بعد إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية في أيار/مايو 1993، تعرضت علاقاتها باللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير لمد وجزر، وقليلاً ما توازنت. ويستطيع كل مراقب لحركة الصراع هذه أن يرى ترابطها الوثيق بمسار المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية. وإذا كان من البديهي القول إن المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني تأثرت، وستظل تتأثر بصحة وسلامة أو اعتلال العلاقة بينهما فالواجب الوطني يفرض على جميع الحريصين على تمكني الشعب الفلسطيني من تحقيق أهدافه الوطنية الكبرى أن يعملوا قدر المستطاع على بقاء هذه العلاقة سليمة، ومنعها من الخروج عن مسارها الصحيح.
فمنذ إعلان تشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية رسمياً، وبعد أن غدت موجودة على أرض غزة – أريحا وتولت عدداً محدوداً من المجالات في الضفة الغربية، دخلت العلاقة بين منظمة التحرير والسلطة الوطنية حيزها الرسمي والعملي الملموس. وبدأت بذور المشكلات تظهر على سطح العلاقة، وأخذت تنمو بصورة متدرجة أكثر فأكثر.
لا شك في أن الفترة الزمنية التي عاشتها هذه العلاقة ما زالت قصية؛ فالسلطة الوطنية الفلسطينية لم تبلغ من العمر عامها الأول حتى الآن، إلا أنني أعتقد أن عشرة شهور من التجربة كافية تماماً لرصد بعض الظواهر الأساسية التي برزت على سطح علاقة السلطة بـ م.ت.ف.، وللتعرف إلى العوامل التي تحكمت فيها حتى الآن؛ وكافية أيضاً لرؤية المسار الرئيسي الذي تسير فيه بسرعة؛ وأظنها تفي بالغرض المطلوب لاستشفاف آفاقها المستقبلية. وفي هذا السياق يمكن تسجيل أبرز القضايا الي تعانيها العلاقة حتى الآن، وهي:
أولاً: تشكيل السلطة خلق إشكالات موضوعية ما زالت عالقة
في ضوء إصرار الجانب الإسرائيلي على تعطيل تنفيذ الكثير من بنود الاتفاقات التي تم التوصل إليها معه في أوسلو وباريس والقاهرة وعند حاجز إيرز، وخصوصاً ما يتعلق منها بإجراء انتخابات مجلس السلطة الفلسطينية، وبالانسحاب من المناطق الآهلة بالسكان، وبإعادة نشر القوات الإسرائيلية في مواقع محددة في الضفة الغربية تمهيداً لإجراء الانتخابات، تعثرت المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، وتعثر عمل السلطة وارتبكت خطواتها تجاه نهوضها بمهماتها الأساسية التي أخذتها على عاتقها، وتلك التي أُسندت إليها من قبل الهيئات التشريعية لمنظمة التحرير. وظهرت أصوات فلسطينية من خارج السلطة، لكنها ذات وزن في الساحة الفلسطينية، تحدثت عن تقصيرات فاحشة للسلطة في إدارتها للمفاوضات مع الإسرائيليين، وطالبت بوقف المفاوضات وتعليقها إلى حين تقدم الجانب الإسرائيلي بجدول زمني يلتزم فيه تنفيذ جميع بنود اتفاق أوسلو وملحقاته. إلا إن السلط الوطنية رفضت التجاوب مع هذه الأصوات على الرغم من منطقية أطروحاتها، ورفضت التفاعل معها على الرغم من أنها أصوات شركاء أساسيين في عملية السلام منذ انطلاقتها الأولى حتى الآن. والتدقيق في خلفيات كلا الموقفين يبين أنهما ليسا منفصلين عن الصراع الجاري بين السلطة الفلسطينية واللجنة التنفيذية.
ولاحقاً، وعلى الرغم من إصرار بعض أركان السلطة على الاستمرار في المفاوضات بشأن أوسلو، من خلال الهيئات والأفراد، فإن الشعور بوجود أزمة حقيقية دفع السلطة الفلسطينية في شباط/فبراير الماضي إلى اتخاذ قرار بدعوة اللجنة التنفيذية إلى عقد اجتماع في غزة لدرس الموقف. وبغض النظر عن شكلية مسألة من يوجه الدعوة إلى اجتماع هذه الهيئة القيادية، فإن هذه المبادرة عكست المشاعر الحقيقية لأعضاء السلطة، حيث اعتبروا أنفسهم هيئة أعلى من اللجنة التنفيذية، ومنحوا أنفسهم صلاحيات دعوتها إلى اجتماع، بعدما ساهموا في تعطيل اجتماعاتها طوال عشرة شهور كاملة. وكردة فعل على هذا الموقف، ارتفعت أصوات بعض أعضاء اللجنة التنفيذية، ممن اعترضوا على طريقة وصيغة الدعوة وعلى المكان، لتذكّر السلطة بصلاحيات اللجنة التنفيذية، وأبدت احتجاجها على هذا التطاول عليها. وجعل البعض ذلك ذريعة لمقاطعة الاجتماع. بعدها بأسابيع قليلة، دعا رئيس اللجنة التنفيذية إلى اجتماع يعقد في القاهرة، إلا أن النتيجة جاءت لتؤكد أن الأزمة داخل اللجنة التنفيذية وداخل التيار الواقعي الذي أيد اتفاق أوسلو عميقة، وأن صيغة تشكيل السلطة وطريقة عملها ساهمتا في تفاقم هذه الأزمة. ولا شك في أن الفشل مرتين خلال شهر واحد من تأمين النصاب لعقد اجتماع للجنة التنفيذية يبين عمق هذه الأزمة. ومن يدقق في طبيعة قضايا الخلاف يمكنه القول إن الأزمة مرشحة للتفاعل أكثر فأكثر في المستقبل، وقد ينجم عنها مضاعفات سلبية تمس المصالح الوطنية الفلسطينية إذا لم تتم معالجة الموضوع.
وبغض النظر عن الدوافع والأسباب الذاتية والموضوعية التي تدفع الآن بالكثير من القيادات والقوى والشخصيات الفلسطينية نحو استذكار منظمة التحرير، واستذكار لجنتها التنفيذية ومجلسها المركزي، ونحو الإصرار على إحياء دورها القيادي بعدما غيب اسمها ودورها قرابة عام كامل، فإنه من الثابت أن الفكر السياسي الفلسطيني عامة، والحركة الوطنية الفلسطينية خاصة، واجه منذ توقيع قيادة م.ت.ف. اتفاق أوسلو، ومنذ تشكيل السلطة الوطنية، عدداً من المعضلات الموضوعية التي لا يمكن تجاهلها في أي حديث عن العلاقة الراهنة والمستقبلية بين السلطة الوطنية ومنظمة التحرير، ومن أبرزها:
- نشوء تناقض حقيقي بين قانونية التزام م.ت.ف. والسلطة الوطنية بالاتفاقات التي توصلت إليها مع الحكومة الإسرائيلية وبين شرعية استمرار المنظمة كمؤسسة وكإطار وطني، ملتزمة مع شعبها بقيادة النضال الوطني حتى العودة وتقرير المصير وبناء الدولة المستقلة، وملتزمة بتنظيم المقاومة بكل أشكالها ضد جيش وسلطات الاحتلال، وخصوصاً في المناطق التي لم يتم الانسحاب منها، وهي الأكبر من حيث المساحة والسكان. فالاتفاقات تلزم المنظمة والسلطة بوقف التعبئة والحملات العدائية ضد إسرائيل، وبوقف العنف بكل أنواعه ضد قوات الاحتلال، وبالحفاظ على أمن إسرائيل والإسرائيليين، بما في ذلك المستوطنات والمستوطنون المقيمون بصورة غير شرعية على الأراضي الفلسطينية، وبمعاقبة جميع الأفراد والجماعات الذين يمارسونه، في وقت لم تقدم هذه الاتفاقات حلولاً مرضية للشعب الفلسطيني ولم تعالج قضاياه الأساسية – اللاجئون، القدس، الحدود، النازحون، المستوطنون والمستوطنات، والقضايا الأمنية... إلخ.
- صعوبة التوفيق بين متطلبات نهوض السلطة الوطنية بمهمة بناء مؤسساتها المدنية والعسكرية وبمهماتها الأمنية والاقتصادية في غزة – أريحا وباقي مناطق الضفة الغربية وبين متطلبات الحفاظ على مؤسسات م.ت.ف. وعلى دورها كإطار وطني قيادي لكل الشعب يضم قوى متعددة متعارضة ومتنافسة في مواقفها من القضايا الجوهرية، ومن ضمنها اتفاق "إعلان المبادئ" الذي مكن المنظمة من تشكيل السلطة. فهناك من يشارك في السلطة وراض عن تشكيلتها، وهناك من يقف مع عملية السلام لكنه لا يشارك في السلطة، وبعضه ما زال داخل المنظمة وخارج السلطة، والبعض الآخر خارج المنظمة ويعارض اتفاق أوسلو ويعمل على إطاحته بالسبل كلها، ويرفض المشاركة في السلطة الوطنية ويتمنى لها الفشل، ويسعى لتفشيلها حيث استطاع إلى ذلك سبيلاً.
- صعوبة تنظيم الصلة وانتظام آلية العلاقة العملية الضرورية بين السلطة الفلسطينية الموجودة في قطاع غز – أريحا وبين مؤسسات م.ت.ف. (لجنة تنفيذية، مجلس مركزي، مجلس وطني، وصندوق قومي) الموجودة في "الخارج"، والمسؤولة رسمياً عن توجيه ومراقبة ومحاسبة هذه السلطة، ولا سيما أن قوات الاحتلال ما زالت مستمرة في التحكم بكل حركة فلسطينية من "الداخل" إلى "الخارج" ومن "الخارج" إلى "الداخل"، ناهيك بالحركة بين غزة – أريحا وبالعكس، بما في ذلك حركة وزراء السلطة، واستمرارها أيضاً في التحكم في حق منح أو منع الوجود والإقامة في غزة – أريحا، وللمستويات القيادية الفلسطينية كافة، بما في ذلك أعضاء اللجنة التنفيذية وأعضاء المجلسين المركزي والوطني.
أعتقد أن هذه المشكلات الموضوعية مرشحة للبقاء وللتوسع أكثر فأكثر في الشهور المقبلة، لا سيما أن التجربة العملية ومسار الأحداث أكدا أن اتفاق أوسلو لم يوصل إلى الحل الذي كان ينتظره الفلسطينيون، ومسار المفاوضات منذ أوسلو حتى الآن لم يشجعهم على اعتماد هذا المسار كطريق وحيد كفيل بأن يوصلهم إلى الخلاص من الاحتلال ويعيد لهم حريتهم وكرامتهم. وكلا العنصرين، أوسلو والمفاوضات، لم يقنع الشعب الفلسطيني حتى الآن باعتماد السلطة الوطنية وارثاً كاملاً لمنظمة التحرير يمكن الاعتماد عليه في تحقيق الأهداف الوطنية التي من أجلها قامت منظمة التحرير. وإضافة إلى ذلك، فمعالجة بعض هذه المعضلات الموضوعية لاتتوقف على رغبات الفلسطينيين وحدهم، ويدرك الجميع أن الموقف الإسرائيلي ما زال هو الحاسم في معظمها إن لم يكن في كلها، وأن عدم مبادرة أي من الجسمين القياديين إلى معالجة هذه المشكلات الموضوعية يساعد في تفاقمها واتساع آثارها على دورهما وعلاقتهما.
ثانياً: الاستعجال في إماتة المنظمة لم يقوّ السلطة
منذ تشكيل السلطة الفلطسينية حتى الآن، لم يصدر عن أي مسؤول فلسطيني تصريح رسمي يمس وجود م.ت.ف. أو ينتقص من دور أي من هيئاتها التشريعية أو التنفيذية. غير أن كل من يدقق في أوضاع م.ت.ف. منذ تشكيل السلطة الفلسطينية حتى الآن، وفي المهمات التي تقوم السلطة الفلسطينية بها كهيئة وكأفراد، يستطيع أن يخرج باستنتاج رئيسي خلاصته أن السلطة الوطنية الفلسطينية تصدرت قيادة العمل الوطني الفلطسيني الرسمي وأنها، بغض النظر عن النيات، حلت محل منظمة التحرير وسلبتها معظم مهماتها وشلت حركتها. فهي التي تولت إدارة المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، وهي التي تولت أيضاًٍ متابعة العلاقات الفلسطينية – العربية والفلسطينية – الدولية. وقد أعطت نفسها منذ اليوم الأول لتشكيلها حق تجاوز اللجنة التنفيذية، التي هي مرجعيتها الوحيدة. فقرار المجلس المركزي نص على تكليف اللجنة التنفيذية تشكيل السلطة الوطنيةـ إلا إن هذا القرار سرعان ما تبخر. وبعض أعضاء اللجنة التنفيذية عرض أسماء وزراء السلطة الفلسطينية بعد تعيينهم، وسمع خبر تشكيل السلطة من الصحف والإذاعات. وحتى هذه اللحظة، ما زال مجلس الوزراء الفلسطيني غير مستكمل، والمستنكفون والمستقيلون من السلطة لم يجر تعيين بدلاء منهم. ولم يبادر أحد من الوزراء أو من أعضاء اللجنة التنفيذية إلى إثارة الموضوع، ولو من باب الاستفسار وحب المعرفة والاستطلاع. والكل يعرف أن السلطة الفلسطينية بادرت مشكورة في أول اجتماع لها يطرح برنامجها وخطة عملها في بيان علني، إلا أن أعضاء المجلس المركزي قرأوه في الصحف بعدما تناقلته وكالات الأنباء.
ولا مبالغة في القول إن المنظمات أصبحت، بعد أقل من عام واحد من تشكيل السلطة، مشلولة وشبه مقعدة، وعاجزة عن القيام بأبسط المهمات المسندة إليها، وإنها تمر الآن بمرحلة الاحتضار التنظيمي والسياس؛ فالانقسام السياسي العميق الذي كان ينخر جسمها قبل تشكيل السلطة استفحل وتعمق بعد التشكيل. وجميع مؤسساتها الشرعية الرسمية تعاني تآكلاً داخلياً وتغييباً لدورها. ولعل عدم عقد أي اجتماع لأي من هيئاتها التنفيذية (لجنة تنفيذية ومجلس مركزي) منذ قرابة عام من الزمن، وعدم عقد المجلس الوطني الفلطسيني منذ أكثر من ثلاثة أعوام خير شاهدين على ذلك. وأظنه أمراً بالغ الدلالة والخطورة، لا سيما أن هذه الهيئات هي المرجعية للسلطة الفلسطينية، وهي المسؤولة عن معالجة قضايا وهموم نصف الشعب الفلسطيني المقيم خارج الضفة والقطاع. وهي المسؤولة رسمياً أيضاً عن قيادة وإدارة العلاقات الفلسطينية العربية الرسمية والشعبية، وعن تنظيم علاقة الشعب الفلسطيني بكل دول وشعوب العالم.
وبغض النظر عن النيات، فالواضح أن ما جرى من خلط متعمد ومقصود بين مهمات الوزارة والوزراء وبين مهمات اللجنة التنفيذية كهيئة وكأفراد، أبقى الكثير من المهمات الوطنية الكبرى مهملة، لا تجد من يهتم بها ويتابعها ومن يتحمل مسؤوليتها. ولعل تراجع العلاقات الفلسطينية – العربية والعلاقات الفلسطينية – الدولية، وعدم متابعة قضايا الفلسطينيين في الخارج خير دليل على ذلك؛ فلا الوزراء من أعضاء اللجنة التنفيذية قادرون على تحمل مسؤوليات إضافية لمهماتهم اليومية الكبيرة والمعقدة المطلوبة منهم في الضفة والقطاع، ولا الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل تسمح لهم ولجميع الوزراء الآخرين إن هم حاولوا ذلك. أما أعضاء اللجنة التنفيذية من غير الوزراء فهم موزعون بين مستقيلين عن العمل ومنتظرين وصول موازنة دوائرهم. أما دوائر وسفارات منظمة التحرير، فقد فقدت هي الأخرى، منذ تشكيل السلطة، من يتابعها، وحرمت من إمدادها بالمستلزمات الضرورية لعملها. وأظن أننا في غنى عن سوق الشواهد على ذلك، فهي كثيرة، ولا ضرورة لسرد ما يعانيه سفراء ومديرو مكاتب م.ت.ف. وجميع العاملين في سفارات فلسطين منذ تشكيل السلطة الفلسطينية. أما الاتحادات الشعبية (العمال، الطلاب، المعلمون، الفلاحون... إلخ) فأصبحت تعاني تفككاً في هيئاتها، وتشتت أعضاء أماناتها، ولم تعد تجد من يلملم أوضاعها. والمعلومات الواردة من غزة – أريحا تفيد بأن الأغلبية العظمى من أمنائها العامين ومن أعضاء أماناتها تم استيعابها في وزارات السلطة الوطنية الشعبية، وأصبحت وكلاء وزراء أو مديرين عامين أو مديرين ورؤساء أقسام في مختلف الوزارات الفلسطينية، وبأن عملية الاستيعاب والتعيين طاولت بعض السفراء أيضاً. وتم ذلك كله قبل أن تنتخب الاتحادات بدائل من المعينين، ومن دون أن يتم تعيين سفراء بدلاً من المستوعبين في الوزارات، وكأن وظائفهم ومهماتهم في اتحاداتهم ومنظماتهم الجماهيرية وسفاراتهم انتهت، أو أن هناك من يفكر في دمج هذه المنظمات الشعبية في أجهزة السلطة، بما في ذلك الأمن والشرطة.
لا شك في أن خطوات وإجراءات كهذه سارعت، وتسارع في تدهور أوضاع م.ت.ف. وفي تجويفها وتحويلها إلى شيء آخر غير الذي قامت من أجله وعلى أساسه. وبغض النظر عن النيات والرغبات الذاتية، فاستمرار العمل وفقاً لهذا المنهج يعجل في وفاة منظمة التحرير، وعندها لن يكون العالم حريصاً على بقاء م.ت.ف. في قيد الحياة.
وأظن أن تدهور أوضاع المنظمة واهتراءها وشلها عن الحركة وتعطيل عمل مؤسساتها، كل ذلك أضعف السلطة الوطنية في نظر الشعب الفلسطيني، ولم يزدها قوة في مواجهة الإسرائيليين، ولم يساعدها في الحصول على ما وعد به كثير من دول العالم. وأعتقد أن كثرة الحديث الفلسطيني عن فشل السلطة الفلسطينية في إدارة المفاوضات مع الإسرائيليين، وعن فشلها في بناء المؤسسات الضرورية لتطوير المجتمع المدني الفلسطيني، وعن فشلها في إحداث تغيير جدي في حياة الناس في غزة – أريحا، شاهد حي على ذلك، ونتيجة منطقية وطبيعية لعدم توفر عنصر الكفاءة والاختصاص، ولغياب المرجعية السياسية والتنظيمية التي توجه وتراقب وتحاسب السلطة من جهة، وتتحمل بعض المسؤولية عنها أو معها من جهة أخرى. ولا مبالغة في القول إن السلطة الفلسطينية تسير منذ انطلاقها بلا أي رقيب أو حسيب على عملها، وإنها شقت لنفسها طرقاً وعرة، واختارت السير على طرق غير مأمونة وليس مؤكداً أنها هي الموصلة إلى بر السلامة والأمان. فهي باختيارها السير بلا رقيب أو حسيب، وبعيداً عن عيون مؤسسات م.ت.ف.، وبمصادرتها بعض المهمات الأساسية الملقاة أصلاً على كاهل المنظمة والمعتبرة من اختصاصاتها، حرمت نفسها وجود القوة المساعدة والركيزة الضرورةي اللتين يمكنها الاستعانة بهما والاستناد إليهما عند الضرورة وفي اللحظات الصعبة. وقد حمّلها ذلك أعباء إضافية هي في غنى عنها، وألقى على كاهلها بعض الأوزار التي لا تستطيع حملها مهما تبلغ قوتها وشعبيتها، ولم يوفر لها الغطاء والملجأ اللذين يمكنها اللجوء إليهما والاحتماء بهما عند هبوب العواصف والرياح القوية، كالتي تهب الآن على العلاقات الفلسطينية – الإسرائيلية، وعلى العلاقات الفلسطينية – الفلسطينية.
إن محاولة تقصي الأسباب والدوافع التي قادت المنظمة والسلطة إلى هذه الأوضاع تؤدي إلى الاستناج التالي: إن ما حدث حتى الآن تم معظمه بفعل عوامل ذاتية فلسطينية، وستكون له انعكاساته على مجمل أوضاع المنظمة وعلى علاقتها المستقبلية بالسلطة، وقد تم إما بفعل واع ومدروس وإما بفعل أخطاء في التفكير في منهج العمل. وفي هذا السياق، لعل من المفيد القول أيضاً إن أركان السلطة الفلسطينية مخطئون إن هم اعتقدوا أن التسريع في إماتة المنظمة يمنح الحياة للسلطة ويطيل عمرها ويعزز مكانتها.
ثالثاً: انتفاء مبرر وجود المنظمة رهن بقيام الدولة لا السلطة
إن من يدقق في اتفاق أوسلو بصورة موضوعية يمكنه رؤية بعض النصوص التي تمس جوهر المنظمة وأسس مكوناتها. فاتفاق أوسلو يفرض على قيادة م.ت.ف. والسلطة الوطنية الفلسطينية شطب جميع بنود ميثاق المنظمة التي تنص على تدمير دولة إسرائيل، وجميع النصوص الأخرى التي تتعارض مع ما ورد في الاتفاق الفلسطيني – الإسرائيلي وملاحقه. وخلال مفاوضات اللحظة الأخيرة، التي سبقت توقيع الاتفاق، أكدت قيادة المنظمة أن شطب هذه البنود ممكن، وتعهدت بشطبها خلال عام من تاريخ توقيع الاتفاق، والتزمت عقد دورة جديدة للمجلس الوطني الفلسطيني خلال عام واحد للقيام بهذه المهمة، باعتبار أن المجلس هو الجهة التشريعية الوحيدة المخولة بذلك.
ومنذ اللحظة الأولى من إعلان هذه النصوص، اهتزت بنية المنظمة وعلاقات القوى المكونة لها هزة عنيفة تختلف عن جميع الهزات التي تعرضت لها على امتداد تاريخ وجودها. صحيي أن ميثاق المنظمة كبر وشاخ منذ فترة طويلة، وكا بحاجة ماسة إلى التعديل والتجديد قبل اتفاق أوسلو بأعوام، وأن كثيراً من قرارات المجلس الوطني أجري بعض التعديلات عليه عملياً، وتم ذلك بموافقة الأغلبية الساحقة من أعضاء المجلس، وأن رئيس اللجنة التنفيذية وصفة سنة 1988 بأنه أصبح "كادوك"، أي، عفا عليه الزمن... إلخ.، فإن من يدقق في القضايا المطلوب شطبها من الميثاق وفقاً لاتفاق أوسلو يستطيع القول إنها تنسف الميثاق برمته.
أعتقد أنه لا يوجد خلاف فسطيني بشأن أن منظمة التحرير وجدت لتوحد قوى الشعب الفلسطيني في إطار واحد. وأن شعب فلسطين تمسك بها على مدى ثلاثين عاماً، ودافع عنها ببسالة، وحماها من الشطب والتدمير، وقدم من أجل ذلك تضحيات جسيمة، لكونها الإطار الذي جسد هويته وقاد نضاله من أجل تحقيق أهدافه في العودة والدولة المستقلة. وأظن أنه لا يوجد خلاف أيضاً بشأن أن تحقيق هذه الأهداف الوطنية الكبرى ينهي حاجة الشعب الفلسطيني إلى هذا الإطار السياسي، ويفقد المنظمة المبررات التي من أجلها وجدت. والشيء ذاته ينطبق على الميثاق الوطني الفلسطيني الذي أحيط بهالة مقدسة. فالميثاق ليس سوى وثيقة صاغها فلسطينيون في مرحلة سابقة من أجل تحديد أهداف الشعب بدقة، ولتوحيد رؤيته وتعبئة قواه من أجل تحقيق هذه الأهداف، وتحقيقها يزيل القدسية عن هذه النصوص ويحولها إلى أوراق تستحق أن توضع في متاحف التاريخ. وأظن أن السؤال المطروح على الشعب الفلسطيني وعلى مجلسه الوطني ليس شطب الميثاق، بل متى وكيف يتم ذلك؟ وهل حان وقت ذلك الآن؟ وهل حان وقت التحلي عن منظمة التحرير كإطار وكممثل للشعب الفلسطيني واعتماد السلطة الوطنية وبرنامجها بديلاً من المنظمة وميثاقها؟
أعتقد أن المسؤولية الوطنية تفرض على كل وطني فلسطيني الإقرار بأن السلطة الوطنية الحالية، أو المعدلة والمطورة، لا يمكنها أن تكون البديل من المنظمة حتى انتهاء المرحلة الانتقالية، التي نص عليها اتفاق "إعلان المبادئ" الذي تم التوصل إليه في أوسلو فجر يوم 19 آب/أغسطس 1993؛ فالسلطة الوطنية الفلسطينية سلطة انتقالية لحكم ذاتي محدود لجزء من الشعب الفلسطيني المقيم في الضفة الغربية وقطاع غزة. وبحسب نص الاتفاق، فإن فترتها الانتقالية ستمتد خمسة أعوام على الأقل. أما تجربة ثلاثة أعوام من المفاوضات الفلسطينية والعربية – الإسرائيلة، منها عام ونصف عام بعد اتفاق أوسلو، فتؤكد أن الفترة الانتقالية مرشحة لأن تطول، وعدد الأعوام الخمسة مرشح للازدياد، لا سيما أن الإسرائيليين مقدمون على الانتخابات، ولا يمكن لأحد التنبؤ بنتائج هذه الانتخابات. كما لا يمكن التنبؤ سلفاً بمصير المفاوضات بشأن قضايا المرحلة النهائية التي نص اتفاق أوسلو عليها، وذلك في حال فوز حزب الليكود في هذه الانتخابات. فهذا الحزب ينادي صباح مساء بإلغاء المرحلة النهائية، ويؤمن بأن الضفة الغربية أرض إسرائيلية لا يجوز التفريط فيها بأية حال من الأحوال.
وإلى جانب هذا وذاك من الاحتمالات، فالسلطة الفلسطينية غير مسموح لمسؤولياتها بأن تطاول بعض المجالات، مثل العلاقات السياسية الخارجية وشؤون الدفاع. وهي، لا عتبارات كثيرة ومتنوعة، لا يمكنها تمثيل الفلسطينيين المشتتين في بقاع الأرض أو الدفاع عن قضاياهم. ويخطئ كل من يعتقد أن في إمكان السلطة الفلطسينية ومؤسساتها أن تصبح بيتاً يتسع لجميع الفلسطينيين ولك قواهم وكل اتجاهاتهم السياسية والفكرية. بعد توقيع اتفاق الاعتراف المتبادل قال بعض أركان القيادة الفلسطينية إن منظمة التحرير التي نعرفها انتهت، والمصلحة الوطنية تفرض تأجيل إعلان الوفاة رسمياً إلى حين شطب الميثاق في احتفال رسمي للمجلس الوطني. وانطلاقاً من ذلك كله، يمكن القول إن وقائع الحياة منذ اتفاق أوسلو أكدت أن القيادة الفلسطينية ارتكبت خطأين كبيرين، الأول عندما توهم بعض أركانها، بعد التوقيع، بأن عملية السلام ستسير بصورة طبيعية، ووفقاً للنصوص والتواريخ التي وردت في الاتفاقات التي وقعت مع الإسرائيليين في أوسلو وباريس والقاهرة، والثاني عندما فكروا وتصرفوا على أساس هذه الاتفاقات تفرز ضمناً الانتهاء المتدرج للدور الذي كانت المنظمة تقوم به، وأن السلطة الفلسطينية قادرة على أن تكون فوراً البديل والوارث الشرعي لمنظمة التحرير، وعندما اعتقدوا أن المصلحة الوطنية تفرض تدارك الأمور قبل الوصول إلى فراغ في القيادة الشرعية، وعجلوا بتحضير وتهيئة هذا البديل، على أمل تمكينه من البدء في ملء الفراغ أولاً بأول، وتسلم الإرث والراية من منظمة التحرير.
نحو علاقات صحية بين الجسمين على أسس صحيحة
بعد هذا العرض لبعض المظاهر الأساسية للإشكالات الذاتية والموضوعية التي تواجهها علاقة السلطة الوطنية بمنظمة التحرير، أعتقد أننا لا نذيع سراً ولا نضيف جديداً إذا قلنا إن العلاقة بين الجسمين ولدت بصورة غير طبيعية، وترعرعت عشرة شهور كاملة في ظل أجواء مأرومة غير صحية وغير سليمة.وإذا كان من غير المفيد وطنياً الغوص الآن في تحديد المسؤولية عن ذلك، والإصرار على محاسةب الفاعلين، فأظن أن إلقاءها على كاهل الاحتلال وعلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي خلفها وراءه في غزة – أريحا لا يساعد في معالجة الموضوع إطلاقاً، بل يعمق الصراع بين الجسمين القياديين، ويزيد في الأضرار التي لحقت بالقضية الوطنية نتيجة هذه العلاقة. صحيح أن الاحتلال وميزان القوى الدولية والإقليمية ليسا بريئين تماماً من المعضلات والمشكلات الذاتية والموضوعية التي واجهتها وتواجهها علاقة السلطة الوطنية بمنظمة التحرير، لكن صحيح أيضاً أن تحويلهما إلى مشجب تعلّق القيادة الفلسطينية جميع أخطائها وتقصيراتها عليه سيدفع بالتناقض القائم بين السلطة والمنظمة إلى ذروته، وقد يؤدي إلى المزيد من الانفجارات والتشرذمات الداخلية.
وعملاً بالحكمة الشعبية القديمة القائلة إن "إيقاد شمعة مرة خير من شتم الظلام ألف مرة"، أعتقد أن المصالح العليا للشعب الفلسطيني تفرض على قيادة م.ت.ف. وعلى السلطة الوطنية الفلسطينية الإسراع في وضع "خطة إنقاذ وطنية" قادرة على تدارك التدهور القائم في الأوضاع الوطنية الفلسطينية العامة، وفي أوضاع منظمة التحرير وأوضاع السلطة الوطنية الفلسطينية، والإسراع في إعادة النظر في بعض المفاهيم التي تحكمت في رسم التوجهات منذ توقيع اتفاق وإعلان المبادئ" والعمل باتجاه:
- إعادة الاعتبار إلى المنظمة وتفعيل مؤسساتها
بعد تفاقم التدهور في أوضاع م.ت.ف.، ارتفعت في مطلع هذا العام أصوات كثيرة في الأوساط السياسة الفلسطينية الحزبية وغير الحزبية، تدعو إلى ضرورة إحياء دور م.ت.ف.، وضرورة العودة إلى مؤسساتها التشريعية والتنفيذية (لجنة تنفيذية، مجلس مركزي، مجلس وطني) لمراجعةعمل السلطة الوطنية الفلسطينية، ومراجعة مسيرة المفاوضات منذ دخول السلطة إلى غزة – أريحا.
ويستطيع كل متابع للمواقف الفلسطينية أن يرى أن المطالبة بإحياء دور م.ت.ف. لم تعد محصورة في القوى الفلسطينية التي تحفظت أو عارضت اتفاق أوسلو، أو تلك التي عارضت عملية السلام برمتها، بل اتسعت وباتت تشمل الفصائل الأساسية (حركة فتح، حزب الشعب الفلسطيني، حزب فدا، جبهة النضال الشعبي الفلسطيني) والكثير من الشخصيات الوطنية المستقلة التي أيدت عملية السلام وأيدت اتفاق أوسلو. ويمكن القول إن التيار المنادي بإعادة إحياء دور منظمة التحرير وتجنيبها خطر الانهيار وإنقاذها من الدمار أصبح يتكون الآن من أغلبية قيادات هذه الفصائل، بما في ذلك بعض من كان متحمساً لتوسيع صلاحيات السلطة الفلسطينية على حساب المنظمة، ومن كان مندفعاً باتجاه دمج مهمات وصلاحيات المنظمة في مهمات وصلاحيات السلطة الوطنية. وإذا جردنا مطلب إحياء دور المنظمة من بعض الشروط المسبقة وغير الواقعية التي تضعها المعارضة الفلسطينية (الفصائل العشرة)، مثل إلغاء اتفاق أوسلو والانسحاب من عملية السلام كلها، فإنه يصبح بمثابة القاسم المشترك بين جميع القوى والفصائل الفلسطينية، باستثناء حركة "حماس" التي لها رؤيتها الخاصة في موضوع منظمة التحرير، حيث أنها لا تقر حتى الآن بأن م.ت.ف. هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وتطرح نفسها بديلاً.
أعتقد أن تحميل السلطة الفلسطينية المسؤولية الكاملة عن تدهور أوضاع المنظمة، وعن إصابتها بمرض الشلل الكلي، فيه بعض التجني على السلطة وتبرئة لذمة شركاء آخرين في المسؤولية، ناهيك بكونه لا يعطي كامل الصورة عن الأزمة القاتلة التي تعيشها م.ت.ف. فالمعروف أن الأزمة موجودة قبل فترة طويلة من تشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية. صحيح أنها تفاقمت وأخذت منحى التصفية والتشطيب بعد تشكل السلطة، غير أن موضوعية التقويم تفرض عدم تجاهل فعل الأمراض الأخرى المصابة بها منذ فترة زمنية طويلة. فأمراض الهيمنة الفصائلية، وغياب الديمقراطية عن حياتها اليومية، وبقرطة مؤسساتها وتحويلها إلى مؤسسات نفعية ومصدر روق لعشرات الألوف من الكوادر التي تعيش بطالة غير مقنعة، ووقوع قيادتها في الكثير من الأخطاء السياسية الاستراتيجية ...إلخ ساهمت في إيصالها إلى الحال التي تعيشها الآن، وفي إحاطتها بسور من العزلة العربية، وفتح هوة واسعة بينها وبين شعبها. ولا نظلم أحداً إذا قلنا إن جميع الفصائل من دون استثناء (معارضة وسلطة)، تتساوى في المسؤولية عن زرع الأمراض المزمنة في جسم المنظمة. كما لا يمكن تبرئة المعارضين لعملية السلام ومؤيديها من مسؤولية تمكين السلطة الوطنية من الهيمنة على مهمات ومسؤوليات منظمة التحرير. فالواضح أن مقاطعة المعارضة وتجميدها لمشاركتها في مؤسسات المنظمة، قد سهلا على البعض تنفيذ توجهاته، ومكنا السلطة من الهيمنة بسرعة وبسهولة وبلا أية مقاومة تذكر، وحرم المنظمة جهداً كانت وما زالت بأمس الحاجة إليه.
وإذا كان واقع الفصائل والحركات والأحزاب الفلسطينية يجعل الاستنجاد بها لإنقاذ المنظمة عملية غير فعالة وغير مضمونة النتائج، فإن الواقع الفلسطيني الراهن، والوضع الوطني العام، وتركيبة المنظمة تجعل من اللجوء إلى الفصائل المكونة للمنظمة أمراً لا مفر منه، من الآن وحتى إنجاز انتخابات وطنية. والظاهر أن تحقيق هذا الأمر سيستغرق وقتاً طويلاً، وسيقتضي صراعاً مريراً وطويلاً مع الذات ومع الإسرائيليين. فليست الأصوات التي نسمعها تنادي كلها الآن بضرورة إجراء الانتخابات أصواتاً جادة؛ فهناك عدد من القياديين الفلسطينيين ضد إجراء الانتخابات قبل الانتهاء من مفاوضات المرحلة النهائية؛ وهناك من يخشى على المجلس الوطني الفلسطيني غير المنتخب من الشعب مباشرة من وجود مجلس فلسطيني ينتخبه قسم من الشعب،حتى ولو كان تمثيله مقصوداًعلى سكان الضفة والقطاع.
وفي سياق البحث عن المخرج الوطني وإنقاذ أوضاع م.ت.ف. وتفعيل مؤسساتها، أعتقد أنه لا بد من أن يعود إلى العمل جميع المستقيلين والمستنكفين والمجمدين لأوضاعهم في اللجنة التنفيذية، أكانوا مؤيدين أم معارضين لعملية السلام ولاتفاق أوسلو، ودعوة اللجنة إلى اجتماع يحضره الجميع، يكرس للبحث في سب إنقاذ م.ت.ف. من الغرق، وإعادة الاعتبار إلى مؤسساتها. لقد أكدت وقائع حياة السلطة الفلسطينية أن إمكان انتظام آلية اجتماعات الهيئات القيادية الفلسطينية ممكن إذا توفرت الإدارة والرغبة في ذلك. وأعتقد أن الحرص على انتظام الاجتماعات الدورية الثابتة للسلطة الوطنية يبقى ناقصاً إذا لم يوازه حرص مشابه بشأن انتظام اجتماعات التنفيذية. كما أكدت الوقائع أن دخول أعضاء اللجنة التنفيذية الوزارة لم يكن مصدر تنشيط وتفعيل للسلطة الوطنية بمقدار ما كان مصدر تهميش للجنة التنفيذية، ومصدر تعطيل لدخول عدد من الكفاءات والمستقلين، ومصدر تضييق للقاعدة الشعبية للسلطة الوطنية الفلسطينية.
إن الإقدام على هذه الخطوات وما شابهها يتطلب، ولا شك، الانطلاق من وضع المصالح العليا للشعب فوق جميع الاعتبارات الأخرى، والعض على الخروج وتجاوز جميع الاعتبارات الذاتية والحزبية والشخصية. فخروج أعضاء اللجنة التنفيذية من السلطة، وعودة الأعضاء المستقيلين والمستنكفين الآن إلى اللجنة التفيذية مهمتان وطنيتان من الطراز الأول إذا أريد إنقاذ المنظمة وتفعيل دورها. فبالخروج يتم الفصل بين مهمات اللجنة التنفيذية ومهمات السلطة، وتتحول اللجنة التنفيذية إلى مرجعية جدية وتتوفر المبررات التنظيمية لانتظام اجتماعاتها، وبعودة المستقيلين والمستنكفين يتم حشد القوى العادية بالحفاظ على حياة ودور المنظمة، وعكس ذلك صحيح أيضاً. وتخطئ المعارضة الفلسطينية، ومعها الآخرون المستنكفون عن العمل في اللجنة التنفيذية وفي مؤسسات المنظمة، إن هم اعتقدوا أنهم بمقاطعتهم واستنكافهم يعاقبون السلطة الفلسطينية، ويساهمون في وقف التدهور الجاري في أوضاعها؛ فالأمور تقاس بنتائجها، والنتائج الملموسة تؤكد أن القضية الوطنية كانت الخاسر الأكبر من مقاطعتهم واستنكافهم، وأن المنظمة كانت المعاقب الأول. وإذا كان مفهوماً أن يكون لهذا الحزب أو ذاك الفصيل المعارض لعملية السلام، أو تلك الشخصية الوطنية المؤيدة لاتفاق أوسلو، موقف من المشاركة في الوزارة الفلسطينية (السلطة)، فمن غير المقنع وغير المفهوم إطلاقاً استمرارهم في تجميد مشاركتهم وتجميد أدوارهم في هيئات المنظمة، أو الانسحاب من لجنتها التنفيذية، إلا إذا كانوا مقتنعين، بأن دور المنظمة انتهى، ولم يعد هناك مبرر لوجودها. فالمناداة بإحياء دور المنظمة وتفعيل مؤسساتها تتناقض كلياً مع نهج المقاطعة وسياسة الاستنكاف، كما تتناقض مع المفهوم الصحيح للديمقراطية، وخصوصاً جانبها المتعلق بتنظيم صراع القوى الؤتلفة والمختلفة فيما بينها (السلطة والمعارضة) في الإطار التنظيمي الواحد. إن افتقار الساحة الفلسطينية، فصائل وأحزاباً ومنظمة تحرير، إلى تجربة العمل الديمقراطي الحقيقي، وتشوه وتشويه بعض مفاهيمها، والتعامل بصورة موسمية وانتقائية معها، كل ذلك ساهم إلى حد بعيد في شل دور المنظمة، وعطل حشد جميع طاقات الشعب في بناء مؤسساته الوطنية وفي مواجهة الاحتلال.
إضافة إلى ذلك، أعتقد أن المصلحة الوطنية العامة، وإنقاذ م.ت.ف. يفرضان دعوة المجلسين المركزي والوطني إلى الانعقاد في أسرع وقت ممكن؛ فليس من الحكمة أبداً عدم دعوة المجلس المركزي إلى الانعقاد منذ أكثر من عام ونصف عام (10/10/93)، ولا يمكن فهم هذا الموقف سوى أنه هروب من المحاسبة والمراقبة، وأنه الترجمة العملية لاقتناع البعض بأن م.ت.ف. فقدت مبررات وجودها الفعّال بعد تشكيل السلطة الوطنية. وبغض النظر عن شكلية الدور الذي كان هذا المجلس يقوم به قبل تشكيل السلطة، فإن تعطيل اجتماعاته أضعف دور المنظمة، وأضعف الوحدة الوطنية، وقلص إمكان البحث عن سبل عقد مصالحة وطنية مع المعارضة وسبل تنظيم العمل معها في ظل الإقرار بالاختلاف معها. وأعتقد أن تعطيل بحجة الخلاف بشأن مكان الاجتماع – غزة أو تونس – ليس سوى هروب من عقد الاجتماع وقد كان، وما زال في الإمكان حله ببساطة لو صدقت المواقف وتوفر الاقتناع الحقيقي والرغبة الجدية في دعوته إلى الاجتماع، وذلك بإعطاء أعضائه حق تقرير هذه المسألة الشكلية. ولا أظن أن عضواً واحداً في المجلس المركزي يرفض انعقاد اجتماعات هذه الهيئة القيادية الفلسطينية أو أية هيئة أخرى فوق تراب الوطن، إذا تأمنت الشروط الضرورية لانعقاد مثل هذه الاجتماعات، وفي مقدمها حرية وصول أعضاء المجلس إلى مكان الاجتماع.
وما يقال بشأن انعقاد المجلس المركزي يمكن قوله أيضاً بشأن انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني. وأعتقد أن القيادة الفلسطينية أضاعت أكثر من فرصة سياسية توفرت فيها شروط انعقاد أعلى سلطة تشريعية فلسطينية. وأعتقد أن الفرصة والشروط متوفرة الآن، وستبقى متوفرة حتى الانتخابات الإسرائيلية. فعدم التزام الجانب الإسرائيلي تنفيذ الاتفاقات التي وقعها مع م.ت.ف. ومع السلطة الوطنية يشكل مبرراً كافياً لتجاهر القيادة الفلسطينية واللجنة التنفيذية والسلطة الوطنية بالموقف الحقيقي القائل إن انتهاء دور المنظمة وإلغاء ميثاقها ممكنان فقط عند قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على جميع الأراضي الفلسطينية التي احتلت سنة 1967، وبعد الاتفاق على حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، ومشكلة القدس. وفي إمكان المجلس ذاته أن يعلن عند انعقاده، مثلاً، موافقته على إلغاء ميثاق م.ت.ف.، وإتمام مصالحة تاريخية مع إسرائيل بعد توصل المنظمة إلى اتفاق عادل وشامل مع الحكومة الإسرائيلية بشأن جميع قضايا الصراع. وفي وسعه تحديد هذه القضايا وتحديد المفهوم الفلسطيني لحلها. أما الاستمرار في التهرب من إعلان مثل هذا الموقف الفلسطيني، والهروب من مواجهة الحقيقة ومن وضع القيادة الإسرائيلية أمامها، فأظن أنها تعني من الناحية العملية اعتبار الدورة التي عقدها المجلس الوطني في خريف سنة 1991 آخر دورة في حياة أعلى سلطة تشريعية فلسطينية. ومن الخطأ الاعتقاد أن مثل هذا الموقف يساعد في تنفيذ الاتفاقات التي توصل الطرفان إليها حتى الآن، أو أنه يساعد في تحقيق تقدم جديد والتوصل إلى اتفافات جديدة.
- إنجاح السلطة الوطنية وتحسين أدائها
بمعزل عن المواقف المؤيدة والمواقف المعارضة لاتفاق أوسلو، فلا أحد يستطيع إنكار أن إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية شكلت امتحاناً مصيرياً لفكر وطاقات وخبرات الفلسطينيين وقدرتهم على إدارة شؤونهم بأنفسهم، وعلى بناء أول سلطة فلسطينية لهم على أجزاء من أرضهم. وفي حينه كان مفهوماً أن امتحان بناء وإدارة مؤسسات (الدولة)، وتنظيم حياة مجتمع مدني يضم ما يقارب المليون إنسان، لديهم طموحات وتطلعات كبيرة، أعقد وأصعب من قيادة الثورة ومن إدارة شؤون بضعة آلاف من الكوادر العسكرية والمدنية. وكان واضحاً أن هذه السلطة تتوجه نحو مهمات في قطاع غزة وأريحا في ظل أوضاع بالغة الصعوبة والتعقيد، وأنها تنطلق في نقطة أعلى قليلاً من نقطة الصفر؛ فالإمكانات المتاحة قليلة، وخيرة القيادة الفلسطينية في هذا المجال محدودة، وإرث 27 عاماً من الاحتلال الاستيطاني ثقيل، والاقتصاد الفلسطيني مدمر، ومؤسسات الإدارة المدنية صممت لخدمة الاحتلال وأهدافه، واتفاق بروتوكولات القاهرة يتيح لسلطة الاحتلال التدخل في جميع جوانب عمل السلطة الفلسطينية.
وإلى جانب هذه المشكلات الموضوعية جاء تشكيل السلطة، وخصوصاً مزج مهماتها بمهمات اللجنة التنفيذية، وخلوها من عنصر الكفاءة والاختصاص، والصراع الفلسطيني بشأن اتفاق أوسلو، وتوتر العلاقات الفلسطينية مع بعض العرب، لتزيد الأمور تعقيداً، ولتضع على كاهل السلطة أعباء إضافية، ولتحملها إرث منظمة التحرير بوجهيه السلبي والإيجابي. ولاحقاً، جاءت وقائع المفاوضات التي أدارتها السلطة مع الإسرائيليين، وتعثر تنفيذ الشق الثاني من اتفاق أوسلو لتضغط على ذهن السلطة كهيئة وكوزراء، ولتجعل من المهمات السياسية، ولا سيما إدارة المفاوضات وتنظيم العلاقات مع الإسرائيليين وملاحقة الدول المانحة للمساعدات، مهمات ذات أولوية على سواها من المهمات التي تهم حياة الناس. ولهذاـ غرقت السلطة الفلسطينية في بحر من المشكلات التي أعاقت نهوضها بالمهمات والالتزامات التي أخذتها على عاتقهاـ والتي طرحتها في بيانها الأول الذي صدر عنها بعد انفضاض اجتماعها الأول. ثم جاءت التعيينات العشوائية والانتقائية ذات الصبغة الحزبية، لتزيد في طغيان الفصائلية على بنيان السلطة، ولتظهر العصبوية التنظيمية بأبشع صورها، ولتوسع الصراع بشأن السلطة بين الآتين من "الخارج" وبين المقيمين في أرض الوطن، وبين كوادر مختلف التنظيمات وكوادر التنظيم الواحد. جرى كل هذا، ويجري حتى الآن في وقت سئم الشارع الفلسطيني الفصائل والتنظيمات والأحزاب بصيغها وعلاقاتها وممارساتها السابقة، وبات يتطلع إلى أطر تنظيمية وأحزاب سياسية أكثر ديمقراطية وأقل بيروقراطية ودكتاتوريةــ لا سيما أن أياً من الفصائل والأحزاب المعروفة لم يحاول تجديد نفسه ودمقرطة أوضاعه، وأياً منها لم يحدث أي تعديل أو تغيير في أسسه التنظيمية، ولا في علاقاته الداخلية ولا في علاقاته بالناس. ولم يبادر أي منها إلى طرح برنامج يتلاءم مع متطلبات المرحلة الجديدة التي عبرها النضال الفلسطيني بعد أوسلو وبعد إقامة السلطة.
وعلاوة على الصراع بشأن السلطة، أثقلت التعيينات الواسعة جداً على كاهل السلطة الفلسطينية بأعباء مالية ضخمة، وشوشت صورتها في عيون شعبها، وفتحت هوة بينها وبين الناس في قطاع غزة والضفة الغربية، وفرضت على السلطة الفلسطينية إنفاق جميع وارداتها المحلية وجميع المساعدات المالية في مجالات غير منتجة. أما المصادمات الدموية، وأساليب المعالجة غير الديمقراطية التي اتبعتها السلطة في معالجة قضايا الخلاف مع المعارضة، والأحاديث الكثيرة عن الممارسات غير السلمية في مجالات متعددة، فقد أدت إلى تكوّن صورة لها في ذهن المواطن الفلسطيني غير بعيدة عن صورة الأنظمة العربية المتخلفة والدكتاتورية التي طالما انتقدها ورفضها نموذجاً لحكمه وسلطته.
وإذا كانت التجربة العملية القصيرة للسلطة تجعل من المبكر إطلاق أحكام نهائية على عملها وعلى آفاقه المستقبلية، فمراجعة ما تضمنه بياتها الأول تظهر أن السلطة لم تستطع تحقيق أية نقطة من نقاطه الرئيسية. والصورة التي تكونت عنها حتى الآن، فلسطينياً وعربياً ودولياً، ليست إيجابية إطلاقاً، وستزيد في تعقيد عملها في المستقبل القريب والمستقبل البعيد.
أمام هذه اللوحة السوداوية عن واقع السلطة الفلسطينية ومستقبلها، أعتقد أن الواجب الوطني ومصلحة الشعب الفلسطيني، ومصلحة صنع سلام عادل وشامل في المنطقة، تفرض على الوطنيين الفلسطينيين وعلى الحريصين على استقرار أوضاع المنطقة أن يبادروا إلى عمل الممكن لتدارك مخاطر فشل السلطة الفلسطينية وخطر انهيارها. إن تمني الفشل للسلطة الفلسطينية، أو العمل على إفشالها، أقل ما يمكن أن يقال فيه فلسطينياً هو أنه لا يخدم الهدف الوطين الفلسطيني في تأكيد قدرة الشعب الفلسطيني على أن يحكم نفسه بنفسه وأن يدير حياته بنجاح؛ ففشل تجربة السلطة الفلسطينية في قيادة غزة وأريحا فشل للفلسطينيين كافة.
وبالتمعن في أوضاع عمل السلطة وفي طبيعة المشكلات التي تواجهها، وفي نوعية الأمراض التي بدأت تنخر جسمها، ولا سيما مرض الانعزال عن شعبها وعن العرب، يصبح من الصعب الحديث عن حل سحري كمخرج فوري من المأزق الذي تيعشه الآن. أعتقد أن تدارك الأوضاع والشروع في تصحيحها، ومعالجة المشكلات التي تواجهها السلطة، أمر لا يمكن أن يتم بحقن جسمها ببعض المسكنات التي قد تضر ولا تفيد، وإنما يتطلب الإقدام على الكثير من الخطوات الوطنية العاجلة والجرئية، وإن كانت مؤلمة لبعض القوى ولبعض القيادات الفلسطينية. وأهم هذه الخطوات وأكثرها إلحاحاً:
- إعادة بناء السلطة على أسس جديدة، والإسراع في حل الوزارة، وإعادة تأليفها على أسس مغايرة، وتقليص نسبة الحزبيين لمصلحة العناصر الوطنية المستقلة، وخصوصاً أبناء الضفة والقطاع من ذوي الكفاءة والخبرة والاختصاص في المجال الاقتصادي والعمل المالي والتربوي والإداري، وممن يتمتعون بالثقة والصدقية في صفوف أهل الضفة وقطاع غزة، وفي الأوساط العربية والدولية، وعدم الجمع بين عضوية اللجنة التنفيذية وعضوية السلطة في جميع الأحوال، بما في ذلك رئاسة الوزارة.
- تحديد مهمات السلطة بدقة، وتخفيف الأعباء غير الضرورية عن كاهلها، بفك التداخل القائم بين مهماتها ومهمات اللجنة التنفيذية، وحصرها في إدارة الوظائف والمجالات المنوطة بها.
- وضع اللوائح والأنظمة التشريعية الكفيلة بتنظيم العلاقة بين السلطة، باعتبارها سلطة تنفيذية خاضعة لمحاسبة ومراقبة، وبين المؤسسات التشريعية في منظمة التحرير.
- تأليف وزارة لاستيعاب العائدين من الخارج، ووقف سياسة التعيينات العشوائية المعتمدة في ملء المراكز والوظائف الشاغرة في مؤسسات السلطة، وحصرها في حدود الملاكات الضرورية، لا أكثر، وإعادة النظر في فائض التعيينات التي تمت في ملاك الوزارات، وإحالة جميع المعينين كترضيات حزبية وخاصة على وزارة الاستيعاب لتأهيلهم وتشغيلهم في مجالات أخرى أكثر جدوى.
- وقف التضخم في ملاكات أجهزة الأمن وأجهزة الوزارات، والحرص على إقامة توازن بين الواردات والنفقات، وبين النفقات الجارية والإنفاق على بناء مؤسسات السلطة، وإقامة المشاريع الإنتاجية القادرة على امتصاص أقسام من البطالة، وزيادة الدخل القومي، والتنبه سلفاً لعدم إغراق الشعب الفلسطيني في الديون الخارجية.
- تحرير السلطة الفلسطينية من الضغظ المعنوي والعملي لعملية المفاوضات الطويلة والشاقة، ومن الابتزاز الشديد الذي يمارسه المفاوض الإسرائيلي، وحصر مهمة متابعة المفاوضات بمؤسسات منظمة التحرير. وغني عن القول إن إنجاز هذه المهمة الرئيسية يتطلب إحياء اللجنة العليا لمتابعة المفاوضات من الناحيتين الفعلية والعملية، وإعادة تأليفها بما يمكنها من متابعة جميع فروع المفاوضات الثنائية والمتعددة الأطراف، وتأليف الطواقم المفاوضة، وطواقم المستشارين، على أساس الكفاءة والخبرة والاختصاص.
المستقبل القريب لا يبعث على الأمل
بعد هذا العرض لإشكالية العلاقة بين السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، لعل من المفيد التذكير بأن القناعة الجماعية التابعة من وعي الشعب الفلسطيني كانت المحرك الرئيسي لنضال الشعب الفلسطيني على امتداد الأعوامل الـ 27 الماضية من أجل تحقيق أهدافه الوطنية، وهي التي دفعته إلى الالتفاف حول م.ت.ف. وحمايتها كممثل شرعي ووحيد له. وتخطئ السلطة الفلسطينية إن هي اعتقدت أن في إمكانها توحيد الشعب الفلسطيني المشتت في شتى أنحاء العالم حولها بالإغراء أو بالوعود أو بقوة الإكراه، وما شابه ذلك. فلا يمكنها بقوات الشرطة والمخابرات قيادة المرحلة والسيطرة على شعب نصفه فوق أرضه ونصفه الآخر خارجها. قد تستطيع ذلك موقتاً في غزة وأريحا، لكن ماذا بشأن الباقين؟ إن مهمة حشد طاقات الشعب الفلسطيني خلف السلطة لا يمكن أن تتم من دون ديمقراطية حقيقية، ومن دون تحقيق إنجازات يلمسها الفلسطينيون في كل مكان، ومن دون وضع برامج تقنع الناس بصحة نهجها وبرامجها، ومن دون إشراك أوسع قطاعات من الشعب في تقرير المستقبل الفلسطيني. وإذا كانت مهمة التحرير وظروف ما قبل العودة إلى غزة وأريحا جعلت الشعب يقبل ببعض صيغ وأشكال الديمقراطية الشكلية والناقصة كأمر واقع، وبأن يصمت على الممارسات غير الديمقراطية المسيئة، فإن المرحلة الجديدة حررته من ذلك؛ فسياسات وممارسات ما قبل قيام السلطة الفلسطينية لا تصلح لما بعدها. والمدخل إلى حل الإشكالية بين السلطة والمنظمة سيبقى، وإلى حين التوصل إلى اتفاق بشأن قضايا المرحلة النهائية، متوفراً فقط في تنظيم العلاقة فيما بينها على أسس واقعية واضحة، ومع الشعب على أسس ديمقراطية، وفي تعبئة جميع طاقات الشعب الفلسطيني خلف السلطة وعبر المنظمة، وفي مواجهة الاحتلال وانتزاع الحقوق الوطنية كافة.
ومن الواضح أن العلاقة بين الجسمين ستبقى تتأرجح، وستبقى عرضة للتقلبات وفقاً لحركة المفاوضات، ووفقاً لأساليب علاج الأزمات والمشكلات التي يعانيها الجسمان، وتعانيها العلاقات فيما بينهما والعلاقات بالشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه.
أعتقد أنني لا أتجنى على أحد، وآمل ألاّ أتهم بالتسرع إذا قلت إن المرئي من المسار الجاري واللاحق لعملية السلام ككل، وخصوصاً على المسار الفلسطيني – الإسرائيلي، ونهج عمل القيادة الفلسطينية غير الديمقراطي، وطبيعة الأمراض التي تنخر الجسمين، وتنخر جسم الحركة السياسية الفلسطينية كله، إنما تشير إلى أن بارومتر الصراع بين المنظمة والسلطة سيواصل الارتفاع في المستقبل المباشر أكثر فأكثر، وأن توقف ارتفاع درجة حرارة الصراع بينهما لن يبدأ قبل استقرار المفاوضات الفلسطينية – الاسرائيلية على منهج يكفل تنفيذ الاتفاقات وتحقيق إنجازات يلمسها الناس، ولن يبدأ بالتراجع قبل إعادة بناء وتشغيل المؤسستين وتجديد شرعيتهما على أسس ديمقراطية. وهذا لن يتحقق من دون إجراء الانتخابات الحرة والنزيهة.