع المرجعيات المعلنة، والتي تشهرها الأطراف المعنية، بوضفها الجهة التي تحتكم إليها في تقرير سياساتها. إننا في صدد تعارض واضح بين حقيقة القواعد والآليات التي تحكم سير الأحداث، وبين المبادئ المعلنة التي تدعي الأرطفا أنها تقرر توجهاتها. إن الالتباسات الناجمة عن هذا التعارض هي الحائلة دون اكتشاف القواعد التي يمكن الحكم بها على ما يجري، وبالذات فيما يتعلق بالاتفاق الفلسطيني/الإسرائيلي الذي يعتبر حقاً تحولاً لا يجوز التهوين من خطورته، ولو لمجرد أن منظمة التحرير هي، باعتراف الأنظمة العربية جميعاً، "الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني"، المؤهل وحده للتحدث باسمه، وحتى لو أُريد الآن نسبة ما جرى إلى شخص عرفات، لا إلى المؤسسات الفلسطسنية؛ ففي ذلك خروج على ما استقرت كلمة العرب عليه، كما تجسده مؤتمرات القمة العربية، مصدر شرعية النظام العربي. ولذلك كان للاتفاق الذي أبرمه عرفات أهمية لا تحتمل الإغفال، أو التقليل من شأنه.

وقبل التعرض لأوجه الالتباس الوارد وضعها في اعتبارنا، فربما يجدر بنا أن نشير إلى أن الالتباس في مجال السياسة يعني ضمناً أن الأطراف المتحاورة باتت تتحدث بلغات مختلفة، وتستند إلى مرجعيات لا اتفاق حولها، الأمر الذي يعني في النهاية تعريض أي اتفاق، مهما بدا متيناً، للانهيار، لاختلاف معاني الكلمات في مفهوم المتفاوضين.

ومعروف أن الدبلوماسية كثيراً ما تلجأ إلى قدر من الالتباس في صيغها، تيسيراً للتقدم في المفاوضات الصعبة. فعلى سبيل المثال، نعي جميعاً الالتباس المتضمن في القرار رقم 242 بشأن انسحاب إسرائيل من "الأراضي التي احتلتها سنة 1967"، إذ يقرر النص الإنكليزي للقرار أن الانسحاب هو من "أراض احتلتها.."، وهو ما يعني الانسحاب من "بعض" لا من "كل" الأراضي. وقد أُريد بهذا الالتباس تحقيق التوافق داخل مجلس الأمن وقت إصدار القرار، يبد أن الالتباس إذا ما فاق حداً معيناً، فإن مردوده عكسي، ومن شأنه تعقيد العملية التفاوضية، لا مساعدتها.

ولنتعرض الآن لبعض أوجه الالتباس البارزة التي تحيط بالاتفاق الفلسطيني/الإسرائيلي:  

أولاً: فيما يتعلق بالبيئة الدولية  التي أحاطت بالاتفاق 

كان الافتراض، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أن "النظام العالمي الثنائي القطبية" قد زال، وأن "نظاماً عالمياً جديداً" قد حل محله، يقوم على تخطي الاستقطاب الحاد وانقسام العالم إلى قطبين. وقد وُصف هذا "النظام العالمي الجديد" بأوصاف مختلفة، منها أنه "نظام أحادي القطبية"، ومنها أنه "نظام متعدد القطبية". وقد آمنت الولايات المتحدة بأنها كفيلة أن تصبح القطب العالمي الأوحد، وهذا هو ما قصده الرئيس الأميركي السابق جورج بوش عندما أطلق مصطلح "النظام العالمي الجديد" عقب اندلاع أزمة الخليج. لكن هناك ما يبرر القول بقيام "نظام متعدد الأقطاب"؛ نظام أقطابه متشابكة ومتنافسة في آن معاً، أبرزها – إلى  جانب أميركا – أوروبا واليابان. والأرجح أن النظام العالمي ما زال في طور التكوين، وأنه لم يتضح بعد فيما إذا كان سيفسر في النهاية عن "قطبية واحدة" أم "متعددة". ثم ما معنى "التعدد" هنا؟ تعدد الايديولوجيات أم تعدد الكتل الاستراتيجية؟ وهذا كله ينطوي بالضرورة على قدر غير قليل من الالتباس.

لكن الأهم من ذلك، ربما، هو أن التناقضات الرئيسية في هذا النظام الجديد ليست بين أقطاب "الشمال"، وليست حول القول بأن هذا "الشمال" يتشكل من قطب واحد أو من عدد من الأقطاب، وإنما الالتباس الأبرز هو الافتراض أن العالم كله أصبح يحتويه "نظام عالمي واحد" في إثر زوال الكتلة الشرقية.

معنى ذلك أننا ما زلنا – على الرغم من جميع الادعاءات بشأن زوال النظام السابق – في صدد نظام هو الآخر على "القطبية الثنائية"، لكن بطرق خبيثة، غير معلنة. وهكذا أصبح من الواجب التسليم بأن "القطبية الثنائية" ليست مقصورة على المواجهة بين "الشرق" و"الغرب"، وإنما لها أشكالاً أُخرى، منها المواجهات بين "الشمال" و"الجنوب". وقد لا تكون هذه المواجهات صريحة، بين كتلتين صارمتين، عسكريتين، وأيديولوجيتين، وجغرافيتين. لكننا في صدد صور أُخرى من "الازدواجية".

لقد اختفت الكتلة الدولية المناوئة للغرب (كتلة الدول الشيوعية) من دون أن تختفي معها ظاهرة "القطبية الثنائية". ذلك بأن القواعد التي تحكم العالم الغربي لم تمتد لتشمل العالم كله، بل ظلت تحكم قطاعاً محدوداً من عالم "الشمال" فقط، وظلت بقية العالم – عالم "الجنوب" – خارج قواعد اللعبة. وبلا قدرة على أن تستند إلى قطب دولي في مواجهة الغرب. وقد ترتب على هذا التحول في طبيعة "القطبية الثنائية" عالمياً آثار كثيرة، من أبرزها زوال القدرة على مواجهة الغرب "عسكرياً"، وتحول اللعبة الدولية إلى لعبة أصبح لـ "الاقتصاد" الدور الأبرز فيها، مع عدم توافر "فوائض مالية" لدى الغرب تكفل توفير دعم اقتصادي لكل من يحتاج اليه في عالم "الجنوب". ومن هنا تركيز الدعم على مواقع "منتقاة" فحسب.

إن "الجنوب" بات يجمع من لا يرى نفسه مشمولاً في آليات "الشمال" في "النظام العالمي الجديد"، ومن يرى نفسه ملفوظاً من هذا النظام، ومهمشاً فيه، حتى ولو اتسع هذا "الجنوب" ليشمل أغلب البشرية. إن "الجنوب" هو عالم الملفوظين من "النظام العالمي الجديد"، الذين يستبد بهم الإحساس بالإحباط والرفض، والذين يلجأون إلى ايديولوجيات تطرف مختلفة (منم أبرزها التطرف باسم الدين، أو باسم العِرق) سبيلاً للتعبير عن إحباطهم، وللاحتجاج على استبعادهم من "النظام العالمي الجديد"، الذي ينسب إلى نفسه تمثيل البشرية ككل، بينما هو لا يستوعب ولا يخدم سوى قطاع من البشرية هو "الشمال" الأحسن حالاً.

إننا إذاً في صدد التباسات كثيرة مستبدة بـ"النظام العالمي"، أبرزها أن هذا النظام الذي يريد الظهور بمظهر تخطي "الازدواجية" ما زال استمراراً لـ "القطبية الثنائية"، لكن في صورة جديدة، وملتبسة، إذ إن هناك "جنوباً" إلى جانب "الشمال"، من دون اعتراف به، وفي صورة رفض وسخط وتذمر وإحباط، بدلاً من بروزه في صورة قوى تملك هذا القدر أو ذاك من "الندية"، شأن الكتلة الشرقية حيال الكتلة الغربية سابقاً. ومن هنا وجه التباس مهم يحيط بجيمع التطورات في العالم. ويجد هذا الالتباس تعبيره الصارخ فيما أصبح يوصف بـ "الكيل بمكيالين"، ذلك بأننا إذا ما ادعينا أن النظام العالمي يخضع لنظام واحد، فلا بد من أن تكال فيه الأمور بكيل واحد. لكن الذي يجري هو غير ذلك، الأمر الذي يحمل في طياته الاعتراف – ولو ضمنياً – بأننا في صدد "ثنائية" من نوع جديد؛ ثنائية غير معلنة، وغير معترف بها، وهو ما يزيدها تعقيداً في تأثيرها في مجريات الأمور. 

ثانياً: الالتباسات المحيطة بالبيئة الإقليمية أي بمنطقة الشرق الأوسط 

لقد افتُرض دائماً أن التناقض الرئيسي في منطقة الشرق الأوسط هو تناقض بين الأمة العربية وإسرائيل، بين عقيدة "القومية العربية" و"العقيدة الصهيونية"، وأن الخلاف بينهما – كما قيل كثيراً في عالمنا العربي – هو خلاف "وجود" لا خلاف "حدود"، بمعنى أن إقامة الكيان الصهيوني في قلب الأرض العربية تعني نسف فكرة "القومية العربية" في الصميم. وقد تداعى من هذا الافتراض افتراض آخر هو أن التناقضات العربية/العربية، مهما تفاقمت، كان ينبغي دائماً إخضاعها للتناقض مع إسرائيل.

كما ترتب على افتراضنا الأصلي – افتراض أن مقدرات المنطقة يحكمها الصراع بين قطبين إقليميين: العرب من جهة وإسرائيل من جهة أُخرى – الافتراض بإمكان استمرار المواجهة إلى أجل غير محدّد، ولا سيما في فترة الحرب الباردة، لأنه كان في وسع كل من القطبين الإقليميين – وقتذاك – الاستناد إلى المواجهة بين الكتلتين الدوليتين؛ بين العالمين الرأسمالي والشيوعي، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وأنه كان في وسع قطبي الصراع الإقليمي – إسرائيل والعرب – أن يستمدا من الدولتين العظميين إمكانات مواصلة المواجهة إلى أجل غير محدد، حتى إزالة القطب الخصم، إن لم يكن بشرياً، فعلى الأقل بصفته تهديداً أمنياً.

ومع ذلك، وُجدت في وقت مبكر شواهد على أن هذه الافتراضات لم تكن صحيحة في المطلق؛ فلقد خرجت مصر على القاعدة، وبادر السادات إلى زيارة القدس، وأبرم معاهدة سلام مع إسرائيل، وكشف ذلك عن صراعات عربية/ عربية أعمق مما كان يبدو في الظاهر، بل كشف عن أن الصراع العربي/ الإسرائيلي ليس كفيلاً، في الأحوال كافة، حجب الصراع العربي/ العربي. وهكذا ثبت أن افتراض أن الشرق الأوسط مستقطب إلى قطب عربي وآخر إسرائيلي فحسب، هو تبسيط مخل لخريطة الصراعات في المنطقة، بل هو، فوق ذلك، مصدر التباسات مآلها إلى التجدد في غياب مصارحة في شأنها.

كان السادات قد انطلق من أنه بفضل القرار بشن حرب أكتوبر [تشرين الأول 1973]، وبفضل إنجازات وتضحيات الشعب المصري في هذه الحرب، استطاعت الدول النفطية العربية أن ترفع أسعار النفط وتجني عوائد هائلة، بينما تعرض الشعب المصري في كانون الثاني/ يناير 1977 لانتفاضات جوع. وبينما أصبحت دول عربية معينة تمتلك فوائض مالية هائلة أودعتها مصارف غربية، كانت مصر – وقد تحملت جل عبء المواجهة مع إسرائيل – محرومة من القدرة على مواجهة صعوباتها. لقد أراد السادات بزيارته القدس تأكيد أن أوراق اللعبة في المنطقة ما زالت في يد مصر، مهما تدهور حالها، لا في أيدي الدول النفطية، أياً تكن ثروتها. كما أراد إبراز أن الجهد الذي في وسع مصر بذله، وصولاً إلى تسوية مع إسرائيل، هو مفتاح تقرير مقدرات المنطقة، وليس المفتاح هو تأثير أصحاب فوائض النفط ونفوذهم. وأراد السادات أيضاً تأكيد أن من في يده تقرير مصير النزاع العربي/ الإسرائيلي هو الذي في يده تقرير مستقبل النظام العربي.

وهكذا، أصبحنا في صدد التباس تمثَّل في افتراض أن التناقض مع إسرائيل هو الذي يتحكم في جميع التناقضات على امتداد المنطقة، في وقت تعاظم شأن التناقضات العربية/ العربية في تحريك الأحداث، بل في التحكم أيضاً في التناقض مع إسرائيل. وهذا "التوظيف" – عربياً – للتناقض مع إسرائيل وصل إلى ذروته وقت نشوب أزمة الخليج، وبلوغ تردي الوضع العربي حد انقسام الدول العربية إلى فريقين متضادين مناصفة، وأصبح العراق في نظر دول خليجية متعددة عدواً أخطر على مقدراتها من إسرائيل، في الأمد المنظور على الأقل.

معنى ذلك في النهاية أن الآليات الحقيقية التي باتت تتحكم في مجريات الأمور في المنطقة هي التناقضات العربية/العربية، بينما تمسكت الأطراف العربية بإضفاء صفة "التناقض الرئيسي" على تناقضها مع إسرائيل، وهذا التباس لا بد من أن يفسد القرارات العربية، ويجرد الأنظمة العربية من القدرة على السيطرة على مقدراتها، لممارستها سياسات فعلية تخالف سياساتها المعلنة. 

ثالثاً: معنى كلمة السلام ذاته ملتبس 

إن كلمة "السلام" أصبحت الكلمة – المفتاح، والمرجعية التي يجري الاحتكام إليها في كل ما يخض شؤون السياسة في الشرق الأوسط، وبالتحديد منذ سقوطها "النظام العالمي الثنائي القطبية" وتدشين "عملية السلام" التي افتتحها مؤتمر مدريد. والغريب أم كلمة "السلام"، التي تحظى بهذه الأهمية المحورية في المنطقة قاطبة، تفتقر إلى تعريف محدد ومتفق عليه وخال من الالتباس، في خصوصية أحوال الشرق الأوسط.

إن قرار مجلس الأمن رقم 242، الذي يُعتبر القرار – المرجع في تقرير التسوية، يطرح جوهر هذه التسوية في "مبادلة الأرض بالسلام"، الأمر الذي يوحي بأن "السلام" هو ما سيتحقق لإسرائيل في مقابل استرداد الأطراف العربية "أرضها" المحتلة. لكن ليس ذلك "تعريفاً" للسلام، وإذا قُصد به تحديد "السلام"، فإنه تحديد يفسح لإسرائيل فرصة ابتزاز الأطراف العربية؛ ذلك بأن اسرائيل ما زالت تسيطر على "الأرض"، وفي يدها وحدها تحديد الضوابط التي تراها ملائمة لـِ"السلام" أي لأمنها هي من دون سواها وإهدار أمن الأطراف العربية، تحقيقاً لأمن اسرائيل. وثمن استعادة "الأرض" لا يحمل بداهةَ معنى "السلام"(!).

قد يكون السلام، من وجهة نظر إسرائيل، أن تتحقق لها في النهاية السيطرة الاقتصادية والتكنولوجية على المنطقة في مقابل انسحابها من جميع، أو من بعض الأراضي العربية المحتلة. إن السلام بهذا المفهوم يعني إعمال آليات السوق والديمقراطية، بقصد محاولة احتواء أسباب النزاع التاريخي – أي ما يسمى "القضية الفلسطينية" من وجهة نظر العرب، و"قضية إسرائيل" من وجهة نظر الصهيونية والغرب – على أن تنشأ علاقات بين الأطراف هي علاقات "مشتر" و"بائع" داخل إطار "سوق شرق أوسطية واحدة"، بدلاً من علاقات خصومة وصراع وعداء يحكمها نزاع تاريخي يتعلق بأرض فلسطين. ويحمل السلام، بهذا المفهوم، معنى إسقاط "البعد التاريخي"، وإحلال موازين القوى بين الأطراف محلها.

بل قد يكون لإسرائيل تعريف "تكتي" خاص لمفهوم السلام في ظل الصعوبات المرحلية التي ما زالت تواجهها الآن؛ تعريف يلبي مصالح حكومة رابين، وريما أيضاً مصالح قطاع ذي وزن كبير في الرأي العام الإسرائيلي، وهو أن تحل "الوسيلة" محل "الغاية" في عملية تقرر نسبتها إلى "السلام" (!)، بمعنى أن يكون التزام الأطراف "عملية السلام" لا بلوغ "هدف السلام" في النهاية، هو الأساس (!)، ذلك بأن بلوغ "هدف السلام" يحمّل حكومة إسرائيل بعض "التنازلات" للأطراف العربية، وهي لا تريد، بل قد لا ترى أن هناك حاجة إلى الإقدام عليها الآن، في حين أن مجرد التزام الأطراف العربية الاشتراك في "عملية السلام" يجردها من الحق في ممارسة ما في يدها من وسائل مقاومة. وبهذا المعنى، فإن "عملية السلام" تجرد الأطراف العربية من أسلحتها، بينما بلوغ "هدف السلام" يحمّل إسرائيل واجب التضحية ببعض ما في حوزتها. وبهذا المعنى فإن لإسرائيل مصلحة في استمرار الحال على ما هي عليه! صيغة مستحدثة لـ "اللا سلم واللا حرب" تزيد في تأكّل الكيان العربي (!).

وقد يكون لإدارة كلنتون تعريفها الخاص للسلام، وهو أن تتحقق أوضاع في الشرق الأوسط تكفل أمن إسرائيل، واستقرار منطقة النفط، من دون تحميل الولايات المتحدة – لا سيما أنها تعاني الآن، ولأجل غير معلوم، ضائقة اقتصادية خانقة – عبء أمن إسرائيل  وعبء تأمين النفظ(!). ومعنى ذلك، باختصار، هو أن تتحمل السعودية وغيرها من دول مجلس التعاون الخليجي المعونات التي تقدمها الولايات المتحدة إلى دول محددة في الشرق الأوسط، وفي مقدمها إسرائيل(!)، تماماً كما حمّلت الدول الخليجية، صاحبة العوائد النفطية، الجزء الأعظم من نفقات حرب الخليج(!).

بيد أن الجديد الذي أصبح بارزاً منذ نهاية الحرب الباردة وزوال "النظام العالمي الثنائي القطبية"، هو أنه قد تحقق للصراع العربي/الإسرائيلي "آلية"، هي "الآلية" التي دشنها مؤتمر مدريد وعُرفت بـ"عملية السلام"؛"آلية" تبحث عن مخرج لهذا الصراع، بينما لا نملك أن نقول – إلى الآن على الأقل – إن العالم العربي تجمعه وتكفل تراصه وتصامنه، "آلية" مماثلة. بل إننا نشهد، في الوضع الراهن، أوجهاً متعددة لتأكّل "النظام العربي" وتفسخه. وقد بلغ هذا التفسخ حد حرب مفتوحة، وابتلاع دولة عربية لدولة عربية أُخرى(!). لقد كانت "أزمة الخليج" تعبيراً صارخاً عن أن الحرب لم تعد تُباشَر في الصراع العربي/الإسرائيلي، بل أصبحت تُباشًر لحل مشكلات أصبحت تثيرها العلاقات العربية/العربية(!).

إن "التناقض الرئيسي" لم يعد تناقضاً بين العرب وإسرائيل، بل أصبح تناقضاً طابعه "شمال/جنوب". وبدت "عملية السلام" كأنها "الآلية" التي من شأنها إلحاق المنطقة بـ "الشمال"، بينما أصبح معارضو العملية الذين يتهمونها بالتفريط وتكريس نوعية مستحدثة من الهيمنة الغربية – من منظور ديني أو قومي – يشكلون "الجنوب".

إن منظمة التحرير الفلسطينية لا تسعى للانتماء إلى "الجنوب"، ولا سيما منذ أن أعلن عرفات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1988 اعترافه، من جانب واحد، بإسرائيل، ونبذه الإرهاب، وموافقته على القرار رقم 242. كما أن حكومة إسرائيل، وخصوصا حكومة حزب العمل، لم يكن في وسعها التذرع أكثر بحجة الإرهاب لاستبعاد المنظمة من عملية التفاوض. فلقد برر رابين أمام وزرائه موافقته على اتفاق أوسلو من منطلق "أن العالم العربي أصبح موافقاً على السلام، وهو سلام تتهدده موجة خمينية بسبيلها أن تتسع للعالم الإسلامي كله، بما في ذلك الفلسطينيون"، ولذلك "حان الوقت للتصدي للقضية الفلسطينية، جوهر النزاع."

وبهذا المفهوم، يحمل "السلام" معنى اكتشاف عدو مشترك (الراديكالية باسم الإسلام) يهدد الأنظمة العربية وإسرائيل في آن معاً. وتعريف "السلام" هو تحقيق مصالحة تاريخية بين إسرائيل و"النظام العربي"، مع تكريس التناقض العربي/العربي في صورة تناقض بين الأنظمة العربية والتطرف باسم الإسلام.

رابعاً: الالتباس بشأن اتفاق غزة أريحا أصلاً 

من المؤكد أن الاتفاق الإسرائيلي/الفلسطيني الذي أُبرم في واشنطن يوم 13 أيلول/سبتمبر 1993 قد وضع حداً – ربما بصورة نهائية – لأنماط المواجهة التقليدية في الصراع العربي/الإسرائيلي، وإن كانت هناك أوجه غموض تكتنف ما سوف يحل محلها، لأسباب متعددة، منها أوجه التباس في صلب الاتفاق ذاته. إن كثيرين يعلقوم الآمال على تلاحق عمليات السلام في عملية تصاعدية، مع تسليم الجميع بأن المرحلة المقبلة محفوفة بأكبر المخاطر.

بادئ ذي بدء، علينا أن نميز بين أمرين في الاتفاق، بل ربما كان الأدق القول إن هناك اتفاقين قد أبرما لا اتفاقاً واحداً، أحدهما خاص بـ "الاعتراف المتبادل" بين دولة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، والآخر خاص بـ "إعلان المبادئ" الذي يشمل – كخطوة أولى – اتفاق غزة – أريحا. وكثيرون على المسرح الدولي ممن تبنوا الاتفاق، وحيوه بحرارة على الرغم من أوجه قصوره، إنما تبنوه بوصفه في الجوهر "اعترافاً متبادلاً". لكن يحق لنا أن نتساءل: هل الالتزامات المتبادلة بمقتضى الاتفاق الثاني تلبي مقتضيات "الاعتراف المتبادل" أم أن الاتفاق الثاني يكشف عن مغالطة في نسبة ما جرى إلى مفهوم "الاعتراف المتبادل"؟

إن كثيرين أيدوا الاتفاق، واعتبروه إنجازاً تاريخياً، لتضمنه معنى "الاعتراف المتبادل" بعد أن ساد الاعتقاد طويلاً أن "الاعتراف المتبادل" غير وارد أصلاً، انطلاقاً من فرضية أن "الصهيونية" و"القومية العربية" غير قابلتين للتوفيق أبداً، وأن الصراع لا مفر من استمراره حتى القضاء على أحد طرفيه، وأن مراحل "اللا حرب" ما هي إلا "هدن" لالتقاط الأنفاس، وأنه لا أمل بـ "حل وسط تاريخي". ولذلك حمل "الاعتراف المتبادل" معنى "تاريخياً"، لأنه أذن بوضع مختلف نوعياً. لكن هل حدث "اعتراف متبادل" فعلاً؟

من شروط "الاعتراف المتبادل" تحقيق قدر من التناظر (Symmetry) بين طرفيه، وهو شرط يفتقر الاتفاق إليه تماماً. فمع أن المنظمة تخلت عن فقرات في ميثاقها تنادي بتدمير دولة إسرائيل، واعترفت بحق اسرائيل في الوجود الآمن، فإن المفاوض الإسرائيلي لم يسلم بحق الفلسطينيين في دولة، وترك مستقبلهم "معلقاً"، على أن يكون المحك هو سلوك الفلسطينيين طوال "المرحلة الانتقالية". أي أن مستقبل القضية الفلسطينية لم يتقرر بمقتضى عملية "اعتراف متبادل" وقعت فعلاً، بل بحسب سلوك الفلسطينيين مستقبلاً، الأمر الذي يحمل ضمناً معنى أن مستقبل "الكيان الفلسطيني العربي" يتوقف على مدى تكيفه مع مقتضيات مستقبل إسرائيل، وعلى دوره في ترسيخ الكيان الإسرائيلي داخل بيئة عربية/إسلامية محيطة طالما لفظته.

ثم إن "الاعتراف المتبادل" لا بد من أن يتم بين كيانين محددي الهوية، فما هي

مكونات الهوية الفلسطينية؟ إن الإسرائيليين ما زالوا يصفون الضفة والقطاع بـ "الأراضي" (The Territories) لا بـ "الأراضي المحتلة"، كما لو أن لا هوية لهما. ولا يتضمن الاتفاق إشارة إلى لاجئي 1948، علما بأن "الاعتراف بالمنظمة" إنما يستتبعه الاعتراف بأن "الشعب الفلسطيني" ليس مقصوراً على سكان الضفة والقطاع، بل يشمل فلسطينيي المهجر، ومن هؤلاء من أُخرجوا سنة 1948. ومعنى ذلك أن الهوية الفلسطينية هلامية غير محددة، سواء قصدنا بذلك مكون "الأرض"، أو مكون "الشعب"(!).

وطبيعي، في ضوء ما سبق، أن يمتد الخلل في "الالتزامات المتبادلة" إلى جوانب التطبيق. فمنظمة التحرير مطالبة بمنع أي إخلال بالنظام والأمن في الأراضي الفلسطينية التي تتولى إدارتها، لكن قوات الاحتلال الإسرائيلية ليست مطالبة بالتصدي للمستوطنين اليهود في حال تحرشهم بالفلسطينيين في باقي الأراضي المحتلة(!). ومن شأن أوجه الخلل هذه  تأجيج أسباب الاحتكاك الفلسطيني/الفلسطيني، بدلاً من احتواء أسباب الاحتكاك الفلسطيني/ الإسرائيلي. ومن أبرز الشواهد على هذا الخلل تضارب التفسيرات بشأن الانتفاضة ومستقبلها. فالإسرائيليون يتمسكون بأنها مظهر من مظاهر "العنف" الجائز وصفه بـ "الإرهاب"، والفلسطينيون يتمسكون بأنها تعبير مشروع عن "مقاومة" لا يجوز المساس بها ما دام الاحتلال قائماً.

لكن أبرز صور الالتباس المرتبطة بالاتفاق هو: هل "الاعتراف المتبادل" الذي أنجز اعتراف بين "الشعبين"، أم بين حكومة إسرائيل وشخص عرفات؟ لقد كان عرفات من قبل – في نظر رابين – "إرهابياً" منبوذاً، وفجأة أصبح المؤهل من دون سواه لتمثيل الشعب الفلسطيني (!)، وذلك في لحظة أصبحت فيها أهليته للتحدث باسم الشعب الفلسطيني موضع مساءلة في صفوف الفلسطينيين أنفسهم، لا بين أنصار حركة "حماس"، خارج المنظمة فحسب، بل أيضاً بين فصائل المنظمة، وحتى بين قياداتها. فهل التمجيد الإعلامي الذي أحيط بعرفات منذ إبرام الاتفاق برعاية كلنتون كفيل بطمس هذه الحقائق؟

إن الاتفاقات، على الرغم من أنها تحظى بتأييد مطلق على الصعيد الدولي، بالغة الهشاشة على المستوى الإقليمي. إنها مدعاة إلى اعتراضات قوية من الجانبين، الإسرائيلي والفلسطيني معاً، فضلاً عما أبدته الدول العربية المعنية مباشرة بالنزاع – في مقدمها سوريا – من تحفظات. ويرجح المراقبون أن ينجح الإسرائيليون في إبقاء المعارضة داخل إطار المؤسسات، بينما يساورهم الشك في أن يكون الفلسطينيون قادرين على تجنيب خلافاتهم صورة الاقتتال في الشارع، ومعنى ذلك بلوغ الصراعات العربية/ العربية ذروة جديدة، بعد الذورتين اللتين بلغتهما وقت إبرام اتفاق كامب ديفيد، ووقت نشوب حرب الخليج، وهذه المرة في صورة اقتتال فلسطيني/فلسطيني.

إن المجتمع الدولي يدرك أن نجاح الاتفاقات سوف يتوقف – إلى حد كبير – على إشعار الفلسطيين بأن إقبالهم على إبرام اتفاقات "سلام" سيترتب عليه تحسن ملموس في حياتهم اليومية، وأن أسباب الإحباط التي طالما غذت الحركات المتطرفة – دينياً وقومياً- سيجري التغلب عليها. والسلاح الذي تمكله الدول العظمى لمقاومة أسباب رفض الاتفاق هو أن تغرقه بالمال (!)، وتؤمن له معونات اقتصادية سخية، وأن تعمل من أجل مفهوم جديد للأمن المتبادل ينطلق من أن أمن إسرائيل لا ينبغي أن يكون على حساب أمن الفلسطينيين، ولا العكس بالعكس، بمعنى أن أمن إسرائيل بات يقتضي أن تصبح غزة أشبه بسنغافورة المزدهرة منها بالصومال الذي فتكت المجاعات به(!)، بعبارة أُخرى، أن تشجع الدول العظمى تحويل الشرق الأوسط إلى "سوق شرق أوسطية" لا تظل مقصورة على الدول العربية وإسرائيل، بل تتسع لتشمل تركيا وإيران، وربما أيضاً دولاً إسلامية/آسيوية تمتد حتى الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفياتي السابق.

الفكرة هي أن السلام ينبغي أن يكافأ – اقتصادياً- من قِبل المجتمع الدولي بأسره. وستكون المكافأة أن تتدفق إلى بؤرة النزاع مبالغ مالية ضخمة تكفل توفير الآليات اللازمة لإقامة "السوق المشتركة" وتنشيطها، وإشاعة الرخاء بين الأطراف المتنازعة م خلال إحلال نوع جديد من العلاقات لم يعد – كما سبق أن أشرنا – يحكمها العداء المستحكم الناجم عن خلاف جذري بشأن الأرض، وما يقترن به من قيم ومعان ذات ارتباط بالدين، والتراث، والتاريخ، والثقافة، والحضارة، إلخ.. بل أن تصبح العلاقة علاقة البائع بالمشتري، داخل إطار سوق واحدة، من منطلق أنها علاقة لا تنفصم(!). إن الهدف هو إذابة أسباب العداء بإعمال روابط التبادل التجاري، منافع وأشخاصاً، والربط بين المصالح. وتوجد تصريحات لعرفات بأنه لن يرتكب الخطأ الذي ارتكبه غورباتشوف، وأنه سيحرص على أن يحصل على معونات اقتصادية من المجتمع الدولي تكفل إزالة أسباب معاناة الجماهير الفلسطينية، كجزء لا يتجزأ من عملية الاتفاق.

إن الجديد منذ إبرام "اتفاق غزة – أريحا" هو "انتقاء" القضية الفلسطينية كي تكون ضمن القضايا التي تراها قمة المجتمع الدولي جديرة بتخصيص دعم اقتصادي عاجل لها، على غرار ما تقرر بشأن دول الكومنولث الروسي ودول أوروبا الشرقية. وقد عقد في واشنطن مؤتمر دولي – شاركت فيه 43 دولة – التزم دفع ملياري دولار خلال الأعوام الخمسة المقبلة للوفاء بحاجات الحكم الذاتي الفلسطيني. غير أننا إذا أخذنا بما أُنجز حتى الآن بشأن روسيا، فإن هناك ما يبرر الشك في توفير المبالغ المقررة بالسرعة الواجبة، ذلك بأن العالم الغربي يواجه إلىن حالة كساد، وكان انتخاب كلنتون، بديلاً من بوش، تعبيراً عن أن الأوضاع الاقتصادية داخل الولايات المتحدة لم تعد كفيلة تحمل أعباء اقتصادية إضافية في الخارج، حتى أنه نسبت إلى كلنتون النية في أن تتحمل دول منطقة الشرق الأوسط ذاتها أوجه الدعم المطلوبة لتجاوز النزاع، وبالذات تحميل الدول النفطية العربية أعباء دعم إسرائيل (!)، على أن يقتصر دور واشنطن على ضمان إنجاز هذا التحول، من دون تحمل أعبائه الاقتصادية (!). لكن، هل دول الخليج، في ضوء تجربة أزمة الخليج، على استعداد لتلبية مقتضيات إنعاش منظمة التحرير الفلسطينية وهي ما زالت تعتبر أن المنظمة خذلتها في لحظة مصيرية من تاريخها؟

ولذلك يجوز لنا أن نتساءل: إلى أي حد ستكون الاستثمارات الوارد تخصيصها لغزة أموالاً عربية، أم أنها ستكون مجرد أموال بوحوه عربية تخضع لهيمنة إسرائيل؟ كيف يتحقق التكافؤ بين العرب وإسرائيل في عمليات النهوض بالمنظمة مستقبلا؟ وما أشكال التعاون والتضامن العربيين لمواجهة التحدي الإسرائيلي في صورته الجديدة؟ لقد أعلن عرفات أن المساعدات التي اعتمدها مؤتمر واشنطن غير كافية، وأن الفلسطينيين بحاجة إلى خمسة مليارات دولار على الأقل. فهل أُريد بمبلغ المليارين ما اعتقد أنه يكفي إجهاض حركات الرفض الفلسطينية، من دون بلوغ الحد الذي يكفل للإدارة الفلسطينية أي قدر من الاستقلالية تجاه إسرائيل؟

*** 

إن أوجه الالتباس التي أوردناها تحجب عن المفاوض العربي وضوح الرؤية، وتحول دون قدرته على بناء استراتيجية متسقة، وتقف عقبة في وجه التنسيق والتضامن العربيين. وقد أتاحت أوجه الالتباس هذه لإسرائيل فرصة استغلال التناقضات العربية/العربية غير المعلنة، وذات التأثير العظيم في تقرير السلوك العربي عموماً. لقد استغلتها إسرائيل وقت أن كان العداء الصارم هو الذي يحكم العلاقات العربية /الإسرائيلية، ومن باب أولى أن تشتغلها الآن، وقد أصبحت مرجعية السلام، والتداخل، والتطبيع، في سبيلها لأن تحكم هذه العلاقات. وقد اشترطت إسرائيل أن تفرض على المفاوضات المتفرعة من مؤتمر مدريد صفة "الثنائية"، أي أن تجري مع كل طرف عربي على حدة، وقد نجحت في ذلك، وهو الأمر الذي يؤكد نجاح إسرائيل في إلزام الأنظمة العربية قبول مبدأ "التجزئة"، لا "الوحدة القومية"، في تعاملها مع الدولة الصهيوينة!

والجدير بالملاحظة أن مفاوضات أوسلو بين المنظمة وحكومة إسرائيل دامت أشهراً من دون علم أحد، باستثناء واشنطن كما قيل، وهذا زعم أُشيع فقط بعد إفشاء السر (!). والحقيقة أن قادة عرباً كثيرين قد أجروا مفاوضات سرية مع قادة إسرائيل. واللافت للنظر أن هذه المفاوضات لم يكن أحد من هذا الجانب أو ذاك، يبوح بإجرائها، على الرغم من العداء المستحكم، ومن دون نظر إلى فشلها. بيد أن مفاوضات أوسلو هي من نوع خاص؛ إنها تعبير عن تحول كلي من النقيض إلى النقيض، وقد توحي – ولو رمزياً – بأن علاقات المنظمة مع إسرائيل قد اكتسبت – فجأة – صفة الأسبقية على علاقاتها بالأطراف العربية الأُخرى، ولذلك، كان من حق السوريين، والأردنيين، واللبنانيين، مواجهة المنظمة بأن سعيها للوصول إلى اعتراف حكومة إسرائيل بها بمعزل عن الأطراف الأُخرى قد أسفر عن إعطاء هذا السعي أسبقية على التنسيق العربي (!) وإن كان علينا أن نسلم أيضاً بأن السر، لو كان أُفشي، لفشلت المفاوضات حتماً(!). ومنطق هذا كله ينبئ بعلاقات لا مفر من زيادتها توثقاً بين قيادة منظمة التحرير وحكومة إسرائيل في المستقبل، لا سيما أن للطرفين خصوماً أشداء، كل داخل معسكره، وقد يتوقف نجاح أحدهما في تخطي الاختناقات التي سيواجهها، وبصفة متجددة، على نجاح الآخر(!).

***

وفي ضوء هذا كله يطرح السؤال الجوهري: كيف الخروج من المآزق العربية إزاء هذا الاتفاق؟ وهل يجوز للذين يعارضونه أن يعارضوه من منطلق المعارضة لـ "عملية سلام" أصلاً، أم من منطلق التسليم بأن "عملية سلام ما" لا مفر منها في ظل الأوضاع الدولية القائمة، وأن المعارضة مبعثها أن الاتفاق إنما ينطوي على تفريط لا يجوز مطلقاً القبول به؟

وهذا بدوره يطرح السؤال التالي: هل من سبيل للتمييز بين السلام والتفريط، أي بين التنازلات "المشروعة" و"غير المشروعة" عربياً للوصول إلى سلام "عادل"؟ أي بين "الثوابت" والوارد اعتبارها "متغيرات" عربياً وفلسطينياً؟

وإذا ما سلمنا بأن "سلاماً ما" لا مفر منه، وأن عيب الاتفاق يكمن في "تنازلاته" المفرطة، لا في مبدأ إنجاز اتفاق، فهل يكون العلاج بهدم الاتفاق، أم بتصحيح عيوبه؟ هل هذا وارد، بل هل يكون "منهج التصحيح" ضرورياً باعتباره "أهون شرين"؟ وإذا كان هكذا، فكيف يكون؟ 

أولاً : حول رفض نهج السلام أصلاً 

قد يكون هذا وارداً كورقة تفاوضية، وفي سياق التكتيك، من قِبل بعض الفصائل الرافضة في الساحة الفلسطينية، والعربية، والإسلامية، لكن لم يعد له مصداقية استراتيجياً، باعتراف جميع الأطراف المعنية بالنزاع العربي/الإسرائيلي، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ذلك بأن خريطة سياسية قائمة على الاستقطاب المطلق والعداء المستحكم إقليمياً في الشرق الأوسط لم تعد واردة بعد سقوط نظام "القطبية الثنائية" القائم على العداء المستحكم عالمياً، ولم يعد الجانب العربي يستند إلى دولة عظمى تكفل تمكينه من خوض حرب ليسترد حقوقه المسلوبة، كما أن التسوية السلمية أصبحت النهج المعتمد دولياً لحل النزاعات، مهما تكن مستعصية. 

ثانياً: حول رفض الاتفاق بوصفه تفريطاً 

يتداعي مما سبق السؤال المهم الآتي: هل من: "مقاييس" لتحديد الخط الفاصل بين "السلام" و"التفريط"؟ بادئ ذي بدء، يجوز لنا أن نقرر أن وضع القرار رقم 242 موضع التطبيق ينظر إليه من المعنيين كافة على أنه ينطوي على فرص "سلام" للشرق الأوسط، ولا ينطوي على عنصر "تفريط". وقد استقر الرأي على تفسير القرار رقم 242 على أنه يعني "مبادلة الأرض بالسلام"، أي إعادة الأرض في مقابل السلام.

لكن ليس متوقعاً ولا مطروحاً أن يستعيد العرب أراضيهم المحتلة فوراً ودفعة واحدة، ولا بد من أن تنطوي العملية على خطوات مرحلية، انتقالية، متعددة. فهل من "قياس" لضمان ألا تكون هذه الخطوات المرحلية والانتقالية "تفريطاً" في نظر هذا أو ذاك من الأطراف المعنية؟ وكيف يجري تحديد الخط الفاصل الدقيق بينما ما يفضي إلى "السلام" وما يفضي إلى "التفريط"؟ ليس من شك في أن تحديد هذا "الخط الفاصل الدقيق" أمر بالغ الصعوبة في ظل المتغيرات التي تعتري العالم منذ زوال "النظام العالمي الثنائي القطبية"، وما يصاحب هذا الزوال من أوجه التباس متعددة، بلغت حداً يجعل حتى "الثوابت" عرضة للتغير والتبدل. فماذا يكون نهجنا في تحديد هذا "الخط الفاصل"؟

ربما كان المقياس المعتمد للحكم على الأساليب الواجب رفضها في محاربة التفريط هو رفض تلك التي يترتب عليها مزيد من التفريط، بدلاً من العكس، تلك الأساليب التي قد تبدو دواء للمرض وتنتهي بقتل المريض! على سبيل المثال، إن الدعوة إلى إقامة "منظمة تحرير بديلة"، بدعوى أن عرفات بلغ به التفريط حد "بيع القضية"، و"الاستسلام"، و"الخيانة"، هي – في رأيي – نموذج للدواء الذي يقتل المريض، والذي لا بد من أن يكون مردوده عكسياً، ذلك بأن الدعوة تلك لن تفضي إلى إزالة منظمة التحرير القائمة، ولن تزيل حقيقة أن في يدها – دولياً – "الشرعية الفلسطينية". إن معنى ذلك هو إيجاد منظمتين متصارعتين تحملان اسم منظمة التحرير، وزيادة احتدام الصراع الفلسطيني/الفلسطيني إلى غير حد، واكتسابه أولوية على المواجهة مع إسرائيل، أي استمرار نمط السلوك العربي المعيب في هذا الصدد، وبلوغه ذروة أُخرى من ذراه. 

ثالثاً: كيفية تصحيح التفريط، إنْ وُجِد

أقول "إنْ وُجِد"، لأن المقياس في الحكم على التفريط ليس هو ما نريد أن يكون عليه الاتفاق، بل ما هو ممكن تحقيقه في ظل موازين قوى قائمة، موازين قوى لا تتحدد بالشعارات التي نرفعها لشحذ معنويات جماهيرنا ورفعها، لكن بما هو وارد التوصل إلى اتفاق بشأنه مع الطرف الخصم. وصحيح أن أي تفاوض لا يتوقف على موازين القوى وحدها، بل يتوقف أيضاً على حذق المفاوض وخبرته وقدراته ومدى إخلاصه للقضية ومدى استعداده للصمود، وخلو سلوك صاحب القرار من اعتبارات شخصية تقف عقبة في وجه استخلاص الحد الأقصى الممكن من الخصم،  ولكن هذا كله لا يًنًال، في التحليل الأخير، من تأثير "موازين القوى" الفعلية.

ثم إذا ما تحدثنا عن تفريط، وتحدثنا عنه من منطلق "قومي"، فمن المعتذر تحميله لطرف عربي بالذات مع تبرئة الأطراف الأُخرى، وخصوصاً في ظل مناخ عربي تسوده التباسات مصدرها سلوك عام معلن يخالف السلوك الحقيقي. قيل، على سبيل المثال، إن إفلاس منظمة التحرير هو الذي شكل عنصراً بالغ الأهمية في دفع عرفات إلى توقيع اتفاق غزة – أريحا. وإذا صح ذلك، فمعلوم أن أطرافاً عربية، لا إسرائيل، هي التي كان في يدها تحاشي هذا الإفلاس. وهو ما يعني أن التناقض العربي/العربي هو الذي دفع عرفات إلى سلوك مسلك يؤخذ عليه الآن. وبهذا المعنى، وأياً تكن المبررات، فإن العرب أنفسهم يساهمون بأيديهم في خدمة إسرائيل في هذا الصدد (!).

وإذا صحت حجة أن إصلاح منظمة التحرير من الداخل هي عملية متعثرة، بل ومعتذرة، لانفراد عرفات بالقرار، ولعدم التزامه هيئات المنظمة القيادية، وللجوئه إلى أساليب غير ديمقراطية في انتزاع القرارات والموافقات، فإن العلاج لا يكون بهدم المنظمة، بل بإعادة بناء المؤسسات الفلسطينية من الداخل، وبإعلاء كلمة الديمقراطية، لا بإهدارها نهائياً نتيجة اعتماد الأساليب الانقلابية. وبوجه عام، فلا مفر من تغيير هيكلي لمنظمة التحرير، تقتضيه وظيفتها الجديدة، المختلفة نوعياً عن وظائفها السابقة، ذلك بأن طبيعة التفويض الذي تملكه قد تغيرت، وممارسة تفويضها الجديد تفرض إعادة الهيكلة، حتى ولو رفضت القيادات.

لقد انطلقت المنظمة أصلاً من افتراض استحالة الثقة في إسرائيل، والارتياب في كل ما يأتي منها. والآن أصبحت المنظمة تؤسس سياساتها على الثقة في الحكومة الإسرائيلية، وعلى افتراض حسن نيتها كأساس للاستراتيجية الفلسطينية مستقبلاً(!)، إذ إن الاتفاق كله بقوم على أن "غزة – أريحا أولاً" ليس "غزة – أريحا أخيراً"، والمصالحة الفلسطينية/الإسرائيلية تكفل إعادة باقي الأرض. فهل وارد التكيف مع الأوضاع الجديدة، والمنظمة عرضة لتمزقات تعجزها عن إبراز الوجه الذي يكفل كسب ثقة الخصم؟

ثم إن منظمة التحرير ما زالت توصف بأنها "الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني". و"شرعيتها" مستمدة من "الشرعية الثورية" أي شرعية الصمود والمقاومة لا "الشرعية الدستورية"، وهي "شرعية" تختلف نوعياً عن شرعية التفاوض والمساومة. ثم إن "شرعية" المنظمة لا تستند حتى هذه اللحظة إلى انتخابات، ولم يجر اختبارها عقب إبرام "إتفاق غزة – أريحا"، وإزاء معارضة لخط رئيس المنظمة لا مجال لإنكارها.

والمنظمة توصف أيضاً بأنها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. و"الوحيد" تعني عدم الاعتراف بأية جهة أُخرى ترى نفسها خليقة بتمثيل قطاع – كبر أو صغر – من الشعب الفلسطيني، شأن حركة "حماس" الإسلامية مثلاً. إن فكرة "الممثل الشرعي الوحيد" فكرة شمولية، تنطلق من افتراض أن الشعب الفلسطيني كله لا بد من أن ينتسب إلى تنظيم سياسي واحد. وكان ذلك وارداً في إطار منطق الصمود والمقاومة، لكنه لم يعد وارداً في إطار منطق التفاوض والمساومة.

إن حالة تفاوض لا بد من أن تفرز خلافات في الرأي. إنها حالة تختلف نوعياً عن تلك التي سادت وقت أن رمزت المنظمة إلى الصمود والمقاومة. إن العلاقة العدائية بين إسرائيل والفلسطينيين أنشأت حالة "استقطاب حاد" لم تكن تترك مجالاً للمواقف المتمردة الملتبسة. وكانت حالة تميزت بخواص فرضتها حدة الصراع وقتئذ فرضاً، إذ إنه حتى يتحقق الانضباط المطلوب لمواجهة ضراوة قمع المحتل، وحتى تتحقق أكبر تعبئة ممكنة للجماهير من أجل خوض مقاومة فعالة، كان لا بد من التعامل مع قرارات القيادة كما لو أنها معصومة من الخطأ، الأمر الذي كان يستدعي تمجيد القادة، ومزاولة نوع من "عبادة الفرد" إزاءهم، وليس هذا وارداً مع إنجاز عملية تفاوض ومصالحة، بما تتطلبه من مساومات، إذ لا مفر فيها من حلول "وسط" ، ومن تنازلات، وقد تختلف الآراء بشأن مدى التنازلات الوارد القبول بها، وهو ما يستوجب التسليم بأن التباين في وجهات النظر أمر مشروع، وهذا يتعارض كلياً مع فكرة التنظيم الشمولي، واعتبار منظمة بعينها الممثل "الأوحد" لشعب بأسره.

إن منطق التفاوض يتطلب، من قِبل الجهات المتفاوضة، التزام فكرة الديمقراطية، وفكرة التعددية، أي مشروعية الحوار والخلاف، سبيلا لتجاوز الخلافات، فضلاً عن أن المنظمة أصبحت "سلطة"، بعد أن كانت قوة تقاوم "السلطة" (سلطة الاحتلال)، ومعنى ذلك أنها أصبحت تتولى وظيفة تنطوي على بعد "انضباطي" بمقتضى اتفاقات مع الطرف الخصم، بدلاً من "مقاومة" هذا الطرف الخصم. إنها تخوض تجربة تختلف نوعياً، وعلى كل المستويات، عن تجاربها السابقة، وهذا مجال خصب لإدارة حوار واسع داخل المنظمة كأساس لإعادة هيكلتها، وجعلها ملائمة لمواجهة التحديات الجديدة.

ثم إن في يد المفاوض الفلسطيني سلاحاً أساسياً لـ "تصحيح" الاتفاق وتطوير موقفه التفاوضي، يتمثل في كشف المغالطة المتضمنة في نسبة "اتفاق غزة – أريحا" إلى اتفاق يعبّر، بدقة وصدق، عن "اعتراف متبادل". فإن لـ "الاعتراف المتبادل" ضوابط في فقه القانون الدولي، وهذه الضوابط ليست متوفرة على أي نحو في الاتفاق. وهذا مجال خصب لخوض معركة لا تهادن فيها؛ معركة كفيلة رأب الصدع بين الكثير ممن يرون تأييد الاتفاق ومن يرون معارضته، بتحفظات في الحالتين، على مختلف الأصعدة الفلسطينية والعربية.

أستخلص مما سبق أنه لا يمكن تجاوز سلبيات الاتفاق ما لم نتجاوز الكثير من الالتباسات التي أشرنا إليها. وقد تكون الالتباسات الدولية أصعبها حلاً، ذلك بأنها ليست في أيدي الأطراف المحلية. وفي وسع هذه الأطراف، وأعني بالذات الأطراف العربية، التغلب على التباسات كثيرة ذات صفة إقليمية وأساءت إلى العلاقات العربية/العربية إساءة بالغة. والحقيقة هي أن هذه الأطراف إذا استطاعت التغلب – بجهدها الجماعي – على كثير من العيوب الراهنة في الاتفاق، فإنها ستكون قد ساهمت بدور مهم في الكشف عن أوجه قصور ليست محصورة في الأوضاع في الشرق الأوسط وحده، بل هي أيضاً في صميم خصائص "النظام العالمي الجديد"، والالتباسات التي ما زالت تستبد بالنظامين الدولي والإقليمي على حد سواء.

Author biography: 

محمد سيد أحمد: كاتب مصري.