بعد عمليات انتحارية فلسطينية متتالية كلفت الإسرائيليين غالياً وأثبتت مدى هشاشة الجبهة الإسرائيلية الداخلية، ألقى رئيس الحكومة الإسرائيلية يتسحاق رابين خطاباً متلفزاً وموجهاً إلى الشعب الإسرائيلي بصورة مباشرة وعدا عن كون هذا الخطاب المباشر والخارج على الصيغة المألوفة في الحياة السياسية الإسرائيلية يعكس عمق المحنة التي تجد الحكومة الإسرائيلية – بل إسرائيل بمجملها – نفسها فيها، فقذ تضمن هذا الخطاب رسالة واضحة مفادها ضرورة الفصل بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، لا نزولاً عند رغبة الفلسطينيين في التحرر وممارسة حق تقرير المصير، وإنما لضرورات إسرائيلية محضة، أهمها الأمن الإسرائيلي الداخلي الهش، والحؤول دون تحويل إسرائيل في المستقبل إلر دولة ثنائية القومية.
لقد أفزعت العمليات الانتحارية التي تقوم الحركات الإسلامية الفلسطينية بها إسرائيل، ودفعت رئيس الحكومة الإسرائيلية إلى تعجيل التشديد على ضرورة الفصل الفلسطيني – الإسرائيلي. ولإبراز تصميمه على تحقيق هذا الفصل، قامل رابين بإبلاغ شعبه قراره تعيين لجنة خاصة لدرس "خطة الفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين في الضفة الغربية"، وأوضح للإسرائيليين أنه يريد من هذه اللجنة المختصة تفحص "النواحي الفنية" المتعلقة بإقامة جدار أمني يعزل بين الطرفين.
لكن لأن إسرائيل لا تزال منتشية ومتغطرسة بقدراتها، ولكونها تعقد بإمكان إملاء شروط السلام وحدوده مع الفلسطينيين، جاءت فكرة الفصل الرابينية مثقلة بالشروط والتعقيدات لتكون على المقاس الإسرائيلي. فكي يضمن رابين جميع جبهاته، الداخلية والخارجية على السواء، أعلن مسبقاً تأكيده أن خطة الفصل ستبقى شأناً إسرائيلياً داخلياً، وأن مناقشتها لن تتم ضمن الاتفاقات المبرمة مع منظمة التحرير الفلسطينية، أو مع أية جهات أُخرى. ولتمرير عملية الفصل المفروض من جانب واحد، وتحاشي مواجهة داخلية مع اليمين الإسرائيلي والمستوطنين بالأساس، ومواجهة خارجية مع السلطة الفلسطينية الآن، أكد رابين أن خط الفصل سيكون "خطاً عسكرياً"، ولن يشكل حدوداً سياسية في هذه المرحلة بالذات. لكن التناقض المبطّن في الدعوة إلى الفصل بيدو جلياً في إصرار رابين المسبق أيضاً على ألاّ تؤدي خطته إلى عودة إٍسرائيل بتاتاً إلى حدود سنة 1967، وإلى ضمان استمرار سيادتها على "القدس الكبرى الموحدة"/ وبقاء نهر الأردن حدوداً شرقية رسمية لإسرائيل. وباختصار، فإن خطة الفصل الرابينية تهدف عملياُ إلى إقامة معازل لحصر مناطق الكاثافة السكانية الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة وتفتيتها، بما يؤدي إلى ضم فعلي للبقية الباقية منها إسرائيلياً.
الخلفية
أُلفت لجنة درس "مشروع الفصل" برئاسة وزير الشرطة الإسرائيلي موشيه شاحل. وإضافة إلى كونه من أقرب الوزراء المؤتمنين إلى رابين، فإنه مسؤول عن جهاز أمني إسرائيلي (الشرطة وحرس الحدود) ستناط به مهمات رئيسية في حال تطبيق خطة الفصل إلى جانب وزير الشرطة، ضمّت اللجنة خبراء من الجيش الإسرائيلي والشرطة ومصلحة الأمن العام (الشَبَاك). وبعد أشهر من البحث والإعداد، قدّم رئيس اللجنة في 11 نيسان/أبريل المنصرم تقرير اللجنة النهائي إلى رئيس الحكومة رابين. ويقع التقرير في ستين صفحة، ويضم، إلى جانب التوصيات والاستنتاجات العامة للجنة، توصيات كل طرف من الأطراف المشتركة في اللجنة. وعلى الرغم من عدم نشر التقرير الرسمي، الذي ما زال ينتظر ان تدرسه الحكومة وتقره، لا سيما في ضوء التكاليف التي تقلق وزير المال (يكلف مشروع الفصل مبلغاً ثابتاً مقداره 837 مليون شيكل – أي 279 مليون دولار تقريباً)، بالإضافة إلى تكاليف سنوية مقدارها 261 مليون شيكل (87 مليون دولار تقريباً)، فإن الصحافة العبرية تداولت نقاطه الأساسية، التي رشح بعضها إلى الصحافة العربية المحلية في القدس المحتلة (صحيفة "القدس"، 31/4/1995).
بيدو أن اللجنة تلقت توصيات ومشروعين مختلفين من الجيش والشرطة، إضافة إلى افتراضات أساسية من مصلحة الأمن العام (الشَبَاك). وعلى الرغم من التباين في وجهات النظر بين مختلف الأطراف، فإن نقاطاً أساسية مشتركة برزت للجنة. وأبرز هذه النقاط، أولاً، أن الفصل التام عن طريق فرض الطوق الأمني على الفلسطينيين يشكل الحل المثالي لتقليص "العمليات المعادية" ضد إسرائيل، لكن هذا الفصل لا يُعتبر في المدى القريب حلاً عملياً ممكناً لأسباب "اقتصادية وسكانية وسياسية وفنية وإعلانية." وثانياً، أن "عمليات العنف المعادية" ضد إسرائيل ستستمر من الضفة الغربية وقطاع غزة، ولا يمكن منعها كلياً. وثالثاً، أن إعادة انتشار القوات الإسرائيلية في مناطق في الضفة الغربية سيقلص إمكانات عمل الجيش وجهاز الاستخبارات الإسرائيلية، ويتوقع أن يؤدي ذلك إلى ازدياد إمكانات تقويض الأمن الإسرائيلي الداخلي.
بناء على هذه النقاط المشتركة، توصلت اللجنة إلى استنتاج أن "الفصل الأمني"، لا فرض "الطوق الأمني الشامل"، يشكل السبيل الأمثل في هذه المرحلة بتقليص "إمكان تنفيذ عمليات معادية في منطقة دولة إسرائيل." وفي ضوء ذلك، قامت اللجنة باقتراح مشروع فصل أمني يأخذ في الاعتبار مختلف التوصيات المرسلة إليها، ويوفق بالأساس بين المشروعين المختلفين المقدمين من الجيش والشرطة.
يقوم مشروع "الفصل الأمني" على مرتكزات أساسية تشمل، أولاً، إيجاد "منطقة فاصلة" بين فلسطينيي الضفة الغربية وإسرائيل، تكون أغلبيتها في الضفة الغربية، وتُعلِن منطقة عسكرية مغلقة. ولكون هذه المنطقة ستأكل من أراضي الضفة، فإن ذلك يعني عملياً إجراء تغيير على "الخط الأخضر" (خط الهدنة) في عدة محاور ومناطق. ولعدم إثارة الحساسيات داخلياً وخارجياً، تؤكد اللجنة في هذا الصدد ضرورة قيام الحكومة الإسرائيلية بحملة إعلامية لتوضح أن عملية "الفصل الأمني" تدخل في مجال القرارات السياسية الإسرائيلية (؟)، ولا تهدف إلى ترسيم حدود دائمة (!)، بل إيجاد ترتيبات أمنية موقتة ومرنة، وبحيث لا تجحف بالمفاوضات المستقبلية مع الجانب الفلسطيني بشأن التسوية النهائية (؟!)
وثانياً، إنشاء نقاط عبور محددة بين الضفة الغربية (باستثناء القدس) وإسرائيل تخضع لمسؤولية الشرطة الإسرائيلية. ويكون عدد هذه المعابر ثمانية عشر معبراً (منها سنة معابر بين الضفة والقدس)، يخصص سبعة منها لعبور الإسرائيليين فقط، ويبقى أحد عشر معبراً مشتركاً للإسرائيليين والفلسطينين، تقسِّم إما لعبور السيارات والمشاة فقط، وإما لعبور السيارات والمشاة مع البضائع أيضاً. وتقترح اللجنة أن تشكّل نقطة عبور إيرز بين إسرائيل وقطاع غزة نموذجاً يحتذى به عند إنشاء المعابر المقترحة في المشروع. كما تؤكد اللجنة ضرورة تحسين مستوى النظام الأمني على نقاط العبور بما يكفل التحكم لأقصى درجة ممكنة في الداخلين من الفلسطينيين عبرها إلى إسرائيل، ويضمن كشف العابرين تسللاً من دون التصاريح اللازمة.
وثالثاً، توكل مهمة القيام بالأنشطة الأمنية بين نقاط العبور إلى الجيش الإسرائيلي، على أن يتم بشأن ذلك تعاون وثيق مع الشرطة الإسرائيلية (وخصوصاً مع وحدة حرس الحدود). وتكون الأنشطة الأمنية مستمرة ودائمة، وتشمل تسيير دوريات مؤللة، وإقامة نقاط المراقبة الدائمة، واستخدام الكلاب البوليسية المدربة، وزرع مناطق ألغاماً وكمائن، إضافة إلى استخدام طائرات الهليكوبتر، على طول خط الفصل المقترح. والهدف الرئيسي من هذه الإجراءات كلها سد الثغرات في "المنطقة الفاصلة"، ومنع "تسلل" الفلسطينيين إلى داخل إسرائيل من خارج المعابر الرسمية المقترجة في مشروع خطة الفصل. وفي الأماكن التي اعتبرتها اللجنة "مرنة" من المنطقة العازلة، يقترح المشروع إقامة جدار أمني ثابت ومعزز بوسائل رقابة متطورة ثابتة ومتحركة. ويبلغ طول هذا الجدار المقترح 29 كلم.
ورابعاً، يوصي التقرير باتباع سياسة عقوبات مشددة ضد الفلسطينيين "غير المرغوب" في دخولهم إلى إسرائيل، وذلك في حال تجاوزهم حظر الدخول إليها. ويطالب التقرير تشديد فرض هذه العقوبات، على أن يصاحبها تأكيد إعلامي بأن المقصود من هذه الإجراءات أن تكون وقائية وانتقائية، بحيث يقع أكبر الضرر على من يُعتقد بإمكان قيامهم بـ "عمليات معادية" ضد إسرائيل، وذلك لاستباق إمكان استخدام هذه الإجراءات كدلالة على قيام إسرائيل بعملية عقاب جماعي للفلسطينيين. ويشير التقرير إلى ضرورة شن حملة دعائية مفادها أن هذه الإجراءات، بل عمليةالفصل برمتها، موجهة أساساً ضد "العناصر" التي تعمل على تقويض المسيرة السلمية واتفاق أوسلو.
وخامساً، يوصي تقرير اللجنة بضرورة تطوير الإمكانات الاستخبارية الإسرائيلية ودعمها لتكون ركيز داعمة لمشروع "الفصل الأمنى" المقترح. وإضافة إلى تدعيم العمل الميداني الاستخباري في "المناطق" لمكافحة "الإرهاب" في مهده، فإن التقرير يطلب زيادة الفاعلية الاستخبارية والقيام بتحقيقات أمنية على المعابر المقترحة. كما يوصي التقرير، على ما بيدو، يتغيير تعليمات إطلاق النار على الخط الأمني الفاصل في اتجاه تسهيلها؛ وذلك لتمكين الأجهزة الأمنية من القيام بمهماتها بفاعلية أكبر.
وسادساً، يوصي التقرير، فيما يتعلق بالقدس، بأن يتم فصلها عن الضفة الغربية عند حدود البلدية "الموحدة"، لا داخل المدينة على الإطلاق. ويوصي أيضاً بإنشاء ستة معابر على الحدود البلدية للمدينة، وتعزيز وجود الشرطة، وتكثيف أنشطتها داخل المدينة لضبط الوجود "غير القانوني" فيها، وتشديد القيود المفروضة على دخول الفلسطينيين إلى المدينة وهجرتهم إليها، والقيام بحملة متدرجة لإخراج الفلسطينيين المقيمين فيها على نحو "غير قانوني". وبالنسبة إلى وصول الفلسطينيين إلى الأماكن المقدسة داخل المدينة، يشير التقرير إلى إمكان توفير ذلك، لكن بعد أن يتم لهذا الغرض تحديد محاور محددة داخل المدينة، واشتراط إمكان الوصول إلى أماكن الصلاة بترتيب رحلات خاصة. وبصيغة أُخرى، تكون الأماكن المقدسة مفتوحة أمام الفلسطينيين بعد تقنين عملية وصولهم إلى مدينة القدس إسرائيلياً، وهو ما يعني فعلاً إغلاقاً مبطناً للمدينة وأماكنها المقدسة أمام السواد الأعظم من الفلسطينيين.
دلالات مهمة
على الرغم من أن خطة " الفصل الأمني" التي ابتدعها رابين وألّف طاقماً لدرسها واقتراح مشورع بشأنها، تُطرح إسرائيلياً في نطاق "الضرورة الأمنية" التي نجمت عن ازدياد العمليات الانتحارية الفلسطينية داخل إسرائيل، ويروَّج لها كـ "خطوة اضطرارية" يتم التداول بشأنها في أوساط الحكومة الإسرائيلية حفاظاً على استمرارية العملية السلمية مع الجانب الفلسطيني، فإنها في واقع الأمر تحمل في مكنوناتها وطياتها دلالات في غاية الأهمية يمكن تلخيصها بأربع دلالات رئيسية:
أولاً، على الرغم من الادعاءات التي يطلقها رابين وأعوانه من أن خطة الفصل المقترحة تعتبر "اضطرارية" و "مرحلية" وأن الخط العازل المقترح لن يشكّل حدوداً أساسية بل خطاً أمنياً، فإن هذه الخطة تهدف في الحقيقة إلى تشكلي الحدود الداخلية النهائية بين إسرائيل ومعازل "الكيان الفلسطيني" في الضفة الغربية.فهدف رابين، إذاً، استغلال "التدهور الأمني الإسرائيلي" الحالي لتحقيق الهدف الرئيسي، والمخطط له مسبقاً، من المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية. ويتلخص هذا الهدف بإنهاء القضية الفلسطينية عن طريق إقامة "كيان فلسطيني" مُفتت، يتشكل من معازل منفصلة يضم كل واحد منها التجمعات الفلسطينية ذات الكثافة السكانية العالية. إضافة إلى جزء من قطاع غزة مفصول رسمياً عن الضفة الغربية، فإن المعازل في الضفة ستكون عل ىما بيدو ثلاثة، وتتشكل من مُجمّع نابلس – جنين – طولكرم في الشمال، ومُجمّع رام الله في الوسط، ومُجمّع بيت لحم في الجنوب (وتبقى الخليل منطقة معلّقة). وتلتقي هذه المعازل الثلاثة، وفقا للمخطط الإسرائيلي، في أريحا، ومنها تتصل بترتيب تفضّله الحكومة الإسرائيلية، كما ورد مؤخراً على لسان وزير خارجيتها، أن يكون فدرالياً مع الأردن. فرابين لا يزال ضد قيام دولة فلسطينية تشمل الضفة الغربية (اقترح رابين مؤخراً إمكان قيام دولة فلسطينية في غزة يكون ثمنها إبقاء وضع الضفة الغربية معلّقاً عقدين من الزمن)، وهو يحاول استغلال كل وضع مستجد للتملص من تنفيذ الالتزامات الإسرائيلية الواردة في "إعلان المبادئ" بشأن الضفة، وبما يحول دون توفر الأوضاع الموضوعية الضرورية فلسطينياً لإنشاء هذه الدولة.
من هذا المنطلق الإسرائيلي، تصبح خطة الفصل وسيلة فعّالة لتقسيم فلسطين مرة ثالثة، ورسم حدود إسرائيل بما يضمن بقاءها دولة يهودية تتضمن رسمياً أقلية فلسطينية "محتملة" صهيونياً. ويأتي "السياج العازل" المطروح آلية لتحقيق الفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين في الضفة الغربية في باب إقامة الوقائع الإسرائيلية لتحديد الواقع الفسطيني المستقبلي، وبما يضمن اختزال المطال الفلسطينية لتصبح، عوضاً من تحقيق الإنهاء الكامل للاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية الناجم عن حرب سنة 1967، محصورة في إطار تخليص أجراء من الضفى الغربية من الوجود الإسرائيلي (مشاريع على غرار "جنين أولاً"). ويتبع ذلك أن يصبح الوجود الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة شرعياً، وأن تقتصر المفاوضات النهائية بين الطرفين في هذه المسألة على وضعية المستوطنات التي بقيت داخل المعازل الفلسطينية بعد رسم حدود "السياج الفاصل" بين الطرفين. وباختصار، فإن هذا "السياج" سيكون الحدود التي ترسمها حالياً للكيان الفلسطيني الذي تُشرف الآن على إنشائه.ويجب التنويه بأن إسرائيل أقامت "سياجاً" فاصلاً ليعزلها عن منطقة الحكم الذاتي الفلسطيني في قطاع غزة. ومما يستدعي الانتباه في هذا الشأن التخطيط الإسرائيلي لإقامة تسع مناطق صناعية ضخمة على "الحدود" الداخلية بين دولة إسرائيل ومعازلها للفلسطينيين، وذلك للاستفادة من العمالة الفلسطينية الرخيصة، مع الحؤول في الوقت نفسه دون دخول أعداد كيبرة من العمال الفلسطينيين إلى إسرائيل.
وثانياً، إن ترسيم "السياج العازل" ورسم خريطة إٍسرائيل في مرحلة التسوية السلمية أصبحا أمراً إسرائيلياً داخلياً محضاً، ويتم بمنأى عن الفلسطينيين، وبمعزل تام عن إرادتهم. فهذا الترسيم وهذا الرسم يتمان من دون مفاوضة أو مشاورة أو قبول من الجانب الفلسطيني "الشريك" في العملية السلمية، التي كان هذا الجانب ينتظر أن يستخلص منها الحق في تقرير المصير. وعلى العكس تماماً، فعوضاً من أن تقود المسيرة السلمية إلى انتزاع الفلسطينيين حق تقرير المصير، فإنها أصبحت على ما بيدو الوسيلة النافذة التي يستخدمها من استلب هذا الحق أصلاً لفرض المصير على الشعب الفلسطيني
لقد نجمت هذه النتيجة غير المرغوب فيها فلسطينياً عن سوء التقدير التفاوضي الفلسطيني؛ إذ أدت الرغبة الفلسطينية الجامحة في المشاركة في العملية السلمية التفاوضية إلى تقديم تنازلات جوهرية إلى الإسرائيليين منذ البداية. وكان نتيجة هذه التنازلات ان أضعف الجانب الفلسطيني موقفه لاحقاً، وأصبح في حكم الأداة الطيّعة لإسرائيل. لكن تحييد "الشريك" الفلسطيني لم يؤد إلى إنهاء الخلاف الداخلي الإسرائيلي بشأن الكيفية التي تتحدد بموجبها خاتمة العملية السلمية، بل أدى في الواقع إلى تأجيجه.
قامت أطراف إسرائيلية مختلفة، رسمية وغير رسمية، بتوظيف العملية السلمية وما تضمنته من فترة "سماح" فلسطينية (المرحلة الانتقالية)، للقيام بحملة مكثفة من أجل تكريس وقائع في الضفة الغربية للتأثير مسبقاً في نتيجة المفاوضات النهائية. وبدأ الصراع بين الإسرائيليين يحتدم بشأن مقتضيات "السلام"، وتصاعدت وتائر التنافس بين الأطراف الأيديولوجية والسياسية الإسرائيلية للتأثير في الرأي العام وفي عملية اتخاذ القرار السياسي. ومع مرور الوقت، وبعد توقيع اتفاق "إعلان المبادئ" بين الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية، بدأ التأثير الفلسطيني في المسيرة السلمية يخبو في مقابل تصاعد أهمية الموقف الإسرائيلي الداخلي تجاهها. ومع تكثّف الحملة الاستيطانية في الضفة الغربية وحول مدينة القدس، ودخول المفاوضات الإسرائيلية مع سوريا مرحلة دقيقة، بدأ الاستقطاب بين مؤيد لتقديم استحقاقات السلام في إسرائيل ومعارض لها يتزايد ليصل إلى داخل الائتلاف الحاكم. ففي حين تؤيد أطراف حكومية موقف التخلي عن نسبة كبيرة من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويذهب بعضها إلى درجة تأييد إقامة دولة فلسطينية ترتبط بالأردن كونفدرالياً، تقف أطراف أُخرى مع موقف احتفاظ إسرائيل بالضفة الغربية تحديداً، ناهيك بموقف اليمين الإسرائيلي المعارض مبدئياً لفكرة تقديم "تنازلات إقليمية". وبين المقتضيات السياسية من جهة، والمقتضيات الأيديولوجية الدينية والأمنية من جهة أُخرى، أخذ الموقف الإسرائيلي الداخلي يتأرجح في غياب أغلبية واضحة ومستقرة وحاسمة ومستقرة وحاسمة لدعم خيار في وجة آخر. وفي ظل انقسام الرأي العام الإسرائيلي وعدم استقراره، أصبح القرار السياسي في إسرائيل بشأن العملية السلمية مرتهناً بعملية الاستقطاب السياسي القائمة حالياً داخل الحلبة السياسية الإسرائيلية.
إن فكرة الفصل المطروحة من قبل رابين الآن، ومحاولة ترسيم الخط الفاصل داخلياً بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ورسم خريطة إسرائيل في مرحلة التسوية السياسية، كل ذلك في إطار محاولة الحكومة الإسرائيلية تقليص فجوة الاستقطاب السياسي في إسرائيل، وتوسيع قاعدة اتفاق الرأي العام الإسرائيلي على السمتلزمات الضرورية لتحقيق السلام والأمن والاستقرار لإسرائيل. وفي واقع الأمر، فإن رابين يقوم من خلال هذا الطرح لمفهوم الفصل بعملية تفاوض داخلي مبطّن مع اليمين الإسرائيلي، وعلى رأس حزب الليكود فعوضاً من استمرار التفاوض مع الفلسطينيين، بعد توقيعهم اتفاقي أوسلو والقاهرة، وجد رابين في ظل العمليات الانتحارية الفلسطينية أن عليه أن يصل إلى "وفاق وطني" إسرائيلي عام حول "الصيغة الإقليمية" التي من الممكن أن تشكل "حلاً وسطاً" بين الأطراف السياسية الإسرائيلية، وبذا تلقى قبولاً أعرض في الشارع الإسرائيلي. وباختصار، إن مفهوم الفصل المطروح في الحلبة السياسية الإسرائيلية حالياً يشكل محور المفاوضات الإسرائيلية بشأن مقتضيات المسيرة السلمية، ويمثّل نقطة الاتكاز المحورية في البحث الإسرائيلي عن "الصيغة التوفيقية".
وثالثاً، إن المفاوضات التي تجري حالياً بين الفلسطينيين والإسرائيليين بشأن تطبيق المرحلة الثانية من اتفاق "إعلان المبادئ" (المفاوضات بشأن الانتخابات الفلسطينية وإعادة انتشار الجيش الإسرائيلي في الضفة المحتلة) لا تمر بمأزق إجزائي فحسب، أو بصعوبات تتعلق بجوانب تطبيقية فقط، وإنما تتصف أيضاً بأنها مفاوضات عقيمة من الناحية الاستراتيجية بالنسبة إلى الفلسطينيين،وأنها لن تجدي نفعاً حقيقياً لتحقيق سلام دائم بين الطرفين، وصولاً، عبرهما، إلى المنطقة بأسرها. وحتى الاحتماعات التي يعقدها عرفات مع رابين وبيرس، و"القمة" الرباعية التي جمعت في القاهرة في أوائل العام الجاري بين الرئيس المصري مبارك والملك حسين وعرفات واربين، لم تعد جميعها بقادرة على ضخ الحياة في عملية سلمية تجمدت بفعل إجراءات إسرائيلية يقف على رأسها السعي الحثيث والمكثف لتهويد مدينة القدس وتوسيع الشبكة الإستيطانية في الأراضي الفلسطينية، ولا سيما في الضفة المحتلة. فالوقائع الإسرائيلية المستجدة على الأرض تخطّت، من الناحية العملية، حدود اتفاق أوسلو واتفاق القاهرة. والحكومة الإسرائيلية تتبع حالياً منهج المراوغة في المفاوضات التفصيلية المتعلقة باستكمال إجراءات الدخول في المرحلة الانتقالية، لكن الإسرائيليين استحصلوا من اتفاق أوسلو على ما يريدون، وبقي عليهم منع الفلسطينيين من تحقيق حصتهم من الاتفاق، وذلك بالمماطلة لكسب الوقت بهدف تحوير معنى العملية السلمية وتحويل مجراها ليصب في مصب إبقائها إسرائيلية المنطلق والمسار والقرار.
وبيدو الآن جلياً من التغييرات الجارية على نحو حثيث من قبل الإسرائيليين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعلى صعيد المفاوضات التفصيلية، أن الحكومة الإسرائيلية، كانت عندما اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية ووقعت معها اتفاق "إعلان المبادئ"، تبيت نيات توظيف هذا الاتفاق لتفويض الأهداف الوطنية الفلسطينية. وقد وقع الجانب الفلسطيني في الفخ الإسرائيلي عندما وافق على تقسيم حل القضية الفلسطينية إلى مرحلتين تفاوضيتين منفصلتين، بينهما فترة زمنية انتقالية تمتد أعواماً خمسة. فهذا التقسيم أدى، من ناحية، إلى انسياق الجانب الفلسطيني إلى قبول تأجيل البحث في القضايا المصيرية، كالحدود ووضع القدس والاستيطان واللاجئين، إلى المرحلة التفاوضية النهائية. وبذلك، وفي مقابل حكم ذاتي مقطوع ومحدود، أبقى الجانب الفلسطيني المصير الفلسطيني مُعلقاً لفترة زمنية حدّها الأدنى مرهون بفترة زمنية مدتها خمسة أعوام. ومن ناحية أُخرى، لم يحصل الفلسطينيون، لقاء هذا التنازل السخي، على ضمانة إسرائيلية تكفل رسمياً وفعلاً عدم قيام السلطة المحتلة باستغلال الفترة الزمنية الانتقالية للقيام بتنفيذ سياسة منهجية لتغيير الوقائع داخل الأراضي المحتلة، وبما يجحف أساساً بالإمكانات الفلسطينية في المفاوضات النهائية.
وعندما أصبح الاتفاق بين الطرفين مفتقراً إلى مرتكزات أساسية ومبادئ ومركزاً على الإجراءات، أصبحت العلاقة التطبيقية للاتفاق تفتقر إلى النديّة والتكافؤ بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.وعوضاً من مثل هذه العلاقة الضرورية لتحقيق السلام، ولا الاستسلام، أصبحت العلاقة التطبيقية تستند إلى معادلة ميزان القوى بين الطرفين، وهي معادلة تعاني خللاً جسيماً لمصلحة إسرائيل، وأخذت الحكومة الإسرائيلية تستخدم هذا الخلل في تحديد أجندة المفاوضات التفصيلية ووتيرتها، في حين أصبح الجانب الفلسطيني أسير مقتضيات الأهداف الإسرائيلية العامة ومجريات السياسة الداخلية الإسرائيلية.
إن طرح رابين لفكرة "الفصل الأمنى"، ودرسها من قبل طاقم خبراء أعدّ تقريراً رسمياً بشأنها، وتزايُد الجدل الداخلي في إسرائيل بشأن جدوى وكيفية تطبيقها، كل ذلك يدلل بصورة واضحة على عدمية المفاوضات التفصيلية التي تجري بين الفلسطينيين والإسرائيليين في القاهرة وفي أماكن أُخرى، بمنأى عن هذه المجريات المهمة. فكان لا علاقة البتة بين هذه المفاوضات وبين التطورات الجارية على أرض الواقع. وادعاء إسرائيل أن خطة "الفصل الأمني" أمر داخلي سيادي يجب ألاّ يُنظر إليه فلسطينياً بأنه يجحف مسبقاً بنتيجة المفاوضات النهائية في المستقبل ما هو إلا ادعاء مغرض وسلبي الأهداف. فخطة الفصل، إن طُبقت، ستخلق وقائع جديدة داخل الضفة الغربية، وستصبح هذه الوقائع بالتأكيد عوائق أمام الفلسطينيين مستقبلاً. واستمرار المفاوضات التفصيلية الحالية، على عقمهاـ وفي ظل خلق الوقائع الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يمنح إسرائيل غطاء فلسطينياً شرعياً لتحديد نتيجة المفاوضات النهائية وماهية حل القضية الفلسطينية منذ الآن.
أما الدلالة الرابعة لخطة الفصل التي يقترحها رابين فهي وصول الحكومة الإسرائيلية الحالية إلى موقف العجز أمام ضرورة تحديد ماهية المستقبل الإسرائيلي بصورة حاسمة. فمنذ تسلمها دفة الحكم وهي تتذبذب بين دائرتي استقطاب رئيسيتين، الأولى، التزامها الرسمي والمعلن بالعملية السلمية، واقتناعها بأهمية وضرورة استغلال الفرصة الذهبية المواتية لتحقيق الشرعية والأمن والاستقرار لإسرائيل، وفتح المجالات العريضة أمامها للاندماج في العالم العربي المحيط بها.وعلى الرغم من أن هذه الحكومة حققت اختراقات إسرائيلية مهمة في الساحتين الفلسطينية والعربية، فإنها تعلمي يقيناً بأن استتباب السلام والأمن والاستقرار لإسرائيل والإسرائيليين يعتمد أساساً على الماهية النهائية لحل القضية الفلسطينية وتحقيق القبول الفلسطيني بهذه الماهية، وتعلم أيضاً بأن على إسرائيل أن تفي باستحقاقات أساسية.
بيد أن هذه الاستحقاقات المطلوبة تتعارض مع دائرة الاستقطاب الرئيسية الأُخرى التي تجذب الحكومة الإسرائيلية، أي موقف المعارضة اليمينية الإسرائيلية إلى إقامة دولة فلسطينية. ونظراً إلى أن الانقسام في الشارع الفلسطيني حاد بشأن الإيفاء بالاستحقاقات الفلسطينية، والضغوط اليمينية الإسرائيلية على الحكومة تزداد في ضوء العمليات الانتحارية الفلسطينية التي سلبت الإسرائيليين الشعور بالأمن الداخلي، فإن شعبية رابين تواجه تدهوراً مستمراً؛ وتظهر استطلاعات الرأي العام المتوالية تدني نسبة القبول التي تتمتع هذه الحكومة به في مقابل تصاعد نسبة تأييد الأحزاب اليمينية، الأمر الذي يدل على ازدياد إمكان خسارة الائتلاف الحاكم للانتخابات العامة المقبلة.
وبين الاستقطابين الرئيسيين تقف الحكومة الإسرائيلية الآن ضعيفة وحائرة، وتحسب حسابتها السياسية الضيقة. وأسباب الضغف مُركّبة ومتعددة؛ فمن ناحية، فشل رابين في محاولاته المتكررة لتوسيع ائتلاف حكومته، ولم يتمكن من إعادة ضم حزب شاس المتدين إليها؛ فبعد مفاوضات مضنية وطويلة، قرر حزب شاس مؤخراً عدم الانضمام إلى الحكومة، تاركاً رابين على رأس حكومة أقلية ائتلافية، تعتمد في بقائها واستمراريتها في المسيرة السلمية على الأصوات العربية المانعة في الكنيست. ويعلم رابين يقيناً بأن مثل هذه الأصوات لا يفيد في حسم مسألة مصيرية تتعلق بـ "الأمن القومي اليهودي" في الدولة العبرية. ومن ناحية ثانية، فإن الحكومة تتخبط في تحديد سياساتها الاقتصادية، وهو ما أدى إلى إضافة بعد آخر إلى زعزعة ثقة الجمهور الإسرائيلي بها. والخلافات الأخيرة التي برزت في صفوف الائتلاف الحاكم بشأن فرض "ضريبة البورصة"، والتطورات التي آلت إلى إلغائها في نهاية الأمر، إضافة إلى ما لحق بالحكومة من أضرار جراء انتخابات الهستدروت الأخيرة، وما تبع ذلك من كشف لفضائح عمليات استغلال سابقة سُخرت فيها أموال هستدروتية في تمويل دعاية انتخابية لأعضاء من حزب العمل، ما هي إلا أمثلة عينية لذلك. ومن ناحية ثالثة، فإن حزب العمل، وهو الحزب الرئيسي في الائتلاف الحاكم، يعاني، من جراء خلافات داخلية، عدم الانضباط الحزبي، وهو الانضباط الضروري لدعم السياسات الحكومية وتثبيتها. وقد أدى ذلك مؤخراً إلى تبديل رئيس الكتلة البرلمانية من حزب العمل بسبب مخالفته الانضباط الحزبي في التصويت على أمر يتعلق بموازنة الدولة. ومن نافل القول، إن مثل هذا الافتقار إلى الانضباط واحتدام الجدل الداخلي وبروزه على السطح أمام الجمهور يضعضع موقف الحكومة ويضعفها.
وفي ضوء العد التنازلي باتجاه موعد الانتخابات العامة المقبلة، وبدء الحملة الانتخابية بصورة غير رسمية، ونظراً إلى أن الانتخابات الخاصة بمنصب رئيس الحكومة ستصبح انتخابات مباشرة، فقد أصبحت الحكومة الإسرائيلية عاجزة الآن، أكثر من أي وقت مضى، عن استكمال المسيرة السلمية أو وقفها، مع الفلسطينيين تحديداً. فلا هي بقادرة حقاً على مواجهة الانقسام والضغوط الداخلية والمضي قُدماً لاتخاذ الخطوات الضرورية لإحداث النقلة الإيجابية في هذه المسيرة الآن، ولا هي براغبة في الظهور في موقف الضعف والخنوع لمطالب اليمين الإسرائيلي بوقف هذه المسيرة، نظراً إلى أن ذلك يعني الآن، على المسار الفلسطيني، انهيار "مشروع السلام" برمته أو فسحاً في المجال أمام مواجهة شاملة متجددة مع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
بسبب هذا العجز، اتخذ رابين قراراً ضمنياً بضرورة المماطلة، اعتقاداً منه أن التمترس في الموقع الذي وصلت المسيرة السلمية إليه سيجنّبه على الأقل تحمل المزيد من الخسائر. وفي هذا الإطار، جاءت "خطة الفصل" مشروعاً وسطياً رابينياً يهدف إلى إسكات جميع الأطراف الإسرائيلية؛ فلا هي تؤدي الآن إلى "تنازل إقليمي"، ولا إلى إغلاق الباب أمام إقامة كيان فلسطيني ولكونها مشروعاً وسطياً يحمل في ثناياه أهدافاً سياسية إسرائيلية داخلية، ولا يستجيب للمطالب الفلسطينية، فإن خطة "الفصل الأمني" المقترحة لا تحقق السلام المنشود ولا توقف المسيرة السلمية، وإنما تعلّقها كسباً للوقت ريثما تتغير الأوضاع وتجرى الانتخابات الإسرائيلية.
استنتاجات أساسية
مع أن خطة "الفصل الأمني" قاصرة عن تشكيل الآلية الملائمة لدفع العملية السلمية أو لتحقيق الأمن الإسرائيلي الداخلي المنشود، فإن مجرد اقتراحها والمضي قدماً في درس سبيل تطبيقها يقود إلى استنتاجات أساسية. ومن الواجب ألاّ تُغفل هذه الاستنتاجات، والاهتمام بدرس أبعادها وفهمها، وذلك لكونها تشكّل عناصر أساسية في صوغ مستقبل المسيرة السلمية وتحديد المصير الفلسطيني، عدا عن المصير الإسرائيلي أيضاً. وبصورة أولية، يمكن استخلاص ثلاثة استنتاجات سيكون لها أبعاد رئيسية عامة.
أولاً، إن خطة الفصل الرابينية تشير بصورة دالة إلى حدوث تحوّل رئيسي في المشروع الصهيوني الكلاسيكي لدى المؤسسة الرسمية الإسرائيلية، بما فيها اليمين الإسرائيلي التقليدي. فهذا المشروع قام على أساس "استعادة أرض إسرائيل كاملة غير منقوصة" لتصبح "الدولة اليهودية النقية العرق"، وذلك باستخدام مختلف السبل لتفريغ فلسطين من أهلها الفلسطينيين. وبعد مرور قرابة قرن من الزمن على استهداف الحركة الصهيونية للشعب الفلسطيني، متحالفة بذلك مع أقوى دولتين عظميين في هذا القرن، بريطانيا العظمى أولاً ثم الولايات المتحدة الأميركية، يخرج رابين بخطته للفصل ليعترف بفشل المسعى الصهيوني الكلاسيكي. فعلى الرغم من مختلف وسائل الطرد والاقتلاع والتغييب التي استخدمت، بقي جزء من الشعب الفلسطيني على أرض وطنه، وأثبت من خلال ثباته ونضاله المستمرين عقم إمكان تغييبه وسلب حقوقه. ويبدو أن رئيس الحكومة رابين، الذي كان رئيس أركان حرب إسرائيل سنة 1967، اكتشف بعد مضي نحو ثلاثة عقود على تلك الحرب التي استكمل الإسرائيليون بها احتلالهم لكل فلسطين، أن ذلك الانتصار العسكري لآلة الحرب الإسرائيلية كان مجبولاً بهزيمة أيديولوجية مستترة لآلة الفكر الصهيوني. فالجزء الباقي من فلسطين استُولي عليه إسرائيلياً سنة 1967 مع معظم أهله. وعلى الرغم من المحاولة المستمرة والمكثفة لتهويد هذا الجزء عن طريق عملية استيطان ومصادرة أراض تبارى في تنظيمها قطبا الحياة السياسية الإسرائيلية (العمل والليكود)، يكتشف رابين – مُصدر أمر كسر عظام أطراف شباب الانتفاضة – فشل إمكان إجلاء الفلسطينيين بالطرد الجماعي (الترانسفير)، وخطورة إمكان الدمج لكونه ينهي حياة الدولة العبرية ويحولها إلى دولة "ثنائية القومية". ويأتي اقتراح رابين بالفصل هروباً من مواجهة المأزق المستعصي صهيونياً. وعلى الرغم من محدودية هذا الاقتراح والاشتراطات والأوضاع المرتبطة به، فإنه يدل على أن المستقبل الفلسطيني سيتشكل باعتراف إسرائيلي على أرض فلسطين، لا خارجها. وفي هذا دلالة مستقبلية في غاية الأهمية الاستراتيجية والتاريخية.
لكن، مع ذلك، يجب الانتباه إلى أن فشل المشروع الصهيوني في هذا الجانب المشار إليه أعلاه لا يعني إطلاقاً نهايته أو نكوص غاياته؛ ولذا يجب التنبّه والحذر. فهذا الفشل يُوظف الآن إسرائيلياً لإنعاش المشروع الصهيوني في جانب آخر، وهو الامتداد والتغلغل سياسياً واقتصادياً في المنطقة المحيطة برمّتها. إذ إن إسرائيل تحاول في المسيرة السلمية الحالية ان تقايض فشلها في تحقيق المشروع الصهيوني الكلاسيكي في فلسطين باختراق العالم العربي المحيط وتطويعه. وفي مسعاها الذي لم يتطلب منها حتى الآن سوى منح حكم ذاتي مقلّص للفلسطينيين، حصلت إسرائيل على الاعتراف السياسي العربي، وتهاوت أمامها المقاطعة الاقتصادية العربية، وأصبح ساستها ورجال أعمالها يصولون في العواصم العربية، ويشتركون في عقد قمم شرق أوسطية، في حين يفشل العرب في عقد قمة عربية أو في رفع حصار جائر عن دولة عربية. أي أن احتواء القضية الفلسطينية عوضاً من الاستمرار بنكرانها قد فتح أمام إسرائيل المجال عربياً ودولياً. وهذا في حد ذاته نصر كبير لمشروع صهيوني معدّل عن آخر فشل في تحقيق هدفه الأساسي بصورة كاملة.
أما ثاني الاستنتاجات، فيتمثل في قصور صيغ اتفاقي أوسلو والقاهرة عن تأمين السلام الشامل بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي؛ فالحكومة الإسرائيلية أرادت من هذين الاتفاقين أولاً، ومن التلاعب بتفسيراتهما وتطبيقاتهما العملية ثانياً، أن تُفصٍّل مجرى التسوية وآفاقها مع الجانب الفلسطيني على مقاسها، ووفق أجندتها وأهدافها الخاصة. ويجدر الانتباه في هذا المجال إلى أن منطلقات هذه الحكومة في المفاوضات مع الجانب الفلسطيني لم تكن تابعة من نيات وقناعات إيجابية تنبثق عن اعتراف إسرائيلي متأخر بالضيم اللاحق بالشعب الفلسطيني وحقوقه الشرعية. بل على العكس، لقد جاءت هذه المفاوضات، بالنسبة إلى الحكومة الإسرائيلية، اضطرارية لوضع حدٍّ للانتفاضة الفلسطينية في الأراضي المحتلة، ولفتح المعابر أمام عقد تسويات إسرائيلية – عربية. أي أن المفاوضات مع الجانب الفلطسيني لم تشكّل بالنسبة إلى الحكومة الإسرائيلية غاية في حد ذاتها فقط، وإنما أيضاً وسيلة ترغيب وتسريع للمفاوضات على المسارات العربية الأُخرى.
لهذا السبب الإسرائيلي، جاء اتفاقا أوسلو والقاهرة مبهمي المضامين ويزخران بالتلكؤ والبطء في التنفيذ فقد أرادهما الإسرائيليون وسيلة لكسب الوقت، ومن هنا إصرارهم، بدعوى "تعزيز الثقة"، على وجود مرحلة انتقالية مدتها خمسة أعوام. وفي ظل وهم "عدم وجود البديل"، لم يكن في وسع الجانب الفلسطيني سوى الرضوخ للاشتراطات الإسرائيلية. وبعد قيام السلطة الفلسطينية، بدأ الفلسطينيون يطالبون بتسريع المسيرة السلمية، في حين ظنّت إسرائيل أن الوضع استقر فماطلت في عملية التنفيذ. غير أن العمليات الانتحارية الفلسطينية قلبت الموازين الأمنية، وفتحت على الحكومة الإسرائيلية أبواباً ظنتها أُغلقت، وخلقت لها دوامة ومعضلة مستعصية؛ فالمرحلة الانتقالية أصبحت باهظة التكاليف، لا للجانب الفلسطيني فحسب، وإنما أيضاً للحكومة الإسرائيلية التي أصرّت عليها وفرضتها. وللخروج من مأزق المرحلة الانتقالية، ومن دون تحمل تكاليف التوجه مباشرة إلى مرحلة المفاوضات النهائية، وجد رابين في "الفصل الأمني" مخرجاً. لكن، كما ذكرنا سابقاً، سيبقى هذا المخرج غير كاف لتحقيق الأهداف الإسرائيلية المستترة.
ويبقى الاستنتاج الثاني إلى الاستنتاج الثالث مباشرة، وهو الفصل بين طرفين متداخلين لن يتجح بأن يفرضه طرف على آخر، وإنما بالاتفاق بين الطرفين. والاتفاق بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي في هذا الشأن لن يكون إلا بالدخول مباشرة في المفاوضات النهائية لتحديد التسوية الشاملة، والفصل بين الطرفين لن يكون ناجحاً ومفيداً إذا اقتصرعلى الجانبين الأمنى والاقتصادي؛ بل يجب أن يكون المدخل الأساس للفصل سياسياً، وهو الأمر الذي يتطلب من الحكومة الإسرائيلية اتخاذ قرار جريء وصريح بمشروعية إقامة الدولة الفلسطينية، والدخول في مفاوضات مكثفة مع الجانب الفلسطيني لتحديد حدود هذه الدولة الجغرافية وطبيعة علاقاتها بإسرائيل.
وفي سياق هذا الاعتراف، يصبح الفصل بين الدولتين ضرورياً لبناء جسور الثقة والتعاون مستقبلاً. فالتعايش لا يمكن أن يُفرض فرضاً بين طرف قوي وآخر ضعيف. وبالهيمنة على الفلسطينيين لن تستطيع إسرائيل أن تحقق لنفسها الاستقرار والأمن الداخلي. ويجب على الحكومة الإسرائيلية ان تعي جحم المسؤولية الملقاة على عاتقها الآن، وأن تسارع إلى اتخاذ القرارات الضرورية لدفع المسيرة السياسية المجمّدة. وإن هي فشلت في القيام بذلك، فيجب ألا يفاجئها مستقبلاً انفجار فلسطيني آت. فالفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة لم يشعروا بتغير إيجابي كبير في الأوضاع والأحوال جراء المسيرة السلمية التي فتحت لإسرائيل أبواب المنطقة والعالم. بل على العكس، فإن عدداً متزايداً منهم يعاني خيبة أمل في التوقعات العريضة التي نُفخت في هذه المسيرة عند بدايتها لإعطائها الزخم الذي كان مطلوباً للإقلاع. وبيدو أن هذه التوقعات لم تتحول إلى وقائع ملموسة لأن أوضاع قطاعات فلسطينية عريضة آخذة في التدهور بعد توقيع الاتفاقات الفلسطينية – الإسرائيلية عمّا كانت عليه في فترة الاحتلال الإسرائيلي السابقة. وما فرْض الطوق الأمني على الضفة والقطاع، وحرمان آلاف من العمال الفلسطينيين من مصادر رزقهم، وتقييد الحركة الفلسطينية، وتكيثف عملية الاستيطان ومصادرة الأراضي، وازدياد حملات الاعتقال، إلا أمثلة واضحة للاستهداف الإسرائيلي للفلسطينيين في"عهد السلام". ومع جميع هذه الإجراءات التي يتعرض الفلسطينيون لها، وفي محصلتها خطة الفصل التي تفرضها الحكومة الإسرائيلية عليهم كـ "عقاب جماعي"، تتصاعد حدّة الضغط المكبوت داخل الضفة والقطاع، منذرة بانفجار الوضع الكام مجدداً. وإذا أوصلت الأمور إلى مرحلة الانفجار الفلسطيني، تكون الحكومة الإسرائيلية قد خسرت الفرصة الذهبية لإكساب إسرائيل الشرعية والسلام.
ولدفع عجلة المسيرة السلمية وإنقاذها من التدهور الانهيار التام، يقع على الجانب الفلسطيني الآن مسؤولية جسيمة تتلخص بالتوقف عن تقديم المساعدة والغطاء للحكومة الإسرائيلية التي تقوم منذ توقيع الاتفاقات مع الفلسطينيين بإجراءات منهجية لتقويض عملية السلام. وفي هذا المجال يتوجب على السلطة الفلسطينيةوقف المفاوضات العبثةي مع الجانب الإسرائيلي الأن؛ بهذه المفاوضات التي تستخدمها إسرائيل للمماطلة والتسويف تمنح الحكومة الإسرائيلية الغطاء اللازم لتمرير إجراءاتها التعسفية ضد الفلسطينيين، في حين أنها لا تحقق لهم في المقابل مكاسب ذات جدوى حقيقية.
يجب أن يفرض على الحكومة الإسرائيلية مواجهة متطلبات واستحقاقات العملية السلمية مع الجانب الفلسطيني في أقرب فرصة، فإذا لم تف بها، فمن الأفضل أن تنهار؛ إذ إن المماطلة ليست في مصلحة الفلسطينيين إطلاقاً، لاسيما أنها تُستغل إسرائيلياً لخلق وقائع جديدة تشكّل موانع أمام تخلّص الفلسطينيين من الهيمنة الإسرائيلية وأمام تحقيق الاستقلال. ومن هذا المنطلق، يفترض بالسلطة الفلسطينية الإصرار على دخول مفاوضات شاملة لتحديد الصيغة النهائية لحل القضية الفلسطينية، بعد أن اكتشفت بالطريقة الصعبة عقم المفاوضات الحالية. وعلى المفاوضات الشاملة أن تتركز حول تحقيق الاتفاق المشترك على الفصل بين الطرفين. وكي يكون الفصل آلية إيجابية تدعم المسيرة السلمية فلسطينياً، ينبغي أن يستوفي شرطين أساسيين: الأول، أن يتم فصل الضفة والقطاع عن إسرائيل بعد أن يتم وصلهما ببعض عبر ممر سيادي فلسطيني؛ والثاني، أن يتم فتح الحدود الفلسطينية مع كل من الأردن ومصر، ومن دون تدخل إسرائيلي، وذلك حتى لا يصبح الفصل أداة خنق إسرائيلية لمعازل فلسطينية. ومن دون توفر هذين الشرطين الضروريين لقيام الدولة الفلسطينية، فإن البحث عن السلام في المنطقة لن يتعدى الجري وراء السراب.