1 تنتمي قصيدة محمود درويش "أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي" إلى ذلك النوع الاستثنائي من القصائد التي تعيد تعريف مشهد شعري بأسره، أو تقوم بوضعه على عتبة جديدة بوسيلة انطوائها بذاتها على أسلوبية جديدة/متقدمة تتعدد فيها مستويات التواصل مع (والاختلاف عن) الأسلوبية السابقة السائدة، كما تقدم تطبيقات مكتملة لجدل الولادة وطبيعة القيم الإبداعية وراء ذلك كله وفي أثنائه. قرائن التوتر الملازمة لهذه السيرورة يمكن أن تأخذ أشكالاً عديدة تشمل مختلف عناصر الكتابة والتأويل والتطابق (أو التناحر) مع التنظير الأدبي والنقدي، لأسباب ليست سلبية دائماً (إذ قد يكون العكس هو الصحيح)، ولا تدور حول الشكل بالضرورة (في حالة إشكالية التغطية النظرية للأداء الجديد على الأقل). أما أعمق أشكال التوتر فتدور في الحقل الذي ينبغي للولادات الأسلوبية الكبرى أن تدور فيه: حساسيات القراءة وأواليات استقبال النص.
ومن المدهش أن سطوح التوتر الأكثر جدية وشدة لا تتمحور حول انعطافات الشكل أو الأسلوب، وإنما حول سلسلة "ثوابت" الموضوعات التي اعتاد القارئ على تنظيم خطوط استقباله وفقاً لها، وحول التفريعات و"الإسقاطات" التاريخية والسياسية والأخلاقية التي تأخذ شكل مصائر محددة من النصوص الإبداعية التي وهبها القارئ ثقة جمالية وفلسفية عالية، وبلغت عنده شأو التعبير الأبلغ عن قضاياه الكونية الكبرى. الأمر المدهش الثاني أن القارئ يستدخل انعطافات الشكل والأسلوب بيسر وحماسة وتفاعل بالنسبة إلى نوع النصوص العالية التي أشرنا إليها، لكنه يقوم بالعكس تماماً حين يكون الانعطاف الأسلوبي غاية في حد ذاته، وبعيداً عن توافر الدرجة الكافية من التوازن الدقيق المعقد بين الشكل والمحتوى في السياق التمثيلي لحقبة تاريخية ما. أواليات دفاع القارئ هنا تأخذ شكلاً عنيفاً من الإعراض عن النص، حين يكون شديد النطق بثوابت الموضوعات الساخنة التي تجد هوى تلقائياً في نفس القارئ، أو في حقول القراءة ذاتها.
ولقد أشرنا في مناسبة سابقة* إلى أن شكل النص الشعري عند محمود درويش ينفتح في مساحة معناه، ربما تحت ضغط السياق التناسبي الذي تتطلبه علاقات المعنى وخيارات الشكل في إطار أعرض ذي طابع ثقافي – حضاري أو تاريخي. ولأنه ليس واقعة أدبية معلقة خارج حياتها الاجتماعية (حياة النص والشاعر والمتلقي، والعلاقات الأيديولوجية والسياسية والتاريخية الأخرى)، فإن راهنه الأسلوبي نوع من المراجعة الدائمة لبعض ما هو قائم ومنجز، ولكثير مما هو في طور الولادة والتكوّن. قصيدة محمود درويش ممارسة أدبية – نصيّة أكثر من كونها (أو قبل أن تكون) إنشاء خطابياً أسلوبياً، وثمة على الدوام سطوح متعددة للمعنى والشكل، وجدل إشكالي نشيط يطال سُبُل دخول النص في وظيفته الشعرية.
علاقة الشدّ والجذب التي تحكم تعاقد محمود درويش مع قارئه هي نموذج صحي على الطرف الأول الذي أشرنا إليه من أوالية الدفاع الثنائية المدهشة التي يمارسها القارئ، حتى ليمكن القول إن جوهر تلك العلاقة هو سعي مشترك لاكتشاف العنصر الواحد في الكل، وردّ الكلّ إلى مجموع عناصره. مهمة القارئ أن يكتشف الانعطاف الإنشائي (الأسلوبي) في قصيدة جديدة قياساً على الكلّ الأقرب إليها في إطار المنجز الشعري الطويل. مهمة الشاعر هي تلمّس التأثير الأخلاقي والفلسفي (الأيديولوجي، السياسي...) في تلك البرهة من الوعي الجمالي – الفكري، وإجادة إقامة العلاقة بين هذه البرهة المحددة ومسار الوعي الأقرب إليها في سياق خلاصة الهوية التاريخية. في "مأساة النرجس وملهاة الفضة" كتب محمود درويش:
لم يذهبوا أبداً ولم يصلوا، لأن قلوبهم حبات لوز في الشوارع. كانت الساحات أوسع من سماء لا تغطيهم. وكان البحر ينساهم. وكانوا يعرفون شمالهم وجنوبهم، ويطيّرون حمائم الذكرى إلى أبراجها الأولى، ويصطادون من شهدائهم نجماً يسيّرهم إلى وحش الطفولة. كلما قالوا: وصلنا.. خرّ أولهم على قوس البداية. أيها البطل ابتعد عنا لنمشي فيك نحو نهاية أُخرى، فتبّاً للبداية! أيها البطل المضرّج بالبدايات الطويلة قل لنا: كم مرّة ستكون رحلتنا البداية؟ أيها البطل المسجّى فوق أرغفة الشعير وفوق صوف اللوز! سوف نحنّط الجرح الذي يمتص روحك.. بالندى: بحليب ليل لا ينام؛ بزهرة الليمون؛ بالحجر المدمّى بالنشيد – نشيدنا؛ وبريشة مقلوعة من طائر الفينيق –
إن الأرض توَرَثُ كاللغة!
فانخرط القارئ في عمليات استدعاء الذاكرة الجمعية، وتصحيح المقولات الباعثة على الوجود أو النافية له، في خطوط استقبال تكيّفها حقائق التجربة وقيم التمثيل وضمير الغائب بصيغة الجمع. وفي المقطع الأول من قصيدة "أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي"، كتب محمود درويش:
في المساء الأخير على هذه الأرض نقطع أيامنا
عن شجيراتنا، وبعد الضلوع التي سوف نحملها معنا
والضلوع التي سوف نتركها، ههنا... في المساء الأخير
لا تودِّع شيئاً، ولا نجد الوقت كي ننتهي...
كل شيء يظل على حاله، فالمكان يبدل أحلامنا
ويبدل زواره. فجأة لم نعد قادرين على السخرية
فالمكان معدّ لكي يستضيف الهباء... هنا في المساء الأخير
فانخرط القارئ في العمليات ذاتها بعد أن بدّل المحتوى على نحو يمكن تخطيط بعض عناصره هكذا:
"مأساة النرجس" "أحد عشر كوكباً"
ذاكرة جمعية حداد جمعي
ضمير الغائب ضمير المتكلم
الزمن الماضي الزمن الحاضر
التصاعد السردي التصاعد المشهدي
الصوت الملحمي الصوت الغنائي
تدوير السطور الشعرية تقطيع السطور الشعرية
الحس المركب بالشكل الحس المألوف بالشكل
صحيح أن القراءة مستقلة نصّياً ومتباعدة زمنياً، ولكن القراءة تكرر نفسها وتتكرر بعكس الكتابة التي لا تكرر نصّها ولا تتكرر. القارئ يحاصص ذاته في القصيدة بمعنى أن النص ينتهي إلى تأويل للذات ولأولوياتها ومشاغلها، بحيث لا يكون النص وسيلة بذاته ولذاته، وإنما وسيطاً جباراً (وفذّاً في حالة محمود درويش) لدارة قصيرة من الاشتباك والتماهي بين معنى النص ومعنى حياة القارئ، ثم معنى خلاصة الهوية التي يجسدها في القراءة هذا المبدع أو ذاك في السياق الشخصي والتاريخي المحدد.
مآلات هذه العلاقة قد تنتهي إلى توليد ثنائية تأويلية من نوع التفاؤل/ التشاؤم، الأمل/ اليأس، الانتفاضة/ مفاوضات السلام، ويصبح "المعنى" أشبه بسائل ثمين يمكن ضخّه في القصيدة من الخارج. لا شيء يستطيع إلزام القارئ بقبول صفقة مبادلة "مفاوضات السلام" بـ"سقوط غرناطة" حين تكرر القراءة نفسها. ولكن حين تتكرر القراءة (أو القراءات) فإن الإبدال يصبح أمراً واقعاً (فضلاً عن إلحاحه) لا لشيء سوى أن الخيار الأول هو درجة الصفر في التأويل، أو الدرجة الخام التي يحملها القارئ إلى النص وليس العكس. الدرجات التالية هي البعد الأيقوني لتعاقد محمود درويش مع قارئه، ولعلاقة كل قصيدة طويلة جديدة بالتي سبقتها أو التي ستليها. إنها الوظيفة التي تقسم وعي القارئ وتنظم استقباله في منحيين: القصيدة الواقعة في الزمان وعبره ومن خلاله، والقصيدة (ذاتها) التي تمهد لرؤية شعرية وزمنية مضمرة لم تولد بعد. "سرحان يشرب القهوة" اكتسبت هويتها الوظيفية القصوى، وحين ولدت "أحمد الزعتر" ظلت تتماهى في وعي القارئ مع أيقونة "سرحان يشرب القهوة" قبل أن تكتسب بدورها الهوية الوظيفية القصوى الخاصة بها، وتتحول إلى أيقونة بالنسبة إلى "بيروت"، ثم "بيروت" بالنسبة إلى "مديح الظل العالي"، وهذه الأخيرة بالنسبة إلى "مأساة النرجس وملهاة الفضة" و"الهدهد"؟
2 يروي الشاعر والمسرحي الإيرلندي جون مللنغتون سنج أن سكّان جزر آران كانوا يستعيدون ذكرى أسلافهم حتى ثلاثة أو أربعة قرون، وذلك كي يمارسوا الحداد على أنفسهم بين الحين والآخر، وكي يعطوا الوعي الداخلي فرصة الانكشاف الصريح أمام العزلة الروحية والتأمل في الكون الرهيب الذي يحيط بهم في أطوار الضنك والكوارث. والحق أن الحداد الجمعي يعطي فكرة ملائمة عن الطبيعة الأصلية للشعر أكثر من أي معطى آخر منذ أن بدأ الشعر يحتل مكانه كفن خطابي. الاشتراك المباشر والفوري للجمهور في الشعر يعيد إلى التجربة بعض ما فقدته على مرّ العصور.
في "أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي" يعيد محمود درويش إلى الشعر بلاغة الذاكرة التراجيدية والموضوع الكوني، حين يحوّل استعادة الحدث إلى حكمة موسوعية تحتشد فيها مفردات الوجود داخل التاريخ، ومفردات الخروج الجارح من جملة تواريخ. ثمة مراكمة جدلية مدهشة لتفاصيل ووقائع متباعدة في مظهرها الخارجي، لكنها تتوحد في الزمن الملتقط ميكروسكوبياً، وتخضع لقراءة الماضي (أو لأكثر من قراءة واحدة للماضي وللمستقبل). الحاضر هو محصلة العالم كما تصفه القصيدة، وتناقض الحاضر لا يكمن في الماضي أو المستقبل، وإنما في حالة الغياب، حالة اللاحاضر إذا جاز القول:
[....] وعما قليل سنبحث عما
كان تاريخنا حول تاريخكم في البلاد البعيدة
وسنسأل أنفسنا في النهاية: هل كانت الأندلس
ههنا أم هناك؟ على الأرض... أم في القصيدة؟
محمود درويش يسند إلى الشعر دور الوسيط الخطابي بين التاريخ والمخيلة، فيصطحب القارئ في رحلة خاطفة داخل فساد الحاضر، كي يقتاده بعد ذلك نحو التوسيع الأهم للرحلة: التجواب البانورامي المفصّل والجراحي في ميادين انقضاض الماضي على المستقبل، أو في احتمالات ذلك اللقاء ومضاعفاته. المتكافئ في درجة اقترابه من المستقبل (مع استمرار غيابه) رديف طبيعي لغير المتكافئ في درجة ابتعاده عن الحاضر (من دون أن يكون حاضراً)، والشعر هنا لا يؤسس الفارق بين الحاضر والماضي وإنما بين الحضور والغياب:
[1] – [....] سأخرج بعد قليل
من تجاعيد وقتي غريباً عن الشام والأندلس
- [....] أعرف أن الزمان
لا يحالفني مرتين [....]
- كيف أكتب فوق السحاب وصية أهلي؟ وأهلي
يتركون الزمان كما يتركون معاطفهم في البيوت [....]
[2] - [....] لكن غرناطة من ذهب
من حرير الكلام المطرز باللوز، من فضة الدمع في
وتر العود. غرناطة للصعود الكبير إلى ذاتها...
- هذه الأرض ليست سمائي، ولكن هذا المساء مسائي
والمفاتيح لي، والمآذن لي، والمصابيح لي، وأنا
لي أيضاً. [....]
تكرار امتلاك العناصر (المكان والزمان) يخلق إحساساً بالتواصل داخل الغياب، وبنسق غير منقطع هو نقيض الفناء أو الاندثار الذي يقترن بالغياب. الزمن ذاته يبدو مشبعاً بتفاصيله وليس مصدراً مفتوح النهاية أمام احتمالات الفجيعة. معادلة محمود درويش في ترسيم ميتافيزيقا الفقد هي التالية: ثمة ما هو طافح بحقيقته وتاريخه بات غائباً أو سابقاً، لكن هذا الموضوع الذاكرة هو الذي يعرّف ويختط واقعاً جديداً مركباً هو جدل الفقد ذاته. تكرار السؤال (من أنا؟ ماذا فعلت بقلعتنا قبل هذا النهار؟ من سيدفن أيامنا بعدنا؟) يشدد نبرة الموقف الرثائي، ولكنه يقوم بالوظيفة الأخرى الأقرب إلى تعويذة طرد الأسى بتكرار تجلياته وميادين انبعاثه، وخلق حواجز الدفاع التي قد تكفل وقف الفقد وتجلس الراحة أو تحرّض على التجاوز بوسيلة العزاء. الجانب الشعائري هو في الآن ذاته جزء من مظاهر الرثاء والمظاهر الاحتفالية التي تكتنف التأبين والعزاء:
وأنا من هناك، فغنّي لتبني الحساسين من أضلعي
درجا للسماء القريبة. غنّي فروسية الصاعدين إلى
حتفهم قمراً قمراً في زقاق العشيقة. غنّي طيور الحديقة
حجراً حجراً [....]
والفنان الكبير، بحسّه الإنساني الشمولي، يقودنا إلى ذروة آلام هذا الفقد حين يذكّرنا بأننا نفقد البشر مثلما الأشياء والأفكار، وأننا لا نمارس الحداد المستديم على البشر فقط، بل أيضاً على التواريخ والأفكار والذاكرة: الأذان الأخير، الأندلس، الحنين إلى أول النخل، رائحة البن، القمر البدوي، مخطوطة لابن رشد وطوق الحمامة والترجمات، ساحل المتوسط، مصر، الشام، عسل التين... السياقات الرعوية تقوم هنا بتشديد طقس التجدد ودورة الفصول وحركة عناصر الطبيعة (نقائض الفناء)، كما تعيد إنتاج درجة عالية من الوعي بالذات عبر وعي المحيط.
عنصر آخر في تكوين مشهد الحداد هو استخدام الزهور، سواء بوظيفتها الاحتفالية أو بأشكال دخولها في تشكيل الأسى والعزاء وطقس التجدد:
[1] لا أطلّ على الآس فوق سطوح البيوت [....]
[2] لم أكن نرجساً، بيد أني أدافع عن صورتي
في المرايا. أما كنتَ يوماً، هنا، يا غريب؟
[3] [....] لا شيء يوجعني
لا الهواء، ولا الماء... لا حبق في صباحك، لا
زنبق في مسائك يوجعني بعد هذا الرحيل...
[4] أترك الفلّ في المزهرية، أترك قلبي الصغير
[5] الشبابيك خالية من بساتين شالك. في زمن
آخر كنت أعرف عنك الكثير، وأقطف غاردينيا
من أصابعك العشر. [....]
كذلك تقوم صورة الضوء بما تقوم الزهور به، ولكن في مستوى قهر الظلام والتوازي مع تخليد المكان في الزمان والتاريخ (وفي العلاقة بالمرآة بعض الأحيان). والنور هو الفجر تارة والقمر البدوي طوراً، بقع الضوء، روائح شمس، النهار... ويحدث أيضاً أن تتبادل العتمة الأدوار مع النور بحيث يتناسب الأسى طرداً مع ازدياد الوضوح:
[....] في زمن آخر كان لي لؤلؤ
حول جيدك، واسم على خاتم شعّ منه الظلام
عبء الصوت في القصيدة تحمله شخصية الغريب (باستثناء المقطع الأول الذي يعتمد ضمير المتكلم بصيغة الجمع، والمقطع الأخير الذي لا يعتمد أي صوت أو يعتمد ضمير المتكلم المفرد ضمناً). والغريب ضمير المتكلم الذي يطرح سؤال الأندلس ههنا أو هناك، على الأرض أم في القصيدة؛ وضمير المخاطب الذي "مرّ من هنا، كي يمرّ الغريب هناك"؛ ورصيف الغريبة الذي أقام فيه الغريب خمسمئة عام ولم يبق منه "غير مخطوطة لابن رشد وطوق الحمامة والترجمات"؛ وهو عشق الغريبة، بعده لا يستطيع الغريب الرجوع إلى "أخوتي قرب نخلة بيتي القديم" أو النزول إلى قاع الهاوية. وكلما تابعت القصيدة صعودها الدرامي تشعب موضوع الغريب وانتظمت وحداته السابقة، وأقام هو الروابط بينها قبل أن يوحدها ويتوحد فيها. والغريب منفي (أو يوشك على مباشرة النفي الداخلي والخارجي) في المساء الأخير على أرض كونية يفتش فيها عن انكسارات وعي كوني هو بيت الإنسانية الشامل. الغريب الذي يغادر إلى المحيط خارجاً من الجلد واللغة والأرض والسماء، لا يلبث أن يتحول إلى مركز يدافع عن صورته في المرايا، وعن برهة تصهر منفاه فيه وفي الآخرين.
3 الملحمة، في تعريف عزرا باوند، هي "القصيدة التي تتضمن التاريخ." والبحث الملحمي في "أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي" يدور أساساً حول الشكل الشعري الذي يستطيع احتواء ما يرد إلى الذهن من دلالات متشابكة عند الحديث عن الكوني والتاريخي. وليس بجديد القول إن مشكلة الملحمة في العصر الحديث هي مشكلة العثور على نظام للشكل والإجابة عن السؤال الحاسم التالي: كيف يمكن للشكل الشعري أن يواجه ويتضمن ويؤمّن (أي باختصار: أن يصنع محتوى) المعنى العاصف والمركَّب للمشهد التاريخي؟ أوجه النظام التي توفرها "أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي" تتعدد وتتشعب، لكنها لا تخرج من حيث الجوهر عن مبدأ "التحرير" وعدم ترك القصيدة "سائبة" و"حرّة" في دفقها العنيف.
ولقد التزم محمود درويش المقطع المؤلف من عشرين سطراً، والذي يستمد عنوانه من جملته الأولى، ولا ينقسم إلى مقاطع فرعية إلا في "الكمنجات" حيث يقترب المقطع من صيغة الموشح المزدوج السطور ويلتزم عدداً منتظماً من الكلمات (7، 7 – 7، 7 – 7، 7 – 7، 7 – 8، 7 – 7، 8 – 8، 7 – 7، 7 – 6، 6 – 7، 7). وعلى الرغم من أن هذا التقسيم الطويل لا يوحي بالرتابة، فقد وجد حلولاً فنية عديدة لا لإلغاء الرتابة، وإنماء لإثراء البناء الإيقاعي كلما اقتضت طبيعة المقطع ذلك:
- "في المساء الأخير على هذه الأرض": توزيع عبارة "في المساء الأخير" على شكل فاتحة ولازمة داخلية وقفلة إيقاعية لاستكمال امتداد السطر، بالإضافة إلى اعتماد نسق مرن للقافية.
- "لا أريد من الحب غير البداية": غنائية وئيدة أقرب إلى جملة الرابسودي أو الرباعيات الوترية تحديداً.
- "من أنا بعد ليل الغريبة": تشديد القافية (في الداخل كما في نهايات السطور)، واستخدام إشارة الاستفهام أربع مرات (مباشرة بعد ثماني مرات في "للحقيقة وجهان والثلج أسود").
- "في الرحيل الكبير أحبك أكثر": استخدام العنوان كلازمة أربع مرات، واستخدام مفردة "الرحيل" ست مرات.
بحث للشعر عن علاقة ممكنة مع التاريخ باعتماد مادة التاريخ، والبحث عن نظام قادر على تعيين المستقبل وتمثيله. الملحمة وحدها قادرة على تفجير هذه المقولة الكلاسيكية الهادئة، إذ إن السيطرة على التاريخ بكشف سطوحه الداخلية هي الحافز المركزي في البحث الشعري عن مبدأ ناظم ووحدة إنسانية شاملة. وفي سياق هذا البناء الملحمي يقوم محمود درويش بإزاحة الأسطورة نهائياً (كما يستبعد النمط البدائي) لمصلحة الخطاب البشري. لكنه يشحن اللغة بطاقة إيحائية سحرية تدنيها من الأسطورة، ويترك للقارئ فرصة اقتفاء آثار الإزاحة في المواقع الحسية على وجه التحديد:
أترك الفلّ في المزهرية، أترك قلبي الصغير
في خزانة أمي، أترك حلمي في الماء يضحك
أترك الفجر في عسل التين، أترك يومي وأمسي
في الممر إلى ساحة البرتقالة حيث يطير الحمام
ويوزع محمود درويش موضوعة الترحال (المركزية في أي تجواب ملحمي) ضمن موتيفات صغيرة مبثوثة بعناية كي تضيف إلى التصاعد الدرامي قرائن إضافية، وتصنع ما يشبه المرآة الموازية كلما تنوع نمط الغريب أو تبدل موقعه داخل الحقل التاريخي الواحد:
- "في المساء الأخير": موتيفات المكان، الزمان، الفتح والفتح المضاد.
- "كيف أكتب فوق السحاب": غرناطة، الغناء، الحب.
- "لي خلف السماء": الغريب، الخروج من العناصر، (الحد الأدنى من الاستعارة).
- "أنا واحد من ملوك النهاية": علاقات الماضي – الحاضر – المستقبل، سيكولوجية الذات/ الظل، معاهدة الصلح.
- "ذات يوم سأجلس فوق الرصيف": الغريبة/ الغريب، رصيف الغريبة، التاريخ في عنصر الماضي/ الخريف.
- "للحقيقة وجهان": معاهدة الصلح، التساؤلات، اليأس.
- "من أنا بعد ليل الغريبة": الغريبة، النخيل المحاصر، الأسئلة.
- "كن لجيتارتي وتراً أيها الماء": الذاكرة، الماء، الفتح، (تبسيط الاستعارة).
- "في الرحيل الكبير": الحب، أنسنة العناصر، الرحيل.
- "لا أريد من الحب غير البداية": الغنائية، الشجن، الحب.
- "الكمنجات": الأندلس، الزمن الضائع/ الوطن الضائع، الغجر، العرب.
هذه الاستراتيجية البارعة، التي نعرف أنها تأتي من مبدع هضم التراث الثقافي الإنساني ويحسن توظيفه وتمثيله على نحو تشكيلي، أشبه بإلقاء نظرة "عامة" مألوفة على أحد أعمال فان كوخ (من مبعدة متر أو مترين)، ثم الاقتراب من القماش وتدقيق التفاصيل الصغيرة وطيات الألوان وانكساراتها وعلاقاتها الخفية وما تصنعه من تآلفات وتكوينات في كل سنتيمتر مربع:
من أنا بعد ليل الغريبة؟ أنهض من حلمي
خائفاً من غموض النهار على مرمر الدار، من
عتمة الشمس في الورد، من ماء نافورتي
خائفاً من حليب على شفة التين، من لغتي
خائفاً، من هواء يمشط صفصافة خائفاً، خائفاً
من وضوح الزمان الكثيف [....]
المثال السابق يوفّر مشهداً مجازياً عاماً وتفاصيل استعارة وكناية تصنع مناخاً ما أو سلسلة مناخات عند القراءة المألوفة الأولى. في الاقتراب من نسيج النص نكتشف:
أنهض من حلمي (بعد ليل الغريبة) خائفاً من غموض النهار (ليل، حلم، غموض) النهار، على مرمر الدار، من عتمة الشمس (ليل، حلم، غموض) في الورد (عتمة في الورد)، من ماء نافورتي (مرمر الدار)، خائفاً من حليب على شفة التين (بعد ليل الغريبة، حلم، غموض) من هواء (وتين) يمشط (الغريبة) صفصافة، من وضوح (الشمس، النهار، غموض) الزمان الكثيف (ليل الغريبة، غموض النهار، عتمة الشمس، مرمر الدار).
استراتيجية أُخرى تتصل بهندسة الاستعارة والصوت الشعري وأطوار المفردة الواحدة، وعشرات التطبيقات البديعة المذهلة التي تتكاثر في متتاليات "إثقال السياق" كما عبّر جورج سيفيريس ذات يوم. عند محمود درويش تدخل الاستعارة (بوصفها صورة المشابهة) والكناية (بوصفها صورة التجاور) في علاقة مركبة من سيرورة التكوين الدلالي، بحيث يكون إبراز المشابهة من الشبيه في الاستعارة، وإبراز الكل من الجزء في الكناية، هما تجميع تشكيلي للعالم من الخارج والحدود (مشابهة/ شبيه وجزء/ كلّ):
[1] لا حليب لرمّان شرفتنا بعد صدرك. [....]
[2] فاتركيه هنا حول بيتك يعوي ويبكي الزمان الجميل،
[3] كي أرى شارع الناي أزرق [....]
[4] الكمنجات صوت النبيذ البعيد على رغبة سابقة
[5] من حرير الكلام المطرز باللوز [....]
متتاليات إثقال السياق يمكن أن تأخذ الأشكال التالية:
- [....] خف النخيل
خف وزن التلال، وخفت شوارعنا في الأصيل
خفت الأرض إذ ودّعت أرضها. خفت الكلمات
والحكايات خفت على درج الليل [....]
- فضة الدمع، فضة الحور – صقلت الرخام كلاماً، ظل الشجيرات
فوق الرخام، يمرض بيني وبينك هذا الرخام، مقبرة من رخام –
والمرايا كثيرة، صورتي في المرايا، أن المياه مرايا، أتذكر وجهي في
المرايا – يبكي حليباً لليل القصيدة، حليب على شفة التين،
لا حليب لرمان شرفتنا بعد صدرك، قمراً في حليب لياليك أبيض
- مصاحبة الإيقاع لحركة العين صوت المشهد وتكوّن التأثير المزدوج
عند حجز الرؤية:
كان يعرف أني (صقلت رخام) الكلام لتعبر امرأتي (بقع الضوء)
حافية، لا أطلّ على (الليل) كي لا أرى (قمراً) كان (يشعل) أسرار غرناطة كلها
الإدخال المتغاير لهذه العناصر في شبكاتها المتعددة يسفر عن تخطيطات أقرب إلى بناء فينومينولوجيا مشهدية، ومواقع استخدام الزهور والنبات والطير وعناصر الطبيعة الأخرى، نماذج مدهشة أُخرى على تجواب بانورامي آسر، يشارك في إثقال السياقات ويعترض العلامة السابحة على غير هدى في ملكوت القول، قبل أن يعيدها صوب الأرض والدلالة الأرضية:
الكمنجات خيل على وتر من سراب، وماء يئن
الكمنجات حقل من الليلك المتوحش ينأى ويدنو
الكمنجات فوضى قلوب تجنِّنها الريح في قدم الراقصة
الكمنجات أسراب طير تفرّ من الراية الناقصة.
ذلك يجعلنا نكرر ثانية: مثل شعر محمود درويش قرأ جان بول سارتر حين قال "ما يميّز كاتب الشعر من كاتب النثر هو أن الشاعر يرى الكلمات أشياء لا علامات."
المصدر: محمود درويش. "أحد عشر كوكباً" (بيروت/ دار الجديدـ 1992)، ص 7 – 31.
* راجع: صبحي حديدي، "محمود درويش في 'أحد عشر كوكباً': أيقونات شعرية حتى إشعار آخر"، "القدس العربي"، 24/12/1992.