كما في عهد الليكود، كذلك في عهد حزب العمل، ظل للاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية المحتلة هدف رئيسي واحد: استباق المفاوضات، ثم استغلال فترة "الحكم الذاتي" الانتقالية، لفرض وقائع جديدة على الأرض تحدد سلفاً جوهر "الحل النهائي"، وفق الرؤية والمصالح الإسرائيلية. وفي غمار الكلام على عملية إعادة انتشار لقوات الاحتلال في الضفة الغربية (وفي عملية يعتبر الإسرائيليون موعد تنفيذها "غير مقدس")، لا تألو الحكومة والمستوطنون جهداً في سبيل فرض مزيد من الوقائع، وتعزيز وضع المستوطنات، بحجة التمهيد لإعادة الانتشار.
الجديد في الأمر هو انتقال الحكومة الإسرائيلية من السرّ إلى العلن في تخطيطها الاستيطاني، حين قامت بتأليف لجنة وزارية علنية بدلاً من اللجنة الاستثنائية السرية التي كانت تخطط للاستيطان منذ أوائل عهد الائتلاف العمالي الحاكم. وكذلك انتقال المستوطنين من مرحلة من الهدوء النسبي إلى ما بيدو مرحلة من تصعيد الممارسات الاستفزازية في الأراضي المحتلة.
الحكومة: "نبني أكثر من الليكود"
اتخذت الحكومة الإسرائيلية، في الجلسة التي عقدتها في 22 كانون الثاني / يناير 1995، قراراً بتأليف لجنة وزارية للإشراف على البناء في المستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وأولى القرار أهمية قصوى لتعزيز البناء في "القدس الموحدة كعاصمة لدولة إسرائيل". وتتألف اللجنة من رئيس الحكومة (رئيساً لها)، وعضوية وزراء كل من: الخارجية، المال، البناء والإسكان، العدل، والاتصالات. وقد تم اتخاذ القرار من دون نقاش، باعتبار "أن ليس هذا هو الوقت الملائم لإجراء نقاش معمق في هذا الموضوع، بحسب تعبير الوزير عوزي برعام، وبذريعة انفجار بيت ليد الذي حدث في أثناء انعقاد الجلسة. والجدير بالذكر أن القرار المذكور أشار إلى أن اعتبارات اللجنة الوزارية وقراراتها ستقوم على أساس قراري الحكومة رقم 360 (الخاص بـ "تجميد" البناء) ورقم 721 (المعروف بـ "تقرير شيفس لمناطق الأولوية القومية"). وينص هذا التقرير، الذي يحمل اسم شمعون شيفس، المدير العام لديوان رئيس الحكومة، على ما يلي:
في القدس الكبرى، بما في ذلك في غفعات زئيف، هار آدار، غفعون هيحدشاه، غوش عتسيون، بيتار وإفرات، تُمنح تسهيلات بموجب قانون تشجيع استثمار رأس المال للمشاريع الكثيفة العلوم والمشاريع الكثيفة التكنولوجيا، كما في مناطق الأولوية القومية أ. كما تُمنح مساعدات وافرة في مجال البناء، في الضواحي الفقيرة، وفي الضواحي الجديدة التي أُقيمت بعد سنة 1967. وفي معاليه أدوميم، تُمنح مساعدات وافرة لتشجيع استثمار رأس المال لمختلف أصناف المشاريع، وكذلك مساعدات وافرة للبناء.[1]
وكان وزير البناء والإسكان بنيامين بن أليعيزر قدّم، في مستهل جلسة الحكومة، عرضاً موجزاً لأعمال البناء في مستوطنات الضفة (باستثناء القدس)، مستعيناً بالخرائط والرسوم البيانية والإحصائية. وبحسب العرض، تم خلال سنة 1994 بناء ما مجموعه 1883 وحدة سكنية في "المناطق"، منها 1026 وحدة في بيتار، و 797 وحدة في معاليه أدوميم، و 10 وحدات في غور الأردن. أما في هذه السنة، فيخطط لبناء 3150 وحدة سكنية، بما فيها 900 وحدة في بيتار، و 1080 وحدة في معالية أدوميم، و 400 وحدة في كريات سيفر، و 50 وحدة في الغور، و 800 وحدة في غفعات زئيف، و 221 وحدة في إفرات. [2] وهذا يعني أن وتيرة البناء في المستوطنات هذه السنة ستزيد بنسبة 60% تقريباً عن السنة الماضية. كما ستُشق أربع طرق التفافية في مناطق رام الله (طريقان) وطولكرم وكريات أربع.3
بعد ثلاثة أيام من اتخاذ القرار، عقدت اللجنة الوزارية الجديدة أول اجتماع لها، بعد أن ضمت إلى عضويتها – على ما بيدو – وزيري المعارف والطاقة. وقررت اللجنة مواصلة البناء في مستوطنات معاليه أدوميم وبيتار وغفعات زئيف وغور الأردن. وفيما عنى معالية أدوميم، صادقت اللجنة على بناء 797 وحدة سكنية إضافية، وقررت أن تحدد الإدارة المدنية منطقة من أراضي الدولة لعشيرة الجهالين تكون بديلاً من الأراضي التي تسكنها العشيرة بالقرب من المستوطنة. أما بالنسبة إلى المستوطنة الدينية بيتار، فقد تقرر المصادقة على استكمال بناء 1026 وحدة سكنية ومواصلة التخطيط لبناء 900 وحدة إضافية. وسيتلقى كل مستوطن يشتري وحدة سكنية من الـ 1026 وحدة مبلغ 50 ألف شيكل كـ "مساعدة مكان"، يكون نصفها في هيئة هبة. كما قررت اللجنة المصادقة على استكمال بناء 340 مسكناً في ضاحية نيفي مناحم في مستوطنة غفعات زئيف. وسيبنى 800 مسكن أيضاً على أراض خاصة. وتقرر بناء 50 مسكناً في غور الأردن: 10 مساكن في كل من شدموت محوله وتومار؛ 8 مساكن في كل من روعي وحمرا وأرغمان؛ 6 مساكن في يافيت. وقد تم اتخاذ بعض هذه القرارات بالإجماع، في حين عارض وزراء ميرتس بعضها الآخر (البناء في بيتار وغفعات زئيف).
في ذلك اشتكت شولاميت ألوني قائلة: "أنتم مثل الليكود. إني لا أعرف إن كان ثمة من يفكر أين سيسكن العرب." فأجابها رابين: "أنا أفكّر في اليهود". أما وزير المال أبراهام شوحط، فعلّق قائلاً: "أن نكون نحن نبني أكثر من الليكود، فهذا صحيح. هم [في الليكود]، مع كل كلامهم وتبجّحهم، بنوا 4000 خلال 17 عاماً،أي 200 في العام. أمّا ما بنيناه نحن في سنة 1994 وما قررناه اليوم، فيبلغ ثلاثة أضعاف ذلك ..." 4
وفي الأول من شباط/فبراير، صادقت اللجنة الفرعية للتخطيط والبناء في القدس على المرحلة الأولى من إقامة الضاحية الاسيتطانية الجديدة المسماة "هار – حوما" (على أراضي أم طوبى)، عند الطرف الجنوبي لحدود بلدية القدس. وسيبنى في هذه المرحلة 6500 وحدة سكنية، بالإضافة إلى 2500 وحدة أُخرى تبنى في المرحلة الثانية، على أراض تبلغ مساحتها 6000 دونم.ويُراد لهذه الضاحية أن "تكمل حلقة الضواحي اليهودية المحيطة بالقدس." 5
وفي 27 من الشهر نفسه، رفض رابين خطة عرضتها حركة "السلام الآن" عليه بشأن الانسحاب من مناطق من الضفة وإخلاء عدد من مستوطناتها، في المرحلة الانتقالية. وتقترح الخطة إخلاء 26 مستوطنة صغيرة للغاية، يسكنها أقل من 700 مستوطن (نحو 5% من مجموع عدد المستوطنين)، من بينها: الوجود اليهودي في الخليل، أفير يعقوف، معاليه عموس، دوليف، يسغوت، شفي شورمرون، وتكوّاع. وقال رئيس الحكومة الإسرائيلية في معرض رفضه مشروع "السلام الآن": "إن عرفات لا يطلب منى ما تطلبونه." 6
وفي أثناء كتابة هذه السطور، صدر بيان لرئاسة الحكومة الإسرائيلية أكّد عدم إخلاء أية مستوطنة قبل تحديد الوضع النهائي لـ "المناطق". كما أعلن البيان تأجيل اجتماع كان مقرراً أن تعقده اللجنة الوزارية الخاصة بالاستيطان لدرس خطة أعدها بن أليعزر تقضي ببناء أكثر من 5000 وحدة سكنية جديدة في الضفة. 7
المستوطنون: تصعيد جديد
في هذه الأثناء، عاد المستوطنون اليهود في الضفة إلى مواصلة ممارساتهم الاستفزازية، على نحو تصعيدي.
ففي 28 كانون الثاني/يناير، أطلق مستوطنو معاليه عموس النار على متظاهرين فلسطينيين، ومعهم 20 من أعضاء حركة "غوش شلوم"، على رأسهم أوري أفنيري. وكان المتظاهرون يحتجون على استيلاء المستوطنين على أراض عربية بالقرب من المستوطنة. وصرّح أفنيري بأنه "بأعجوبة فقط" لم تقع إصابات. وكانت أول مرة يطلق المستوطنين النار فيها على إسرائيليين. 8
وفي أواخر شباط/ فبراير، كُشف النقاب عن خطة لتسيير دوريات مشتركة بين مستوطني غور الأردن والشرطة الإسرائيلية، بحجة "مواجهة موجة السرقات" التي تتعرض مستوطنات الغور لها "كل ليلة تقريباً"، انطلاقاً من منطقة أريحا، والتي تلحق أضراراً تبلغ قيمتها "ملايين الشيكلات في العام الواحد"! وقد استُبدلت هذه الخطة، بعد انفضاحها، بخطة أًخرى لإنشاء "حرس مدني" من مستوطني الغور. 9
ومن جهة أُخرى، واصل المستوطنون أعمال اقتلاع أشجار القرى الفلسطينية في الضفة. وقد شهدت مناطق عدة ازدياد حدة التوتر بين المستوطنين والفلسطينيين خلال النصف الأول من آذار/مارس الماضي، بسبب هذه الأعمال التي شارك الجيش الإسرائيلي فيها والتي ترافقت مع استمرار تسييج المستوطنات وشق "الطرق الأمنية" حولها. ومن بين هذه المناطق:
- جبل جالس قرب مستوطنة كريات أربع، المحاذية لمدينة الخليل، حين تصدى المواطنون الفلسطينيون للجرارات التي تعمل في تسييج المستوطنة.
- قرب قرية دير استيا (من منطقة نابلس)، حين قطع جرار عسكري عشرات الأشجار المثمرة القرية من طريق الوصول إلى مستوطنة ياكير.
- القرى القريبة من بلدة رام الله، حيث قُطعت عشرات الأشجار في الأراضي التي ستجتازها الطريق الالتفافية حول البلدة.
- قرية ترمسعيّا، بالقرب من مستوطنة شيلو، إلى الشمال من رام الله، حيث اشتكى أهالي القرية إلى الشرطة بشأن قطع عشرات أشجار الزيتون أراضيهم.
- أراضي قرية يورين (في منطقة نابلس) التي اشتبه سكانها في قيام مستوطني بْراخا بقطع عشرات الأشجار في أراضي القرية.10
وبحسب دراسة نشرها يونس صبيح، الباحث في جامعة النجاح في نابلس، فإن عدد أشجار الزيتون التي قطعها المستوطنون اليهود في أراضي الضفة، خلال شهري كانون الأول/ديسمبر وكانون الثاني/يناير، بلغ نحو 5250 شجرة. وتقدّر الدراسة نفسها عدد الأشجار المثمرة التي تم قطعها في الضفة منذ نشوب الانتفاضة سنة 1987 بنحو 170 ألف شجرة! 11
المصادر:
[1] أنظر: موطي بسوك، "دافار"، 32/1/1995. وللاطلاع على النص الكامل لقرار الحكومة الإسرائيلية، أنظر باب الوثائق في هذا العدد.
[2] بسوك، المصدر نفسه. يُلاحظ أن مجموع الوحدات السكنية التي ستُبنى في المستوطنات يبلغ 3451 وحدة، لا 3150 وحدة، كما جاء في مقال بسوك.
3 المصدر نفسه.
4 أنظر: "دافار"، 26/1/1995.
5 "هآرتس"، 2/2/1995.
6 المصدر نفسه، 28/2/1995. وانظر أيضاً: غوزي بنزيمان، "هآرتس"، 24/2/1995.
7 "الحياة"، 10/4/1995.
8 أنظر: "دافار"، 29/1/1995.
9 للتفصيلات، أنظر: عميرا سيغف "هآرتس"، 28/28/1995.
10 أوري نير، "هآرتس"، 16/3/1995.
11 المصدر نفسه.