لماذا لم تعلن حماس، عقب إعلان توقيع اتفاق غزة – أريحا أولاً، أنها ستُسقط الاتفاق بجميع الوسائل التي تمتلكها حتى لو وصل الأمر بها إلى استخدام العنف والرصاص (؟!)، ولماذا لم ترفع شعار تصفية كل من شارك في توقيع الاتفاق أو سيشارك في ترجمته على أرض الواقع في الأراضي المحتلة، وهي لن تعدم هنا سًوْق المبررات، سواء الدينية أو الوطنية، ولماذا لم تستثمر قدرة كتائبها العسكرية التي امتلكت إمكانات كبيرة في إدارة الصراع المسلح ضد الجيش الإسرائيلي (؟!)، ولم تستغل الضعف المتوقع لسلطة الحكم الذاتي المقبلة خلال المرحلة الانتقالية فتفرض الخوف على الرموز والشخصيات الراغبة في المشاركة في ظل غياب هيبة السلطة المقبلة وتلاحقهم بشبح الاغتيال والتصفية، لا سيما أن كثيراً منهم يتنقل الآن في المدن الفلسطينية تحت حراسة مشددة وبحذر وخوف، ومن دون انخراط حماس في أية معرك تهديد أو تصفية؟ وما هو المسار الذي كانت الأمور ستؤول إليه لو أن ذلك تم وانتشرت أجواء العنف والاغتيال تحت شعارات تخوين الطرف الآخر وضرورة محاسبته؟ وما هي الصورة التي كانت ستتخذها منعكساتُ ذلك كله على المزاج الجماهيري والشعبي، سواء داخل فلسطين أو خارجها، بشأن الاتفاق الذي سينظر إليه بوصفه السبب الذي جلب كل ذلك الدمار "الافتراضي"؟ ألا يقود ذلك إلى زيادة احتمالات فشل، أو إفشال الاتفاق، ووضع منظمة التحرير في مأزق إضافي، وهذه المرة أيضاً داخل الأرض المحتلة، مع الأخذ بعين الاعتبار الانعكاسات والآثار السلبية على حماس في المقابل، سواء بتحميلها المسؤولية أو بتأثرها متعدد الجوانب جرّاء ذلك النهج؟
قد يحمل عدد من تلك التساؤلات بعض وجاهة خاصة في منطق الذين يعارضون الاتفاق معارضة شديدة وعنيفة، ويدعون إلى إسقاطه بالوسائل كافة ويطالبون حماس باغتيال عرفات!! في سبيل ذلك(!).
غير أن حماس لها أسلوبها الخاص في إدارة الصراع وإدارة المعارضة، وهي ترسم مسارها بدقة وبطء (أحياناً)، وحال انتهائها من رسمه وتصميمه تسير فيه وتفرضه على أرض الواقع من دون تردد، أو على الأقل هذا ما يمكن رؤيته عبر الأعوام الستة الماضية من طريقة أداء حماس، إن في الانتفاضة أو في العمل المسلح أو العمل السياسي.
إذاً كيف تدار الأمور وكيف يُصنع القرار "الحماسي" بشأن قضية كبرى مثل اتفاق غزة ـ أريحا أولاً(؟!). للإجابة عن هذا السؤال يمكن تناول بعض أوجه منهجية صناعة القرار، وذلك من خلال تلمس بعض الاعتبارات والحيثيات والمحددات التي تحكم تلك المنهجية، ومحاولة استنباطها.
الاعتبار الأول: فقه المرحلة أو معركة أم "المعركة"، ويمكن أن نلحظ أن حماس، وفور مواجهتها أي طارئ أو حدث كبير، تعود، كما أثبتت الوقائع المتعددة، إلى أصلها العقائدي لتجد توصيفاً لذلك الحدث ولتضعه في إطاره التاريخي وفي مكانه الصحيح ضمن حلقات الصراع.
والصراع هنا مفهوم زمني وتاريخي طويل يمتد مستقبلاً حتى تحرير فلسطين كلها، ويضمن ببشائر و"تعهدات" نبوية من خلال الأحاديث الشريفة الكثيرة، التي تحدثت عن الانتصار النهائي على اليهود.[1]
وبهذه العملية دائمة الحدوث نفلت حماس من ضغط اللحظة وحصارها، بل تنقلب عليها في عملية عكسية لتحاصر تأثيرات الواقع أو الوضع السياسي المحدد، وذلك بواقعية من نوع جديد تتعامل معه من خارج دائرة تأثيراته بعد أن تكون قد عرفت حدوده ومكانه ضمن الصراع الطويل. وعلى ذلك، فمهما بدا الحدث عظيماً والطارئ طارئاً لدرجة أن يغطي في أحيان كثيرة مدى الأفق السياسي الظرفي، فإنه في المنظور التاريخي "الحماسي" يظل محصوراً في حدود بيّنة ومحددة. ومن هنا يمكن إطلاق وصف فقه المرحلة السياسي عنواناً، واعتباراً رئيسياً تأخذ حماس به وتعالج من خلاله أحداث كل مرحلة بنسبها لها فلا تعطيها حجماً أكبر ولا حجماً أصغر من حجمها الطبيعي. ومن ذلك الفقه أيضاً تولد مفهوم مواجهة أية حلقة من حلقات الصراع على أنها معركة جزئية من الحرب طويلة الأمد، والتي تنتهي جولاتها بـ "المعركة " التي تنهي بدورها السيادة الصهيونية على فلسطين.
بناء على ذلك يمكن رؤية حماس هنا وهي تحدد المدى الذي تواجه به أية "معركة" بحسب قيمتها، حيث لا تعتبر أية معركة بأنها "المعركة" التي تستوجب الانخراط فيها حتى النهاية، مهما تكن النتائج حتى لو أنها التضحية بوجود حماس نفسها. وباستخدام هذه القاعدة مثلا يمكن قراءة موقف حماس في إبان حرب الخليج الأخيرة، حيث بدت تلك الحرب للذين عاشوا اللحظة وانغمسوا فيها وفي أثرها المباغت على أنها نهاية التاريخ في المنطقة أو بدايته وأنها "المعركة" الفاصلة والنهائية، بينما انشدت حماس لقاعدتها النظرية فأدانت وجود الأساطيل الغربية في المنطقة، ووقفت في الصف المقاوم لها، وطالبت في الوقت نفسه، ومنذ البداية، بانسحاب العراق من الكويت على اعتبار أن عدم الانسحاب ذريعة وجود تلك الأساطيل، وكان ذلك الهامش الذي مثل الفارق بين الانجراف العاطفي والموقف العقلاني، مقارنة بموقف منظمة التحرير الذي تحاول التخلص منه حالياً، وهو الذي أبقى على خيوط لحماس مع كثير من القيادات الشعبية والإسلامية، وخصوصاً في منطقة الخليج، وحتى داخل الكويت نفسها، وهي الخيوط التي حاولت حماس استثمارها لتخفيف الوطأة على الجالية الفلسطينية هناك، فنجحت لكن في حدود دنيا.
في الموقف من غزة - أريحا أولاً يمكن تتبع النهج نفسه في صناعة القرار. فعلى الرغم من خطورة وضخامة الاتفاق ووصفه بـ"الخيانة الكبرى"..! من قِبل حماس، التي تستخدم هذا الوصف أول مرة في التعامل الإعلامي مع "الرسمية الفلسطينية"، وإعلانها نية مواجهة الاتفاق بغية إسقاطه وإفشاله، فإن ذلك لم يصل بها إلى حد أن ترفع شعار "المعركة" وتقول مثلاًَ إن هذا الاتفاق "لن يمر إلاّ على أجسادنا"..! فالاقتناع المتوفر عندها هو أن "الأجساد" يجب أن تكون جسراً فعلاً لكن لـ "المعركة" النهائية والحقيقية، التي تكون ضد العدو الحقيقي والواضح.
غير أن "فقه المرحلة" لا يعني في الوقت ذاته تجاوز الاعتبار الثاني في صناعة القرار، وهو مبدئية الموقف،؛ إذ إن حماس، كتنظيم سياسي/عقائدي، تختلف عن تنظيم فتح في الولاء المطلق لا لـِ "ايديولوجيا" فحسب، بل أيضا لـ "ايديولوجيا دينية سياسية"، وهذا يفرض عليها انسجاماً تاماً مع منطلقاتها التي أعطتها القوة الشعبية والزخم الجماهيري، وهي مسبوقة أيضاً بتجارب ايديولوجيا يسارية وقومية متعددة نقضت منطلقاتها فانتقضت هي وتبعثرت، وهي تحمل أيضاً هم "البديل" بعد أن جرّب الآخرون "البدائل" لذلك تمشي وئيداً حتى لا يفقد الناس آخر الآمال. وعلى هذا الأساس لا يمكن أن تبتعد كثيراً مواقف حماس أو ممارستها السياسية عن البؤرة العقيدية وتوجيهات بوصلتها مهما اتخذت من مواقف مرنة، وتجد أن عليها دوماً تشريع الموقف والممارسة في القضايا الكبرى.
وهنا، في موضوع الاتفاق، أعلنت حماس، بوضوح لا لبس فيه معارضتها الشديدة له ولكل ما سبقه من مفاوضات وما رافقه من اعترافات، انسجاماً مع مبادئها وشعاراتها بشأن "حرمة التفريط بأي جزء من فلسطين التي هي وقف لأجيال المسلمين بعامة وليست ملكاً لجيل من الأجيال يحق له التصرف فيها."[2]
والاعتبار الثالث الذي يأخذه القرار "الحماسي" في الحسبان مرتبط بأن لا يصب القرار أو الموقف أو أية نتيجة من نتائجها في مصلحة العدو الصهيوني بصورة أو بأُخرى، وهو الاعتبار الرئيسي الذي كان وراء عدم اللجوء إلى العنف لإِفشال الاتفاق، إذ إن المستفيد الأول سيكون إسرائيل التي راهن راسمو سياستها كثيراً على قيام حال من الاقتتال الفلسطيني الداخلي يثبت للعالم عدم أهلية الفلسطينيين لإدارة شؤونهم بأنفسهم من ناحية، وتؤثر من ناحية أُخرى في مزاج الناس الذين تحملوا كثيراً من الضغط والتضحيات، وتدفعهم إلى المطالبة بـ "عودة" أيام الاحتلال، هرباً وقرفاً من بشاعة الاقتتال والحرب الأهلية.
يبرز هذا الاعتبار بوضوح خلال أعوام الانتفاضة الستة، وخصوصاً في أعوامها الثلاثة الأخيرة، حينما وضح أن العبء الأكبر والرئيسي من العمل الانتفاضي اليوم ملقى على عاتق حماس وحدها، بينما تقوم منظمة التحرير باستثمار الانتفاضة وفعلها الجماهيري وتأثيرها الإعلامي استثماراً سياسياً. وبدا لبعض المحللين أن "تقاسماً وظيفياً" بين حماس ومنظمة التحرير قد تم على أرض الواقع، بحيث تقوم الأولى بتصعيد الانتفاضة وتقديم التضحيات وإنهاك الجبهة الإسرائيلية وتقوم الأُخرى بحصد النتائج والكسب السياسي. ولم يكن ذلك غائباً عن حماس، كما أنه لم يؤثر في استمرارها في تصعيد الانتفاضة. وكانت حماس تدرك أن النتائج قريبة المنال ستكون في مصلحة المنظمة سياسياً، ومع ذلك، أبقت على سياستها الانتفاضية ضد العدو المشترك، ولم تفكر حماس "فئوياً" لتقطع الطريق على مشروع المنظمة التسووي بإفقادها الورقة القوية الوحيدة التي كانت تحتمي بها على طاولة المفاوضات، وهي الانتفاضة، لأن وقف الانتفاضة سيفيد العدو الصهيوني قبل أي شيء آخر، على الرغم من أن ذلك الوقف كـ"تكتيك سياسي"!! يعتبر ضربة تكاد تكون قاصمة لاستراتيجية المفاوضات التي اتبعها الوفد المفاوض في واشنطن ثم في أوسلو، ويمكن أن يتم بطرق تحفظ لحماس شعبيتها وماء وجهها لو أرادت أن تقوم بذلك.
وفي صوغ الموقف ينظر أيضاً إلى اعتبار آخر هو عدم الانعزال السياسي - أو العزل الذاتي، بل نجد هنا عكسه تماماً، وهو الحرص على المشاركة السياسية الفاعلة من خلال معارضة حقيقية لا بلاغية. وهذا الاعتبار عكسته حماس في مواقفها من خيارات إعلان منظمة تحرير بديلة أو قيادة بديلة أو غير ذلك من مشاريع طُرحت في ساحة المعارضة الفلسطينية، بتشجيع من بعض القوى الإقليمية لاستغلالها ورقة ضاغطة في التنافس والصراع بين تلك القوى وقيادة منظمة التحرير؛ فقد رأت حماس أن كثيراً من تلك الطروحات يولد ميتا أو لا تتوفر له فرص حقيقية للبقاء في قيد الحياة، ولذلك كانت حماس مع الرأي القائل بتطوير جبهة معارضة وطنية إسلامية تنمو بصورة طبيعية وتتسلم القيادة مستقبلاً، كتطور غير مفتعل بل واقعي، وفي الميدان بدلاً من القفز في الهواء وإعلان هياكل لا تتحقق لها إمكانات النجاح.
ويظهر هذا الاعتبار أيضاً على نحو جلي وواضح في رسائل الشيخ أحمد ياسين، الزعيم الروحي لحركة حماس، والتي نشرت مؤخراً،[3] ودعا فيها الحركة إلى المشاركة في الانتحابات المقبلة، إذا كانت تشريعية حين قال: "... ولكن أرى والله أعلم أن الدخول في الانتخابات خير من عدمه إذا كان المجلس يملك صلاحية التشريع، لأننا نعارض ما يجري في الشارع فلماذا لا نعارض في قلب المؤسسة التشريعية التي ستجعل من حقها في المستقبل تمثيل الشعب الفلسطيني."
إن ما سبق يشكل قراءة مجملة لاعتبارات اتخاذ الموقف السياسي عموماً، ولكيف طبقت إزاء اتفاق غزة ـ أريحا أولاً. وكان القصد منها الإطلال على الأصول لا متابعة التفصيلات في موقف حماس من الاتفاق، وهو موقف رافض ومعروف، وأورد مثالبها ومخاطرها الكثيرة من خلال البيانات التي تحدثت عن "تفريط" الاتفاق بموضوعات جوهرية كالوضع النهائي للقدس، وحق العودة للاجئين، ووجود المستوطنات، وغياب السيادة، والعلاقات الاقتصادية الفوقية للطرف الصهيوني، والغموض الكلي الذي يحيط بالمفاهيم المتفاوض بشأنها، وغير ذلك، وهي كلها من الأمور التي قُتلت بحثاً وانتقاداً، سواء من قِبل المعارضة أو قِبل منتقدي الاتفاق حتى داخل م. ت. ف. نفسها، وتناولتها أدبيات حماس بالتفصيل.[4]
الممارسة:
في قراءة الممارسة التي ترجمت حماس من خلالها موقفها الرافض للاتفاق يمكن مطالعة جوانب متعددة على مستويين فلسطيني وعربي. وفي المستوى الفلسطيني، يمكن رؤية تلك الجوانب على صعيدي الأرض المحتلة وخارجها.
في داخل الأرض المحتلة، كانت الممارسة امتداداً لحرص حماس، منذ انطلاقها مع الانتفاضة الفلسطينية في أواخر سنة 1987، على الابتعاد عن سيرة التنظيمات الفلسطينية في لبنان، والتي مثل الصراع والتنافس إلى درجة الاقتتال ظاهرة من الظواهر الملتصقة بوجودها. ومع أن حجم حماس وقوتها في الداخل ينافسان، ويكادان أن يفوقا حجم حركة فتح وقوتها في بعض المناطق، وأحيانا حجم وقوة فصائل منظمة التحرير مجتمعة، الأمر الذي يوفر احتمالات صدام أكثر خصوبة من تلك التي توفرت في لبنان، فإن الصدام والاقتتال لم يبرزا إلى الوجود كظاهرة خلال الأعوام الستة الماضية، مع أن الساحة لم تخل من بعض تلك الصدامات، التي اتسمت بالعنف في بعض الأحيان، غير أنها إجمالاً كانت أدنى من مستوى الاحتمالات الموضوعي الناتج من وجود قوتين متوازيتين في النفوذ والطموح والتأييد الشعبي. ويرجع الفضل الأكبر في ذلك - كحقيقة علمية موضوعية وبعيداً عن محاولات الكسب الإعلامي – إلى سياسة الامتصاص التي طبقتها حماس، بحيث لم تبادر هي إلى اعتماد نهج الصدام، بل لم ترد في كثير من الأحيان بالمستوى نفسه من العنف الذي عوملت به. ولعل أبرز دليل على ذلك أنه عبر الصدامات المتعددة بينها وبين حركة فتح سقط من عناصرها ثلاثة شهداء بينما لم يسقط أي عنصر من الطرف الآخر. وتم كل ذلك نتيجة التزام عدم التصعيد، والابتعاد عن الاقتتال، وتوفير الدماء على الشعب.
شمل ذلك النهج أسلوب حماس في معارضة اتفاق غزة – أريحا أولاً، وتم التعبير عنه بوضوح من خلال إعلان تحريم الاقتتال الداخلي، وتحريم الاغتيال السياسي،[5] والتصفية الجسدية، ومن خلال الدعوة إلى ممارسة المعارضة بأقصى حد من ضبط النفس. وقد قوبل ذلك النهج بتأييد ومباركة واسعين، سواء من الداخل الفلسطيني أو من الخارج الفلسطيني والعربي، وحتى من قيادات م. ت. ف. نفسها، وأعطى حماس احتراماً ومصداقية جديدة، ولا سيما بعد الممارسة العملية التي تمثلت في الإدانة السريعة والفورية لحوادث الاغتيال الثلاثة، التي وقعت في قطاع غزة عقب توقيع الاتفاق، وراح ضحيتها ثلاثة من رموز فتح في القطاع،[6] كما تمثلت في المشاركة الفعلية في جنائزهم وفي المسيرات المنددة باغتيالهم. وشددت بيانات الحركة وبلاغاتها وتصريحات رموزها على انتهاج الأساليب الحضارية في المعارضة وعدم اللجوء إلى العنف، لكنها مع ذلك وضعت سقفاً وخطاً أحمر أمام سلطة الحكم الذاتي حتى لا تتعداه في تعاملها مع حماس فتضطر الأخيرة بالتالي إلى الرد بعنف. وهي هنا تشير إلى أن موقفها بعدم اللجوء إلى العنف قائم على قاعدة الاقتدار، وأنها من منطلق تلك القاعدة لا من غيرها تتجنب المنازلة العنيفة. والخط الأحمر المقصود هو قيام سلطة الحكم الذاتي بالاعتداء على وجود الحركة ومؤسساتها، وهو الخط الذي حدده الشيخ أحمد ياسين في رسائله المشار اليها آنفا، [7] وذلك في معرض رده على سؤال بشأن رد الفعل الملائم الذي يرى أن حماس يمكن أن تلجأ إليه في حال قيام سلطة الحكم الذاتي بوضع اليد على المؤسسات الإسلامية والمساجد، إذ أجاب بالقول: "... نحن أعلنا رفضنا للحكم الذاتي بطرق حضارية وبغير عنف، إذن، فنحن معارضة (مشروعة) ومن حقها أن تمتلك مؤسساتها الخاصة ولا يصح أن يعتدى عليها، وفي حالة الاعتداء أرى أن لا يتم ذلك بسهولة ويجب مقاومته مقاومة عنيفة."
بذلك رسمت حماس آلية ممارستها لمعارضة الاتفاق وحددتها بالمواجهة السياسية والإعلامية والإقناع الجماهيري، وألقت بالكرة في ملعب سلطة الحكم الذاتي، ووضعت لها خطاً أحمر، وطالبتها بالتزامه لقاء المعارضة غير العنيفة التي تنتهجها (حماس).
وفي الداخل أيضاً، وفي معالجة موضوع انتخابات مجلس الحكم الإداري، تبحث حماس في الصيغ الملائمة لتطبيق اعتبارات الموقف الذي تتخذه، وتحديداً هنا عدم الانعزال السياسي. ووفقاً لبيانات الحركة وتصريحات قادتها، فإنها ستشارك في أية انتخابات تشريعية. أما في حال إجراء انتخابات لمجلس إداري يقوم يتنفيذ التشريعات والسياسات الإسرائيلية، فإن الحركة لن تشارك فيها. [8] وبالإضافة إلى ذلك، فإن ثمة أفكاراً يتم التداول بشأنها مرتبطة بشكل الوجود السياسي لحماس في الأرض المحتلة، عقب قيام سلطة الحكم الذاتي. ويبدو أن أحد أهم الأشكال السياسية المطروحة هو تكوين حزب سياسي، وهو الأمر الذي تتم دراسته حالياً، بحسب مصادر حماس.
أما خارج الأرض المحتلة، وعلى الصعيد الفلسطيني ذاته، فقد عملت حماس على مواجهة الاتفاق ومعارضته من خلال صيغة الفصائل العشرة، ودعت إلى تطويرها لتأخذ شكل تحالف عريض يقوم على برنامج سياسي موحد. وقد شهدت الحركة السياسية الكثيفة للفصائل العشرة بعد إعلان بروز تباينات بين مختلف الطروحات الصادرة عن تجمعات تلك الفصائل، ويمكن إجمالها بثلاثة مشاريع رئيسية: [9]
المشروع الأول: طرحته الجبهة الشعبية (جورج حبش) والجبهة الديمقراطية (نايف حواتمه) اللتان لا تزالان ملتزمتين عضوية م. ت. ف. وبرنامجها. وقد ارتكز المشروع على أساس المحافظة على المنظمة هيكلاً وإنجازاً وطنياً يضم الفلسطينيين، ويجب عدم التخلي عنها، بينما يجب التخلص من قيادتها التي "انحرفت" عن البرنامج الوطني لمنظمة التحرير. لذلك فإن عنوان المشروع هو إعلان قيادة بديلة من قيادة منظمة التحرير تقوم بإجراء إصلاحات ديمقراطية عميقة في آليات عمل المنظمة، وتعود إلى برنامجها الوطني الأصلي.
المشروع الثاني: يقترح إعلان منظمة تحرير بديلة لا علاقة لها بالمنظمة القائمة حالياً والتي "ما عاد لها علاقة بفلسطين أو بالتحرير". وتعتمد هذه المنظمة الجديدة برامج الإجماع الوطني الفلسطيني، وتعلن مشروعية تمثيلها للشعب الفلسطيني على أساس تلك البرامج و "تخلع" في المقابل شرعية التمثيل عن م. ت. ف. وقد تبنت هذا المشروع فصائل المعارضة الفلسطينية المقيمة في دمشق بالأساس، وجبهة الرفض غير المنضوية تحت لواء م. ت. ف.
المشروع الثالث: كان مشروع حماس، وهو الداعي إلى إنشاء جبهة أو تحالف وطني إسلامي عريض ذي برنامج سياسي موحد، يضم في عضويته فصائل ومستقلين من مختلف الاتجاهات، ويسعى لإسقاط الاتفاق بالمواجهة السياسية والإعلامية. وكما يبدو، فإن السقف الظاهري لهذا المشروع أخفض من المشروعين الآنفين، على المستوى النظري، إذ لا يعلن حرب الشرعية صراحة على منظمة التحرير، ولا يناصبها العداء، ولا يفتح عليها ميادين المعركة، لكنه عملي وواقعي أكثر، ويظهر من خلال ذلك أن حماس تعلمت أيضاً من تجربة ومسيرة الفصائل الفلسطينية الرافضة، التي دأبت على رفع شعارات الحد الأقصى التي لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع، ولا تؤدي إلا إلى فقدان المصداقية على من يطرح تلك الشعارات في نهاية الأمر. لذلك، وبحسب مصادر حماس، [10] فـ "إن رؤية الحركة في اعتمادها لمشروع التحالف أو الجبهة استندت إلى جملة مرتكزات:
المرتكز الأول: إن صيغة الجبهة أو التحالف تكون قابلة للتطور التدريجي والطبيعي باتجاه أن تكون قيادة بديلة حقيقية، وتتجنب أية قفزة في الهواء أو حرق المراحل، وهي ستكسب من الطرف الآخر بشكلها هذا رموزاً مؤيدة، سواء في العلن أو في الموقف غير المعلن.
المرتكز الثاني: إن اكتساب الشرعية لا يكون بالإعلان عن اكتسابها بقدر ما يكون نتيجة لتطور طبيعي. ومن الممكن، في حال فشل اتفاق غزة - أريحا أولاً والمشروع التسووي عموماً – وهو ما نعمل عليه -، أن تتطور صيغة التحالف لتصبح صيغة قيادة جماعية للشعب الفلسطيني تمثله بالفعل وتعبر عن طموحاته، لكن العكس سيكون ضاراً وغير عملي، أي أن تنتكس أي منظمة بديلة معلنة فتصبح مجرد جبهة معارضة، إذ سيفقد أعضاؤها آنذاك مصداقيتهم ومرونة خياراتهم.
المرتكز الثالث: إن أي إعلان عن منظمة بديلة في الوقت الراهن مرتبط بظروف محلية وإقليمية ودولية، ومعظمها غير موات، كما أن ذلك الإعلان معناه الدخول في معركة "كسر عظم" مع ياسر عرفات شخصياً، خاصة في الداخل، وهنا سوف تتصدى حماس لمواجهة العبء الأكبر في مثل هذه المعركة، التي نعتقد أنها سوف تستنزف الجهود في غير اتجاه المعركة مع العدو.
المرتكز الرابع: هو أننا في حركة حماس، ونظراً لوجودنا القوي والرئيسي في الداخل، نتحمل نتائج ومنعكسات أي اتجاه أو قرار جماعي للفصائل العشرة، بينما يكون تأثير هذا القرار على بقية الفصائل محدوداً، نظراً لمحدودية وجودها وتأثيرها هناك. وعلى ذلك فنحن ملزمون بدراسة تأثيرات أي قرار على حركتنا بحيث يضاعف ذلك القرار من تأثيرنا في الساحة وليس العكس."
وبذلك، تكون حماس قد اختارت أن ترسخ أقدامها جيداً فوق كل أرض جديدة تكسبها بدلاً من أن تنتقل إلى مواقع جديدة غير آمنة وقد تكون أشبه بالرمال المتحركة. وهي بهذا تستثمر الزمن وتستثمر أي فشل متوقع، سواء للاتفاق برمته أو لأي جانب من جوانبه، حيث ستتقدم هي على أي جبهة يفشل فيها الطرف الآخر وتعرض في المقابل برنامجها البديل. وفي الوقت نفسه لا تعرض نفسها لاحتمالات فشل ذريع بتبني مشاريع معارضة وغير واقعية قد تفتقد إلى الحسابات الدقيقة فتقيّد نفسها بها. وقبل هذا وذاك فإنها تظل حريصة على قربها إلى النبض الجماهيري الذي يشكل قوتها الرئيسية، فلا تنفصل عنه أو تتعالى عليه بطروحات وشعارات (بدائلية) قد لا تعبأ الجماهير بها حقيقة.
على المستويين العربي والإقليمي: وهما يُعتبران حتى الآن أضعف مجالات تأثير ممارسة حماس لموقفها المعارض. وهنا نرى أن تلك الممارسة تسير في خطين: رسمي وشعبي، الأول معني بالاتصال بالدول العربية المحيطة بفلسطين ومحاولة التأثير في قرارها أو تصليب موقفها من التسوية،[11] ومن ذلك لقاءاتها مع مسؤولين في سوريا والأردن واليمن والسودان، وهي اتصالات لم تثمر كلها تقريباً تأثيراً جوهرياً في المسيرة السياسية في المنطقة. ويعود سبب ذلك بالأساس إلى اقتناع الأنظمة السياسية بأن خط التسوية الحالي هو خط يحظى بدعم عالمي وغربي، وخصوصاً دعم الولايات المتحدة وأوروبا، ولا يمكن مجابهته. لذا فإن استماعها لوجهات نظر حماس لا يكون جدياً بقدر ما يكون مقروناً بالشفقة عليها، نظراً إلى أنها تواجه تياراً ضخماً يحظى بدعم مطلق من الولايات المتحدة. ومن جانب آخر فإن بعض الأطراف الإقليمية في المنطقة يبدو أنه لا يزال غير راض عن النهج المستقل الذي تنتهجه حماس في صنع قرارها، وعن كونها بالتالي عصية على توظيفها سياسياً لتصبح ورقة بيد هذا الطرف أو ذاك، الأمر الذي يقلل آفاق الاعتماد المطلق عليها في حال الالتقاء عند موقف سياسي معها، أو في حال التقاطع مع معارضتها، سواء للاتفاق أو لمنظمة التحرير الفلسطينية.
أما الخط الثاني الشعبي فهو الأكثر دفئاً بالنسبة إلى حماس، وهو العمل مع الحركات الإسلامية والجماهيرية في المنطقة لمواجهة نتائج الاتفاق ونتائج الاتفاقات والمعاهدات الأُخرى المقبلة. وهي تراهن على تلك الحركات وترى أنها جزء مشكل لمستقبل المنطقة في العقود القليلة التالية، إن لم يكن في الأعوام المقبلة. والعنوان المشترك لمواجهة نتائج المعاهدات سيكون مكافحة التطبيع والاختراق الثقافي، وإفشال أية برامج تسووية على مستوى الشعوب، ومحاصرة المعاهدة "السلمية"(!) في الوزارات الرسمية، وقاعات استقبال كبار الزوار، وفي السفارات المتبادلة، والاستئناس بالحالة المصرية الناجحة على الصعيد الشعبي في مقاومة التطبيع. وكذلك إثراء مفهوم الجهاد بمعان متجددة بحسب المرحلة والحال، وذلك على أساس أن الجهاد لم يكن في يوم من الأيام محصوراً في استخدام السيف والسلاح، بل إنه اتسع ليشمل جبهات عريضة وواسعة؛ جبهات ثقافية، وخُلُقية، واقتصادية، واجتماعية، وسياسة. وكما أنه قد يسرّع الجهاد بالسلاح في تحقيق الانتصار على هذه الجبهات كلها، فإنه إنْ جاء في غير أوانه، وقبل إنهاء الجهوزية التامة، قد يسرّعّ في الهزيمة على الجبهات نفسها، فتتكاثر الكارثة اختزالياً لتصبح كوارث لا تُعًد.
[1] ومن ذلك الحديث النبوي الشريف: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، إلا الفرقد من شجر اليهود." رواه مسلم.
كذلك الحديث الذي يقول: "لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك،." قالوا "يا رسول الله وأين هم؟" قال: "ببيت المقدس وفي أكناف بيت المقدس." رواه أحمد.
[2] أنظر ميثاق حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، المادة الحادية عشرة، الصادر في آب/أغسطس 1988.
[3] أنظر: مجلة "الوسط" (لندن)، العدد 92، 1/11/1993.
[4] أنظر: بيانات حماس الدورية: 102، 103، 104 بتوايخ 5/9/1993، 5/10/1993، 3/11/1993 بالترتيب، كذلك نص بيان المؤتمر الصحافي الذي عقدته حماس في عمان بتاريخ 4/9/1993.
[5] بيان حماس الدوري رقم 103 بتاريخ 5/10/1993، وكذلك بيان المكتب الإعلامي بتاريخ 22/9/1993.
[6] وهم محمد أبو شعبان، وماهر كحيل، وأسعد الصفطاوي، الذين اغتيلوا في القطاع على أيدي مجهولين في 21/9، 15/10، 21/10/1993 بالترتيب.
[7] مجلة الوسط، مصدر سبق ذكره.
[8] بيان المكتب الإعلامي لحركة حماس بتاريخ 2/10/1993.
[9]بحسب محاضر اجتماعات الفصائل العشرة المتتالية في دمشق في أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر 1993.
[10] محمد نزال، ممثل حماس في الأردن، في رده على استفسارات الكاتب بتارخ 30/10/1993.
[11] أنظر، على سبيل المثال: مذكرة حماس الموجهة إلى وزراء خارجية الدول العربية خلال اجتماعهم في القاهرة بتاريخ 18 أيلول/سبتمبر 1993.