مقدمة
لبنان في قلب الصراع العربي ـ الإسرائيلي
ترافق لبنان والقضية الفلسطينية منذ أن ولدا في زمن واحد. فعقد الشراكة الطائفية الذي صاغه ميثاق 1943 وتكرس في ولادة الدولة اللبنانية المستقلة، كان ولا يزال بعد نصف قرن من إبرامه، محاولة لبناء تجربة خاصة ومتميزة في عناصر تركيبها عن المحيط الذي تقوم في وسطه.
ففيما تشكل وحدة الدين عنصراً طاغياً في تركيب هذا الوسط، قام لبنان على طائفتين رئيسيتين تضمان عدة أقليات كبيرة. وكان العقد الاجتماعي الذي صاغه ميثاق 1943 يفترض تطوير التجربة من خلال تغليب التوجه الوحدوي بين أطراف العقد، واستكمال بنائه خطوة وخطوة.
وفي الفترة نفسها أقامت الحركة الصهيونية الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين، تجربة مماثلة للمحيط العربي، في غلبة الوحدة الدينية على بنية مجتمعها، ولكنها مناقضة في جوهرها للتجربة اللبنانية التعددية.
لا يعترض العرب، من حيث المبدأ، على التجربة الصهيونية بحد ذاتها، ولم يكونوا ليعنوا بها لو قامت على أرض غير أرضهم، ولم تقتلع شعباً من شعوبهم وتشرده في بقاع الأرض، وتتحالف مع الإمبرياليات العظمى في كل حقبة زمنية ضد تطلعهم إلى صوغ حياتهم بما يحقق أهداف شعوبهم في التحرر والوحدة والاستقلال. هذا هو مسرح الصراع بين حركتين فتيتين نشطتا منذ أوائل القرن: الصهيونية والحركة القومية العربية. وكان لبنان جزءاً من هذا المسرح المضطرب بعناصره الخصبة ودينامية التفاعل الذي يولده التنوع والذي يمكن تسخير إمكاناته المميزة في هذا الاتجاه أو ذاك.
ولقد كانت المسألة التي نشأت عن قيام إسرائيل وانفجار القضية الفلسطينية (ومنها حلول أعداد كبيرة من الفلسطينيين في لبنان) أحد أبرز عناوين الانقسام الداخلي في لبنان. والصحيح أن القضية الفلسطينية لم تكن سبباً للانقسام، بقدر ما هي دليل عليه ومظهر من مظاهره. فاللبنانيون منقسمون على صيغة الحكم (من يحكم لبنان وكيف؟) وعلى الانتماء إلى العروبة السائدة في منطقتهم. وكان يمكن أن تشكل إسرائيل تحدياً يقود اللبنانيين إلى التوحد، وإلى إنجاح التجربة اللبنانية الرائدة في قدرتها على الاستيعاب الحضاري والثقافي ومواكبته وبناء المجتمع المتنوع على أسس الحرية والعدل والديمقراطية. لكنها كانت أحد أهم العوامل التي أسهمت في توجههم نحو الصراع الانقسامي الذي بلغ ذروته في حرب الستة عشر عاماً. ولا شك في أن إيجاد حل شامل للقضية الفلسطينية والصراع العربي ـ الإسرائيلي ينتزع من المسالة اللبنانية أحد عناصر تفجرها.
تزامنت القضيتان اللبنانية والفلسطينية إذن وتأثرتا بعضهما ببعض سلباً وإيجاباً في المراحل المختلفة من مسيرتيهما. ففي إحدى هذه المراحل شكلت هجرة الفلسطينيين إلى لبنان جزءاً من حالة الازدهار اللبناني (رؤوس أموال وخبرات وأيد عاملة)، وفي مرحلة لاحقة احتضن لبنان الثورة الفلسطينية ودفع غالياً ثمن المكاسب التي حملتها إلى طاولة المفاوضات.
وعندما عقد مؤتمر مدريد في أواخر العام 1991، كان ملف العلاقات اللبنانية ـ الفلسطينية ـ الإسرائيلية، في هذه المفاوضات، يضم موضوعين كبيرين: احتلال جزء من الأرض اللبنانية، ومسالة توطين الفلسطينيين المقيمين في لبنان.
أولاً: التحديات التي تطرحها المفاوضات على لبنان
حدد مؤتمر السلام في مدريد الأسس التي انطلقت منها المفاوضات. وقد صيغت هذه الأسس في وثائق المؤتمر. ومع أن رسائل التطمينات الأميركية ورسائل الدعوة إلى المؤتمر، لا تشكل مستندات مرجعية، إلا إن الأطراف المشاركة تعتبرها جزءاً من الالتزامات الأدبية التي ينبغي أن توجه رعاية الراعي الأميركي ودوره في سير أعمال المفاوضات.
وعلى الرغم من أن لبنان شدد، في كل ما صدر عنه من وثائق ومواقف، على أنه يشارك في المفاوضات بهدف واحد: تنفيذ القرار 425 الصادر عن مجلس الأمن في 19 آذار/مارس 1978، ولا علاقة له بالقرارين 242 و338 اللذين يخصان الأطراف العربية الأخرى في المفاوضات وهي: سوريا والأردن والفلسطينيون، فإن المفاوضات (الثنائية والمتعددة) تدور بالفعل على الأسس التالية: (1) القراران 242 و338. (2) ربط قضية احتلال الجنوب اللبناني وجلاء إسرائيل عنه بالحل الشامل للصراع العربي ـ الإسرائيلي. (2) ربط قضية احتلال الجنوب وجلاء إسرائيل عنه بالحل الشامل للصراع العربي ـ الإسرائيلي. (3) ربط الانسحاب الإسرائيلي بتوقيع معاهدة سلام مع لبنان. (4) طلب إسرائيل توطين الفلسطينيين في البلدان المضيفة كجزء من الحل الشامل للقضية الفلسطينية.
يتفق الطرفان الأميركي والإسرائيلي على 1 و3 و4، ولا يمانعان في أن يعقد لبنان صلحاً منفرداً مع إسرائيل، إذا استطاع إليه سبيلاً، لكنهما صارا، على الأرجح مقتنعين بأن لبنان لا يستطيع ذلك، وأن قضيته، بالتالي، جزء من التسوية الشاملة.
وقبيل مؤتمر مدريد، تباينت آراء القيادات السياسية اللبنانية فيما إذا كان من مصلحة لبنان المشاركة في المؤتمر، أم أن من الأفضل له ألا يشارك ما دامت المفاوضات تقوم على القرار 242. ذلك لأن عدم المشاركة يُبقي موضوع الاحتلال محصوراً بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 425 وغير مرتبط بالحل الشامل للصراع العربي ـ الإسرائيلي.
ويبدو لنا أن النقاش تناول الموضوع بالشكل فقط. إذ سواء شارك لبنان في المفاوضات أو لم يشارك، فإنه مرتبط بالحل الشامل، بحكم الوجود العسكري السوري والاحتلال الإسرائيلي، وانهيار الموقف العربي وغياب سلاح التضامن، وقبل ذلك بسبب الانقسام الداخلي العميق الذي يشمل الإرادة الوطنية، ويقضي على استقلالية القرار. فالشعب الموحد هو الذي يستطيع التعبير عن إرادته الحرة وبناء نظامه المستقل على أساس ديمقراطي جوهره الانتخاب وصحة التمثيل، فأين نحن من ذلك بعد الطائف؟
1 ـ ربط قضية احتلال جنوبي لبنان بالتسوية الشاملة
يتمسك لبنان في المفاوضات الدائرة بالقرار 425 على أساس أن هذا القرار الدولي"يدعو إلى الاحترام الصارم لوحدة أراضي لبنان ولسيادته ولاستقلاله السياسي داخل حدوده المعترف بها دوليا" و "يطلب من إسرائيل أن توقف فوراً عملها العسكري ضد سلامة الأراضي اللبنانية، وأن تسحب فوراً قواتها من الأراضي اللبنانية كافة".(1) ويقوم الموقف اللبناني على أن تنفيذ هذا القرار يعيد العلاقة مع إسرائيل إلى نطاق اتفاق الهدنة عام 1949، إلى حين تحقيق حل شامل للقضية الفلسطينية والصراع العربي ـ الإسرائيلي وعقد معاهدات سلام يشارك لبنان فيها مع بقية الأطراف العربية المعنية.(2)
وقد عبرت الإدارة الأميركية في عهد الرئيس بوش عن تعاطفها مع المطلب اللبناني فأكدت رسالة التطمينات الأميركية إلى لبنان(3) (المؤرخة في 15 تشرين الأول/أكتوبر 1991) أن "الولايات المتحدة تستمر في تأييدها قرار مجلس الأمن رقم 425، وهي تعتقد بأن للبنان الحق في الاستقلال ووحدة أراضيه، ضمن حدوده المعترف بها دولياً...". كما تقر الولايات المتحدة بأن "التطبيق الكامل للقرار 425 لا يتوقف على تسوية شاملة في المنطقة ولا يرتبط بها...". وتؤكد الولايات المتحدة أيضاً التزامها بـ "انسحاب القوات غير اللبنانية كافة من (لبنان) ونزع سلاح جميع الميليشيات... ودعم جهود الحكومة اللبنانية من أجل بسط سلطتها على أراضي البلاد كلها من خلال تطبيق اتفاق الطائف". لم يقترن هذا "التعاطف" بأية إجراءات عملية تؤدي إلى تنفيذ القرار 425. بل ظل شكلياً كونه ساوى بين حق لبنان في "انسحاب القوات غير اللبنانية كافة" من أراضيه، وبين أمن إسرائيل وحقها في السلام الكامل مع جيرانها، الأمر الذي ترجم خلال سير المفاوضات بالصفقة الشاملة ضمن معاهدة سلام غير ممكنة إلا في إطار السلام العربي ـ الإسرائيلي الشامل.
والواقع أن ذكر القرار 425 لم يعد يتكرر في الوثائق الأميركية اللاحقة مثل الدعوة التي وجهها الرئيسان جورج بوش وميخائيل غورباتشوف في 18 تشرين الأول/أكتوبر 1991 إلى الدول المعنية بحضور مؤتمر مدريد؛(4) فقد نصت هذه الدعوة على أن المفاوضات "ترتكز على قراري مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 242 و 338..." من دون أية إشارة إلى القرار 425.
كذلك أكد الرئيس بوش في الخطاب الافتتاحي لمؤتمر مدريد (30/10/1991) والوزير جيمس بيكر في كلمته في المؤتمر (1/11/1991) أن المفاوضات تدور على أساس القرارين 242 و338 من دون أي ذكر للقرار 425. أما خطاب رئيس الحكومة الإسرائيلية يتسحاق شمير فقد خلا من الإشارة إلى أي من القرارات الدولية. وذكرت رسالة التطمينات الأميركية الموجهة إلى إسرائيل في 18/10/1991 أن المحادثات "تستند إلى قراري مجلس الأمن 242 و338 بما في ذلك إبرام معاهدات سلام وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين إسرائيل وجيرانها العرب". ولم تشر الفقرة المتعلقة بلبنان إلى القرار 425، بل نصت على "حق إسرائيل بالأمن على امتداد الحدود الشمالية... وانسحاب جميع القوات الأجنبية من لبنان، وتجريد كل الميليشيات من أسلحتها".(5)
وعبر الرئيس الأميركي الجديد بيل كلينتون في وقت لاحق عن اعتقاده بأنه "لا يمكن حل مشكلات لبنان إلا في إطار التسوية السلمية الشاملة في الشرق الأوسط".(6)
2 ـ الانسحاب مقابل معاهدة سلام
حدد يتسحاق شمير في رده على كلمات رؤساء الوفود في مؤتمر مدريد (1/1/1991) شروط الانسحاب من لبنان بما يلي: "ليست لدينا أية مطامع بالأرض اللبنانية، ويمكننا في إطار معاهدة سلام وإنهاء الوجود السوري إعادة الأمن والاستقرار إلى الحدود بين بلدينا".(7)
ولم يتغير موقف حكومة يتسحاق رابين من المفاوضات. ففي أكثر من مناسبة كانت لرابين تصريحات ينفي فيها وجود أطماع لإسرائيل في الأرض والمياه اللبنانية، وأنه "يتوقع ويأمل بقيام حكومة لبنانية قوية تكون قادرة على السيطرة كلياً على أراضيها من دون وجود قوات أجنبية كالقوات السورية، وعندئذ يمكن الاتفاق وتوقيع معاهدة سلام بين بلدينا".(8)
وسجل الوفد اللبناني في محادثات واشنطن تأكيدات الإسرائيليين أن لا مطامع لهم في الأرض والمياه اللبنانية.(9)
لكن الموقف الإسرائيلي من ربط الانسحاب بمعاهدة سلام تكرر في جميع المواقف الإسرائيلية سواء في جلسات المفاوضات أو خارجها. فقد أكد بيان للمستشار الإعلامي للوفد الإسرائيلي إلى المفاوضات الثنائية التزام إسرائيل معاهدة سلام بكل مقوماتها الأمنية والمدنية، بين البلدين، وأشار إلى أن هذا الأمر راسخ في أساسيات مؤتمر مدريد.(10) وأكد ذلك رئيس الوفد الإسرائيلي أوري لوبراني، في الجولة الخامسة من المفاوضات في واشنطن إذ قال إن المطلوب هو معاهدة سلام، وأنه "إذا عزل القرار 425 عن إطار معاهدة السلام فسيكون لدينا مزيد من المشاكل والعنف والاضطرابات".(11)
وتأكيداً لمراوحة المفاوضات اللبنانية ـ الإسرائيلية في مكانها، ريثما يتضح مصير المفاوضات مع الطرفين السوري والفلسطيني، قدم الوفد الإسرائيلي، في الجولة السادسة من المفاوضات، مقترحات الغرض منها إشراك السلطات اللبنانية في تحسين أوضاع المناطق اللبنانية تحت الاحتلال، مؤكداً "أن إسرائيل ستبقي جيشها في الحزام الأمني ما لم يبرم اتفاق سلام مع لبنان"، وأن التوصل إلى "اتفاق مع لبنان يتوقف أكثر من أي وقت مضى على اتفاق شامل مع سوريا".(12) وقد وصف رئيس الوفد اللبناني، سهيل شماس، هذه الاقتراحات بأنها: "(1) تشريع الاحتلال. (2) جعله قانونياً. (3) دعوة الحكومة المركزية اللبنانية إلى أن تصبح سلطة إدارية تحت سلطة قوات الاحتلال".(13) وأن هذا الطرح يعني بالعرف الدبلوماسي "تطبيع العلاقات عبر الباب الخلفي".(14)
ويفهم من تصريح أدلى به رئيس الوفد اللبناني، شماس، أن إسرائيل تحاول، في المفاوضات استمالة فريق لبناني ضد آخر على أساس طائفي. فقد كان جوهر موقفها في الجولات السابقة "معاهدة سلام منفصلة"، وعلق قائلاً: إذا كان موقف إسرائيل يعكس رغبتها في استغلال الوضع الداخلي في لبنان فإن هذا "توجه خاطىء" لأن الوفد اللبناني يعكس بروحه وتركيبته الوفاق والوحدة اللبنانيين. وأضاف أن لوبراني أبلغهم أن هناك "نوعاً من الإجماع الوطني في إسرائيل على أنهم لن ينسحبوا أبداً من لبنان إلى أن يوقع معهم معاهدة سلام".(15)
وفي هذا السياق يأتي عرض الوفد الإسرائيلي إنشاء لجنة عسكرية ـ لبنانية مشتركة،(16) رأى فيها رئيس الوفد اللبناني سهيل شماس، محاولة للعودة إلى ما يشبه اتفاق 17 أيار/مايو 1982، بأشكال مختلفة.(17) وهذا يعني إصرار إسرائيل على اعتبار أن اتفاق الهدنة لم يعد قائماً، وكذلك القرار 425.(18)
وقد بلور الوفد الإسرائيلي اقتراحه بتشكيل مجموعة عمل عسكرية مشتركة تجتمع في منطقة الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية أو في واشنطن بالقرب من قاعة المفاوضات الثنائية لدرس المشاكل الأمنية وتقديم الاقتراحات العملية. والجديد في نص الاقتراح الذي نشرت ترجمته العربية فقرة تقول: "آخذين في الاعتبار الرغبة اللبنانية بانسحاب القوات الإسرائيلية من أراض لبنانية، وعودة السلطة الفعالة للبنان في البقعة كما هو مبين في قراري مجلس الأمن الدولي 425 و426...".(19)
وقد اعتبر بعض الجهات الرسمية اللبنانية هذه الإشارة إلى القرار 425 تطوراً إيجابياً طفيفاً في الموقف الإسرائيلي.(20)
والواقع أنه لا يمكن بناء أي قدر من التفاؤل استناداً إلى هذه الفقرة. فالمفاوض الإسرائيلي أثبت كفاءته في جميع المفاوضات التي دارت سابقاً وتدور حالياً مع الأطراف العربية، في استخدام مختلف الصيغ والأساليب والمناورات، مشفوعة باعتماد سياسة "الأمر الواقع" Fait accompli وتثبيته على الأرض، وصولاً إلى تحقيق أهدافه. فالمفاوض الإسرائيلي يحاول، من خلال عرض إنشاء مجموعة عمل عسكرية، التركيز على الجانب الأمني، مطالباً، في مقدمة ما يطالب به، بوقف نشاط أي نوع من أنواع المقاومة، وإبقاء العلاقات المفتوحة مع المناطق الجنوبية المحتلة، وتكريس وجهة نظره بأن اتفاق الهدنة صار لاغياً، وضم جهود الجيش اللبناني وقوات الأمم المتحدة إلى جهود جيش لبنان الجنوبي لإرساء الأمن والهدوء على حدوده الشمالية، وذلك ريثما تنضج شروط توقيع معاهدة سلام لبنانية ـ إسرائيلية جنباً إلى جنب مع بقية الأطراف العربية.
ويجد "الشريك الأميركي الكامل" هذا الطرح "منطقياً" ومعقولاً ويضغط باتجاه بلورته في مشروع عملي.
وإذا تمنع الطرف اللبناني عن الاستجابة تعود المفاوضات إلى نقطة البداية، والبحث عن "موضوع" آخر للمراوحة وملء الوقت الضائع، ما دام لبنان لا يستطيع وقف نشاط المقاومة قبل انسحاب الجيش الإسرائيلي إلى الحدود الدولية، وما دامت التسوية مع لبنان مرهونة بمصير المفاوضات العربية ـ الإسرائيلية ككل، ولا بد لها من أن تأتي على صورة التسويات الأخرى ومثالها،(21) وما دام السلام مع إسرائيل لا يمكن أن يكون لبنانياً فقط بل عربياً.
ومهما حصل من خلافات في أثناء المفاوضات فإن أياً من الطرفين لا يرغب في وقفها وتحمل مسؤولية تعطيلها. وقد تأكد ذلك في الجولة العاشرة من المفاوضات، عندما أعلن أوري لوبراني أن القرار 425 ليس أساساً للمفاوضات الجارية وأن الوفد الإسرائيلي لم يأت ليتفاوض على هذا القرار أو أي قرار دولي آخر، بل على معاهدة سلام تنظم العلاقات بين البلدين وتشمل، فيما ستشمل، مضمون القرار 425، وأنه لا يعتبر وجود القوات الإسرائيلية في لبنان "احتلالاً" بل مجرد وجود دفاعي ينتهي بانتهاء أسبابه.(22)
ويعني هذا أن إسرائيل تريد من لبنان، ومن الأطراف العربية الأخرى، سواء في المفاوضات الثنائية أو المتعددة الأطراف، أن يدفعوا ثمناً كاملاً لحروبها، أي أن تحقق أهدافها في فلسطين أولاً وأساساً، ومع سوريا ولبنان والأردن كدول جوار ثانياً، ومع السعودية والكويت وغيرهما من بلدان النفط والمال قبل أولاً وثانياً، وأن تحتفظ ـ مع ذلك كله ـ بتفوقها العسكري الساحق، كي يحمي هذا التفوق المكاسب المحققة.
ثانياً: لبنان ما بعد المفاوضات
1 ـ التسوية المحتلمة واستمرار الصراع
إذا كان لا بد للنتائج من أن تعكس المقدمات، فإن التسوية المقبلة لا يمكن أن تكون متوازنة وعادلة. فالمفاوضات تدور على أرض التسوية الإسرائيلية - الأميركية، وللعرب فيها بقدر ما يزنون في ميزان القوى السائد بينهم وبين عدوهم وحليفه الجبار. والتسوية غير المتوازنة وغير العادلة لا يمكن أن تكون سلاماً شاملاً ودائماً، حتى لو سميت كذلك.
وليس هذا المنحى جديداً ولا مفاجئاً، فلقد نما وتطور في مسار طويل ومتدرج، أرسى على أرض الواقع دعائم الموقف الإسرائيلي ـ الأميركي.
يخوض لبنان والعرب حرب المفاوضات وهم في حالة فقدان التوازن الحضاري والسياسي والمالي: انقسامات وحروب أهلية وخلافات حادة، واحتلال مباشر في الخليج والقرن الإفريقي، وعزلة الأنظمة عن شعوبها، وانفجار الطوائف والإثنيات، وغياب كامل عن المشاركة في التقدم العلمي والتطور التقني، وفقر ومرض وأمية في الأوساط الشعبية، وفساد وبيروقراطية في الإدارة، وتخلف وغش في أنظمة الحكم والمؤسسات المدنية والشعبية على مستوى الجماعة والفرد، وزيف ديمقراطي، وفهم سقيم للدين والقيم، وانهيار الطبقات الوسطى التي تحمي التوازن الاجتماعي، وخراب الجامعات التي تصنع النخب والكادرات، وهجرة العقول والكفاءات بحثاً عن مجتمعات تحترم قيمة الحياة وحقوق الناس.
هذا هو حال الأنظمة والمجتمعات العربية التي تخوض معركة السلم "العادل والشامل" مدمَّرة ومتنافرة. فعرب المفاوضات الثنائية الساعون لاستعادة أراضيهم المحتلة هم غير عرب المفاوضات المتعددة التي تخطط لمستقبل المنطقة على أساس بناء النظام الإقليمي الشرق أوسطي وفي القلب منه إسرائيل، على أنقاض النظام الإقليمي العربي المتداعي. وفي هذا الوضع تنشط حركة التطبيع مع إسرائيل على مختلف الصعد (وفي الجنوب اللبناني نموذج تطبيعي متنام لا يلتفت إليه أحد)، وتلغى أنظمة المقاطعة تدريجاً، وتتلاشى روح المقاومة العربية ومعها ثقافة قرن كامل.
تبدو الأنظمة العربية، في هذه المرحلة، وكأنها لا تملك خياراً آخر سوى الانصياع إلى الإرادة الأميركية والجلوس إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل. وتدرك هذه بدورها عناصر القوة والظروف المتاحة فتعتصر طاقات مفاوضيها على التنازل، وتقطف ثمار هزائم العرب منذ قرار الانفكاك عن الدولة العثمانية والتطلع إلى تأسيس الكيان العربي المستقل حتى هزيمتهم الساحقة في حرب الخليج الثانية. أما الشعوب العربية، التي لم تُدعَ يوماً إلى خوض أية حرب، بل خيضت الحروب دائماً بالنيابة عنها وباسمها، فتسلم بنتائج الهزيمة وتنحني أمامها وسط حالة من التشتت والضياع الكامل على مستوى المفاهيم والأهداف والوسائل.
هل تستطيع العقلانية العربية الأقلوية أن تؤسس شيئاً للمستقبل وسط كل هذا الركام؟ أليس هذا هو رهاننا الوحيد لتجديد الحياة والمفاهيم العربية.. إذا كان للحتمية التاريخية بعد من معنى؟ هذا التجديد الذي يشمل مفهوم الوحدة القومية، والعلاقة بين العروبة والإسلام، ومفهوم الاستقلال العربي وديمقراطية أنظمة الحكم والمؤسسات، والأمن العربي، وحسن استثمار الثروات العربية، وحق الأمة العربية في حماية كيانها وثقافتها وحضارتها واقتصادها في مواجهة إسرائيل والصهيونية، أياً كانت نتائج المفاوضات الدائرة، على أساس أن الصراع مع الصهيونية صراع وجود لا صراع حدود.
2 ـ أي لبنان وأي دور؟
منذ كان لبنان وهو يطمح إلى دور مميز في محيطه. فالتركيب الطائفي بتوازنه اللازم لديمومة البلد، فرض بمكوناته ومنها الانفتاح على الغرب، هامشاً من الحريات ومن المستوى العلمي والثقافي، ما جعل من لبنان تجربة خاصة في هذا الشرق تختزن عناصر قوتها وتفجيرها في آن.
قام سلم "الطائف" بعد الحرب الضروس على توازن جديد أقرب إلى أن يكون فيدرالية طوائف. غير أن الخلل في تطبيق اتفاق الطائف، خصوصاً في الانتخابات النيابية، وما تلا من خلل في صيغة الحكم وتوازنه، أشاع شعوراً عاماً بالإحباط وبعدم قدرة النخب الفكرية والثقافية على إحداث أي اختراق في تحالف قادة الميليشيات وبقايا السياسيين التقليديين ورجال المال الذي يتصدرون مرحلة "إعادة البناء".
ولأنه صحيح أن شروط تكوين النظام اللبناني هي نفسها شروط استمرار الكيان، فإن التجربة اللبنانية محكومة بتطوير نفسها لتصبح وطناً أو تنتهي إلى تفكيك الكيان، فَتَآكُلِ أجزائه، فَتَقاسُمِها.
لقد نشأت، عبر خمسين سنة من الاستقلال، عصبية لبنانية. والوطن اللبناني ليس طموحاً وهدفاً، بل هو أكثر من ذلك بقليل. إنه حقيقة في قيد التكوين سواء أرادها البعض منتمية إلى إطار عربي أوسع، أو أرادها البعض الآخر صافية لذاتها. فالعلاقة عضوية بين حتمية التوجه نحو عقلنة العلاقات العربية وبين حتمية تطوير التجربة اللبنانية باتجاه تخصيب عناصر الثراء فيها حضارة وثقافة وعلماً وحريات ديمقراطية بعيداً عن التعصب الطائفي والانغلاق المذهبي اللذين اعتقلا حركة التطور في لبنان وصادرا إمكانات التقدم.
في ضوء هذا تظل التجربة اللبنانية، بما هي تفاعل ثقافي وحضاري لا يعيش إلا في مناخ حر ديمقراطي، حاجة عربية وإن ازدهرت مرافئ العرب ومطاراتهم وأسواقهم التجارية وتكدست في مخازنهم أجهزة الكمبيوتر والتقنيات الحديثة، وهو أفضل، في أي حال، من عادة تكديس الأسلحة، وإن كان كلاهما معرضاً لصدأ العقول قبل أن يصدأ الحديد.
ولأن لبنان حالة خاصة في المنظومة العربية، فإن دوره لا يكون بتلقي عروبة مصنّعة له ولسواه، بل في الإسهام الفعلي، مع النخب العربية المستنيرة والعصرية، في تجديد الفكر القومي، وتكوين وترسيخ الهوية العربية الحضارية التي تستلهم التراث من دون عقد، وتنتمي إلى حضارة العصر وتقدمه من دون إمحاء، في آن معاً.
ولبنان قبل ذلك، وفي أي حال، حاجة لأبنائه ومستقبل أجياله الذين يتوقون إلى العيش في وطن ينفض عن نظمه الطائفية والعشائرية ويتمتع الإنسان فيه بالحرية والكرامة والعدل والعيش المحترم. وهو بتكوينه نقيض الدولة اليهودية الصهيونية العنصرية القائمة على الجنس والدين الواحد. وهذا هو أحد أبرز عناصر الخصومة بين لبنان وإسرائيل. لا يلغيه اتفاق سلام، بل يزداد حدة كلما أوغلت إسرائيل في التجانس العنصري، وتقدم لبنان على طريق إنجاح تجربة العيش المشترك بين فئاته كافة.
خاتمة
فشل اتفاق الطائف، من خلال تنفيذه، في استنهاض اللبنانيين جميعاً لإعادة البناء في مختلف المجالات والحقول. ويشارك لبنان في المفاوضات العربية ـ الإسرائيلية بقشرة خارجية من "الوحدة الوطنية" لا تخفي الانقسام المستمر في العمق والذي ينعكس تفككاً ووهناً. أنهى اتفاق الطائف القتال ولم ينه الحرب، فهي الاحتمال الآخر الماثل باستمرار، إذا فشل اللبنانيون في إعادة صوغ عقدهم الاجتماعي بشجاعة وحكمة.
يشارك الحكم اللبناني في المفاوضات، بإرادة دولية وعربية، لكنه يكاد لا يفعل شيئاً في مواجهة الأخطار المحدقة. فهو يسلم، ضمناً، بأن مسألة تحرير الجنوب ومسألة التوطين، شأن يتجاوزه. كما أحدثت الحرب دماراً يفاقم خطر التفوق الاقتصادي والعلمي الإسرائيلي، ويضعف إمكانات لبنان في مجال المنافسة. بل إن لبنان في وضعه الراهن غير قادر على حماية مياهه والحيلولة دون تحول أرضه وأسواقه إلى جسر عبور إسرائيلي إلى الداخل العربي، إذا ما أنجز الصلح العربي ـ الإسرائيلي.
إن نقطة البداية هي تصحيح الخلل الداخلي في توازن الحكم، وفي المصالحة الشاملة بين مختلف الفئات اللبنانية على أساس الحوار الحر والمنفتح الذي يتناول كل عناصر الخلاف مهما بلغت، ما دامت الرغبة الأكيدة في العيش المشترك وبناء وطن واحد متوافرة. ذلك أن استنهاض جميع اللبنانيين لإعادة البناء في مختلفة المجالات هو الشرط الأساسي للتمكن من مواجهة التحديات المصيرية في السنوات المقبلة.
* ورقة مقدمة إلى ندوة نظمها النادي الثقافي العربي في بيروت (21 - 26 حزيران/يونيو 1993) في مناسبة مرور خمسين سنة على استقلال لبنان وتأسيس النادي، وموضوعها: "بعد خمسين سنة من الاستقلال، دور لبنان ووظيفته ـ قراءة جديدة".
المصادر:
(1) نص القرار في "قرارات الأمم المتحدة بشأن فلسطين والصراع العربي ـ الإسرائيلي"، مؤسسة الدراسات الفلسطينية ومركز الدراسات والوثائق في أبو ظبي ـ بيروت 1980، ص 41.
(2) خطاب وزير الخارجية فارس بويز في مؤتمر مدريد، "النهار" (بيروت)، 1/11/1991.
(3) النص الكامل في جريدة "السفير" (بيروت)، 29/10/1991.
(4) النص الكامل في "الحياة" (لندن)، 21/10/1991.
(5) النص الكامل في "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 8، خريف 1991، ص 288 ـ 291.
(6) حديث صحافي للرئيس كلنتون، مجلة "الوسط" (لندن)، العدد 41، 9/11/1992، ص 15 ـ 16.
(7) "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 8، خريف 1991، ص 225.
(8) "النهار"، 8/9/1992.
(9) مؤتمر صحافي لرئيس الوفد اللبناني إلى المحادثات الثنائية سهيل شماس ـ "السفير" 16/12/1991، وتصريح لرئيس الوفد الإسرائيلي أوري لوبراني ـ "النهار"، 28/8/1992.
(10) "السفير"، 5/3/1992.
(11) "النهار"، 20/4/1992.
(12) المصدر نفسه، 28/8/1992.
(13) المصدر نفسه.
(14) "السفير"، 29/8/1992.
(15) المصدر نفسه.
(16) "النهار"، 16/9/1992.
(17) "السفير"، 11/12/1992.
(18) بيان صادر عن الوفد الإسرائيلي في نهاية الجولة الثامنة ـ "السفير"، 17/12/1992.
(19) "السفير"، 11/5/1993 ـ ولم ينف وزير الخارجية فارس بويز النص الذي نشر في "السفير" ولكنه قال: "ليس نصاً حرفياً ولا ترجمة دقيقة وصحيحة". "الحياة"، 23/5/1993.
(20) وزير الخارجية فارس بويز، مجلة "الوسط" ـ العدد 68 ـ 17/5/1993، ص 6.
(21) "نحن في محاولة جدية صعبة ومعقدة للوصول إلى حل شامل عادل ودائم... كل المسارات العربية مترابطة بعضها ببعض للوصول إلى حل يؤمن السلام النهائي... السلام المنفرد مرفوض والاتفاقات المنفردة مرفوضة... في عملية السلام نحن مرتبطون مع سوريا ارتباطاً عضوياً..." سهيل شماس، رئيس وفد لبنان إلى المفاوضات، "النهار"، 24/5/1993.
(22) "الحياة"، 18/6/1993، ص 4.