شهدت السنة الماضية الذكرى الخمسين لنكبة 1948. وقد شغلت هذه المرحلة الحاسمة من التاريخ الفلسطيني بحق، بكل ما فيها من المآسي والحوادث الدرامية، عدداً كبيراً من الكتّاب والمحلّلين والمؤرخين الفلسطينيين. لكن هناك تاريخاً كاملاً يمتد بعد النكبة حتى يومنا هذا، وهو يستحق الاهتمام أيضاً، لكنه حتى اليوم، جذب اهتماماً قليلاً. فلدينا القليل من الروايات عن تأثير التشريد من فلسطين في جياة الناس، وأعمالهم، وأوضاعهم الشخصية، وإحساسهم بالهوية، وأوضاعهم النفسية. فبينما نجد الكثير من الدراسات بشأن الجوانب السياسية والاقتصادية للمشكلة، وخصوصاً تلك المتصلة باللاجئين الفلسطينيين وبمسائل أُخرى، كظهور منظمة التحرير الفلسطينية وتطوّرها، ودور منظمة الأمم المتحدة، والعلاقات بالعالم العربي وما إلى ذلك، يندر أن نجد أيّ شيء عن التجارب الفردية التي أصابت الفلسطينيين بعد سنة 1948.
لقد تنوّعت هذه التجارب إلى حد كبير، فهي قاسية ومؤثرة في الغالب، وباعثة على الأقل أو الخيبة أحياناً، ومأساوية ومباغتة في أكثر الأحيان. ومهما يكن نوع هذه التجارب فإنها تشكل، مجتمعة، نسيجاً غنيّاً من التاريخ الفلسطيني الذي يجب تسجيله، ومحفوظات وطنية يمكن أن تخبرنا وتخبر أجيالنا المستقبلية عن الأثر الحقيقي لما حدث نتيجة قيام دولة إسرائيل في فلسطين. فغنيّ عن الذكر أنه في الجانب الآخر استنفد الكتّاب اليهود الجوانب جميعها التي يمكن تصوّرها عن المحرقة النازية وآثارها في حياة اليهود، في روايات ووثائق وتراجم ومذكرات لا تحصى. وحتى الوجود الصهيوني القصير في فلسطين، أنتج روائيين وشعراء حاولوا إيجاد نوع جديد من "الأدب الإسرائيلي". فما أكثر ما كان ينبغي لنا أن نفعله على هذا الصعيد، من دون أن نحتاج إلى اختراع تاريخ أو ثقافة، لأن لدينا ارتباطاً قديماً ومتواصلاً وحيّاً بهذا البلد.
ستتناول بقية هذا النص مقتطفات من مذكّرات أقوم بكتابتها حالياً عن تجربة عائلتي في المنفى. وحكايتنا غريبة لأننا بعد نزوحنا عن القدس سنة 1948 (وبعد عام أمضيناه في سورية في انتظار العودة إلى الوطن من دون جدوى) انتهى بنا المطاف في لندن، بين تلك الأقلية الصغيرة من الفلسطينيين التي لم تبق في العالم العربي بعد سنة 1948. والأغرب من ذلك، أننا وجدنا أنفسنا في الجزء الأكثر يهودية من المدينة، وهو منطقة تسمّى غولدرز غريب (Golders Green)، من دون أن ندري أن تلك المنطقة اشتهرت منذ ثلاثينات القرن العشرين بأنها ملجأ لليهود الفارّين من لاضطهاد النازي في أوروبا. ومع وصولنا إليها، كان أُقيم فيها الكثير من الكُنُس، ومحالات بيع الأطعوة اليهودية، ومدرسة لتعليم الأطفال اليهود اللغة العبرية. لقد غلب الطابع اليهودي على تلك المنطقة في الخمسينات من القرن العشرين، حين كنّا نقيم بها، إلى حد أن سائق الباص لدى توقّفه عند غولدرز غرين، كان ينادي: "هل يريد أحد أن ينزل في تل أبيب؟" ولم يكن كل شخص هناك يهودياً طبعاً، مع أن الأمر بدا كذلك في الغالب. وحين سبقنا أبي إلى لندن في صيف سنة 1948، لاستئجار بيت لنا، لم يكن لديه أية فكرة عن الطابع اليهودي الذي يسود ذلك المكان. وكانت البيوت العائلية المعروضة للإيجار نادرة في إنكلترا بعد الحرب. وكان أبي قد بدأ يفقد صبره حين وجد زميل مصري له، يعمل معه في هيئة الإذاعة البريطانية، بيتاً لنا. فتلقّف أبي البيت بامتنان، من دون أن يطرح الكثير من الأسئلة.
وهكذا، قُدّر لنا كعائلة عربية مسلمة عادية، لم يسبق لنا أن سافرنا بعيداً عن وطننا الأم، أن نجد أنفسنا فجأة في بيئة يهودية/ إنكليزية غريبة. وباستثناء أبي وأختي الكبرى، التي كانت أنهت دراستها الثانوية في فلسطين، لم يكن أي منّا يتكلم الإنكليزية قط. ولم يكن لدينا أية خبرة بالمجتمع الغربي، ولا أي تحضير للابتعاد تماماً عمّا كان مألوفاً لدينا. لذا، كان لهذا الوضع الجديد تأثيراته العميقة والدائمة فينا جميعاً، بأشكال متعددة.
وتبيّن المقتطفات التالية جوانب من مطلع حياتنا في لندن.
"في سنة 1949، كانت بريطانيا لا تزال في قبضة تقنين المواد الغذائية بسبب الحرب. فحصلنا على خمسة دفاتر تموين، لك واحد منّا دفتر فيه عدّة إيصالات يمكن مبادلتها بمواد غذائية. وكنّا نحصل على هذه الدفاتر شهرياً، وهي بألوان متعددة. وكان كل شيء مقنّناً، الحليب والخبز والسمك. وكانت الإيصالات مختلفة باختلاف الأطعمة، بما فيها الحلويات. ولم أكن أنا وأخي زياد نعرف الكثير عن ذلك، لكنّني أذكر أننا عقب وصولنا إلى لندن أخذنا دفتريّ التموين المخصّصين لنا، وذهبنا إلى محل لبيع الصحف في الشارع، وقدّمنا دفترينا إلى المرأة الجالسة وراء الطاولة، وقلنا لها الكلمة المهمة الوحيدة التي عرفناها بالإنكليزية chocolate. فنظرت إلى الإيصالات في الدفترين، ثم هزّت رأسا. من الواضح أنه لم يكن معنا الإيصالات الملائمة، لكن يبدو أن علامات الخيبة ظهرت على وجهنا، فابتسمت وأعطت كلاًّ منا حبّة حلوى.
"وكان في دفاتر تمويننا أيضاً حصص من لحم الخنزير العادي والمقدد. وبما أننا لا نأكل أيّ نوع من لحم الخنزير، فإن أمي كانت تعطي بائع الخضروات في نهاية الشارع إيصالات حصتنا منه. وكان محلّه مجاوراً لبائع الصحف، ويقابلهما دكان الجزّار. ولمّا كنّا معتادين على رؤية أكوام الفاكهة والخضروات في أسواق القدس ودمشق، فإن الصفوف المنتظمة من الليمون والملفوف والإجاص، والمعروضة كأها قطع من المجوهرات، بدت لنا منظراً غريباً في الواقع. وكانت أمي تتمتم متذمّرة: 'إن فاكهتهم وخضرواتهم لا طعم لها، إنها كمن يأكل الماء. ولكن ما الذي يمكن أي توقّعه المرء، وهي تأتينا كلها من الثلاّجات؟ أيّ بلد مريع هذا!.
"إن إيصالات لحم الخنزير التي كانت أمي تعطيها لبائع الخضروات، كفلت لنا إخلاصه الدائم. إذ كان ينتقي لها أفضل فاكهة لديه، أو يخبها لها ريثما تأتي، أو يرضى بتأجيل قبض الثمن إذا لم يكن لديها المال الكافي. وكان ذلك كله يتم بلغة الإشارات الممزوجة بالإنكليزية من جهته، وبالعربية من جهة أمي. وكان نجاحها مع الجزّار أكبر من ذلك، لكن بعد معركة مبكّرة بينهما. فقد سبق أن كان مع الجيش البريطاني في مصر، حيث تعلّم بعض الكلمات العربية. ولعلمه بأن أمي غريبة عن البلد وعن النظام التمويني فيها أجاز لنفسه، ذات يوم، أن يأخذ منها أحد دفاتر التموين، حين عرضتها عليه ببراءة، ليحدّد إيصالات اللحوم. وحين اكتشفت أمي ما فعله، أصيبت بذعر شديد، وذهب أبي إلى مركز الشرطة المحلية لتقديم شكوى ضده.
"بعد هذه الحادثة، ندم الجزار ندماً شديداً، وراح يبذل جهده لاسترضاء أمي. فأصبحا، في النهاية، صديقين من جديد، واستطاعت أمي أن تكسب ودّه بإعطائه إيصالات لحم الخنزير المقدد. وقد مكّنها ذلك من تعليمه كيف يقطع لها اللحم بالطريقة التي نحبّها، أي في شكل مكعّبات وخالية من العظام. ولم يتعلّم الجزّار كيف يقطع اللحم بالطرقة المطلوبة فحسب، بل تعلّم أيضاً المزيد من الكلمات العربية، حتى أصبح هو وأمي يتحادثان معاً بهذا الأسلوب من اللغة المبسّطة.
"لكن أمي بقيت وحيدة في لندن، تتوقف إلى رفقة. فالإنسان في العالم العربي لا يشعر بالوحدة ولو لحظة واحدة، إذ الجيران أو الأصدقاء موجودون دائماً، ويبقون على اتصال يومي. عند حدوث أي شيء، يجد المرء عائلته من حوله في الأوقات كافة. أمّا في لندن، فلم يكن لأمّي جيران تتحدث إليهم، و كان لها عائلة، وصديقاتها قليلات. وفي أواخر الأربعينات وطوال الخمسينات من القرن العشرين، لم يكن في إنكلترا سوى عدد قليل من العرب، وربما لم يكن هناك فلسطينيون سوانا. وقد كانت أمي امرأة اجتماعية النزعة، تعتمد على الاختلاط بالآخرين اعتماداً يكاد يكون تاماً. فكان أبي يقول لها: 'حاولي أن تقرأي شيئاً ما، فإن ذلك سيساعدك في تمضية الوقت'. لكنّها لم توافق على ذلك، وكانت تقوم إن القراءة تزيد في اضطرابها ورغبتها في أن تون مع الناس. إن أمّي تغيّرت منذ جئنا لندن؛ فقد كانت في القدس مفعمة بالحيوية وبالاعتزاز ببيتها، تطوف البيت باندفاع وضجة كل صباح، لتنظيم أعمال الطهي والتنظيف، بينما هي الآن في لندن تجد من الصعب عليها أن تنهض من الفراش أحياناً. وربما نعود إلى البيت ظهراً، لنجدها ما زالت في سريرها. لقد فقدت كل اهتمام بشؤون البيت. فباستثناء انقضاضها الهوسي على أرض البيت، لم تكلّف نفسها عناء تنظيفه قط.
"كانت أمي تجلس أحياناً كثيرة في العتمة في المطبخ، وتلصق أذنها بالمذياع المستعمل الذي اشتراه أبي، محاولة التقاط محطات عربية على الموجة القصيرة. وكانت تُصغي بلهفة إلى أخبار العالم العربي عن فلسطين، لتناقشها مع أبي في الأمسيات وسمعتهما مرة، بعد شهر أو نحو شهر من وصولنا، يقولان إنه لمّا تصدر بعد أية كلمة عن اليهود – لم يستخدما يوماً كلمة 'إسرائيل' أو 'الإسرائيليين' بحسب ما أذكر – بشأن السماح لنا جميعاً بالعودة إلى فلسطين، وأن منظمة الأمم المتحدة لم تفعل أي شيء بهذا الشأن. وفي هذه الفترة بالذات، سمعتهما يذكران النكبة أول مرة، وهي كلمة كثيراً ما سمعتها مرات ومرات طوال حياتي فيما بعد. وحين سألت عن معناها، أسكتاني قائلَين: 'لا تهتمي بذلك، إنها شيء حدث في الماضي'.
"وحين لم يكن هناك أخبار في المذياع، كانت أمي تستمع إلى الأغاني العربية أو إلى تلاوات من القرآن الكريم. ومن المرجّح أنه لم يكن هناك شيء من العالم العربي أكثر إثارة للمشاعر من تلاوات القرآن الكريم. وأستطيع أن أتذكر صديقاً مسيحياً أردنياً أخبرني كيف أنه ذهب إلى برلين في الستينات لمتابعة دراسته، وأنه حين رأى في أثناء وجوده هناك كنيسة قديمة جميلة، وهو يعلم أنه ينبغي له أن يبدي إعجابه بها، لم يشهر بأي انفعال حقيقي نحوها. لكنّه حين دخل، من قبيل الفضول، المسجد الموجود هناك، واستمع إلى تلاوة من القرآن الكريم (تلاوة سيئة من إمام تركي، على حدِّ قوله)، أحسّ بشحنة من الحنين إلى الوطن. وكان من المألوف آنذاك أن تبث محطات الإذاعة في الكثير من البلاد العربية نصف ساعة من التلاوة القرآنية كل يوم، وأن يسمعها المرء من أجهزة المذياع حيثما ذهب. ولدى دخول بيتنا في لندن، كان لما يبثّه مذياع أمّي من الأغاني العربية أو التلاوات القرآنية تأثير خارق، على الرغم من أن الصوت كان هشّاً ومتقطّعاً. إذ كنت أشعر للحظة بأنني أُعدت إلى فلسطين، وكأن مفتاح مدخل بيتنا هناك هو كل ما أحتاج إليه من أجل العودة.
"وسرعان ما أصبح بيتنا ملتقى للفلسطينيين الذين يشعرون بالوحدة، ومعظمهم من الشباب غير المتزوجين، الذين استطاعوا، مثل أبي، أن يجدوا عملاً لهم في القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية. وصار بعضهم يُحضر أصدقاءه معه، حتى اكتسبنا سمعة أن بيتنا هو بيت من الوطن للوافدين الجدد، ولمن يشعرون بالحنين إلى بيوتهم في فلسطين. وكانت أمي تُعدّ لهم المآكل الفلسطينية، وتستعلم من أية مناطق هم، وتتعرف إلى ذويهم وأقاربهم. ولطالما كان هذا النوع من الأسئلة مهماً بالنسبة إلى الفلسطينيين، لكنه أصبح إلزامياً بعد النزاح سنة 1948. إذ أصبح كل واحد حريصاً على تحديد بلدة الآخر أو قريته الأصلية في فلسطين، كأن الناس يريدون بذلك أن يُثبتوا لأنفسهم أن بلدهم لا يزال موجوداً لعى الرغم مما جرى. ولم يكن التعرُّف إلى عائلاتهم أقل أهمية، لأن ذلك كان الطريقة التقليدية التي يحدد بها الناس الأوضاع الاجتماعية لبعضهم بعضاً، ويقيمون الروابط العائلية والاجتماعية فيما بينهم، وهو الأمر الأكثر أهمية. فلطالما قامت روابط القربى بدور أساسي في المجتمع العربي. لكن بالنسبة إلى الفلسطينيين المشرّدين بعد سنة 1948، أصبح إثبات الهوية بالانتساب إلى الائلة والنسب أمراً في غاية الأهمية. ففلسطين بقعة صغيرة وسكّانها مستقرون. ولذا ارتبطت العائلات بأماكن محددة، حتى باتت أسماء تلك العائلات كافية لتحديد أصولها الجغرافية والدينية.
"وتسأل أمي أحدهم: 'هل أنت من آل كنعان نابلس أم من آل كنعان القدس؟' وكان أبي يشارك دائماً في تلك الحوارات، لأنه يعتزّ بمعرفة كل بوصة من فلسطين. لكنه كان يرتبك أحياناً عندما يذكر أحدهم اسم قرية صغيرة لا يعرفها، فيبقى قلقاً حتى يتذكرها، ونسمعه يقول فجأة: 'آه، إنها في قضاء يافا، لماذا لم تقل ذلك منذ البداية؟' ولأعوام، كنت أعتقد أن هذه الهواجسر المرتبطة بالأماكن وبأسماء العائلات، وأيها ينتمي إلى أي منها، كانت مجرد صفة خاصة بوالديّ. واعتدت أنا وأختي أن نقلّدهما في غرفة نمنا، وخصوصاً بعد تحقيق مرهق مع زائر فلسطيني قليل الحظ، وكنّا نضحك ونهزّ رأسينا. ومرّت أعوام قبل أن أدرك أن تحديد أصل الشخص بالنسبة إلى الفلسطينيين أصبح، بعد سنة 1948، نوعاً من إقامة الوجود، أو إعادة غسكان بديلة لفلسطين بما ينفي النكبة. وكانت تلك وسيلتهم في إحياء وطنهم المفقود، كأنما العائلات والقرة والعلاقات التي عرفوها ذات يوم لا تزا موجودة، في انتظار أن يستعيدوها. وفي الواقع فإن إمكان العودة مباشرة عقب النزوح سنة 1948، كان لدى الفلسطينيين أملاً حقيقياً. كما اعتادوا أن يسألوا: من يستطيع أن يصدّق أنه لن يُسمح لنا بالعودة إلى بيوتنا؟ إنها بيوتنا والبلد بلدنا. فالأمم المتحدة والأميركيون والبريطانيون لن يسمحوا لمثل هذا الظلم بأن يحدث. إننا عائدون طبعاً!
"وكان ذاك اقتناع أمي أيضاً. حتى أبي، الذي كان فقد الأمل سنة 1948، تمسّك بأمل خفيّ بالعودة. وكانت أمي تقول عن العيش في لندن: 'إنني سأصبر على وجود هنا، لأنني أعلن أنه لن يدوم طويلاً'. ثم تضيف: 'وأنتم يا أطفالن لا تعتادوا كثيراً على الأشياء هنا، فنحن لن نبقى'. وطبّقت هذه الفلسفة تطبيقاً كاملاً، فرفضت أن تتعلّم اللغة الإنكليزية، ولم يكن لها صديقات إنكليزيات، وظلّت ترفض كل اقتراح لزخرفة بيتنا، أو حتى لشراء أية لوازم أساسية، كالثلاجة مثلاً. وكانت تبرّر ذلك بالقول: 'لم يكن لديّ قط مثل هذا الشيء في فلسطين حيث المناخ حار، فلماذا أحتاج إليه هنا حيث المناخ شديد البرودة؟' وكانت اللحوم والأطعمة القابلة للفساد توضع في الخارج ليلاً، على حافة النافذة خارج حجرة غسل الأطباق؛ وابتكرت أمي وسائل أُخرى للحفاظ على الأطعمة، لأنها رأت في الاستسلام للثلاجة رمزاً لقبولها نمط المعيشة الأوروبي، الذي كانت تسمّيه 'افرنجي'. كما رأت أن موافقتها على إجراء أية تحسينات في المنزل، غير تنظيفه، ربما تعني أن بقاءها في إنكلترا لم يعد موقتاً. وبما أن هذا الإمكان لم يكن مقبولاً لديها، فقد عانينا العيش في منزل بارد (لأن التدفئة المركزية كانت تحسيناً مرفوضاً آخر)، بحاجة ماسّة إلى الترميم والزخرفة."
".... بعد فترة، بدا أنه لم يعد أحد في إنكلترا يتذكر فلسطين. ومن المدهش كيف اختفت هذه الكلمة سريعاً من التداول. فبحلول سنة 1953، حين كان الناس يسألونني من أين جئت، وكنت أُجيبهم: 'Palestine'، كانوا يسألونني من جديد: 'هل قلتِ Pakistan؟' فهذا البلد ذو التاريخ المضطرب الذي أغضب الحكومة البريطانية قبل خمسة أعوام فقط، غاب اليوم عن وعي الناس. وبدلاً من ذلك، أصبح الحديث عن إسرائيل، الدولة الجديدة والفتية والجريئة التي كانت تتقدم بخطى مطردة. وتوالت الأحداث سريعة هناك، حيث أُرسيت وقائع حديدة في بلدنا القديم، على الرغم من كل الجهود التي بذلتها أمّنا لتوقف الزمن في فلسطين التي احتضنت صباها.
"وكتب ابن عمي، زهير، ليخبرنا آنذاك أن الأراضي جميعها في بلدة طولكرم، مسقط رأس عائلتنا، حتى خط سكة الحديد، أصبحت خاضعة للاحتلال الإسرائيلي. وذكر أنه يمكن رؤية الإسرائيليين وهم يعملون في الأراضي التي حصلوا عليها مؤخراً، مستخدمين الجرافات والآلات الحديثة. وهذا مشهد غريب بالنسبة إلى أبناء طولكرم، الذين ظلوا يحرثون الأرض طوال أجيال، مستخدمين الحمير والبغال. وأضاف أنه كان يسمع، بين الحين والآخر، عن قرويين حاولوا أن يجتازوا الخط الفاصل مع إسرائيل، لتفقّد بيوتهم أو للبحث عن شيء من أمتعتهم. وقد أغرى ذلك زوجته عزيزة باجتياز ذلك الخط لقطف بعض الثمار مما كان سابقاً بستان أبيها. لكن هذه المحاولات سرعان ما توقفت، حين أطلق الإسرائيليون النار على من يقوم بها، وسرت شائعة عن مقتل شخص أو شخصين، لكن ليس ممن نعرف.
"بقي في إسرائيل نحو 200,000 فلسطيني، لكن أحداً لم يسمع الكثير عنهم. وبدا أنهم اختفوا أو ابتُلعوا في موجات الهجرة اليهودية التي كانت تعمّ البلد. والفلسطينيون الوحيدون الذين عرفناهم هم أولئك الذين يعيشون مثلنا خارج الحدود القديمة. فنحن لم ندرك أنه أصبح هناك أناس 'فلسطينيون إسرائيليون'، إلاّ حين تزوج صديقنا، أديب خوري، امرأة من حيفا، وعاد بها إلى إنكلترا. وكان أديب جاء إنكلترا سنة 1946 للدراسة، الأمر الذي أبعده عن مشاهدة مأساة فلسطين. واستكمل دخله، شأن الكثيرين من العرب آنذاك، بالعمل في القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية في المناسبات، وهذا ما جعله يلتقي أبي.
"أعلن أديب ذات يوم أن أقاربه في حيفا هم الذين رتّبوا له لقاءات التعارف من أجل زواجه. وهذا ليس غريباً في حد ذاته، لأن من العرف العربي أن تقوم عائلتا الشخصين الراغبين في الزواج بالجمع بينهما. ويكون مثل هذه الترتيبات في ذروة نجاحه حين تجري بين أشخاص يعيشون في منطقة واحدة. لكن وجود أديب خارج البلد، وعدم قدرته على دخول إسرائيل منذ سنة 1948، لم يثنيا أحداً عن إجراء تلك الترتيبات. وبما أن العالم العربي كان في حالة حرب مع إسرائيل، فهذا يعني أن الأشخاص الذين يحملون جوازات سفر غير عربية هم الذين يمكنهم دخول إسرائيل فقط. وعلى الرغم من ذلك، فإن أديب وأفراد عائلته بقوا يتوقعون أن يتزوج أديب فتاة من مدينته القديمة، وإنْ تكن الحياة تغيّرت جذرياً بالنسبة إلى كل شخص هناك، وأصبح الفلسطينيون أمثالهم أقلية صغيرة خاضعة للهيمنة الإسرائيلية.
"ويمكن للكثيرين من العرسان المحتملين أن يلتقوا فيما يسمّى أرضاً محايدة فقط. وكانت قبرص مكاناً مفضَّلاً لمثل هذه اللقاءات. فتوقّعت عائلة أديب وعائلة عروسه أن يذهب الاثنان إلى قبرص. لكن أديب لم يكن بحاجة إلى ذلك، لأنه كان آنذاك حصل على جواز سفر بريطاني، الأمر الذي سمح له بالذهاب مباشرة إلى حيفا لرؤية عروس المستقبل. لكنه كتم هاتين الحقيقتين عن الجميع، باستثناء قلة من أصدقائه الحميمين. فوجهة النظر التي كانت سائدة بين الفلسطينيين آنذاك، هي أن أي شخص يجيز لنفسه قبول الجنسية البريطانية، بعد كل ما ارتكبته بريطانيا من خيانة ضدنا، إنما يصبح جزءاً من تلك الخيانة. ولهذا السبب، فإن الفلسطينيين الذين لجأوا إلى إنكلترا، ومنهم عائلتي، رفضوا في معظمهم، طوال أعوام، أن يصبحوا مواطنين بريطانيين.
"لكن أسوأ خيانة يمكن أن يرتكبها أي فلسطيني كانت مجرد التفكير في الذهاب إلى إسرائيل. فالقيام بمثل هذا العمل يبعث على الاشمئزاز، لأنه ينطوي على اعتراف باحتلال فلسطين، وموافقة على ما كان يُعتبر اغتصاباً وسلباً لها، وهو أمر غير مسموح التفكير فيه. ولذا، فقد مرّت عقود من الزمن على قيام إسرائيل، من دون أن يذهب إليها أي فلسطيني أو عربي يستطيع أن يفعل ذلك بصورة قانونية. إذ أصبحت بالنسبة إلى معظم العرب العاديين أرضاً لا يملكها أحد، كأنها مجرد اسم يظهر على خريطة غربية (لم تُذكر إسرائيل في أية خريطة شرق أوسطية)، كما انسحب هذا الموقف على الأقلية الفلسطينية التي بقيت في إسرائيل.
"غاب أديب بضعة أسابيع، أُجريت خلالها كل الترتيبات على وجه السرعة، بدءاً باللقاء الأول بين العروسين، وانتهاءً بزفافهما ومغادرتهما إلى إنكلترا. واصطحب أديب، لدى عودته، عروسه الجديدة إلى بيتنا وقدّمها إلينا. إنني أتذكّر كيف كنا نحدّق إليها بفضول، لأنها كانت في نظرينا لغزاً مثيراً. إذ كان شعرها أشقر، وعيناها بلون البندق، ولم تحمل ملامح عربية خاصة. وكانت ترتدي بدلة مُحاكَة خضراء، وحذاء ذا كعب قصير. 'إنها ثياب إسرائيلية'، فكرت في سري في حين انتابتني رِعْدة. لكنها كانت تتحدث باللغة العربية مثلنا، وبدت طبيعية. وكنّا نعلم أنها مختلفة عنا، لأنها كانت تعيش 'هناك' مع الإسرائيليين. كما أذكر أنني كنت أراقبها بحثاً عن أية علامات تظهر اختلافها عنّا، لكنها لم تبدِ أي شيء من ذلك. وحين سألها أبي عن أوضاعهم في إسرائيل، اقتصرت إجابتها على القول: 'حسناً، أنت تعرف كيف هي. إنهم يعتقدون أنها أصبحت كلها لهم الآن. إنهم أصحاب السلطة، وهم يفعلون كل شيء ليجعلوك تتأكد من ذلك'."
".... كان مدرسة أخي ومدرستي عدد كبير من الأطفال اليهود. وحتماً، أصبح لدينا بعض الأصدقاء منهم. لكنني لا أذكر يوماً أن والدينا أوحيا، من قريب أو بعيد، أن أخي زياد أو أنا يجب أن نتجنّب اليهود، أو نمتنع من اتخاذ أصدقاء منهم. لقد كان لديّ إدراك أن هناك شيئاً غير سوي فيما يتعلق بكل هذه الأمور، لأني على الرغم من صغر سنّي، وجهلي بسياسة الشرق الأوسط آنذاك، لم أستطع تفادي معرفة أن اليهود قاموا بدور عدائي في حياتنا. وكوننا نتحرّك بينهم بحرّية الآن، فإن ذلك شكّل تناقضاً أخذ ينخر تحت سطح وعيي، الأمر الذي أثار حيرتي طوال أعوام.
"وفي الواقع، إن التفسير لتسامحنا الظاهر إزاء الوجود اليهودي في غولدرز غرين يعود جزئياً إلى أن والدَي كانا يؤكدان دائماً التمييز بين 'اليهود' الذين حمّلاهم المسؤولية عن ورطتنا، وبين أفراد الشعب اليهودي الذين لم يشعرا بأية عداوة شخصية نحوهم. لكن الجزء الأكبر من تسامحنا يعود إلى أمر آخر كان لا بدّ من أن يثير التساؤل بشأن مسألة أكبر، هي وجودنا في بريطانيا. فمع أن ابي والكثيرين من الفلسطينيين أدركوا تماماً المخطّط الصهيوني لفلسطين، الذي وقعنا ضحية له، فإنه، بغرابة، لم يلق اللوم على اليهود، وإنما ألقى المسؤولية الرئيسية على البريطانيين الذين خدعونا. ومن أقواله المحبّبة إليه: 'إذا تركت اللص يدخل بيتك، ثم سرقك، فعلى من يقع اللوم، عليك أم على اللص؟ إن البريطانيين هم الذين كانوا أصحاب النفوذ في بلدنا، وكان لديهم أمانة مقدّسة بألاّ يتخلّوا عنا، ونحن وثقنا بهم حتى النهاية'. لكن حين جاء الوقت الملائم، تركونا لمصيرنا، وتركوا غدرهم القاسي يعتمل في صدر أبي. وقال لي فيما بعد: 'إذا سألتيني لماذا لم أكن متضايقاً جداً من اليهود في غولدرز غرين، بينما كنت تكبرين؟ فذلك هو السبب'.
"كان يجب أن يشكّل هذا الأمر حافزاً لنا جميعاً على مغادرة إنكلترا. والسبب في عدم حدوث ذلك هو الحياة المغلقة التي عاشها والديّ بعيداً عن المجتمع الإنكليزي، وبعيداً عن التناقض المتأصّل في وضعنا. وقد توقّعا منّا، نحن الأولاد، أن نفعل الشيء نفسه، ولم يدركا العوامل الثقافية القوية، والآتية إلينا من الخارج. ولمواجهة ذلك، أبقت علينا أمّنا ضمن بيئة داخلية عربية بلا هوادة. فثقافتنا، في نظرها ونظر أبينا، قوية وطبيعية وسليمة بحيث أنهما إذا حافظا على بيت عربي تقليدي لنا، لا يمكن أن تهزّه أية كمية من المؤثرات العربية. ولقد تمسّك أبي بهذا الموقف على الرغم من اطّلاعاته الواسعة على الفلسفة والآداب والديانة الغربية. ومع أن تلك الاطلاعات أكسبته تسامحاً إزاء نزعاتي الفكرية، فإنها لم تستطع أن تدمجه في الثقافة الغربية أكثر مما اندمجت أمي فيها. فاهتمامه، أساساً، باحضارة الغربية لم يكن سوى شكل من الرياضة الذهنية، ومظهر ثقافي مركّب انفصل أبي عنه عاطفياً وثقافياً بصورة تامة. ومع أنه أدرك مبادىء الثقافة الغربية، فإنها لم تكن يوماً المعيار له أو للكثيرين من المسلمين. وظلّ تمسكه بالفلسفة الإسلامية وبالأدب العربي، وقبل كل شيء باللغة العربية، في موقع الأفضلية لديه. وبالتالي انتقل عمق هذا الولاء عفوياً إلينا. وعلى الرغم من نقص معرفتي بهذه الأمور، فإنني كنت أهتز من دون وعي لدى سماعي لغة القرآن، وأسترجع صدى إلقاء قصيدة عربية، وأشعر باحترام لا يمكن التعبير عنه تجاه اللغة العربية الفصحى.
"يجب ألاّ تُفهم العزلة الثقافية لوالديّ ضمن إطار الهجرة فحسب. فهناك الكثير من المجموعات المهاجرة التي حافظت على ثقافاتها وأنماط حياتها السابقة في بلاد المهجر، والتي أصرّت على أن يحذو أبناؤها حذوها. لكن ذلك يحدث، في الغالب، على سبيل التكيّف وفق الأوضاع الجديدة، الأمر الذي يقيم جسراً بين الماضي الذي اختار هؤلاء تركه وراءهم، وبين الحاضر الذي اختاروه لاحقاً. إلاّ إن شيئاً من ذلك لا ينطبق علينا. فوالديّ لم يختارا ترك فلسطين، ولا أذعنا بإرادتهما يوماً لخسارتها. كما أنهما لم يريا في إنكلترا مكاناً للمستقبل، وإنما مجرد محطة على طريق لا تشير إلاّ إلى العودة – إلى مكان ما لم يستطيعا، طبعاً، أن يذهبا إليه قط. ولم يكن من الممكن أن تتّخذ الأمور مساراً مختلفاً، لأن التخلّي عن هذه الفكرة كان يساوي القبول بخسارة فلسطين نهائياً. ولذا، على العكس من المهاجرين التقليديين الذين يحاولون بناء جسور إلى المستقبل، كانت الجسور الوحيدة التي بناها والديّ هي تلك التي تربطهما بالماضي – بفلسطين وبالعالم العربي. وأهمّ الإنجازات التي حققها أبي من خلال القواميس الإنكليزية – العربية التي كان عليه أن يكتبها، ومن خلال الشهرة التي اكتسبها كعالِم رائد في اللغة العربية، هي الجسور التي أقامها للعودة. كما أن الحلقة الاجتماعية العربية الواسعة، التي نجحت أمي في جمعها حولها، كانت جسراً من النوع نفسه."