عن مركز يافي للدراسات الاستراتيجية، التابع لجامعة تل أبيب بدأت بالصدور سلسلة من الدراسات القصيرة (باللغتين الإنكليزية والعبرية)، تعالج قضايا الحل الدائم بين الفلسطينيين وإسرائيل، التي من المفروض أن يبدأ التفاوض بشأنها في موعد أقصاه أيار/مايو 1996. وقد صدرت حتى الآن ثلاث دراسات، الأولى بعنوان "ماذا لو فشلت التسوية؟ كيف ستعرف ذلك؟" بقلن مارك أ. هيللر (بالإنكليزية)[1]، والثانية بعنوان: "مشكلة اللاجئين الفلسطينيين"، بقلم شلومو غازيت (بالعبرية)[2]، الثالثة بعنوان: "المستوطنات والحدود" بقلم جوزف ألفير (بالإنكليزية)[3]. وهي دراسات مهمة تلقي ضوءاً كاشفاً على المواقف الإسرائيلية حيال القضايا المشار إليها، والاعتبارات التي تقف خلف هذه المواقف، ومناحي التفكير في الحلول الممكنة والمرجحة. ويضفي أهمية إضافية عليها أن مؤلفيها على صلة حسنة بالقيادة السياسية/الأمنية الإسرائيلية، وفي مواقع تتيح لهم التعرف جيداً إلى مختلف وجهات النظر في الأوساط السياسية والأمنية.
وقد قدمنا في ملف العدد السابق من المجلة ترجمة للجزء الأساسي من دراسة ألفير، ونقدم فيما يلي ترجمة كاملة لدراسة شلومو غازيت الذي يعرض فيها معطيات عن أعداد اللاجئين وأبعاد المشكلة، ومواقف الأطراف المعنية مباشرة بالمشكلة تجاه الحلول الممكنة لها، وتوصياته بشأن الحل الممكن.
عرض المشكلة
بموجب اتفاق أوسلو، من المزمع أن تبدأ الحكومة الإسرائيلية مفاوضات بشأن التسوية الدائمة مع الهيئة التمثيلية الفلسطينية المعتمدة، وذلك، على ما بيدو، في موعد لا يتجاوز شهر أيار/مايو 1996. ويتناول هذا البحث إحدى المشكلات التي ستطرح في جدول أعمال النقاش بين الطرفين: حل ممكن لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، لاجئي 1948.
وبناء على الاتفاق المرحلي، من المفترض أن يبحث الجانبان أيضاً في مشكلة الفلسطينيين الذين نزحوا من جراء حرب الأيام الستة سنة 1967، والذين يرغبون في العودة، منذ الآن (بأعداد محدودة)، إلى مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، إن مشكلة هؤلاء النازحين، الذين لا يطالبون بالعودة إلى مناطق الخط الأخضر، لا تمت بصلة إلى جدول أعمال التسوية الدائمة. وعلى الرغم من ذلك، فسنتطرق إليها أيضاً في سياق هذا البحث.
سيقسم البحث إلى الأقسام الفرعية التالية:
- تقديم معطيات بشأن حجم المشكلة؛
- مختلف مواقف الطرفين ومواقف جهات أُخرى من الحلول الممكنة؛
- توصيات لحل ممكن.
خلال سنة 1948، وفي حمّى معارك حرب الاستقلال الإسرائيلية، اضطر مئات الآلاف من السكان العرب إلى ترك ديارهم والبحث عن ملجأ في مناطق عربية فلسطينية بعيدة عن ساحة القتال، أو حتى خارج حدود أرض إسرائيل الانتدابية؛ في دول عربية مجاورة. بالنسبة إلى أغراض هذا البحث، ليس هناك من أهمية للسؤال: كيف ولدت المشكلة في حينه؛ أيّ قسم من اللاجئين سمع نداءات القيادة العربية الداعية إلى الجلاء موقتاً، على أن يعود إلى منازله بعد هزيمة إسرائيل، واستجاب لها؛ أي قسم طُرد أو أُجلي بواسطة قوات الجيش الإسرائيليفي أثناء استيلائها على مدنة أو قراه؛ وأي قسم غادر هرباً من أهوال الحرب ومن المصير المجهول الذي ينتظره عند سيطرة قوات الجيش الإسرائيلي على بلدته.
خلافاً للتوقعات التي حملها الفلسطينيون في حينه بشأن عودة هؤلاء النازحين إلى منازلهم فور تحقيق النصر العربي في الحرب، أو بُعيد التوصل إلى اتفاقات الهدنة بين إسرائيل وجيزانها سنة 1949، لم تحل المشكلة منذئذ وحتى اليوم. إن الأكثرية الساحقة من هؤلاء النازحين – اللاجئين لم يسمح لها بالعودة إلى المجال الإسرائيلي، وفي مقابل ذلك، لم يتم القيام بأي عمل لإعادة توطينهم أو إعادة تأهيلهم في منافيهم.
في الجدال المبدئي الذي تخوضه إسرائيل مع الفلسطينيين والدول العربي، يطالب الأخيرون، بأن يتمتع كل فلسطيني لا يقيم اليوم في الأرض التي يقيم فيها سنة 1948 بحق العودة إلى وطنه ومنزله. ومع ذلك، ومن الناحية العملية، ليس كل عربي فلسطيني يعيش اليوم خارج المنطقة الإسرائيلية، أو خارج مناطق الضفة الغربية أو قطاع غزة، لاجئاً، بمعنى أنه يحتاح اليوم أيضاً، بعد انقضاء 46 عاماً، إلى حل مادي يشمل إعادة التأهيل والتوطين. وإن تعريف اللاجئ المتبع لدى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأوسط (الأونروا) هو التعريف الذي نستخدمه نحن أيضاً لأغراض هذا البحث:
اللاجئ الفلسطيني هو الشخص الذي كان يقيم بصورة اعتيادية في أرض إسرائيل خلال فترة لا تقل عن عامين، قبل نزاع عام 1948، وفقد كلاً من منزله ومصدر رزقه، ولجأ إلى إحدى الدول التي يقدم معونة فيها جهاز تابع لوكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين. إن اللاجئين الذين ينطبق عليهم هذا التعريف، وأنسالهم المباشرين، يحق لهم الحصول على مساعدة الوكالة إذا كانوا مسجلين في سجل الوكالة ويقيمون في المنطقة التي تعمل فيها ويعيشون في ضائقة.
عدد لاجئي سنة 1948: وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، بلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين سنة 1949 نحو 700,000 نسمة، أي ما يعادل نحو نصف العدد الإجمالي للسكان العرب الفلسطينيين في تلك الفترة، والذي بلغ 1,38 مليون نسمة تقريباً. وفي مقابل هذه المعطيات، من الجدير أن نشير إلى بحث الدكتور موشيه إفرات (الذي يعبر عن تقديرات إسرائيلية) والذي يقلص العدد الإجمالي للاجئين سنة 1948 إلى 604,000 نسمة، ويقدر عدد السكان غير اليهود في أرض إسرائيل [في ذلك الوقت] بــ 1,329,000 نسمة.ولا توجد أخمية كبيرة للفارق بين الرقمين، ويجب أن ننظر إليهما فقط على أنهما يعبران عن حجم المشكلة.
كان عدد اللاجئين المحدد سنة 1992، بحسب الأونروا، [4]7,2 ملايين نسمة تقريباً، يشكلون أيضاً نحو نصف العدد الإجمالي للسكان الفلسطينيين في ذلك الوقت. ويشمل هذا الرقم الإجمالي أيضاً الفلسطينيين الذين نزحوا نتيجة لحرب الأيام الستة، والذين يقيم معظمهم اليوم في الأردن. ويتضمن هذا الرقم نحو 800,000 لاجئ فلسطيني يعيشون في الأردن ولا يُعدّون من سكان مخيمات اللاجئين الموجودة في الضفة الشرقية. وبصورة عامة، لا تشكّل إعادة تأهيل هؤلاء هدفاً ملحاً. وبعد حسم هذا الرقم، يصل عدد اللاجئين ، بحسب معطيات الأونروا، إلى نحو 1,9 مليون نسمة، أي ما يزيد قليلاً عن ثلث عدد السكان الفلسطينيين حالياً.
ونظراً إلى مشكلات متعلقة بصدقية التسجيل في الأجهزة التابعة للأونروا، من الجائز أن نفترض أن هذه الأرقام أيضاً مبالغ فيها. وإذا أخذنا في الاعتبار النزعة إلى المغالاة في الأرقام، التي بلغت نحو 14% سنة 1948، فمن شأن عدد اللاجئين أن يكون قد وصل سنة 1992 إلى 2,320,000 نسمة فقط. وبعد حسم عدد اللاجئين المقيمين خارج مخيمات الضفة الشرقية، يهبط العدد الإجمالي إلى 1,630,000 نسمة.
مواقف الأطراف في الحل
من دون الدخول في التسلسل التاريخي لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين منذ سنة 1948، من المهم الإشارة إلى أن الفترة التي مضت لم تساعد في حل المشكلة. كان هناك موقف عربي حاسم – من جانب اللاجئين، والزعماء، والدول العربية المضيفة – حال دون توزيع اللاحئين، واستيعابهم، وإعادة تأهيلهم وإعادتهم إلى نمط حياة طبيعي. وقد استفادت هذه السياسة إلى حد بعيد من إنشاء الأونروا، التي رسخت مكانة اللاجئين من خلال منح بطاقة اللاجئ، وإنشاء مخيفات اللاجئين كوحدات قائمة خارج مسؤولية الدول الموجودة فيها (ex-territorial) ومتميزة عن بيئتها الطبيعية، وتوزيع وجبات غذائية للاجئين بصورة منتظمة.
وفي حين أبدت الحكومة الإسرائيلية استعداداً للسماح بعودة 100,000 لاجئ إلى قراهم سنة 1949، فإنها تراجعت عن اقتراحها بعد ذلك بفترة وجيزة (وعلى أرضية رفض العرب قبول هذه البادرة والاكتفاء بها).ومنذ ذلك الحين، رفضت الحكومات الإسرائيلية كلها مناقشة إعادة لاجئين، من الناحيتين المبدئية والعملية. وعلى مرة الأعوام الماضية، استجابت إسرائيل لالتماسات فردية، وسمحت لبضع عشرات من آلاف اللاجئين بالعودة إلى أراضيها لأسباب إنسانية، في إطار "جمع شمل العائلات" لكنها، في الوقت نفسه، رفضت عودة اللاجئين بصورة جماعية رفضاً باتاً.
والموقف الفلسطيني الرسمي أيضاً لم يتغير. وكان مطلب الفلسطينيين الحاسم دائماً هو تطبيق البند المتعلق بهذا الموضوع من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (البند 11 من القرار رقم 194 (lll)، الصادر بتاريخ 11 كانون الأول/ديمسبر 1948؛ أنظر أدناه)، والسماح بعودة جميع اللاجئين إلى منازلهم وعللوا هذا المطلب بالاستناد إلى "حق العودة".
الموقف الفلسطيني
حتى منتصف السبعينات على الأقل، اعتبر الموقف الفلسطيني الأساسي فكرة "العودة"، على أهميتها، جزءاً من فكرة تحرير فلسطين بكاملها، في حين استند حل مشكل اللاجئين، بحسب النظرة التي كانت رائجة لدى الأكثرية العظمى من الفلسطينيين، إلى إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل الحرب (Status quo ante bellum)، ذلك من خلال إزالة إسرائيل وإنشاء دولة فلسطينية. وكان من شأن تحرير فلسطين بكاملها [في حال إنجازه] إن يفسح في المجال، تلقائياً، أمام عودة جميع اللاجئين. وقد تم التعبير عن نمط التفكير هذا في الميثاق الفلسطيني لسنة 1964. أما الميثاق الفلسطيني المعدل لسنة 1968، فقد نص صراحة، في البند 9، على أن "العودة" تشكل هدفاً للكفاح المسلح: "أهداف هذا الكفاح هي تحرير الوطن، العودة إليه، تقرير المصير والسيادة في فلسطين".
ابتداءً من مرحلة معينة، اتضح للفلسطينيين أن حل مشكلة اللاجئين على أساس العودة إلى منازلهم وأراضيهم الموجودة في إسرائيل يشكل الحافز الأساسي الذي يغذي استمرار الكفاح الفلسطيني والكفاح العربي الشامل ضد صميم وجود إسرائيل. وبمرور الأعوام، ومع تزايد وعي أن "العودة" باتت أقل واقعية أصبح ثمة حاجة أيضاً إلى تصحيح البرنامج الفلسطيني الاستراتيجي. وهكذا، وتمشياً مع ذلك، تبنى المجلس الوطني الفلسطيني، في حزيران/يونيو 1974، "البرنامج السياسي الموقت" ذا النقاط العشر، الذي نص صراحة على أن "حق العودة" (وبيدو أن المجلس الوطني استخدم هذا التعبير أول مرة) يأتي في طليعة الحقوق الفلسطينية." غير أن تأكيد "حق العودة" ووضعه في مقدم المطالب والتطلعات الفلسطينية ترافقا مع تخلي منظمة التحرير والمجلس الوطني عن فكرة تحرير فلسطين بكاملها، وبداية نظرة أيضاً تجاه عودة لا تشمل بالضرورة المنازل والأراضي الأصلية.
يكتسب الفلسطينيون "حق العودة" – بحسب تفسيرهم الخاص – وكما ذكرنا آنفاً، بمقتضى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 (lll) الصادر بتاريخ 11 كانون الأول/ديسمبر 1948، الذي نص في البند 11 على "وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن (the earliest practicable date) للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذي يقررون عدم العود إلى ديارهم وعن كل مفقود أو مصاب بضرر، وفقاً لمبادئ القانون الدولي." ومن المثير للاهتمام أن الدول العربية – مصر، العراق، لبنان، السعودية، سوريا واليمن – صوتت ضد القرار، مع أن تحفظها لم يكن مرتبطاً، على وجه التحديد، بالبند المتعلق بعودة اللاجئين، وقد صوتت إسرائيل أيضاً ضد القرار، بينما أيدته الولايات المتحدة.
ومع أن النظام الدولي لم يتخذ منذ سنة 1948 أي قرار يعدل قرار الجمعية العامة رقم 194، فإنه قد نشأ وعي دولي متزايد بأن هذا القرار أصبح، ويصبح مع الوقت متقادماً وغير قابل للتطبيق بصيغته القائمة.
كذلك طرأ تحول على النظرة الفلسطينة إلى فكرة "العودة"، وأصبحت محدّدة، من الآن فصاعداً، ببضعة قيود:
- أولاً، تنازل فلسطيني عن الصفة المطلقة [absolutism] لحق العودة، والاعتراف بإمكان استبدال هذا الحق بالتعويضات. وقد حظي إمكان اللجوء إلى هذا الخيار بموافقة ومباركة المؤسسة السياسية الفلسطينية.
- ثانياً، حتى لو سُمح بعودة اللاجئين إلى الأراضي الإسرائيلية، فقد بات من الواضح للمؤسسة الفلسطينية أن هذه العودة ستكون مشروطة بالتزامهم واجب "العيش بسلام مع جيرانهم"، وأنه سيكون عليهم الإذعان لسلطة القانون الإسرائيلي والاعتراف بسيادة إسرائيل المطلقة.
- ثالثاً، إن الموقف المبهم من مفهوم "العودة"، كما عبرت القيادة الفلسطينية عنه، قد تجنب تحديد المكان الذي ستتحقق هذه العودة فيه. وهكذا، على سبيل المثال، تحدث قادة من أمثال نبيل شعث وفيصل الحسيني وزياد أبو زياد، بل إنخم كتبوا صراحةً عن هذا الحق باعتباره عودة إلى أراضي الدولة الفلسطينية عندما تنشأ. ومع أن المؤسسات المخوَّلة التابعة للمجلس الوطني الفلسطيني لم تقر هذه الصيغة في أية مرحلة أو في أي مكان، فإن الصيغة المبهمة للقرارات لا تتعارض مع تفسيرها بهذا المعنى.
- هناك نقطة أُخرى تندرج في سياق أوسع، وتتعلق بمجال الحل السياسي وبنية العلاقات المتوقع قيامها بين الكيان الفلسطيني والأردن. فمنذ الدورة السادسة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني، التي انعقدت في الجزائر (شباط/فبراير 1983)، تتردد الدعوة إلى أن يتم في المستقبل (وعلى الأرجح، فقط بعد أن يقام الكيان الفلسطيني ذو السيادة) إقامة علاقة كونفدرالية بين "دولة فلسطين المستقلة والأردن." ومن شأن علاقة كهذه – إذا اشتملت على حدود مفتوحة واتفاق بشأن الجنسية ومرجعية قضائية واحدة، بل اتحاد اقتصادي معين بين الكيانين – أن تدفع الكثيرين في الفلسطينيين في الأردن، إن لم يكن معظهم، إلى تفضيل البقاء في أماكنهم وعدم الانتقال والاندماج في مناطق الضفة الغربية أو القطاع. وستكون لذلك، في المستقبل، دلالة مهمة للغاية؛ ذلك بأن أكبر التجمعات الفلسطينية في الشتات(أكثر من مليون نسمة) موجود في الأردن، ويتمتع هؤلاء السكان الفلسطينيون بجنسية أردنية كاملة.
ولدى تناولهم هذا الموضوع، يقلص بعض الناطقين الفلسطينيين المطلعين المشكلة الكبرى المتعلقة بنح ثلاثة ملايين فلسطيني يقيمون في "الشتات" (جميع المقيمين خارج حدود أرض إسرائيل الانتدابية، يطالبون، نظرياً على الأقل، بحق العودة إلى منازلهم وأراضيهم) إلى مشكلة ملحّة وفعلية تتعلق بنحو 350,000 نسمة فقط، أي بتجمع اللاجئين المقيمين في لبنان، الذين يعيشون كلهم تقريباً في أوضاع متردية جداً. ويرفض لبنان، لاعتباراته الخاصة، كل حل سياسي يُبقي هؤلاء الفلسطينيين في أراضيه ويُلزمه استيعابهم كمواطنين لبنانيين بكل معنى الكلمة.
إن الوضع في التجمعين الكبيرين الآخرين الواقعين خارج حدودنا – سوريا والأردن – مختلف وأقل إلحاحاً وحدّة. وفيما يتعلق بسوريا، فإن عدد اللاجئين بالنسبة إلى مجمل السكان ضئيل (2,4 % تقريباً)، معظمهم يزاول العمل بصورة منتظمة، وليس لدى الاقتصاد والمجتمع السوريين صعوبة في استيعابهم كمواطنين عاديين، نظرياً وعملياً. أما الصعوبة، فهي سياسة، إذ إنه ما لم يتم التوصل إلى اتفاق إسرائيلي – سوري ثنائي، فإن موافقة دمشق على التنازل حيال هذه المسألة أيضاً غير واردة.
أما فيما يتعلق بالأردن، فالمشكلة مزدوجة. من جهة، يقيم في أراضيه تجمع لاجئين من سكان المخيمات يبلغ تعداده نحو ربع مليون نسمة. ومن جهة أُخرى، هناك نسبة غير قليلة من باقي السكان الفلسطينيين، الذي يبلغ عددهم ثلاثة أرباع المليون نسمة تقريباً، تعيش عن استيعاب مئات الآلاف من الفلسطينيين في أراضيه استيعاباً دائماً. ويسعى الأردن، لو استطاع إلى ذلك سبيلاً، للتخلص من هذا العبء الديموغرافي وتحسين التوازن الداخلي الدقيق لسكان المملكة.
وأخيراً، لا يجوز أن ننسى اللاجئين المقمين اليوم داخل حدود قطاع غزة والضفة الغربية. وبناءً على معطيات الأونروا، فإن عدد هؤلاء اللاجئين (بمن فيهم سكان القدس الشرقية) يصل إلى ما يزيد عن المليون نسمة.وإذا أغلق أمام هؤلاء اللاجئين إمكان العودة إلى الأراضي الإسرائيلية بصورة قاطعة، فلا بد من أن يعطي الكيان الفلسطيني إعادة تأهيلهم في أراضيه مكانة الأولوية. وليس محتماً أن تكون هناك صعوبة في استيعاب ودمج اللاجئين المقيمين اليوم في الضفة الغربية، إذ إن أغلبيتهم مستخدمة ومندمجة، بطبيعة الحال، في الاقتصاد المحلي، وكل ما سيتطلبه حل مشكلتهم هو حملة بناء كبرى بهدف إخراجهم من مخيمات اللاجئين. أما الحال في قطاع غزة فمختلفة؛ فهنا سيتطلب الأمر، بلا شك، عملية استثمار ضخمة لدعم الاقتصاد المحلي. وإلى جانب ذلك، فحينما يُسمح للفلسطينيين بحرية الحركة بين جزأي الكيان المنفصلين (بين الضفة الغربية وقطاع غزة)، فمن المعقول أن تتحكم قوانين السوق، العرض والطلب، في كل ما يتعلق بحركة العمال بين هذين الجزأين.
إن الفلسطينيين على المستوى القيادي والمستويات الشعبية، ليسوا على استعداد اليوم للتحدث عن إعادة توطين اللاجئين داخل حدود الدول العربية المجاورة. ومع ذلك، في الإمكان أن نفترض أنه بعد إقامة الدولة الفلسطينية، سيكون في وسع كل فلسطيني – سواءً مارس حقه في العودة أو مل يفعل – أن يتمتع بجنسية وجواز سفر فلسطينيين، حتى لو فضّل مواصلة العيش في دولة عربية أُخرى كمواطن دائم.
إن أغلبية الناطقين الفلسطينيين المعتمدين تدرك أن العودة إلى إسرائيل أي إلى الأماكن الواقع ة داخل الهدنة لسنة 1949، ليست واقعية (وبالتأكيد ليس بأعداد مهمة). وهم يدعون أن الأغلبية العظمى من اللاجئين لا تنوي ممارسة هذا الحق على الإطلاق. ويقوم الحل الذي يقترحونه، في الدرجة الأولى، على ضرورة الاعتراف بحق اللاجئين في العودة، علماً بأن التطبيق الفعلي [لحق العودة] سيتم، في جزئه الأكبر، داخل المناطق التي احتلتها إسرائيل سنة 1967، أي في أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، وطبعاً مع منح اللاجئين تعويضات عن الممتلكات التي خلفوها.
إننا لا نملك طريقة للتحقق من مدى صدق تقديرات هذه الجهات الفلسطينيية؛ وبكل تأكيد، لا يجوز أن نتجاهل إمكان أن تكون الغاية الأساسية من هذه الأقوال هي تهدئة المخاوف الإسرائيلة. وفي هذه المرحلة، بيدو أن الأغلبية العظمى من اللاجئين مستمرة في ادعاء حقها في العودة إلى منازلها داخل إسرائيل، وتطالب [السماح لها] بممارسة هذا الحق، متجاهلةً الزمن الذي مضى، وما حدث على الأرض فعلاً منذ سنة 1948. ولا نعلم، إطلاقاً، ما إذا كان هذا الموقف قاطعاً حقيقياً، أم أنه ناجم عن "عملية غسل دماغ" تعرض اللاجئون لها، ولا يزالون، بهدف التأثير في الحل السياسي المستقبلي. وفي جميع الأحوال، حاشا أن نفترض أنه لو مُنح اللاجئون حق الاختيار الحر بين العودة إلى داخل إسرائيل وبين ممارسة "حق العودة" داخل الدولة الفلسطينية العتيدة لتنازلت الأغلبية فعلاً عن ممارسة "حقها" في العودة إلى مجال "الخط الأخضر".
الموقف الإسرائيلي
إن تسوية إسرائيلية – فلسطينية دائمة لا تحل مشكلة اللاجئين من الأساس، ولا يمكن أن تكون حلاً فعلياً للنزاع وقابلاً للبقاء. وفي هذه الحال، لن يكون نشوب موجة جديدة من الصراع والعنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين سوى مسألة وقت. ذلك لأن عطش الفلسطينيين إلى حل "عادل"، بحسب تعريفهم لمشكلة اللاجئين، سيبقى عاملاً أساسياً مستفزاً ومحرّضاً في جدول الأعمال السياسي العربي عامة، والفلسطيني خاصة. أما في الجانب الإسرائيلي، فإن عدم تسوية هذه المشكلة سيترك رواسب عميقة من الخوف في قلوب الكثيرين، ممن سيخشون أن يواصل الفلسطينيون السعي لمحو إسرائيل من خريطة الشرق الأوسط.
ومما يدعو إلى الاستغراب أن المؤسسة السياسية الإسرائيلية – بمختلف اتجاهاتها السياسية – تكاد تتجاهل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وضرورة إيجاد حل لها، ناهيك بإيلائها أولوية سياسية عليا. ومن الظواهر الباعثة على الدهشة في هذا السياق، الموقف الذي اتخذته إسرائيل في المباحثات المتعددة الأطراف التي تعالج مسألة اللاجئين. فبدلاً من أن تكون هي الجهة التي تدفع إلى مناقشة المشكلة والبحث عن حلول لها، وبدلاً من أن تطرح الموضوضع في المباحثات مع الفلسطينيين بشأن اتفاقَي أوسلو والقاهرة، فقد تجنبت طرح الموضوع، ومناقشته، ومطالبة الفلسطينيين بتبني مقاربة واقعية على الفور.
فيما يتعلق بــ "حق العودة" تحديداً، فإن موقف إسرائيل (باستثناء فترة قصيرة الأجل سنة 1949، عندما أبدى رئيس الحكومة [الأسبق] دافيد بن – غوريون استعداداً للسماح بعودة 100,000 لاجئ، ولم يفض ذلك إلى شيء) ظل ثابتاً: اتفاق في الرأي داخل المؤسسة السياسية في إسرائيل على رفض "حق" اللاجئين من العودة إلى الأراضي الإسرائيلية، سواء الحق المبدئي أو الحق العملي.
إن إسرائيل ترفض هذا الحق، في الدرجة الأولى، على الصعيد المبدئي؛ إذ ينطوي اعتراف إسرائيل بــ "حق العودة" على إقرار بمسؤوليتها عن نشوء المشكلة، وربما حتى بتحمل تبعتها. وإسرائيل لا تعتبر نفسها، قطعياً، مسؤولة عن حرب سنة 1948. بل بالعكس؛ فهي ترى أن التبعة تقع كلها على عاتق الجانب العربي – الفلسطيني، ولا فارق إطلاقاً، في هذه الحال، ما إذا كان زعماء عرب هم الذين شجعوا السكان الفلسطينيين على مغادرة ديارهم أو ما إذا كان هروبهم قد نجم عن أهوال الحرب. إن هذا التحفظ المبدئي يبقى قائماً، حتى ولو لم تُطرح في جدول الأعمال "عودة" فعلية للاجئين إلى الأراضي الإسرائيلية، فكيف بالأحرى إذا كان ثمة إمكان لأن يرغب عدد صغير أو كبير منهم في العودة إلى الأراضي الإسرائيلية، في حين أن الاعتراف بمبدأ "حق العودة" يحرم إسرائيل حق النقض، ويحرمها التحكم في كمية العائدين.
وفي هذه المسألة، لا تستطيع إسرائيل الاعتماد على تقديرات ووعود عربية تدعي أن أغلبية اللاجئين لا تنوي ممارسة حقها في العودة فعلاً. وبحسب رأي إسرائيل، لا يجوز أن يترك القرار بشأن "العودة" في أيدي الفلسطينيين، في الوقت الذي لا تتمتع إسرائيل بالقدرة على التأثير في كمية العائدين.
ولهذا السبب، يعارض الكثيرون من الإسرائيليين أيضاً الاقتراح الداعي إلى أن تلتزم إسرائيل استيعاب عدد محدود من اللاجئين الفلسطينيين بناء على معايير لمّ شمل العائلات. ولقد سمحت إسرائيل فعلاً، في السابق، بعودة عشرات الآلاف من اللاجئين على مر السنين، بل إنها لا تزال تفعل ذلك بأعداد محدودة. وقد بلغ عدد الذين سمحت إسرائيل بعودتهم منذ حرب الاستقلال نحو 70,000 نسمة من بين اللاجئين (من حزيران/يونيو 1967 حتى حزيران/يونيو 1994، سمح لـ 22,179 شخصاً بدخول إسرائيل، في إطار لمّ شمل العائلات؛ ويشمل هذا الرقم عرب القدس الشرقية أيضاً). ومع ذلك، فإن هذه السياسة الإسرائيلية تستند إلى أساس إنساني صرف، وليس هناك مجال أو مبرر للالتزام مسبقاًبحصة ثابتة معينة. وعلاوة على ذلك، فهذه سياسة إسرائيلية من جانب واحد، ولن تسمح إسرائيل للجانب الفلسطيني بأن يكون شريكاً في قراراتها هذه أو بأن يكون له ضلغ فيها.
غير أن الحكومة الإسرائيلية ترفض "العودة" أيضاً، وبصفة خاصة، على أساس عملي: لا إمكان عملياً لإعادة اللاجئين إلى منازلهم وأراضيهم من دون تفويض نسيج الشعب والمجتمع في إسرائيل كلها. إن قسماً كبيراً من المستوطنات القائمة في إسرائيل – في الاستيطان المديني والقروي على السواء – مشيّد على أراض كان يستوطنها عرب فلسطينيون في السابق، ولا توجد طريقة لإعادة هذه الأراضي والأملاك إلى من كان يقيم فيها قبل 47 عاماً من دون اقتلاع مئات الآلاف، وربما أكثر، من الإسرائيليين من أماكنهم، وهو ما سيلحق هزة مدمرة بالنسيج الاجتماعي في اسرائيل.
وحتى لو جرى الحديث عن استيعاب لاجئين في الأراضي الإسرائيلية من دون أن يقترن ذلك بعودة اللاجئين إلى أملاكهم الأصلية، فإن الأمر سينطوي، حتى في تلك الحال، على زيادة مهمة للسكان العرب الفلسطينيين تهدد الصبغة اليهودية لإسرائيل بخطر مدمر.
إن إسرائيل، حتى من دون "عودة" اللاجئين، قلقة من خطر انسلاخ الأقلية العربية الموجودة ضمن حدود الدولة. إن تعداد العرب الفلسطينيين اليوم هو 18% تقريباً من مجموع السكان، في حين أن وزنهم النسبي في منطقتي الجليل والنقب، المحاذيتين لأرض عربية في ما وراء الحدود، مرتفع للغاية (في الخليل، يدور الحديث عن نحو 50%، إن لم يكن أكثر من ذلك). إن من شأن "عودة" اللاجئين أن تزيد من حدة خطر الانسلاخ وأن تهدد حدود 67 الإسرائيلية.
تعويض مالي للاجئين: تمثل الموقف التقليدي للحكومات الإسرائيلية، منذ النصف الثاني من الخمسينات، بالتحفظ القاطع تجاه أي التزام بدفع تعويضات للاجئين الفلسطينيين.
حتى لو لم تكن المسؤولية عن نشوء مشكلة اللاجئين واقعة على عاتق إسرائيل، فلا مراء في أن إسرائيل استفادت من الممتلكات الواسعة – في المدن والقرى – التي تلت حرب الاستقلال، وجعلت استيعابها ممكناً. ويستند التحفظ الإسرائيلي تجاه التعويضات، أساساً، إلى حجة موضوعية: في الأعوام التي شهدت موجات الهجرة الجماعية، استوعبت إسرائيل الأغلبية الساحقة من الشتات اليهودي، الذي اضطر إلى النزوح من الدول العربية (من العراق وحتى المغرب)، من دون أن يتوفر لهؤلاء اليهود إمكان فعلي للإفادة من الممتلكات الواسعة التي اضطروا إلى تركها. وقامت إسرائيل، خلافاً للسياسة التي اتبعتها الدول العربية، باستيعاب وتأهيل وترسيخ هؤلاء النازحين [اليهود] من دون أن تتلقى أية تعويضات عربية. وفي الأوضاع التي نشأت، فإن إسرائيل لا توافق على منح اللاجئين الفلسطينيين تعويضات قبل إجراء حساب دقيق لعدد اللاجئين اليهود الذي تم استيعابهم في إسرائيل وقيمة الممتلكات التي خلفوها. ولم تجر قط مقارنة حساب صافي قيمة الممتلكات الفلسطينية بقيمة الممتلكات اليهودية، لكن بيدو من الفحص غير المتعمق إن النتيجة ستكون، من الناحية الفلسطينية، متكافئة في أحسن الأحوال. والاحتمال الأقوى أن يبيّن الحساب الدقيق دَيناً لمصلحة إسرائيل.
والسؤال الذي يجدر فحصه هو: هل ينبغي أن يكون اعتبار تصفية هذا الحساب هو الاعتبار الأساسي أو الوحيد في تحديد موقف إسرائيل؟ لم يكن هذا الموقف، فعلاً، موقف الحكومة الإسرائيلية في الأعوام الأولى التي تلت إنشاء الدولة. ففي سنة 1949، طرحت حكومة الولايات المتحدة اقتراحاً يقضي بأن تسمح إسرائيل بعودة ثلث العدد الإجمالي للاجئين الفلسطينيين (كانت التقديرات آنذاك تقول إن الأمر يتعلق بــ 200,000 نسمة تقريباً) على أن تتحمل الولايات المتحدة نفقات إعادة تأهيل باقي اللاجئين، الذين كان من المفترض أن يتم استيعابهم جميعاً في الدول العربية. ورفض دافيد بن – غوريون، رئيس الحكومة آنذاك الاقتراح الأميركي الداعي إلى استيعاب كتلة كهذه من اللاجئين في إسرائيل، بينما كان مستعداص لدفع تعويضات لهم. وهذا في الصدد أيضاً، تحفظ عن تصفية الحساب مع كل لاجئ على انفراد؛ وكبديل من ذلك اقتراح إنشاء صندوق دولي يعالج هذا الموضوع، وتشترك إسرائيل فيه، إنما من دون أن تتحمل المسؤولية، على أن تجري معالجة الأمر على أساس عمليات إعادة تأهيل جماعية، لا تصفية حسابات وتعويضات فردية.
ومنذ أن اتضح للأميركيين أن عودة اللاجئين إلى الأراضي الإسرائيلية بأعداد كبيرة أمر غير واقعي، أخذوا يشجعون على دفع التعويضات، وطلبوا أن تدفع إسرائيل 10 – 50 مليون دولار لقاء الممتلكات التي خلفها الفلسطينيون، وكان هذا المبلغ متدنياً للغاية، قياساً بالتقدير الحقيقي لقيمة الممتلكات. وقد درست لجنة حكومية في إسرائيل سنة 1951، حجم الممتلكات التي استولت إسرائيل عليها، وقدرت قيمتها بنحو 400 مليون دولار (توصل تقويم أُجري بتكليف من الجامعة العربية إلى تقدير يعادل نحو 3 مليارات دولار).
عودة إلى مناطق السلطة الفلسطينية: سيتعين على إسرائيل إعطاء رأيها وبلورة موقفها تجاه مسألتين إضافيتين: الأولى، السماح بعودة "نازحي 1967" إلى مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة؛ والأُخرى، سن "قانون عودة" فلسطيني (بعد قيام الكيان المستقل) يمنح كل عربي فلسطيني الحق في الهجرة والاستيعاب في الدولة الجديدة، إذا رغب في ذلك، على غرار قانون العودة الإسرائيلي.
فيما يتعلق بالمسألة الأولى، علينا أن نميز بين نوعين من "النارحين": الأول يتألف من فلسطينيين – سكان دائمين ولاجئني – من الضفة الغربية (ومن قطاع غزة) منعهم الحم الإسرائيلي من العودة إلى منازلهم منذ حزيران/يونيون 1967، والنوع الآخر يتألف من لاجئي 1948، الذين كانت أغلبيتهم تقيم في مخيمات اللاجئين الواقعة في منطقة أريحا، وكانت أقلية منهم تسكن مخيمات أُخرى في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة. إن عودة هؤلاء إلى مناطق الحلكم الذاتي، أو الدولة الفلسطينية ستستوجب إعادتهم إلى مخيمات لاجئين (ناهيك بأن هذه المخيمات دمرت على مر السنين). لقد كان العدد الإجمالي لهؤلاء النازحين وقت نشوء المشكلة، في سنتي 1967 – 1968، أكثر من 300,000 نسمة. وإذا أخذنا الزيادة الطبيعية لهؤلاء السكان في الحسبان، فسيكون من الواقعي أن نفترض أن العدد الإجمالي لهذين النوعين من النازحين، الذي يدور الحديث عنه اليوم، يتراوح بين 550,000 و 600,000 نسمة، وذلك بعد أن تم السماح بعودة نحو 88,000 نسمة إلى الضفة الغربية وقطاع غزة منذ سنة 1968 (حتى حزيران 1994، تمت الموافقة على 56,375 طلباً، وتم فعلاً عودة 66,099 نسمة إلى الضفة الغربية 18,671 نسمة إلى قطاع غزة. كما سُمح بالإقامة الدائمة لأكثر من 3000 امرأة دخلن إلى المناطق كزائرات، ورفضن مغادرتها بعد أن تزوجن فيها).
إنه لأمر طبيعي ومفهوم أن يكون الرأي السائد في إسرائيل معارضاً لعودة النازحين الذين ينتمون إلى الفئة الثانية. ولا معنى لاقتلاع اللاجئين من أماكنهم مجدداً، وللمرة الثانية، من أجل توطينهم مرة أُخرى في مخيمات لاجئين. وأمر هؤلاء سيتقرر لدى البحث في مصير عموم لاجئي 1948، في مختلف أماكن شتاتهم والاتفاق بشأنه. ومع ذلك، إذا تقدم الجانب الفلسطيني وأعن أن عودة هؤلاء اللاجئين – النازحين خلال أعوام الاتفاق المرحلي الخمسة ستقترن باستيعابهم وإعادة تأهيلهم بصورة كاملة في مناطق الضفة الغربية، فمن المعقول أن تزول معارضة إسرائيل المبدئية، وأن يكون من الإمكان البحث في جوهر هذا الاقتراح؛ بل إن أكثرية الإسرائيليين ستنظر إلى خطوة كهذه بصورة إيجابية.
من هذه الناحية، وكجملة اعتراضية، فإنه لمما يدعو إلى الاستغراب الشديد أن موضوع استيعاب لاجئي 1948 وإعادة تأهيلهم لم يُثر إطلاقاً في مباحثات أوسلو والقاهرة، ولا شك في أثناء بلورة المبادئ، ولا خلال البحث في تفصيلات تطبيق اتفاق "غزة زائد أريحا". وكان ينبغي لإسرائيل على الأقل، أن تطالب بأن يتعهد الفلسطينيون العمل، مع خروج إسرائيل من قطاع غزة وإقامة "السلطة الفلسطينية" (Palestinian Authority)، على تصفية مشكلة اللاجئين المقيمين داخل القطاع: إلغاء المكانة القانونية – الرسمية الخاصة باللاجئ، السعي لخروج الأونروا من مناطق القطاع ووقف دعم الوكالة وتوزيع الحصص الغذائية من قبلها، وبدء مشروع لتفكيك المخيمات من خلال إقامة أحياء ومواقع سكنية دائمة لسكانها. وفي حين أنه يمكن فهم الأسباب التي من شأنها دفع الفلسطينيين إلى معارضة مشروع كهذا قبل الاتفاق على الحل الإسرائيلي – الفلسطيني الدائم، فإنه من الصعب فهم الدوافع التي جعلت إسرائيل تمتنع من طرح هذه المطالبة.
ما زال من غير المستبعد أن تسنح مجدداً الفرصة للبحث في هذا الموضوع مع الجهات الفلسطينية، لا سيما في سباق المطالب التي ستطرح من قبل الجانب الفلسطيني بصدد موضوعات أُخرى. ويجدر بإسرائيل أن تكون مستعدة لهذا الاحتمال، وأن تطرح مطالبها أمام الفلسطينيين من أجل تطبيقها خلال الفترة الحالية من التسوية المرحلية.
فيما يتعلق بالفئة الأولى، فإنه باسثناء حالات مفرةدة تتعلق بنازحين من شأنهم أن يشكلوا خطراً أمنياً، بيدو أنه لا يوجد لدى إسرائيل سبب مبدئي لمنع الراغبين في الرجوع إلى منازلهم – ممتلكاتهم وعائلاتهم – من العودة. ومما لا شك فيه أن القاعدة الأساسية للمعارضة الإسرائيلية ستأتي من جهة معارضي البرنامج السياسي للحكومو الحالية، أي أولئك الذي يرفضون مبدأ الحل الوسط الإقليمي جملةً وتفصيلاً. ومن وجهة نظر هؤلاء، فإن عودة مئات الألوف من النازحين إلى الضفة الغربية ستخل بالميزان الديموغرافي فيها بين اليهود والعرب بصورة مهمة (بينما يشكل اليوم المستوطنون اليهود في يهودا والسامرة نحو 12% - 13% من مجموع سكان الضفة الغربية، سيهبط عددهم إلى 8% - 9% إذا عاد جميع النازحين). وسيشير هؤلاء إلى أن إسرائيل تسمح بــ "ترانسفير" فلسطيني في الاتجاه المعاكس؛ الاتجاه الذي يتناقض مع المصالح القومية [اليهودية] البعيدة المدى.
ومن الممكن أن تنشأ أيضاً مشكلة أضافية: من المرجح أن يطالب قسم من هؤلاء النازحين – العائدين بإعادة أملاكهم في يهودا والسامرة إليهم، أي الأملاك التي احتفظ بها، منذ مغادرتهم الضفة، حارس أملاك الغائبين الإسرائيلي، والتي ربما تم تسليمها إلى هذه المستوطنة الإسرائيلية أو تلك بهدف ترسيخها، بوصفها مصنفة كـ "أراضي دولة". ومن المعقول أن تصر إسرائيل على أنه ما دامت المسائل الأساسية المتعلقة بالتسوية الدائمة لم يجر البحث فيها، وما دام الاتفاق عليها لم يحدث (وهي لن يُبحث فيها إلا قبيل المرحلة التالية من العملية)، وبما أن الحدود الدائمة بين الكيان الفلسطيني وإسرائيل ومستقبل المستوطنات ستكون من جملة المسائل التي سيتعين الاتفاق عليها، فإن إسرائيل لا توافق على خطوات من شأنها أن تتطلب تقديم موعد البحث في هذه المسائل ومعالجتها.
وثمة جانب آخر لهذه المسألة هو قضية العبء الذي سيقع على كاهل الجزء الفلسطيني المتمتع بالحكم الذاتي في الضفة الغربية. إن إغراق المنطقة دفعة واحدة بمئات الآلاف من العائدين، من دون إن يكون الاقتصاد الفلسطيني المحلي مستعداً وجاهزاً لاستيعابهم ودمجهم، من شأنه أن يشكل أرضاً خصبة للنشاط التوسعي القومي (irredentist) والإرهابي الموجة ضد إسرائيل. ومن هذه الناحية، ينبغي لإسرائيل ألا تترك القرار بكاملة في أيدي الفلسطينيين. ويجب على إسرائيل أن تضع الموضوع في جدول أعمال المفاوضات، وأن تسأل الفلسطينيين بكل الصدق والمسؤولية عن نظرتهم للحل. ومن الممكن جداً أن يصار إلى تحديد حصص هجرة سنوية، بحجم يتلاءم مع قدرة الاستيعاب المتوقعة للاقتصادر المحلي.
وفي أساس الأمر، يجب ألا نتوقع عودة ضخمة وغير مضبوطة لنازحي 1967. ومن المرجح أن تعطى الأفضلية لدخول أولئك الذين سيعودون إلى منازلهم وأحضان عائلاتهم، ومن ثم سيكون المقياس القدرة الاقتصادية – التشغيلية للاقتصاد المحلي الفلسطيني، والدراسة الحذرة لتوزيع العائدين في المنطقة، كيلا يشكلوا مشكلة توسعية – أمنية.
ننتقل إلى المسألة الأُخرى المتعلقة بمشكلة تندرج في إطار الاتفاق الدائم، وهي الموقف الإسرائيلي من سن "قانون عودة" فلسطيني إلى مناطق الكيان الفلسطيني الذي سينشأ.
على افتراض أنه سيسبق البحث في هذه المسألة اتفاق إسرائيلي – فلسطيني على المسائل الأساسية، بما في ذلك المسائل "السهلة" المتعلقة بإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة مستقلة، والحدود الدائمة، والقدس، ومستقبل المستوطنات ومشكلة اللاجئين، فمن الممكن أن تكون المقاربة الإسرائيلية حيال "قانون عودة" كهذا أكثر مرونة.
لن يكون في استطاعة إسرائيل، في إطار الحل الدائم، أن ترفض بصورة قاطعة استيعاب عدد ما من اللاجئين الفلسطينيين في أراضيها، وفي الوقت نفسه، أن تمنع الدولة الفلسطينية من العمل على حل المشكلة في أراضيها ذاتها. وعلاوة على ذلك، إذا تم فعلاً الاتفاق على إقامة دولة فلسطينية، فسيكون من الصعب أن نفترض أن إسرائيل ستتدخل، أو ستكون في موقع يسمح لها بالتدخل، في الصلاحيات التشريعية السيادية لدولة كهذه. ولن يكون في وسع إسرائيل، منع الجانب العربي من التدخل والاعتراض على "قانون العودة" الإسرائيلي بحجة أنه يقع في نطاق القرار السيادي الإسرائيلي، وفي الوقت نفسه أن تفرض فيتو إسرائيلياً على "قانون عودة" فلسطيني. لكن على الرغم من ذلك وكما سبق أن ذكرنا بالنسبة إلى عودة مئات الآلاف من النازحين في فترة الاتفاق المرحلي، فمن المؤكد أن المنطق نفسه يجب أن ينطبق أيضاً على فترة الاتفاق الدائم: على الطرفين أن يتباحثا في الموضوع، وأن يتوصلا إلى اتفاق بشأن حصص العائدين في إطار قانون العودة الفلسطيني، بحيث لا يخلق هؤلاء معسكراً توسعياً، وبؤر توتر، وخطراً أميناً.
آراء أميركية بشأن مسألة اللاجئين
على افتراض أن الولايات المتحدة ستواصل، أيضاً في المستقبل، القيام بدور رئيسي في قيادة عملية السلام والمبادرة إلى إجراء الاتصالات والتوسط النشيط وطرح أفكار بناءه لدفع الاتفاق إلى الأمام، فإن الموقف الأميركي من مسألة حل مشكلة لاجئي 1948 يتمتع أيضاً بأهمية شديدة. لقد كانت الولايات المتحدة في عداد الدول التي أيدت قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لسنة 1948، ول تتخذ منذ ذلك الوقت أي قرار رسمي وعلني يلغي تأييدها هذا. غير أنه من الواضح أن مقاربة واشنطن الفعلية، منذ ذلك الحين، تتسم بدرجة أكبر من الواقعية. ففي هذه المسألة، كما في مسائل عديدة أُخرى، هناك موقف أميركي مبدئي – إن ما تتفق الأطراف عليه يكون مقبولاً أيضاً من جانب الإدارة الأميركية؛ غير أن هناك ما هو أبعد من ذلك: لقد صدر أهم تعبير عن النظرة الأميركية إلى الموضوع قبل ما يزيد عن 20 عاماً، عندما قام الرئيس نيكسون سنة 1971 بتوجيه رسالة سريعة إلى رئيسة الحكومة الإسرائيلية [السابقة] غولدا مئير أكد فيها "أننا (الولايات المتحدة) لن نضغط على إسرائيل كي تقبل بحل لمشكلة اللاجئين بغير الطابع اليهودي لدولة إسرائيل من الأساس ويهدد أمنها".
وفيما يتعدى ذلك، لم تبلور الولايات المتحدة موقفاً رسمياً لحل المشكلة، ناهيك بأن هذا الموضوع غير مطروح في جدول الأعمال السياسي الفعلي.
وقد شرح عدد من الشخصيات [الأميركية] رفيعة المستوى، كانت سابقاً مرتبطة بالإدارة الأميركية، في سياق أحاديث ليست للاقتباس، مواقفه الشخصية ورؤيته للمشكلة ووجهات الحل المحتملة. وفيما يلي خلاصة هذه المواقف:
لا أحد في الإدارة الأميركية يتوهم إن إسرائيل ستوافق، بل ولا يُتوقع مها أن توافق، على "حق العودة" الفلسطيني. وستُطالَب إسرائيل، كما بيدو، بالاستمرار في الموافقة على لمّ شمل عائلات مقيمة في أراضيها، على نطاق ضيق. ومن شأن خطوة كهذه أن تساعد في تنفيس الضغوط التي تمارس على إسرائيل لإخلاء المستوطنات التي تمت إقامتها، ما دام الفلسطينيون لم يقترحوا أي مقابل سياسي.
وفي محادثات أجراها أميركيون مع عرفات، طالب عرفات بالعودة إلى حدود "الخط الأخضر"، من دون أن يقترن ذلك بتوقعات من إسرائيل ومطالبتها بتقديم تنازلات إضافية. وفي تعليله لهذه المسألة، أوضح لهم قائلاً: "إن الدولة الفلسطينية بحاجة إلى أكبر مساحة ممكنة من الأرض، فهذا هو الشرط الذي سيمكننا من استيعاب وتوطين وإعادة تأهيل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين في مجال المنطقة السيادية التي ستخضع لسلطتنا."
وفي إطار الاتفاق المستقبلي، من المرجح أن يكون هناك حاجة إلى "إعلان مبادئ" مشترك، إسرائيلي – فلسطيني، يقرر إلغاء مكانة الــ "لاجئ"، إلى جانب تسليم الفلسطينيين بعدم إمكان عودة اللاجئين إلى الأراضي الإسرائيلية. وفي الوقت نفسه، سيتعين على إسرائيل إبداء تفهم للحساسية الفلسطينية الهائلة تجاه الـ "غبن" الذي لحق بهم، والبحث عن بدائل ممكنة للمطالبة الفلسطينية بالاعتراف بـ "حق العودة". وبناءً على ذلك، سيتعين على إسرائيل الموافقة على أن يتضمن هذا الإعلان ديباجة تعترف فيها بالغبن التاريخي والمعاناة الكبيرة اللذين لحقا بالفلسطينيين عامةً، وباللاجئين خاصةً، منذ سنة 1948، وربما حتى تصريحاً يعترف بحق الفلسطينيين في تعويض ملائم عن الممتلكات والثروات التي اضطروا إلى تركها قبل نحو 50 عاماً.
ومع بلورة الحدود المعترف بها بين إسرائيل و"الكيان السياسي الفلسطيني"، لن يكون للفلسطينيين الحق في أن يقرروا ما إذا كان من واجب إسرائيل استيعاب لاجئين فلسطينيين داخل حدودها؛ غير أنه، وبالمقياس نفسه، لن يكون لإسرائيل الصلاحية أو الحق في أن تقرر ما إذا كان يحق أو لا يحق للكيان الفلسطيني أن يسن "قانون عودة" فلسطينياً خاصاً به.
وبحسب أبعد ما يعلم أولئك الأميركيون به، ليس هناك اليوم أوهام فلسطينية بشأن هذه النقطة؛ فالأكثرية الساحقة من الفلسطينيين، وعلى الأقل القيادة الفلسطينية، سواءً تلك الموجودة في المناطق أو تلك الموجودة في الشتات، تدرك ذلك، بل تسلم بهذه الحقيقة.
وسيكون من المحال فصل الموضوع الفلسطيني عن سائر المشكلات الأساسية الخطرة. ومما لا شك فيه أنه سيكون هناك مقايضات بين الموضوعات. ومن الواضح للأميركيين أن تنازل إسرائيل في هذه المسألة سيكون أمراً في غاية الصعوبة، وبالتالي، إذا أصرت إسرائيل على عدم السماح بعودة لاجئين إلى أراضيها، فستُطالب بتقديم تنازلات في مسائل أُخرى في إطار المشكلات الأساسية للتسوية الدائمة.
وفي اللجنة المتعددة الأطراف لشؤون اللاجئين، حرصت الولايات المتحدة على وضع تعريف "واسع" للاجئ. وبمقتضى هذا التعريف فإن "اللاجئ" هو كل من اقتُلع من مكانة نتيجة للنزاع"؛ وكان الهدف من ذلك، في الواقع، دمج يهود الدول العربية أيضاً في هذا التعريف.وستطرح إسرائيل، طبعاً، مطالبتها بتعويضات عن ممتلكات هؤلاء اليهود باعتبارهم لاجئين. ويجب ألا نفترض أن أياً من الدول العربية ستمنح إسرائيل اليوم تعويضات عن ممتلكات اللاجئين الآتين من الدول العربية، ومع ذلك، فمما لا شك فيه أن مطالبة إسرائيل بذلك ستكون أمراً شرعياً، وستخدم غرض موازنة مطالبة الفلسطينيين بشأن ممتلكاتهم.
وهناك فكرة غير مألوفة – لا سيما أنها جاءت من مصدر أميركي تحديداً – طرحها أحد المتحدثين. فقد تحدث عن إمكان أن يكون لإسرائيل مصلحة في الموافقة على استيعاب حصة محددة من اللاجئين، وتحديداً داخل حدودها بالذا، بناء على معايير يتم الاتفاق عليها بين الطرفين. إذ يمكن لمقاربة كهذه أن تخدم إسرائيل لغرض طرح مطلب مضاد – إبقاء عدد معين من المستوطنات/المستوطنين داخل مجال الكيان الفلسطيني. وقد وجدنا أنه من الملائم طرح هذا الاقتراح هنا، لا بسبب الاحتمالات الواقعية لتطبيقه، بل لأنه في الأساس، طُرح من قبل شخصية أميركية رفيعة المستوى.
خيارات ممكنة لحل المشكلة استعداد إسرائيلي للسماح بــ "عودة"
إن التقسيم الأولي والنظري للبدائل الممكنة لحل مشكلة اللاجئين، على الأقل من زاوية المصلحة الإسرائيلية، هو مدى الاستعداد للسماح بعودة اللاجئين وأنسالهم إلى الأراضي الواقعة داخل "الخط الأخضر". وتقع تشكيلة الخيارات المتاحة بين أقصى طرفي النقيضين:
- من جهة، اعتراف إسرائيل بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، مع منح جميع اللاجئين خيار ممارسة هذا الحق، إذا رغبوا في ذلك، على أمل وافتراض أن الأكثرية العظمى من اللاجئين ستفضل عدم ممارسة هذا الحق، نظرياً وعملياً.
- ومن جهة أخرى، رفض إسرائيلي مطلق لـ "حق العودة" الفلسطيني، مع عدم السماح ولو للاجئ واحد بالعودة إلى الأراضي الإسرائيليةـ وحصر حق السماح بالعودة لأسباب إنسانية، في إطار لمّ شمل العائلات، في يد الحكومة الإسرائيلية بصورة مطلقة.
- وفي الوسط، اتفاق ثنائي على حصة محدودة، يتم الاتفاق عليها سابقاً بين الطرفين، بشأن حجم اللاجئين الذين سيسمح بدخولهم إلى إسرائيل.
ومرة أُخرى، يمكن من التحليل النظري للخيارات أن نحدّد حالتين فيما يتعلق بالاحتمالين (أ) و (ج) المذكورين أعلاه. في الحالة الأولى، يتم السماح بممارسة "حق العودة" بمفهومه الأكثر تطرفاً؛ بكلمة أُخرى، يكون في استطاعة كل لاجئ العودة وتجسيد ملكيته لثرواته الأصلية – منازل وأراض – التي تقع داخل الأراضي الإسرائيلية. وفي الحالة الأُخرى، تقتصر الـ "عودة" على عودة إلى الأراضي الإسرائيلية، مع الحصول على الجنسية الإسرائيلية الكاملة، لكن لا يسمح، في أية حال، بتجسيد ملكية الثروات الأصلية التي تركت داخل المناطق الإسرائيلية.
لن ندخل مناقشة وتحليل أساسيين للخيارين المذكورين أعلاه، حيث أن الأكثرية الساحقة في إسرائيل، والأكثرية الساحقة في المؤسسة السياسية الإسرائيلية، ترفضان الاحتمالين (أ) و (ج) جملةً وتفصيلاً. ومجال المناورة والمرونة العمليتين والمحدودتين، المتاح أمام إسرائيل في أثناء المباحثات الثنائية، إنما يكمن فقط في الاختيار بين:
- رفض مطلق لـ "حق العودة" من خلال التزام إسرائيلي بحصة سنوية ثابتة من العائدين على أساس إنساني، في إطار لمّ شمل العائلات؛ أو
- رفض مطلق كهذا، بما في ذلك رفض إسرائيلي قاطع لأن يتضمن الاتفاق أي التزام تجاه الجانب الفلسطيني، حتى في موضوع لمّ شمل العائلات.
وإذا افترضنا أن موقف إسرائيل القاطع وغير المهادن سيتحدد وفقاً للتحليل أعلاه، فإن الخيار الذي سيتاح لإسرائيل سيكون في المجالات التالية:
ربط متبادل بين التسوية الثنائية الإسرائيلية – الفلسطينية والتسوية مع مجمل الدول العربية: إن حلاً لمشكلة اللاجئين لا يستند إلى الـ "عودة"، يتوقف بصورة شبه كلية على موافقة دول عربية أخرى:
- أولاً، الدول العربية المضيفة. سيترتب على هذه الدول استيعاب اللاجئين المقيمين فيها، ومنحهم مكافة مواطنة كاملة، أو على الأقل مكانة "سكان دائمين".
- ثانياً، الدول العربية التي فتحت سابقاً أسواق العمل فيها أمام الفلسطينيين. فنتيجة للموقف الذي اتخذه الفلسطينيون في حرب الخليج، طردت هذه الدول المستخدمين الفلسطينيين، وأغلقت أبوابها أمامهم. وسيترتب على هذه الدول العودة إلى السماح بدخول الفلسطينيين إليها لأغراض العمل.
- وأخيراً، الدول العربية التي سيكون من المحال تطبيق الحل الذي سيُتفق عليه من دون مساهمتها النشيطة في تمويل سلطة إعادة تأهيل اللاجئين.
أما الإمكانات التي ستكون متاحة لإسرائيل في هذه النقطة فهي:
- تأجيل البحث والاتفاق الثناني بين إسرائيل والفلسطينيين إلى حين استكمال المفاوضات والتوصل إلى اتفاق كامل مع باقي الدول العربية أيضاً، بما في ذلك بشأن مساهمتها في حل مشكلة اللاجئين ومسؤوليتها عنه.
- التقدم في المباحثات الثنائية الإسرائيلية – الفلسطينية، من خلال إدراك القيود التي تنطوي عليها مفاوضات كهذه وفهمها.
بيدو أنه لن يكون هناك مؤيدون كثيرون للإمكان الأول المذكور أعلاه. ولعل أهم إنجاز لاتفاق أوسلو كان الانفصال عن هيكلية مؤتمر مدريد المنطوية على قيود (محاولة التقدم المتواوي والمتزامن في أربع لجان ثنائية عربية – إسرائيلية)، والانتقال إلى التقدم المنفصل كلياً مع كل دولة من الدول العربية ومن الصعب أن نفترض أن إسرائيل سترضى الآن بالتراجع عن هذا الإنجاز، والمجازفة بشل العملية برمتها مجدداً. وعلاوة على ذلك، فقد حدد الاتفاق الثنائي مع الفلسطينيين جدولاً زمنياً صارماً جداً، وليس من الفطنة السياسية، بالنسبة إلى إسرائيل، أن تكون المبادر إلى تجميد العملية.
إلى جانب ذلك، وانطلاقاً من الإدراك الواضح لحيوية حل مشكلة اللاجئين حلاً كاملاً وشاملاً، لا يجوز لإسرائيل أن توافق على الدخول في مباحثات مع الفلسطينيين بشأن التسوية الدائمة من دون أن تشمل مسألة اللاجئين. وينبغي لإسرائيل أن تصر على أن يتصدر الموضوع جدول أعمال المفاوضات، وأن تضع اشتراطات واضحة بصدد توقعاتها من الفلسطينيين بجاه هذه المسألة، وبصدد الالتزامات الفلسطينية نحو الدول العربية في إطار التسويات الدائمة معها:
- موافقة الكيان الفلسطيني على بُعد تصريحي – إعلاني في ما يتعلق بمسألة اللاجئين. بكلمة أُخرى، أن يتنازل الكيان الفلسطيني عن ممارسة "حق العودة"، وأن يلغي مكانة اللاجئ – على الأقل في ما يتعلق باللاجئين الفلسطينيين الذين سيكونون من سكان الكيان الفلسطيني لدى تطبيق الاتفاق (لاجئو القطاع والضفة الغربية) – وأن يوافق على إخراج الأونروا من المنطقة وتسليم جميع وظائفها إلى الإدارة الفلسطينية، في المجال الإداري (خدمات التعليم والصحة أساساً)، وفي مجال الشؤون الاجتماعية.
- الشروع فوراً في إعادة تأهيل اللاجئين الموجودين في مناطق الكيان الفلسطيني، بصورة كاملة، وإيجاد حل شامل لهم، ونقلهم إلى مساكن دائمة عادية، خارج إطار المخيمات.
- المبادرة من جانب واحد إلى سن "قانون عودة" فلسطيني يمكّن كل فلسطيني في الشتات من الحصول على الجنسية الفلسطينية، إذا رغب في الحصول عليها أو إذا احتاج إليها، بما في ذلك الحق في الهجرة إلى مناطق الدولة الفلسطينية، من دون قيود، أو بقيود يتم الاتفاق عليها سلفاً.
- الاتفاق مع إسرائيل سلفاً على مجالات مسؤولية الدولة الفلسطينية في ما يتعلق بمسألة اللاجئين، إذا تم التوصل إلى الاتفاقات الثنائية الأُخرى بين إسرائيل وباقي الدول العربية المجاورة، وعندما يتم ذلك.
تعويض معنوي – تصريحي للفلسطينيين: إن موقفاً إسرائيلياً قاطعاً يرفض الاعتراف بـ "حق العودة" للفلسطينيين، جملةً وتفصيلاً، وربما يرفض حتى المساهمة بأي شكل في منح اللاجئين تعويضات مالية، سيطرح، وبمزيد من الحدة، مسألة الحاجة إلى تقديم تعويض معنوي من جانب إسرائيل.
يحتل البعد النفسي أهمية فائقة في ترسبات النزاع الإسرائيلي – العربي عامةً والنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني خاصة. ويعتبر الفلسطينيون أنفسهم الطرف الذي لحق به غبن صارخ؛ إذ إن الأمر لا يقتصر على أنهم "سُلبوا" كل بلادهم وأرضهم وأنهم مضطرون اليوم إلى الكفاح من أجل الحصول ولو على قطعة من أرضهم، بل يشمل أيضاً أنهم يعيشون منذ 50 عاماً تقريباً مساراً متواصلاً من المعاناة والدماء والضحايا. إنهم يتعرضون للملاحقة والغبن على أيدي إسرائيل، لكن أيضاً، وبما لا يقل عن ذلك، على أيدي كل واحدة من "الشقيقات"، الدول العربية.وفي هذه الأوضاع، هناك أهمية بالغة، بالنسبة إليهم، لتلقي تعويض معنوي – نفسي لقاء التنازل الإضافي والأخير المطلوب منهم في إطار التسوية الدائمة، أي التنازل عن "عودة اللاجئين"، ولقاء موافقتهم على التنازل عن انتظار إضافي وعلى الدخول في عملية حثيثة لإعادة تأهيل اللاجئين وتوطينهم.
إن المطالبة المتكررة بالاعتراف بحق العودة، التي يرددها الكثير من الفلسطينيين، تشكل إلى حد بعيد دعوة إلى الاعتراف بالمحنة الحقيقية لأبناء الشعب الفلسطيني خلال الأعوام الخمسين الماضية. ومثل هذا الاعتراف قابل للتحقيق، ولو جزئياً، عن طريق تصريح إسرائيلي رسمي خال من أية بنود عملانية بصدد العودة، وخال من أية تعابير يمكن أن يفهم منها أن إسرائيل تعترف بمسؤوليتها عن محنة الفلسطينيين.
وستكون المعضلة التي ستواجه إسرائيل [هي الاختيار] بين إبداء الاستعداد للقيام بخطوة تصريحية إسرائيلية يفترض بها أن تمنح الفلسطينيين التعويض المعنوي – النفسي الذي يحتاجون إليه أمس الحاجة، وبين الرفض المطلق للقيام بذلك، انطلاقاً من الخشية - التي من المحال تجاهلها – من أن يؤدي تصريح كهذا، مهما يكن فاتراً ومحايداً، إلى تحميل إسرائيل، بصورة فعلية، الذنب والمسؤولية عن نشوء مشكلة اللاجئين.
من كان راغباً في حل مشكلة اللاجئين، لا يجوز له أن يحجم عن خطوة كهذه. ولربما يكون من الممكن تضمينها في قرار يصار إلى اتخاذه في منبر دولي، كتمرير قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة يرحب بالاتفاق الفلسطيني – الإسرائيلي بشأن مسألة اللاجئين، وتؤيده إسرائيل أيضاً.ويمكن لقرار كهذا أن يعترف أيضاً بالمعاناة الكبيرة التي لحقت بالفلسطينيين على مدى عشرات الأعوام، وأن بيدي التقديمر لمواقفهم الواقعية واستعدادهم للدخول في عملية إعادة تأهيل مكثفة وللتنازل عن "العودة" إلى الأراضي الإسرائيلية. ومن شأن خطوة كهذه أيضاً أن تقوّض، مرةً وإلى الأبد، مفعول القرار 194 الشهير، الذي يشكل القاعدة السياسية للمطالب الفلسطينية.
مشاركة إسرائيلية في دفع تعويضات مالية
لقد تم أعلاه تحليل موقف إسرائيل من مسألة دفع تعويضات مالية للاجئين. وهناك اعتبارات سياسية وبراغماتية وجيهة في مصلحة مشاركة إسرائيل في دفع التعويضات للفلسطينيين. لربما تكون هذه هي الوصفة الوحيدة والمضمونة التي تتيح تذويب الرواسب الخطرة التي نشأت على مر عشرات الأعوام في العلاقات بين الشعبين، ودفع عملية التطبيع المتبادل إلى الأمام.
وفي المقابل، هناك وجهان للتحفظ الإسرائيلي إزاء مشاركة كهذه:
- التحفظ السياسي – القانوني – المعنوي. هناك خشية من أن تُحدث مشاركة إسرائيل في دفع تعويضات للاجئين انطباعاً مؤداه إن إسرائيل تعترف بمسؤوليتها، على الأقل كأمر واقع، عن نشوء مشكلة اللاجئين. وسترغب إسرائيل في الحؤول دون تفسير كهذا، بأي ثمن.
- يجب عدم تجاهل المشكلة العملية، أي ضرورة رصد موارد لا بأس فيها من ميزانيات إسرائيل لهذا الهدف. وسيُثار أيضاً، على الفور، السؤال العملي – أين ستجد إسرائيل مصادر التمويل الهائلة اللازمة لهذا الهدف (ناهيك بأنه لا أمل بأن تبلغ اليوم حصيلة عملية المحاسبة 50 مليون دولار، كما كانت التقديرات سنة 1949). إن أي حساب، مهما يكن متواضعاً، سيصل فوراً إلى مبالغ تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، إن لم يكن أكثر من ذلك.
- لربما يكون هناك أمل بإيجاد مصدر تمويل غير مألوف وغير متوقع لهذا الهدف. إذا ما وافقت حكومة ألمانيا الاتحادية على مطالبة إسرائيل لها بدفع حصة ألمانيا الشرقية، في إطار الحساب الشامل لحق إسرائيل في التعويضات (التقدير المعقول هو أن الأمر يتعلق بمبلغ يتراوح بين 7 – 10 مليارات دولار). فسيكون في استطاعة إسرائيل تخصيص أموال هذه التعويضات، كلها أو جزء منها، لهذا الهدف. وفي المناسبة، إن معرفة أن أموال هذه التعويضات ستساعد في حل النزاع في الشرق الأوسط قد تسهل على الحكومة الألمانية اتخاذ قرار إيجابي.
ومع ذلك، يجب ألا نتجاهل الانعكاسات العامة في المجال الإسرائيلي الداخليلقرار كهذا بالمشاركة في تمويل تعويضات للاجئين، ما دام لا يوجد هناك أمل حقيقي بأن ينال اللاجئون الآتون من الدول العربية تعويضاً مالياً ما من العراق، سوريا، اليمن أو دول شمال أفريقيا. ومن المرجح أن تشدد ردات الفعل العامة أيضاً على أن إسرائيل غير ملزمة بتقديم أي تعويض عن المعاناة التي مرة اللاجئون الفلسطينيون بها، لأنه لم يكن لها أي ضلغ أو أية مسؤولية عما جرى. كما أن من شأن تحويل أموال التعويضات الألمانية (إذا تم ذلك فعلاً) [إلى الفلسطينيين] أن يثير ردات فعل سلبية من جانب الناجين من الكارثة النازية، الذين يحسّون بشدة بالغين الفظيع الذي لحق بهم وبعائلاتهم، والذين من شأنهم أن ينظروا إلى هذه الخطوة بأنها مقارنة بين كارثة يهود أوروبا ومعاناة اللاجئين الفلسطينيين.
ليس من السهل إذاً اقتراح سياسة إسرائيلية بصدد هذه المسألة. وستكون التوصية باقتراح تعويضات للاجئين واردة فقط إذا كان في الإمكان:
- ربط دفع التعويضات باتفاق سياسي ثنائي فيه صراحةً، ويقول فيه الفلسطينيون أيضاً، إن موقف إسرائيل من هذه المسألة هو بشكل مطلق ليس من قبيل اعتراف إسرائيل بالمسؤولية عن خلق مشكلة اللاجئين.
- التأكد من أن حجم حصة إسرائيل من دفع التعويضات سيحدد سلفا، ومن أن الدفع لن يتم إلا إذا جرى الاتفاق مسبقاً على "صفقة شاملة" أوسع نطاقاً لإيجاد تمويل دولي لإعادة تأهيل اللاجئين، تشترك فيه الدول الصناعية والدول العربية الغنية.
مشاركة إسرائيلية في عملية إعادة التأهيل
إن لإسرائيل في المشاركة في عملية إعادة تأهيل اللاجئين الفلسطينيين مصلحة لا بأس فيها، وذلك للأسباب التالية:
- إن إسرائيل تمتلك خبرة وتجربة غنيتين في عملية استيعاب "المهاجرين" من ذوي المستويات المختلفة من التعليم والدخل. ومن المرجح أن يكون في استطاعة إسرائيل تقديم مساعدة كبيرة في دفع عمليات إعادة تأهيل وتوطين اللاجئين الفلسطينيين إلى الأمام.
- سيكون في استطاعة إسرائيل أن تتأكد، بهذه الطريقة، من أن الأموال اللازمة لحل مشكلة اللاجئين ستُجمع بحسب ما اتُفق عليه، ومن أن إسرائيل لن تكون، لا قدّر الله، الجهة الوحيدة التي يتعين عليها تحمل عبء إعادة تأهيل اللاجئين.
- إن مشاركة إسرائيل ستتيح بصورة مباشرة ضمان انخراط إسرائيل في عملية تطبيع إسرائيلية – فلسطينية طويلة المدى.
وفي المقابل، من المتوقع أن يكون هناك معارضة فلسطينية ومن جانب دول عربية لمشاركة إسرائيلية مباشرة وعلنية كهذه. وينبغي ألا ننسى الحساسية العربية الهائلةتجاه خطر استبدال التفوق العسكري الإسرائيلي الحالي بتفوق في مجال مبادرات الأعمال والتكنولوجيا من شأنه أن يتيح لإسرائيل السيطرة مجدداً، وإن بوسائل مختلفة، على الدول العربية المتخلفة نسبياً في هذا المجال.
وبيدو أنه لا أمل بأن تحتل إسرائيل موقعاً مؤثراً في هذه المسألة من دون أن تشارك جزئياً، بشكل أو بآخر، في تمويل التعويضات. غير أنه من المرجح ألا يكون ذلك كافياً، والطريقة الطبيعية والصحيحة للتوصل إلى نفوذ كهذا ومشاركة كهذه ستكون عبر تأمين مكان لإسرائيل في السلطة الدولية التي ستنشأ، والتي ستنسق موضوع إعادة التأهيل.
إطار لحل ممكن
إن على إسرائيل أن تسعى لتفادي الاتفاق على تسوية سلمية إسرائيلية – فلسطينية لا تشمل أيضاً اتفاقاً كاملاً بشأن هذه المسألة [مشكلة اللاجئين]. ويجب ألا يُكتفى في الاتفاق بشأن هذه النقطة بالصيغة المكتوبة، بل ينبغي أن يجري أيضاً تأكيد التطبيق الكامل لما تم الاتفاق عليه، بهدف التوصل إلى التصفية التامة لمشكلة لاجئي 1948. ونظراً إلى الصعوبات المقترنة بالتطبيق العملي للحل الذي سيتم الاتفاق عليه (ضرورة إحداث تغيير مفاهيمي في ما يتعلق بالتوقعات والمقاربات والمواقف بين اللاجئين أنفسهم، وضرورة الحصول على الموافقة السياسية لجهات عربية أُخرى، وضرورة تعبئة الموارد المالية الضخمة اللازمة، وكذلك الجدول الزمني الطويل المتوقع لعملية إعادة التأهيل، ولبناء المساكن للاجئين الذين سيُجلون عن المخيمات، ولتوفير مصادر العمالة المطلوبة)، يتعيّن على إسرائيل أن ترهن الجدول الزمني الشامل، بما في ذلك ما يتعلق بمسائل أخرى من الاتفاق، بإكمال حل إعادة تأهيل اللاجئين أولاً. ويجب ألا ننسى أن هذا الموضوع سيكون، على الأرجح، أول موضوع أساسي سيتعين على الفلسطينيين أن ينجحوا في الاختبار فيه، بتنفيذ التزاماتهم بمقتضى الاتفاق.
في فترة الاتفاق المرحلي
لا يوجد سبب مبدئي يدعو إسرائيل إلى معارضة عودة نازحي 1967 إلى مناطق الضفة الغربية (وحتى إلى مناطق قطاع غزة) في الفترة الحالية من تطبيق الاتفاق المرحلي الإسرائيلي – الفلسطيني. ومع ذلك، على إسرائيل أن تعارض بصورة قاطعة عودة فئتين من النازحين:
- الأولى، عودة النازحين الذين كانوا أصلاً من سكان المخيمات، إلا إذا التزمت السلطة الفلسطينية استيعاب العائدين خارج مخيمات اللاجئين، في إطار عملية إعادة تأهيلهم الكاملة في المنطقة. وفي ضوء حقيقة أن إسرائيل لم تبادر إلى طرح هذا الموضوع للبحث في مفاوضات أوسلو، أو في المباحثات التي سبقت اتفاق القاهرة، أو حتى في مباحثات اللجنة المتعددة الأطراف لشؤون اللاجئين، فمن المهم فعلاً أن تطرح إسرائيل مطالبة جازمة كهذه، مع ربطها هذه المطالبة بالتباحث بشأن بند عودة نازحي 1967.
- والثانية: عودة نازحين ممن سيطالبون بإعادة أملاك يحتفظ الجيش الإسرائيلي بها اليوم، أو موضوعة في تصرف المستوطنات الإسرائيلية التي أقيمت في المنطقة بمرور الوقت.
وفي جميع الأحوال، على إسرائيل أن تبحث في الموضوع بصورة جذرية مع مؤسسات الحكم الذاتي الفلسطيني، وأن تصر على أنه لن تنشأ مشكلات صعبة للحم الذاتي ولإسرائيل على السواء، في حال:
- عاد نازحون بأعداد كبيرة، ممن لا يوجد لهم مسكن مؤمّن؛
- عادت كتلة من النازحين من شأنها أن تشكل طاقة سلبية من العاطلين عن العمل.
- تم تجميع هؤلاء النازحين – من دون حل يؤدي إلى إعادة تأهيلهم – بالقرب من "الخط الأخضر" وشكلوا خطراً توسيعاً – أمنياً سلبياً.
الموقف من المشكلة في إطار الحل الدائم
على إسرائيل أن ترفض رفضاً قاطعاً في إطار الحل الدائم اتفاقاً يقضي بعودة لاجئين فلسطينيين، بأي عدد مهما يكن، إلى أراضيها، وذلك استناداً إلى مطالبة سياسية – قانونية فلسطينية بـ "حق العودة" أو اعتماداً على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194. وعلى إسرائيل أيضاً أن ترفض التزام اتفاق يقضي بأن تستوعب أية حصة مقررة من اللاجئين، سنوياً، في إطار سياسة لمّ شمل العائلات التي تتبعها حالياً. إن لمّ شمل العائلات، الذي ينفذ منذ سنة 1948، ناجم عن قرار إسرائيلي من جانب واحد، على أساس إنساني، في حين أن كل طلب للمّ الشمل يُنظر فيه بحد ذاته. وليس هناك مجال، وليس هناك سبب، يدعوان إلى إرساء قواعد في هذا الشأن، والالتزام سلفاً بحصص مقررة، وبكل تأكيد، يجب عدم السماح لعنصر خارجي بأن يكون شريكاً في هذه القرارات الإسرائيلية السيادية.
افتراضات أساسية بشأن الحل الدائم
من دون أن ندخل في مناقشة وتفحص الحلول السياسية الممكنة في ما يتعلق بمكانة الكيان الفلسطيني، التي سيتم الاتفاق عليها خلال المفاوضات المستقبلية، غنيّ عن القول إن الموقف من الحل الدائم لمشكلة اللاجئين سيكون مغايراً في كل احتمال من مختلف الاحتمالات.
ولغرض مواصلة هذا البحث، نفترض نظرياً أن هناك ثلاث حالات ممكنة للحل:
- حكم ذاتي فلسطيني في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، من دون أن يُسمح لهذا الكيان ببلواغ مكانة السيادة الكاملة.
- إنشاء دولة فلسطينية سيادية ومستقلة في مناطق في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة.
- إنشاء وحدة فدرالية أردنية – فلسطينية على هذا المستوى أو ذاك من الاتحاد.
وفي كل واحدة من الحالات الثلاث، ينبغي لإسرائيل أن تصر على المبادئ التي سبق لنا تأكيدها في ما يتعلق بمسألة لاجئي 1948.
- من غير الممكن أن تكون هناك تسوية للنزاع من دون أن تحل هذه التسوية مشكلة جميع اللاجئين الفلسطينيين من الأساس.
- لن تعترف إسرائيل بـ "حق العودة" للاجئين الفلسطينيين إلى الأراضي الإسرائيلية، ولن تقبل إسرائيل، في هذا الصدد حججاً فلسطينية قانونية تستند إلى قرارات الأمم المتحدة أو إلى أية قرارات دولية أُخرى.
- سترفض إسرائيل السماح بعودة أي عدد من اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيها، لا بموجب حق فلسطيني مكتسب ولا بناءً على الاتفاق.
- ستواصل إسرائيل – بروح سياستها القائمة – السماح بلمّ شمل عائلات. وستفعل ذلك وفقاً لمعايير إنسانية ليس إلا، على أن تحتفظ وحدها بسلطة القرار كاملة. وأن يكون القرار بشأن من، وكم، ومتى، وكيف سيعودون، إسرائيلياً في مجمله.
وفي ما يتعدى المبادئ المذكورة أعلاه، سيستند حل المشكلة، من وجهة النظر الإسرائيلية، إلى الخطوط التالية:
في ما يتعلق بالحالية (أ) – إنشاء حكم ذاتي فلسطيني في جميع المناطق [المحتلة]: قد تكون هذه الحالة مرغوباً فيها وملائمة لهذه الاعتبارات السياسية أو تلك، غير أنه سيكون من المحال، في مثل هذه الحال، حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين من جميع جوانبها.
وما دامت سلطة الحكم الذاتي لم تحصل على مكانة الدول السيادية، فإنها سترفض، وتكون محقة في ذلك، تولي المسؤولية عن مشكلة اللاجئين الموجودين خارج حدود الحكم الذاتي. وفي أحسن الأحوال، سترضى بالعمل على حل مشكلة اللاجئين الموجودين اليوم في مناطق قطاع غزة والضفة الغربية، وذلك على افتراض أن نشاطاً كهذا لن يبدأ ولن ينفذ في فترة الحل المرحلي.
ومن المشكوك فيه أن يكون في مقدور سلطة الحكم الذاتي التوجه إلى الأمم المتحدة، طالبةًً منها إلغاء مكانة الـ "لاجئ" من الناحية القانونية، وسحب جهازها [الأونروا] من مناطق القطاع والضفة الغربية – وأن يًستجاب لطلبها. وفي المناسبة، فإنه لمن المثير للاهتمام أن نشير إلى أن إسرائيل امتنعت من المبادرة إلى توجيه طلب كهذا، فيما يتعلق بمكانة اللاجئين الذين تم ضمهم إلى منطقتها في إطار تطبيق القانون الإسرائيلي على القدس الشرقية (بما في ذلك مخيم قلندية).
وسينشأ وضع ممائل إذا ما رغبت السلطة الفلسطينية في التوجه نحو إدارة مفاوضات مع الدول العربية الثلاث التي يقيم القسم الأكبر من اللاجئين في أراضيها – الأردن، لبنان وسوريا – بشأن استيعاب اللاجئين المقيمين في أراضيها على الصعيدين القانوني والعملي. ومع ذلك، سيكون في استطاعة إسرائيل أن تحاول إدارة مفاوضات ثنائية مع كل دولة من الدول المعنية بشأن إعادة تأهيل اللاجئين المقيمين في أراضيها.
وخلاصة الأمر، إن الحكم الذاتي، كحل دائم، ليس مؤهلاً لتقديم حل كامل وشامل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وفي هذا السياق، للمساهمة في إنهاء النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني.
الحالة (ب) – إقامة دولة فلسطينية مستقلة وتتمتع بالسيادة: لدى توقيع الاتفاق الثنائي، سيتعين على إسرائيل إصدار إعلان، الغاية منه تقديم "تعويض معنوي – نفسي" للفلسطينيين؛ تعويض يُقصد به أن يشكل بديلاً صغيراً من الرفض الإسرائيلي المطلق للسماح بالعودة نفسها. وفي هذا الإعلان، تعترف إسرائيل، بصيغة ما، بالمعاناة الكبيرة التي لحقت بالفلسطينيين الذين اقتُلعوا من منازلهم سنة 1948 وبالمعاناة الكبيرة التي لحقت بهم منذ ذلك الوقت من جراء اضطرارهم إلى العيش كلاجئين مجرّدين من أي وضع رسمي، وبضرورة المساعدة في إعادة تأهيلهم وتعويضهم عن الأملاك التي فقدوها وخلفوها. ومع ذلك، لا يجوز – من الناحية الإسرائيلية – أن يستشف من هذا الإعلان أن إسرائيل تتحمل أية مسؤولية عن المشقات التي تعرض الفلسطينيون لها.
وفي موازاة ذلك، سيتعين على القيادة الفلسطينية أن تتوجه إلى عموم الشعب الفلسطيني، وإلى اللاجئين بنوع خاص، موضحةً أنه تم الاتفاق على حل كامل وأساسي لمشكلة اللاجئين. إلا إن هذا الحل لن يستند إلى "عودة" إلى الأراضي الإسرائيلية. ومن الأفضل، من الناحية الإسرائيلية، مطالبة القيادة الفلسطينية بأن تصرح علناً تصرح بتنازلها عن حق العودة، غير أن احتمالات موافقة الفلسطينيين على ذلك ضعيفة. وفي السياق نفسه تدعو القيادة إلى:
- إلغاء وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين [الأونروا]؛
- إلغاء الإطار المنفصل والجهاز الخاص اللذين يخدمان مخيمات اللاجئين.
ج- سن "قانون عودة" فلطسيني.
د- مشروع إعادة تأهيل فوري لجيمع اللاجئين الموجودين اليوم في مناطق السلطة الفلسطينية (أي في مناطق قطاع غزة والضفة الغربية).
وبناء على قانون العودة الفلسطيني الجديد، سيكون في وسع كل فلسطيني يعيش في المنفى، إذا ما رغب في ذلك، الحصول على الجنسية الفلسطينية، وحمل جواز سفر فلسطيني يكسبه حقوقاً واعترافاً دوليين. كذلك سيكون من حق كل فلسطيني كهذا، على الأقل نظرياً، أن "يهاجر" ويُستوعب في مناطق الدولة الجديدة. وسيعطي الكيان الفلسطيني الأولوية لـ "هجرة" اللاجئين المقيمين في لبنان، الذين يعيشون – بحسب المنظورين الفلسطيني واللبناني – في أوضاع موضوعية صعبة بنوع خاص.
وسيتوجب على إسرائيل أن تصر على ألا يستغل الفلسطينيون عودة هؤلاء اللاجئين والنازحين لاسئناف النضال من أجل الـ "عودة" إلى الأراضي الإسرائيلية. وبالتالي على القيادة الفلسطينية أن تتعهد عدم توطين العائدين في مناطق الكيان الفلسطيني القريبة من "الخط الأخضر"، وبمنع هؤلاء اللاجئين من أية مبادرة أو من أي إمكان للقيام بـ "زحف أخضر" باتجاه إسرائيل.
وسينفذ الكيان الفلسطيني الخطوة العملية الأولى لإلغاء الأونروا وإلغاء إطار مخيمات اللاجئين داخل مناطق قطاع غزة والضفة الغربية. وسيوضع هؤلاء تحت المسؤولية المطلقة لسلطة الدولة الفلسطينية. وسيتحول جميع مستخدمي موظفي الأونروا المحليين إلى مستخدمين عاديين في الكيان الفلسطيني الجديد، مع قيام الأخير بما يلي:
- الاستمرار في تزويد اللاجئين بالخدمات التي كانت الأونروا تقدمها، وتولي [الكيان] المسؤولية عنها بنفسه؛
- تقديم المساعدة للمحتاجين على أساس شخصي، لا بحسب المقاربة الجماعية المتبعة حالياً، التي تعتبر كل من يحمل بطاقة لاجئ مستحقاً للمساعدة؛
- المبادرة إلى إنشاء سكن بديل ومحسّن يحل محل المساكن البائسة القائمة في المخيمات منذ ما يزيد عن 40 عاماً؛
- المبادرة إلى وضع حلول فورية للعمالة تخصص في الدرجة الأولى للاجئين سابقاً.
هـ- السماح بالانتقال الحر لقوة العمل والعائلات، بحسب قواعد العرض والطلب الحرّين، بين جزأي الدولة الفلسطينية، قطاع غزة والضفة الغربية.
وفي إطار الاتفاقات السياسية الثنائية المتوقع إبرامها بين إسرائيل وبين سوريا والأردن ولبنان، وتبعاً للخلاصات التي ستتوصل إليها اللجنة المتعددة الأطراف لشؤون اللاجئين، ستتعهد كل دولة من الدول "المضيفة" استيعاب ودمج اللاجئين في أراضيها كمواطنين عاديين، أو على الأقل بالسماح للاجئين الفلسطينيين بالبقاء فيها بصفة سكان دائمين. وفي موازاة ذلك، وفي ما يتعلق باللاجئين الذين لن يتمتعوا بمواطنة كاملة، سيُسمح لهم بالاحتفاظ بمواطنة وجواز سفر فلسطينيين، وسيكون في استطاعة الدولة المضيفة طردهم، في حال تورطهم [في مخالفات قانونية]، إلى مناطق الكيان الفلسطيني.
وسيُصار إلى تفكيك الأونروا في الدول المضيفة، وستتولى كل دولة منها المسؤولية عن الصيانة الجارية للمخيمات، بينما ستأتي الأموال اللازمة لهذا الهدف من مصادر السلطة الدولية التي ستُنشأ لإعادة تأهيل اللاجئين الفلسطينيين. وستشمل هذه السلطة، التي ستكون إسرائيل عضواً فيها – فضلاً عن الفلسطينيين – جميع الدول "المضيفة" للاجئين اليوم، والدول العربية التي سيطلب منها المشاركة في تمويل عملية إعادة التأهيل، وكذلك الدول الصناعية الغنية التي ستتبرع بأموال وتساهم في مشاريع اقتصادية تساعد في استيعاب اللاجئين.
وستنصرف هذه السلطة، في المقام الأول، إلى القيام بالمهمات التالية:
- إحصاء معلوماتي لجمهور اللاجئين – أرقاماً، توزعاً، ومشكلات؛
- وضع معايير لتعويضات شخصية لكل عائلة من اللاجئين ولتعويضات جماعية؛
- يخصص "التعويض الجماعي" لمشاريع مركزية كبرى ترمي إلى إنشاء أحياء سكنية، بما في ذلك الخدمات اللازمة لها، وإنشاء نظام للتدريب المهني، وإقامة مشاريع تستند إلى كثافة اليد العاملة لتشغيل المحتاجين.
وستقع المسؤولية عن تنفيذ المشاريع المركزية لإعادة تأهيل اللاجئين على عاتق كل دولة من الدول المعنية، بينما سيكون من شأن طريقة التنفيذ هذه حفز الدول على الانخراط في العملية، والاستفادة من الـ spin off (الثمار غير المباشرة) لكل مشروع كهذا.
في ما يتعلق بالحالة (ج) – إنشاء وحدة أردنية – فلسطينية فدرالية: من دون أن نتطرق إلى عناصر الاتحاد الفدرالي/الكونفدرالي الذي سينشأ في هذه الحالة بين الوحدتين السياسيتين، فإن أسس الحل في هذه الحالة ستكون مشابهة لمثيلتها في الحالة (ب)، أي إقامة دولة فلسطينية تتمتع بالسيادة. إلى جانب ذلك:
- لن يمارس ضغط لنقل لاجئي 1948 من مناطق الضفة الشرقية إلى غربي نهر الأردن، وسيكون في استطاعة هؤلاء البقاء في أماكنهم في الضفة الشرقية، مع منحهم حقوق مواطنة كاملة في الدولة الفلسطينية.
- قواعد لعبة السوق في ما يتعلق بحركة جمهور اللاجئين، التي ذكرناها آنفاً (بين القطاع والضفة الغربية)، ستطبق في هذه الحالة، وستشمل الضفة الشرقية أيضاً.
- إن طاقة الاستيعاب في الدولة الفدرالية ستكون أكبر، إلى حد كبير، من مثيلتها في الدولة المقتصرة على مناطق القطاع والضفة، ومن هذه الناحية، سيكون هناك دلالة أعظم لـ "قانون عودة" فلسطيني يقترح أيضاً "هجرة" كل فلسطيني في المنفى، إذا احتاج إليها أو رغب فيها.
- مع ذلك، من المحال أن نتجاهل أن هذا الحل لن يخفف الضغط الديموغرافي عن المملكة الهاشمية.
تعويضات للاجئين
هناك مجال لطرح علامة استفهام حول السياسة الإسرائيلية السائدةـ التي ترفض تحمل أية مسؤولية فيما يختص بدفع تعويضات للاجئين. إن من يسعى لحل النزاع الإسرائيلي – العربي عامةً، والإسرائيلي – الفلسطيني خاصةً، حلاً أساسياً، لا يمكنه أن يتجاهل أن قراراً إسرائيلياً بدفع تعويضات ستكون له مساهمة نفسية كبيرة في إحداث تغيير جوهري في النظرة العربية – الفلسطينية تجاه إسرائيل.
طبعاً، لا مجال هناك للمقارنة بين الفظائع التي بادر النازيون إليها ونفذوها بحق يهود أوروبا خلال الحرب العالمية [الثانية] وبين المعاناة التي مر الفلسطينيون بها سنة 1948 في حرب بادروا إليها بأنفسهم وبدأوها بأنفسهم. وعلى الرغم من ذلك، هناك مجال لأن نتعلم شيئاً ما من التغيير الدرامي الذي طرأ على نظرة إٍسرائيل ويهود العالم تجاه ألمانيا في إثر التوصل معها إلى اتفاق التعويضات لجهة ما يمكن أن تكون عليه الانعكاسات المحتملة لتجربة مماثلة على شبكة العلاقات التي ستنشأ بين إسرائيل والفلسطينيين. إن عملية تصفية حسابات تقوم إسرائيل بها ودفع تعويضات للاجئين حيثما وجدوا، ستكون ذات أهمية شديدة، ويمكن أن تيسّر تطبيع العلاقات وفتح صفحة جديدة في العلاقات بين الشعبين. وعلاوة على ذلك، يجب ألا نتجاهل الانعكاسات الاقتصادية الممكنة لخطو كهذه – إذا تضمنت التزام شراء منتوجات إسرائيلية، على غرار [اتفاق] التعويضات الألمانية – الناجم عن فتح السوق الفلسطينية وحتى السوق العربية عموماً.
وفيما يتعلق بالتعويضات الفردية للاجئين، فستُدفع هذه بنسبة محددة سلفاً، من دون محاولة تقدير المستحقات الحقيقية لكل لاجئ، تبعاً للممتلكات التي تركها هو أو عائلته سنة 1948. ويمكن أن تحدَّد قيمة هذا التعويض بـ 10,000 ودولار للعائلة الواحدة. وعلى افتراض أن الجزء الأساسي من مهمة إعادة تأهيل اللاجئين سيتم في الأطر الجماعية، ففي الإمكان أن نفترض أن القيمة الإجمالية للتمويل الذي سيلزم لدفع التعويضات الفردية للعائلة الواحدة ستكون متدنية نسبياً، وبمنأى عن قيمة الممتلكات الأصلية التي تم تركها.
نقاط ضعف
إن التحليل الوارد أعلاه لن يكون كاملاً من دون تفحص إضافي: أين يمكن أن تظهر نقاط الضعف، تلك التي من شأنها القضاء على فرص تطبيق اتفاق بشأن مسألة اللاجئين الفلسطينيين؟
نقطة ضعف (1) – إصرار فلسطيني قاطع على ممارسة حق العودة: كان الافتراض الأساسي الكامن وراء الدراسة أعلاه أن رفض إسرائيل السماح بــ "عودة" فلسطينيين إلى الأراضي الإسرائيلية يحظى بإجماع [إسرائيلي] عريض جداً، وأن هذا الرفض يحتل موقعاً متقدماً في سلم الأولويات الإسرائيلية. غير أننا لا نستطيع أن نستعيد إمكان أن ينظر الفلسطينيون أيضاً إلى "العودة" بأنها شرط لا يمكن تجاوزه، وأن يصروا على حرية الاختيار بين "العودة" إلى الأراضي الإسرائيلية والحق في التعويض.
وإذا افترضنا أن أحداً من الطرفين لن يضفي مرونة على موقفه، فسيكون الخيار الذي سيواجهة الطرفان في هذه الحالة:
- تجميد العملية السياسية، وتجميد المفاوضات الثنائية بشأن التسوية الدائمة إلى أن ينشأ وضع ملائم أكثر، أو
- ترك هذه المسألة بلا حل، من خلال محاولة التقدم في باقي الموضوعات، آملين ومفترضين أن يؤدي الحل الناحج لهذه الموضوعات، وتطبيقه الناحج، إلى إضفاء المرونة على مواقف الطرفين مستقبلاً تجاه موضوع اللاجئين أيضاً.
نقطة ضعف (2) – انقلاب سياسي في إسرائيل في انتخابات سنة 1996: إن سقوط حكومة حزب العمل في الانتخابات العامة لسنة 1996، إقامة ائتلاف حكومي يميني في القدس، سيؤديان إلى تغيير جوهري في سياسة الحكومة تجاه الحل السياسي. ومن الممكن أن تحاول هذه الحكومة، في إطار المحادثات بشأن التسوية الدائمة، أن تجمّد، عملياً، استكمال تطبيق الاتفاق المرحلي الذي نص اتفاقا أوسلو والقاهرة عليه، وألا تذهب إلى أبعد مما جرى الاتفاق عليه في هذين الاتفاقين، بل وربما – إذا أتيح لها ذلك – ان تعكس مجرى الأمور.
وستكون النتيجة العملية لذلك تجميد المفاوضات بشأن التسوية الدائمة،بما في ذلك المفاوضات بشأن تسوية مشكلة اللاجئين، إلى أن تنشأ مجدداً أوضاع مؤاتية للتقدم على هذا الصعيد.
نقطة ضعف (3) – رفض دول عربية التعاون مع الخطة: لن يكون في الإمكان تحقيق حل كامل وشامل لمسألة اللاجئين الفلسطينيين من دون موافقة جهات عربية أُخرى. وسيتعين على الأردن وسوريا ولبنان استيعاب الفلسطينيين الموجودين في أراضي الدول الثلاث، ومنحهم الجنسية، أو على الأقل الإقامة الدائمة. وسيتعين على دول عربية أخرى المساهمة في تبرع مالي لإعادة تأهيل اللاجئين والسماح للفلسطينيين بالعمل مجدداً في أسواق العمل التابعة لها.
ليس من الضروري أن تتسبب هذه الحالة في وقف العملية برمتها وسيكون في وسع إسرائيل والفلسطينيين، في هذه الحال الانصراف إلى تطبيق الحل في كل ما يتعلق بالصعيد الثنائي بينهما، بالنسبة إلى اللاجئين المقيمين اليوم في قطاع غزة والضفة الغربية. غير أن ذلك لن يساعد، في هذه الحال، في دفع الحل الشامل لمشكلة النزاع الإسرائيلي – العربي إلى الأمام.
نقطة ضعف (4) – انقلاب سياسي فلسطيني داخلي: يمكن لانقلاب سياسي كهذا أن يتمثل في واحد من أمرين:
- سقوط قيادة م.ت.ف.، أي قيادة التيار المركزي (تيار "فتح")، وصعود قيادة فلسطينية متطرفة – دينية – أصولية.
من الممكن أن ترفض قيادة كهذه كل حوار مع إسرائيل وأن تتسبب في وقف المفاوضات الثنائية. أو،
- نشوب أزمة في العلاقات بين القيادة الموجودة في المناطق [المحتلة] والقيادة التقليدية لـ م.ت.ف.، التي يعود منشؤها إلى المنفى وتوجد قاعدة تأييدها فيه. وستكون النتيجة، في هذه الحال، مشابهة لنتيجة نقطة الضعف (2)، في إثر حدوث انقلاب سياسي في إسرائيل.
نقطة ضعف (5) – حرب إسرائيلية – عربية: طبعاً، يجب ألا نستبعد إمكان اندلاع سورة من العنف، وحتى حرب إسرائيلية – عربية، في الأعوام المقبلة. والاحتمال الأقوى الذي قد يؤدي إلى تطور كهذا هو تصاعد الاشتباكات على الحدود اللبنانية وفي شروط الأمني في الجنوب اللبناني، بحيث تتحول إلى حرب حقيقية نتخرط فيها قوات سورية أيضاً.
ومن شأن تطور كهذا عرقلة العملية الثنائية عامةً، وربما حتى تجميدها بما في ذلك معالجة مسألة اللاجئين الفلسطينيين.
خلاصة
من غير الممكن أن يكون للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني حل حقيقي، جذري وقابل للبقاء، من دون إنهاء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين من جميع جوانبها. وإن أي اتفاق سياسي بين إسرائيل والفلسطينيين يترك مسألة اللاجئين (كلها أو بعضاً من عناصرها) كالجرح المفتوح، لا يمكن له أن يصمد في المدى الطويل. إذ ستنهض، عاجلاً أو آجلاً، حركة مقاومة سرية جديدة تطالب بحل حقيقي لهؤلاء اللاجئين ولمحنتهم. ومن واجب إسرائيل الإصرار على إدراج هذه المشكلة في جدول الأعمال وإيجاد حل لها متفق عليه.
وفي إطار مشكلات التسوية الدائمة، تشكل مشكلة اللاجئين أحد الموضوعات القليلة التي سيوضع الفلسطينيون فيها أمام اختبار تطبيق الاتفاق الذي سيتم التوصل إليه – تطبيقه، سواءً من ناحية شكل الحل أو من ناحية التقيد بالجدول الزمني. ويجب أن يتضمن الاتفاق خطة واضحة تحول دون تحوّل اللاجئين إلى عنصر توسعي يشكل خطراً على إسرائيل وعلى السلام. وبما أن حل المشكلة سيمتد بالضرورة فترة زمنية طويلة (عشرة أعوام، وحتى أكثر من ذلك)، فإنه يجب الحرص على أن يراعي الزمني الشامل لتطبيق الاتفاق الثنائي الفترة الزمنية التي ستلزم لهذا الهدف.
ويجب عدم السماح للقيادة الفلسطينية بالتهرب من واجبها في إعلان انتهاء النزاع، وتقديم تفسير جديد لـ "حق العودة" يقتصر على أراضي الكيان الفلسطيني الذي سيصار إلى إنشائه، ودعوة جماهير اللاجئين الفلسطينيين إلى الانخراط في الحلول العملية المفروضة عليهم؛ الحلول الرامية إلى تقديم رد حقيقي على المشكلة، والحيلولة دون بقاء عنصر فلسطيني محرّض وتوسعي.
ويجب التأكد من أن مسألة اللاجئين ستطرح أيضاً في المفاوضات الثنائية التي ستجريها إسرائيل مع باقي الدول العربية، التي يقيم اللاجئون في أراضيها اليوم – الأردن وسوريا ولبنان – ومن أن كلاً من هذه الدول ستعمل على حل المشكلة كجزء من الاتفاقات الثنائية والاتفاقات المتعددة الأطراف. ومن المحبذ أن تبادر إسرائيل إلى إثارة النقاش بشأن هذا الموضوع في اللجنة المتعددة الأطراف لشؤون اللاجئين، وأن تطرح حلولاً بروح الحلول المقترحة أعلاه.
إن الخطوة الأولى على طريق الحل ستشمل إلغاء الأونروا العاملة بين اللاجئين، ونقل المسؤولين عن المخيمات وعن جميع المستخدمين في جهاز الوكالة إلى الدول المضيفة.
في مقابل الرفض الإسرائيلي المطلق لـ "حق العودة" ولعودة لاجئين إلى أراضيها بمقتضى هذا "الحق"، على إسرائيل أن تقدم مساهمة نفسية عن طريق إعلانها أنها تعترف بالمعاناة الفلسطينية وبضرورة تعويض اللاجئين عن الممتلكات التي فقدوها.
وسيتعين على إسرائيل أيضاً تبني سياسة واضحة تجاه مسألة تقديم تعويضات اللاجئين. ومع أن هناك، بلا شك قدراً كبيراً من الإنصاف من الحجة الإسرائيلية القاتلة إن الممتلكات التي تركها اللاجئون تعادل في قيمتها الممتلكات التي تركها يهود الدول العربية، فإن هذه المقارنة لا تدفع الحل إلى الأمام، نظرياً وعملياً. وفي حين أن الممتلكات التي تركت في الدول العربية غيرضرورية، عملياً، لإعادة تأهيل واستيعاب اللاجئين من تلك الدول، فإن الحالة ليست كذلك بالنسبة إلى اللاجئين الفلسطينيين، الذين تتطلب مشكلة إعادة تأهيلهم أموالاً طائلة. وسيكون على إسرائيل أن تختار، في هذه النقطة، بين انتهاج سياسة تهتم بصغائر الأمور وتتصف بالبخل؛ سياسة تحاول تفادي أي إنفاق وأية مساهمة في حل المشكلة الفلسطينية (أن تكون penny wise and pound foolish) وبين انتهاج سياسة معكوسة تعتبر المساهمة في حل محنة اللاجئين استثماراً سياسياً واقتصادياً على السواء، للمدى الأبعد، ولا يجوز لإسرائيل أن تتجاهل المناخ السياسي – النفسي، وحتى الاقتصادي، الذي قد ينشأ نتيجة لقرار إسرائيلي بمنح اللاجئين تعويضات فردية.
المصادر:
[1] Mark A. Heller, The Israel – PLO Agreement: What if it fails? How will we know? Final Status Issues: Israel-Palestinians, Study No. 1 (Tel Aviv: Tel Aviv University, Jaffee Center for Strategic Studies, 1994).
[2] شلومو غازيت، "مشكلة اللاجين الفلسطينيين"؛ قضايا الحل الدائم: إسرائيل – الفلسطينيون، الدراسة رقم 2 (تل أبيب: جامعة تل أبيب، مركز يافي للدراسات الاستراتيجية، 1994).
[3] Joseph Alpher, Settlements and Borders; Final Status Issues; Israel-Palestinians Study No. 3 (Tel Aviv: Tel Aviv University, Jaffee Center for Strategic Studies, 1994).
[4] هكذا وردت في الأصل، ولعل الرقم المقصود هو 2,7 مليون نسمة.