The Economic Dimension of the Zionist/Israeli-Palestinian Struggle
Keywords: 
الأحوال الاقتصادية
الصهيونية
الاقتصاد الفلسطيني
النزاع العربي-الإسرائيلي
Full text: 

 

أولاً: من المؤتمر الصهيوني الأول سنة 1897 إلى قيام دولة إسرائيل سنة 1948

يبرر العودة إلى الجذور والتطلعات والأهداف الاقتصادية للحركة الصهيونية منذ أواخر القرن الماضي، وتحديداً منذ عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل (أو بال بالفرنسية) في سويسرا سنة 1897، ورؤية تيودور هيرتسل لأغراض ذلك المؤتمر والتطلعات التي استشرفها، أن غرض اغتصاب فلسطين، ولاحقاً أن المنظور الشرق الأوسطي في صيغته الحالية في تسعينات القرن العشرين، إنما يمثلان امتداداً لرؤية هيرتسل الأصلية وتطويراً لها.

لقد قامت دولة إسرائيل سنة 1948، بعد نصف قرن على مؤتمر بازل، وتحركت بعد قيامها بعناد وإصرار وذكاء، وبخطى ثابتة مخطط لها، صوب أغراضها السياسية والعسكرية والاقتصادية. فاتخذت من فلسطين مركزاً ومنطلقاً بفضل ما توفر لها من تصميم ذاتي ودعم خارجي، وراكمت قدراتها وخبراتها وكذلك المعونات المتدفقة من الخارج، إلى أن بلغت وضعاً مكّنها، في أوائل التسعينات من القرن العشرين، من طرح مشروعها الشرق الأوسطي على نطاق واسع، بزخم وثقة. وهكذا، فبفضل متانة قاعدة قوتها العسكرية والسياسية والاقتصادية والتقانية والتنظيمية والإعلامية، الذاتية والمدعومة دولياً، حوّلت رؤية هيرتسل إلى مشروع ضخم ذي جوانب متعددة تتفاعل في عملية تغذية عكسية، وتشكل معاً نظاماً متكاملاً يغطي المشرق العربي ويحجز لها حضوراً قوياً وفاعلاً على المسرح الدولي.

توكد الحقائق الممتدة طوال قرن كامل أن الاستعمار الصهيوني التوسعي يشكّل عملية متصلة تنطلق من خطة طويلة المدى، متحركة وتراكمية، تتمحور حول الذات بأنانية عنيدة لافتة، فلا تعطي حقوق الفلسطينيين ومصالحهم اعتباراً. وقد حظيت هذه الخطة بدعم كامل من الصهيونية العالمية وكذلك من الإمبريالية الغربية. وهكذا، تجسد الغزو الصهيوني في خمس عمليات وديناميات يجب فهمها وقراءتها بطريقة سليمة ودقيقة لما لها من صلة بموضوعنا، هي:

1 ـ استعمار ذو طبيعة خاصة يتمثل في اقتلاع العرب الفلسطينيين من أرضهم وتفريغ الوطن الفلسطيني، إلى المدى المستطاع، من سكانه لفسح المجال للمستوطنين اليهود، تمشياً مع الادعاء الصهيوني الذي جرى تسويقه في العقود الأولى من القرن العشرين بشأن "حق الشعب الذي لا وطن له في الحصول على الوطن الذي لا شعب له."

2 ـ الاستيطان الصهيوني في فلسطين وادعاء ملكية الأرض والموارد الفلسطينية (والعربية في دول الجوار التي قد تخضع لاحقاً للاستعمار أو الهيمنة).

3 ـ تحويل الأقلية اليهودية في فلسطين (وكانت تمثل 8 في المئة من مجموع السكان عند انتهاء الحرب العالمية الأولى)، إلى أكثرية سكانية لدى إقامة الدولة اليهودية.

4 ـ إنكار الحقوق الوطنية التاريخية الثابتة والسياسية والاقتصادية للفلسطينيين، بما في ذلك حقهم في ممارسة تقرير المصير والسيادة في أرضهم وعليها، ومحاصرة من يبقى منهم داخل فلسطين بشتى أشكال الحصار.

5 ـ التوسع الجغرافي في مسار مستمر ومتصل، دينامي وشديد التركيز، أولاً في فلسطين ولاحقاً كلما كان ذلك ممكناً، في أراض عربية خارج فلسطين، إمّا باحتلالها وإمّا بالهيمنة عليها.

من المفيد أن يعاد إلى الأذهان ما يدل على صدقية "لائحة الاتهام" المتضمنة في الفقرة السابقة. لذلك، أقدم نماذج موثقة تلقي ضوءاً كشّافاً قوياً على طبيعة الأهداف الصهيونية كما طرحها هيرتسل "أبو الحركة الصهيونية" نفسه (ولاحقاً ما طرحه سواه من آباء الصهيونية)، مما يرد في كتاب "يوميات هيرتسل الكاملة"،[1] وفي مراجع أُخرى. وتتصل الاقتباسات المختارة بموضوع هذا البحث.

إن ملخص ما يستشرفه هيرتسل لتسلسل أحداث المستقبل بالنسبة إلى أرض فلسطين وسكانها هو: (أ) احتلال أرض فلسطين والاستيلاء عليها بسرعة وبصورة متزامنة "كما بكبسة زر كهربائي"، بحسب عبارته بالذات، وذلك بالقيام بالشراء في مختلف مناطق فلسطين معاً، عن طريق سماسرة يمولهم ويوجههم عملاء مؤسسة مركزية (مفوضية مشتريات الأملاك)؛ (ب) حصر ملكية الأراضي المشتراة باليهود وعدم انتقالها إلى غير اليهود؛ (ج) تفريغ البلاد من السكان المحليين* ـ بحسب عبارته ـ لكن بعد استخدامهم للقضاء على الحيوانات البرية المتوحشة والأفاعي، ثم دفعهم إلى "بلاد العبور" (Transit Countries) المجاورة.

وفي إثر عقد المؤتمر الصهيوني الأول سنة 1897، استطاع هيرتسل أن يقول ما يلي: "أسّستُ الدولة اليهودية في بازل. لو قلت هذا، اليوم، بصوت مرتفع لقوبلت باستهزاء عام. ولكن ربما في خمسة أعوام، وحتماً في خمسين عاماً، سيعرف ذلك الجميع."[2]

انتهى الأمر، بعد مداولات طويلة واتصالات متعددة، بأن غدت فلسطين بؤرة تركيز الحركة الصهيونية جغرافياً، إلاّ إنه جرى اعتماد قدر كبير من المرونة (والأصح التعبير عن مزيد من التدرج في الحديث عن شهوة التوسع الجغرافي)، في رسم حدود الدولة المرغوب فيها. فبالنسبة إلى هيرتسل "يكون الحد الشمالي الجبال المواجهة لمنطقة كبادوشيا" (Cappadocia) (في تركيا)، ويكون الحد الجنوبي قناة السويس، ويكون شعارنا: "فلسطين داود وسليمان".[3] وفي مناسبة أُخرى أشار هيرتسل نفسه إلى أن الدولة اليهودية تمتد من النيل إلى الفرات.[4]

عقب مؤتمر بازل، أي في تشرين الأول/أكتوبر 1898، كتب صهيوني بارز هو ديفيس تريستش إلى هيرتسل يقول: "يجب أن يتضمن برنامج بازل الكلمات (فلسطين الكبرى)، أو (فلسطين والأراضي المجاورة)... وإلاّ فإن الأمر يكون هراء. فأنت لا تستطيع أن تجد متسعاً لعشرة ملايين يهودي في أرض اتساعها 25 ألف كيلومتر مربع."[5] ثم قام وفد المنظمة الصهيونية العالمية إلى مؤتمر السلام الذي عقد في باريس سنة 1919، عقب الحرب العالمية الأولى، بتوزيع مخطط للامتداد المنشود للدولة اليهودية، وكان أقل اتساعاً مما أمل به هيرتسل. إلاّ إنه كان، في أي حال، يشمل ـ بالإضافة إلى فلسطين (بالحدود التي رسمت لها عشية الانتداب البريطاني عليها) ـ شمالاً الجنوب اللبناني بما في ذلك صور وصيدا، ومنابع نهر الأردن في جبل الشيخ، والشاطئ الجنوبي لنهر الليطاني، وهضبة الجولان في سورية بما في ذلك مدينة القنيطرة ونهر اليرموك وينابيع الحمّة المعدنية؛ شرقاً وادي الأردن بأكمله والبحر الميت والمرتفعات الشرقية حتى أبواب مدينة عمان، وبامتداد جنوبي مع خط سكة حديد الحجاز إلى خليج العقبة؛ جنوباً من العريش في اتجاه جنوبي مستقيم حتى خارج العقبة؛ غرباً البحر الأبيض المتوسط.[6]

سبق ذلك أن قام المؤتمر اليهودي الأميركي، في نهاية سنة 1919، بالطلب إلى مؤتمر السلام أن يصرح "... أن شروطاً سياسية وإدارية واقتصادية يجب أن تتوفر في فلسطين من شأنها أن تؤكد، تحت وصاية بريطانيا العظمى نيابة عما سيشكل كعصبة أمم، تطوير [تحويل] فلسطين إلى (كومنولث) يهودي."[7]

ومن دون متابعة تسلسل الرؤى اللاحقة بالنسبة إلى الحدود المستهدفة يكفينا أن ننتقل بسرعة إلى النيات التي عبر عنها الدكتور أيدر، رئيس المفوضية الصهيونية في فلسطين، سنة 1921، إذ قال: "لا يمكن أن يكون هناك إلاّ وطن قومي واحد في فلسطين، وهو يهودي، ولا مساواة في الشراكة بين اليهود والعرب، وإنما تفوق يهودي حالما تتزايد أعداد العرق [اليهودي] بما يفكي."[8]

أمّا بالنسبة إلى الحدود المستهدفة فنشير إلى البرنامج الصهيوني الذي تم إقراره في فندق بلتمور في مدينة نيويورك في أيار/مايو 1942، حيث وُضعت سياسة الحركة الصهيونية وتم اعتمادها لاحقاً في تشرين الثاني/ نوفمبر 1942. وقد قدم الممثل الشخصي للرئيس الأميركي روزفلت، الجنرال باترك هيرلي، تقريراً عن المؤتمر جاء فيه: "إن المنظمة الصهيونية أبدت التزامها برنامجاً موسعاً من أجل:

1 ـ دولة يهودية ذات سيادة في فلسطين تضم فلسطين وفي النهاية [شرق] الأردن على الأرجح.

2 ـ تحول [نقل] السكان العرب، في آخر الأمر، من فلسطين إلى العراق.

القيادة اليهودية للشرق الأوسط بأكمله في مجالات التنمية الاقتصادية والتحكم ["السيطرة"].[9] إن السياق الذي استخدمت فيه كلمة "التحكم" أو السيطرة يشير إلى أن المقصود هو التنمية الاقتصادية للشرق الأوسط والتحكم فيها.

حتى الآن قدمنا بعض الأمثلة من الحقب السابقة لقيام دولة إسرائيل، المعبر عن رؤى قيادة الحركة الصهيونية ومطامعها وطموحاتها الاقتصادية التي كانت تستهدف فلسطين أولاً ومن ثم دول الجوار العربي لاحقاً، وهي رؤى يلخصها البند رقم 3 من تقرير هيرلي المشار إليه أعلاه. ويشكل ما تقدم من استشهادات دليلاً على الطبيعة الاغتصابية الاستيطانية ثم التوسعية للصهيونية. بالإضافة إلى ما سبق، سأتناول عدداً من الأدلة البارزة والمتوفرة منذ قيام دولة إسرائيل. ونجد هذه الأدلة في "الأدبيات" السياسية والاستراتيجية والاقتصادية ذات البعد الإقليمي، كما في التطلعات، والمواقف، والسياسات، والتحركات محلياً وإقليمياً ودولياً. وجدير بالذكر أن الأوعية والقنوات التي تتطور هذه الأدلة وتتحرك عبرها كانت باستمرار رسمية وأهلية على السواء داخل إسرائيل، كما كانت خارج إسرائيل من نتاج الحركة الصهيونية في العالم وآلتها المركزية، أي المنظمة الصهيونية العالمية وما ينضوي تحت جناحي هذه المنظمة أو ينسق معها من مؤسسات مختلفة المهمات والمواقع، تنشط بصورة خاصة في الولايات المتحدة في أوروبا.

على أنه يجرد بنا قبل الانتقال إلى ما توفره العقود الخمسة من عمر الدولة اليهودية من أدلة على مآرب إسرائيل في التوسع الاقتصادي والتحكم، إلى المدى الممكن، في الموارد والأسواق وأنماط التنمية العربية (إضافة إلى الفلسطينية)، كما في قوى الإنتاج وعلاقاتها، أن نلفت انتباه القارئ إلى مأرب صهيوني (ولاحقاً إسرائيلي) مركزي، اقتصادي في الأساس، لكنه ذو بعد استراتيجي شمولي، أي أنه يتصل كذلك بالإغراض الاستيطانية والتوسعية والسياسية والأمنية على السواء، وبترابطاتها وتشابكاتها. نعني هنا، تحديداً، طرح إسرائيل للسيطرة على منابع المياه وتدفعاتها في مناطق الجوار، أي في الجنوب اللبناني وجنوب شرق سورية، وخصوصاً المخزون المائي الهائل في باطن جبل الشيخ وما فوقه من ثلوج، ورغبها كذلك في المشاركة في الموارد المائية التي يحملها كل من نهري النيل والفرات. ونشير هنا إلى تركيز مذكرة المنظمة الصهيونية، إلى مؤتمر السلام سنة 1919، على ضرورة أن يحدد اتساع الدولة اليهودية المستهدفة القدرة على السيطرة ـ الجزئية على الأقل ـ على الموارد المائية في الجوار العربي.

نضيف في السياق الحالي أن إصرار إسرائيل على اغتصاب قسم كبير من الموارد المائية العربية ـ بالإضافة إلى الموارد الفلسطينية ـ لا يزال جزءاً أساسياً من السياسة الإسرائيلية الثابتة، بل إنه اشتد بموازاة تعاظم قوة الدولة العسكرية وازدياد حجمها السكاني. وهو ينذر بالامتداد إلى القرن الحادي والعشرين، بزخم متزايد وباستخدام الضغط الفاعل، عبر حشد التأييد للطموح الإسرائيلي المدعوم أميركياً ودولياً، تحت ذريعة الموجبات الاقتصادية والديموغرافية وإلحاحية "حسن إدارة" الموارد المائيلة على صعيد المشرق العربي، نظراً إلى شح المياه قياساً بالحاجات الحالية، إضافة إلى المستقبلية.

من المفيد قبل الانتقال إلى البعد الاقتصادي للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي بعد قيام الدولة سنة 1948 أن نؤكد أن هناك اتصالاً مستمراً بين طموح واتساع حدود الرؤية الاقتصادية/السياسية التي حكمت فكر وتحرك القيادات الصهيونية دوماً منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا. ولئن أوجبت الظروف المحيطة بالمشروع الصهيوني قدراً من التحفظ و/أو التمويه والتحايل، فإن الرؤية الأساسية ظلت على قدر كبير من العناد والثبات، أي أنها كانت دوماً تضع التحركات الجزئية التكتية على مسار الخط الاستراتيجي الطويل المدى والشمولي.

وهكذا سمحت الوكالة اليهودية لنفسها، في أيار/مايو 1945، بأن تطلب من الحكومة البريطانية اتخاذ "قرار فوري" بإعلان إقامة فلسطين "من دون تجزئة أو انتقاص كدولة يهودية"، وأن تفوض إلى الوكالة اليهودية التحكم في الهجرة اليهودية إلى فلسطين وفي سياستها.[10] وهذا يفسر أيضاً ما شهدته بنفسي في آذار/مارس 1946 حين كنت أشهد جلسة للجنة التحقيق الإنكليزية ـ الأميركية في مبنى جمعية الشبان المسيحيين في القدس، إذ كان حاييم وايزمن يدلي بشهادة أمام اللجنة مشدداً على تحويل فلسطين إلى دولة يهودية. وعندما سأله رئيس اللجنة كيف يصح ذلك من دون الأخذ في الاعتبار حقوق ورغبات الأكثرية العربية في فلسطين التي تصر على تقرير المصير ولا ترضى بتحويل فلسطين إلى دولة يهودية، أجاب وازمن:

"سيدي، أنت لا تستطيع أن تعد طبق عجة من دون كسر البيض."

(حرفياً: Sir, you can’t make an omelet without breaking eggs).

وقد زاد في الإهانة والصدمة لدى الحضور العربي للجلسة، أن لجنة التحقيق، رئيساً وأعضاء، وقفوا احتراماً لوايزمن عند انتهاء شهادته وخروجه من القاعة. و"البيض" الذي لا بد من كسره لإعداد "طبق العجة" كان في حينه 1.328.000 عربي في فلسطين في مقابل 608.000 يهودي، وكان ما يمتلكه اليهود من أرض فلسطين يقل قليلاً عن 6 في المئة من المساحة الإجمالية للبلد، أو نحو 1.6 مليون دونم.[11]

ثانياً: ما بعد قيام الدولة سنة 1948 حتى نهاية سنة 1997

يقوم هذا البحث على أساس أن البعد الاقتصادي للصراع الفلسطيني ـ الصهيوني لم يكن، في يوم من الأيام، صراعاً ساحته الاقتصاد بمفرده؛ إذ تضافرت الأغراض، والرؤى، والمخططات، والأدوات، والوسائل كذلك، في عملية الاغتصاب الاقتصادي وإيصاله إلى القسم الأكبر من أهدافه، لا منذ ظهور الحركة الصهيونية السياسية فحسب، بل أيضاً بعد قيام الدولة اليهودية وبشكل أكثر تأكيداً. ومن هنا، فإن التحليل السليم يتطلب إدراك الترابط والتماسك والتفاعل بين ما هو سياسي أو استراتيجي وعسكري، من أهداف ووسائل، وبين ما هو اقتصادي وتقاني تحديداً. كما يتطلب تناول موضوع البعد الاقتصادي للصراع التعرف إلى العناصر والقوى المكونة للصراع والمتدخلة فيه، في فلسطين والمنطقة العربية كما في مختلف البلاد الأُخرى ذات الوجود اليهودي الفاعل والمؤثر.

لا يسمح مجال هذا البحث بتقديم صورة متكاملة بعناصرها وجزئياتها المتعددة للصراع موضوع البحث، وخصوصاً لأن العلاقة الداخلية هي علاقة تفاعل وتكامل على أرضية تقسيم عمل مخطط له بعناية ومدروس بذكاء ومجهز بما يلزمه من استشراف واع للمستقبل وتنظيم مؤسسي ملائم وقدرات بشرية متميزة، إضافة إلى دعم خارجي وافر ومتعدد الأوجه. لهذا سأحاول في هذا القسم من البحث التعرف، بإيجاز، إلى العناصر والجزئيات والمؤسسات والقوى ذات العلاقة بمسار الاغتصاب الاقتصادي. وسيكون تناولي للعناصر والاقتباسات المختارة أميناً لتواصل مسار الصراع منذ مؤتمر بازل سنة 1897 حتى نهاية الأعوام الخمسين من عمر الدولة، أي مطلع سنة 1998، ومؤكداً ـ باستمرار ـ التواصل في مسار الصراع كما التماسك والتداخل والتفاعل بين مراحله وجزئياته. وسأفعل ذلك وفق المؤشرات التالية:

أ) الرؤية الاقتصادية الحاكمة

يمتد التواصل والترابط بين طموح واتساع حدود الرؤية الاقتصادية التي حكمت فكر القيادات الصهيونية منذ مؤتمر بازل وبين فكر واستراتيجيات القيادات المسيطرة في يومنا الحاضر، أي بعد مضي أكثر من قرن على المؤتمر. ولئن أوجبت الظروف المحيطة بالمشروع الصهيوني قدراً من التحفظ إزاء ما كان هذا المشروع يهدف إليه من مرحلة إلى أُخرى في المسار الاغتصابي، فإن الرؤية والتصميم ظلا على قدر كبير من الثبات إلى المدى الذي كانت تسمح به العوامل الفاعلة من سياسية ودولية وتمويلية، وخصوصاً من قوة عسكرية ذاتية ومستعارة من الخارج. بعبارة أُخرى: إن موجبات الظروف الحاكمة كانت تملي حدود المواقف والتحركات كما التصريحات الصهيونية ثم الإسرائيلية. ويلاحَظ أثر الموجبات في التباين بين طلبات المنظمة الصهيونية العالمية في مؤتمر السلام في باريس سنة 1919، وبين نظيراتها في ما تلا ذلك من مناسبات، كتقرير لجنة التحقيق الملكية (المعروفة باسم لجنة اللورد بيل) الصادر سنة 1937، والكتاب الأبيض البريطاني الصادر سنة 1939، ثم قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في تشرين الثاني/نوفمبر 1947، وأخيراً ما نراه حالياً في منتصف سنة 1998 من اغتصاب متماد للأرض والموارد، ورفض لعودة اللاجئين ولحق الفلسطينيين في تقرير المصير ـ وكله مما يسمح به تعاظم قوة إسرائيل العسكرية واشتداد الدعم الأميركي لها بموازاة حالة الضعف السياسي العربي وانعدام إرادة المجابهة لدى الحكومات العربية. وتبدت هذه التطورات في قيام إسرائيل باحتلال فلسطين وكذلك باحتلال أراض لبنانية وسورية وأردنية ومصرية، ولئن تم الانسحاب من سيناء المصرية بعد قيام جمهورية مصر العربية بتوقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل عقب مفاوضات طويلة وشاقة، كما تم الانسحاب من الأرض الأردنية عدا جزء صغير منها تحتفظ به إسرائيل "بعقد إيجار".

ب) الاستراتيجيا والخطة الاغتصابية

لم يكن لدى الحركة الصهيونية منذ انطلاقها الرسمي في مؤتمر بازل سنة 1897 رؤية شمولية وعقيدة أيديولوجية فحسب، بل أيضاً استراتيجيا وخطة عمل بعيدتا المدى تجسدان الرؤية. ويرى المراقب المدقق استمرار هاتين الاستراتيجيا والخطة مع بعض التموجات الجزئية التكتية في شأن المنحى العام تبعاً للظروف والمعطيات، وخصوصاً السياسية والعسكرية منها. وقد جرى تنظيم الحركة الصهيونية في مختلف مواقع التجمعات اليهودية، وخصوصاً في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، على ذلك الأساس، وأقيمت المؤسسات الضرورية للنهوض بالمهمات السياسية والتعبوية والاقتصادية (وخصوصاً التمويلية) والإدارية اللازمة لذلك.

يكفينا أن نشير هنا إلى ارتكاز الحركة الصهيونية في رؤيتها الشاملة على أيديولوجيا مستقاة، أولاً، من العهد القديم في التوراة و"النبوءات" والمقولات الواردة فيها، وخصوصاً بشأن كون اليهود "شعب الله المختار" وأن الله أعطاهم فلسطين إرثاً ووطناً؛ وهي ثانياً ترتكز على معاناة اليهود عبر قرون كثيرة في "بلاد الشتات" والتمييز ضدهم وعدم إمكان حصولهم على الاطمئنان خارج فلسطين، وبالتالي خطر أخذهم بفكرة الاندماج في الشعوب غير اليهودية (الغوييم). وليس لدينا لإظهار الرؤية الاستراتيجية والخطوط العامة لخطة العمل أفضل من الاقتباس حرفياً من "يوميات هيرتسل الكاملة"[12] التي ظلت هادياً للحركة الصهيونية حتى بعد قيام الدولة:

[....] علينا أن نصادر برقّة (Discreetly and Circumspectly) الأملاك الخاصة في المواقع التي تخصص لنا. سنحاول أن نخرج السكان المعدمين عبر الحدود بتوفير مجالات عمل لهم في بلاد العبور، في حين نحرمهم أي عمل في بلدنا الخاص... ندع مالكي الممتلكات غير المنقولة يعتقدون أنهم يخدعوننا [يحتالون علينا] بأن يبيعونا ما نشتريه بأكثر مما يستحق من ثمن. إلاّ إننا لن نبيعهم أي شيء في المقابل... عندئذ لن نبيع إلاّ ليهود، ويتم تداول الممتلكات العقارية فقط فيما بين اليهود... إذا انتقلنا إلى منطقة فيها حيوانات متوحشة لا يألفها اليهود ـ أفاع طويلة... إلخ ـ فإنني سأستخدم المحليين (Natives)، قبل إعطائهم العمل في بلاد العبور، للقضاء على هذه الحيوانات...

واللافت للنظر أن استراتيجيا الاغتصاب وخطتها اللتين أوضح هيرتسل خطوطهما العريضة في الاقتباس السابق مباشرة لا تختلفان إلاّ جزئياً عن أساليب اغتصاب الموارد، وأبرزها الأرض والمياه (فضلاً عن اغتصاب حق تقرير المصير)، التي تُتَّبَع الآن ونحن في أواخر تسعينات القرن العشرين؛ بل لعل الفارق الأساسي أن الاغتصاب يتم، حالياً، من دون تحفظ أو تحايل على مالكي الأرض وأصحاب الحق في مياه فلسطين، وإنما بصورة مكشوفة ووقحة، تعكس تزايد قوة إسرائيل الذاتية واستمرارية الدعم السياسي والدبلوماسي والمالي الذي تحظى به من الولايات المتحدة ـ الشريك الاستراتيجي المعلن لإسرائيل الذي أصبح ارتباطه بها "ارتباط شراكة رسمية" في عهد الرئيس ريغن.

ونسجل في هذا السياق فشل الأمم المتحدة في تنفيذ قراراتها المتعددة التي تطلب فيها من إسرائيل فسح المجال لعودة اللاجئين وإعادة أملاكهم (أو التعويض لمن يفضل ذلك)، والانسحاب من الأراضي المحتلة، والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير ـ إلى ما هنالك من قرارات و/أو توصيات من مجلس الأمن كما من الجمعية العامة للأمم المتحدة. إن هذه القرارات والتوصيات ظلت حبراً على ورق من دون تنفيذ على الرغم مما يرد في "جعبة" الأمم المتحدة من وسائل لفرض احترام قراراتها، وهي وسائل لجأت إليها الأمم المتحدة في حالات أُخرى من الانتهاك للقرارات وللقوانين الدولية، لكن لم يتم اللجوء فيها بالنسبة إلى إسرائيل بفضل رفض الولايات المتحدة الدائم تطبيق العقوبات المنصوص عليها في حال عدم الخضوع للقرارات.

ج) "البراءة" ـ مؤسسات وأدوات الاغتصاب الاقتصادي

انبثق من الخطة الاغتصابية برنامج محدد عناصره: (1) الاستيطان؛ (2) تنظيم الشعب اليهودي بأسره؛ (3) تعزيز الشعور بالهوية؛ (4) الاتفاقات مع الحكومات لتحقيق هدف الصهيونية[13] ـ وهي عناصر لا تزال الحركة الصهيونية وإسرائيل بالذات تستخدمانها. وكان هيرتسل يصر في انطلاق تحركه على الحصول على ما سماه "براءة" (Charter) تعترف بالسيادة اليهودية على البلد الذي يتم اختياره "ملكاً" لليهود. وحاول قبل وفاته، سنة 1904، إقناع القيصر الألماني بتقديم مثل هذه البراءة، لكنه فشل، فتحول إلى السلطان العثماني عبد الحميد ففشل كذلك. ثم تحول إلى وزير المستعمرات البريطاني، جوزف تشمبرلين، الذي وافق على استيطان اليهود في العريش في مصر، إلاّ إن محادثات هيرتسل مع الحكومة المصرية فشلت بالتالي ـ الأمر الذي جعله يقترح على المؤتمر الصهيوني السادس، سنة 1903، اتخاذ قرار بشأن ملاءمة منطقة إفريقيا الشرقية للاستيطان المرغوب فيه. إلاّ إن هذا الاقتراح لم يفشل نتيجة رفض المؤتمر للفكرة فحسب، بل أدى، أيضاً، إلى اتهام هيرتسل "بخيانة الصهيونية". وهكذا انتهى الأمر باختيار فلسطين لغرض الاستيطان، وحصلت الحركة الصهيونية، في نهاية الأمر، على "البراءة" المنشودة من بريطانيا العظمى بصورة "وعد بلفور" أو تصريح بلفور في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917.

وبالنسبة إلى المؤسسات/الأدوات التي عهد إليها بالوظيفة الاغتصابية فلا يسعني في هذا المجال إلاّ انتقاء الإشارة إلى ما اقترح هيرتسل إنشاءه من أجل غرض اغتصاب فلسطين، بدءاً بالاستلاب المتدرج، ثم الاقتلاع فالتهجير، وبالتالي الاستيلاء على الأرض والمياه. وخلال هذه العملية الممتدة من إقامة أول مستعمرة يهودية سنة 1880 (أي قبل المؤتمر الصهيوني الأول)، إلى عملية استيطان جبل أبو غنيم الجارية حالياً في منتصف سنة 1998، لم يتم تعديل جوهري لا في أغراض الاستلاب ولا في أسلوبه.

إن أول ما اقترحه هيرتسل من مؤسسات وأدوات ما سماه "جمعية اليهود" لتكون الأداة الرئيسية للقيام بكل الخطوات السياسية المبتغاة، بدءاً بحشد الإرادة اليهودية لأغراض تنظيم الهجرة إلى فلسطين والاستيلاء على الأرض بالتدريج، وبموازاة ذلك القيام بالاتصالات السياسية بالدول الأوروبية الكبرى للحصول على دعمها للمشروع الصهيوني. أمّا المؤسسة الثانية المقترحة فكانت الشركة اليهودية لإغراض "جمع المال وتنظيم التجارة والصناعة في البلد المختار، وتصفية ممتلكات اليهود في أوروبا، وشراء الأراضي، ومد المهاجرين بالمساكن والأدوات والقروض." وتسجل الشركة في لندن، وتكون برأس مال قدره مئتا مليون دولار. [14]

وقبل وفاة هيرتسل وبعدها أُنشئت مؤسسات ذات سلطة عليا في غاية الأهمية، أبرزها المنظمة الصهيونية التي غدا المؤتمر الصهيوني هيئتها التشريعية المخولة وضع السياسات العليا للعمل الصهيوني، وأنشئ دونها منظمات أو جمعيات محلية عملت على تنظيم الجوالي اليهودية. أمّا على الصعيد الاقتصادي، تحديداً، فقد قام المؤتمر سنة 1899 بتأسيس "الصندوق اليهودي الاستعماري" (أو "الوقفية اليهودية الاستعمارية")، على أن يكون الهيئة المالية الرئيسية للمنظمة، وانبثق منه شركات مصرفية متعددة بفروع في فلسطين، أساساً، ثم في بلاد أُخرى. ثم أنشأ المؤتمر في سنة 1901 "الصندوق القومي اليهودي" (هكيرن هكييمت ليسرائيل) كأداة رئيسية لتمويل شراء الأراضي وتسجيلها باسمه على أنها ملك للشعب اليهودي غير قابل للانتقال إلى مالكين غير يهود. وكان الصندوق يشترط عدم استخدام عرب ليعملوا في الأملاك المشتراة وكانت تحفزه دعوى "عودة اليهود إلى الارض." وسبق قيام هاتين المؤسستين، وقبل عقد المؤتمر الصهيوني الأول، إنشاء ما سُمِّي "الجمعية اليهودية لاستعمار فلسطين" ـ أو "بيكا" (Palestine Jewish Colonization Association) سنة 1883.[15] وانفقت "بيكا" منذ تأسيسها حتى أواخر عهد الانتداب ما يزيد على 15 مليون جنيه فلسطيني، وابتاعت ما يزيد على 450.000 دونم من الأرض، ثم باعت منها لاحقاً أراضي لإقامة مستعمرات زراعية مستقلة ولمزارعين أفراد، مع تشجيع خاص على الملكية الفردية اعتقاداً من موجهي المؤسسة أن إيجاد طبقة من صغار الملاكين/المزارعين يعزز حب اليهود للأرض وتعلقهم بها. وتميزت هذه المبيعات الفردية بتسهيلات كبيرة بالنسبة إلى الأسعار وطول فترة السداد واستيفاء فائدة رمزية.

يبقى، أخيراً، أن نشير إلى التنظيم العمالي القوي، أي الهستدروت؛ وهي تنظيم عمالي ونقابي ورأسمالي، في آن واحد، يمتلك مؤسسات متنوعة في قطاعات الزراعة والنقل والإنشاءات والتعليم والصحة وإنتاج المواد الغذائية والتمويل... إلخ. وكانت الهستدروت لا تزال تشكل مؤسسة ضخمة ذات وجود سياسي بارز وتمثل كتلة انتخابية قوية جداً. وقد ظلت، قبل قيام الدولة وبعد ذلك بفترة طويلة، تقفل الباب أمام العمالة العربية في المنشآت التي تعمل في إطارها أو تمتلكها.

وبالنسبة إلى الحلقات القيادية، تمتعت المنظمات الصهيونية جميعاً، من المنظمة الصهيونية العالمية والوكالة اليهودية، نزولاً إلى المؤسسات ذات الوظائف الاقتصادية كما السياسية، بمستويات رفيعة من السلطة والكفاءة وبقدر عال من الالتزام بمهماتها وبأدوارها وبمسؤولياتها في ساحة الصراع الاقتصادي مع الفلسطينيين، كما تمتعت بدينامية قرية في عملية الاغتصاب الاقتصادي. ولئن جرت تبدلات في منطوق وظائف هذه المؤسسات وأدوارها، إلاّ إنها كانت تتم بوحي وبمنطق الانتقال من مرحلة من العمل إلى أُخرى ومن ظرف إلى آخر، وبتنسيق واتساق فيما بينها ضمن مرجعياتها وإطار المصالح الصهيونية.

وفي ختام هذا القسم، نسجل أنه لئن تبدلت التعبيرات المستخدمة في الاستراتيجيا والخطة الاقتصادية الصهيونيتين عبر السنين، وكذلك في وظائف المؤسسات الاقتصادية كما السياسية والعسكرية، فإنها لا تقل اليوم عنصرية وغروراً واحتقاراً لحقوق العرب، كما لأشخاصهم ولمجتمعهم، عما كانت عليه قبل قيام دولة. وإذا كان من تبدل في هذه المواصفات فإنه يشكل المزيد من التشدد والثقة بالنفس والغرور المستوحاة جميعها من القوة العسكرية الذاتية والدعم الخارجي الأميركي. فعلى سبيل المثال، لم يمنع موقع حاييم وايزمن، الرئيس الأول للدولة، ولا ما يقال عن دبلوماسيته، من أن يقول للسفير الأميركي الأول لدى إسرائيل (كما في مذكرات هذا الأخير):[16]

إن نزوح الفلسطينيين خارج البلد شكّل حلاً أو تبسيطاً عجائبياً لمتطلبات مهماتنا.

د) الموارد البشرية

إن أبرز ما حققه الاغتصاب الاقتصادي في ظل الاغتصاب والاستلاب السياسي والعسكري لفلسطين لدى قيام الدولة سنة 1948 يتمثل في جانبين: الأول فتح باب الهجرة الحرة والسريعة والواسعة إلى فلسطين، أي تعظيم الحجم السكاني؛ الثاني تمكين الدولة من اغتصاب معظم أرض فلسطين. ونركز الآن على الموارد البشرية ثم نعود لاحقاً إلى الموارد الطبيعية.

قُدّر عدد اليهود المقيمين بفلسطين في أوائل الثمانينات من القرن التاسع عشر بنحو 40.000 نسمة، ولم يبلغ سوى 56.000 نسمة سنة 1918، وهو ما كان يعادل عندئذ 8 في المئة من مجموع السكان المقدر بنحو 700.000 نسمة.[17] وارتفع عدد اليهود إلى 650.000 نسمة والعرب إلى 1.415.000 نسمة سنة 1948 قبل قيام الدولة مباشرة. أي أن مجموع السكان كان في حينه 2.065.000 نسمة، منهم 30 في المئة من اليهود و70 في المئة من العرب.[18] إلاّ إن عدد اليهود والعرب معاً كان، بحسب ما تسجله الإحصاءات الرسمية،[19] 5.8 ملايين نسمة سنة 1996، منهم 4.6 ملايين يهودي، و1.1 مليون عربي في المنطقة المحتلة خارج الضفة الغربية (باستثناء القدس التي تشملها الإحصاءات الإسرائيلية) وقطاع غزة. ويقدر عدد العرب "الإسرائيليين" حالياً، في منتصف سنة 1998، بنحو مليون وربع مليون نسمة، في مقابل 5 ملايين يهودي مع الأخذ في الاعتبار التزايد السكاني الطبيعي. أمّا إذا أخذنا في الاعتبار فلسطين التاريخية، فإن مجموع عدد سكانها الحالي في منتصف سنة 1998 يبلغ نحو 9 ملايين نسمة، منهم 5 ملايين يهودي و4 ملايين عربي، منهم مليون وربع مليون نسمة خارج الضفة (والقدس المحتلة) والقطاع، ونحو 3 ملايين نسمة في الضفة والقطاع بموجب نتائج الإحصاء السكاني في هاتين المنطقتين، والتي أُعلنت في ربيع السنة الحالية (1998) كما نشرتها الصحف المحلية في الأردن ولبنان.[20] وهكذا، يكون التوزع السكاني، حالياً، في فلسطين التاريخية كما يلي: 55 في المئة يهود؛ نحو 11 في المئة عرب خارج الضفة (باستثناء القدس) والقطاع؛ نحو 33 في المئة عرب في الضفة (وتشمل القدس) والقطاع.

على أن تحول السكان اليهود إلى أكثرية لا خارج الضفة والقطاع فحسب (حيث يشكلون 80 في المئة من مجموع السكان هناك)، بل أيضاً في فلسطين التاريخية (55 في المئة) ـ بعد أن كانوا في منتصف سنة 1948 لا يزيدون على 30 في المئة من مجموع سكان فلسطين عشية انتهاء الانتداب البريطاني ـ هذا التحول المطلق والنسبي لا يعبر بمفرده عن القدرة الاقتصادية والتقانية لكل من المجموعتين. فهنا نشهد التباين الأكثر بروزاً بينهما، بالنسبة إلى القدرات، والمهارات البشرية، والمستوى التقاني، والتنظيم المؤسسي، والموارد المالية المتاحة لاقتصاد كل من المجموعتين، وحجم التجارة الخارجية وقيمتها. ومحصلة كل هذه المعايير ـ من دون الدخول في تفصيلاتها والمقارنات بينها بحسب ما تسجلها مراجع دولية موثوق بها وإحصاءات إسرائيلية رسمية[21] ـ تنعكس كمياً في حجم الناتج المحلي الإجمالي وفي تنوع مكوناته ومستواها. وبالنسبة إلى الحجم نفسه، فإن الناتج المحلي الإجمالي لسنة 1996، وهو الرقم الأكثر حداثة والمتاح في منتصف سنة 1998، بلغ 97.6 مليار دولار (أو 304 مليارات شيكل جديد*) بالأسعار الجارية.[22] ويكون نصيب الفرد اليهودي نحو 18.700 دولار (في مقابل ما أقدره شخصياً بنحو 4000 دولار للفرد العربي، أي أن نصيب المليون عربي لعله يبلغ أربعة مليارات دولار).

يجب الإشارة إلى أن الناتج المحلي ـ وبصورة أكثر دلالة الناتج القومي الذي يتضمن المكاسب الصافية لعوامل الإنتاج في الخارج (من سالبة وموجبة) ـ لا يعبر عن أداء كل ما يملكه الجانب اليهودي من مهارات وقدرات ثقافية وعلمية وتنظيمية ومالية ورأسمالية (إنتاجية) فحسب، بل أيضاً عن أداء الموجودات المتوفرة لديه من أراض وعقارات ومنشآت تنشط في مختلف القطاعات. إن مقارنة الوضع الاقتصادي بالنسبة إلى اليهود بنظيره بالنسبة إلى العرب تبيّن أن إسرائيل أصبحت اليوم بلداً صناعياً وثقافياً متفوقاً على أساس الناتج المحلي الإجمالي. فقد تمكنت، فعلاً، من أن تنتقل، خلال نصف قرن، من المرحلة الصناعية إلى المرحلة ما بعد الصناعية بما يميزها من تقدم صناعي واسع ومتطور بفضل مستوى العلم والبحث والتقانة لدى نسبة كبيرة من السكان، والذي ينعكس في مجالات تقانة وصناعة الاتصالات والطائرات والصواريخ والكيماويات... إلخ. والأداء المتطور جداً يضع إسرائيل في مصاف البلاد المتقدمة صناعياً، فالناتج الفردي فيها يعادل ذلك الذي في أستراليا والمملكة المتحدة مثلاً.[23] في المقابل، إن الناتج المحلي للفرد في الضفة والقطاع لا يتعدى 1500 دولار للفرد بافتراض أن حكمت أوضاع طبيعية الأداء الاقتصادي (بل أن الناتج المحلي للفرد حالياً هو دون هذا الرقم بموجب ما يرد في "التقرير الاقتصادي العربي الموحّد 1997").[24] غير أن المقارنة تصبح أكثر مدعاة للأسى إذا أجريناها بالنسبة إلى الدخل القومي للفرد العربي في مقابل الدخل القومي للفرد اليهودي سنة 1946، وهو آخر ما يرد في دراسة رسمية صادرة عن حكومة فلسطين. فقد كان نصيب الفرد العربي عندئذ 50 جنيهاً في مقابل 141 جنيهاً للفرد اليهودي (أي بنسبة 1: 2.8).[25] وارتفعت النسبة، حالياً، إلى 1: 12 لمصلحة الفرد اليهودي في مقابل الفرد العربي في الضفة والقطاع، أو 1: 4.6 للفرد العربي الإسرائيلي.[26]

غير أن هذا التفوق الاقتصادي، بالإضافة إلى القدرات العلمية والتقانية والترسملية الذاتية لدى المنشآت الاقتصادية وقوة العمل اليهودية، تقف وراءه عوامل أُخرى محددة أبرزها التمويل الخارجي الضخم الذي تدفق ويتدفق على إسرائيل ويسمح لها برسملة مرتفعة، وما يرافق هذا التدفق من تعاون علمي ـ تقاني مع الولايات المتحدة وسواها من بلاد كألمانيا وفرنسا ومع اليهودية العالمية، ثم استيلاء إسرائيل على معظم موراد فلسطين الطبيعية وخصوصاً الأرض والمياه، وعلى موجودات اللاجئين المغتصبة على أنواعها منذ إقامة الدولة، وشبكة علاقاتها الدولية المجزية اقتصادياً كما هي سياسياً وتقانياً.

هـ) الموارد الطبيعية: الأرض والمياه

كان اليهود في فلسطين، عند إقامة دولة إسرائيل، يمتلكون نحو 1.6 مليون دونم من الأرض في مقابل 12.5 مليون دونم يمتلكها العرب. أمّا ما تبقى من مساحة فلسطين فكان أملاك دولة، منها 12.1 مليون دونم تعتبر غير قابلة للزراعة في النقب في جنوب فلسطين.[27] وبين إقامة الدولة وتوقيع اتفاقيات الهدنة في ربيع سنة 1949 قفزت مساحة ما سيطرت عليه إسرائيل (وإن تكن لم تمتلكه كلياً) من أراض فلسطينية مستغلة زراعياً إلى 6.6 ملايين دونم (أي أكثر من أربعة أضعاف ما كانت تمتلكه عشية قيام الدولة). فبلغ مجموع المساحة المسيطر عليها سياسياً/اقتصادياً 8.2 ملايين دونم. ثم ارتفع الرقم بعد حرب سنة 1967، واكتساح فلسطين التاريخية بأكملها، إلى 75 في المئة من مساحة الضفة الغربية تقريباً (بما فيها القدس الشرقية) وقطاع غزة، أي ثلاثة أرباع هذه المساحة البالغة 5 ملايين دونم. أمّا نسبة 75 في المئة فتشير إلى ما اقتطعته إسرائيل من أراض بطرق غير شرعية وملتوية ومنافية للقانون الدولي ومتجاهلة لقرارات الأمم المتحدة ـ وأقدرها بـ 3.75 ملايين دونم تقريباً. فيكون مجموع المساحة المسيطر عليها اقتصادياً ـ فضلاً عن السيطرة السياسية ـ 11.95 مليون دونم (أي 8.2 ملايين دونم زائد 3.75 ملايين دونم). ويمثل المجموع المشار إليه (أي 11.95 مليون دونم) ـ بالإضافة إلى مساحة النقب الإجمالية وهي 12.1 مليون دونم ـ 24.05 مليون دونم، أو نحو 90 في المئة من مساحة فلسطين التاريخية. وإذ قفزت المساحة المملوكة من 1.6 مليون دونم إلى المساحة المسيطر عليها وهي 24 مليون دونم تكون السيطرة الإسرائيلية على الأرض تمددت 15 مرة عما كانت عليه عشية انتهاء الانتداب البريطاني.

من المفيد الإشارة إلى مواقع الأراضي التي ابتاعها اليهود قبل قيام الدولة، لأنها كانت مواقع مختارة يحكمها لا مصادفة وجود مالكين مستعدين للبيع فقط، بل أيضاً حاجة استراتيجية للاختيار الإرادي. وكما يقول وليد الخالدي في كتابه الأخير "الصهيونية في مئة عام: من البكاء على الأطلال إلى الهيمنة على المشرق العربي"، فإن المواقع تشبه حرف “N” بالإنكليزية بصورة عامة على الخريطة، فقد كان التموقع يعني "الاستيطان الساحلي بين يافا وحيفا"، وهو الضلع الأيسر، وكان "الضلع الأيمن [يعني] الاستيطان بين بحيرة طبرية وأعالي حوض نهر الأردن، والضلع الأوسط [يعني] الاستيطان عبر السهل الداخلي (مرج ابن عامر)... والحكمة في هذا كله [التموقع] تكمن في أن الاستيطان الساحلي يؤمن الاتصال بالخارج عبر البحار، واستيطان أعالي نهر الأردن يهدف إلى السيطرة على موارد مياهه، بينما الاستيطان البيني [ في ما بين الضلعين الأيسر والأيمن] لا يربط بين الضلعين الآخرين فحسب، ولكنه أيضاً يفصل شمال فلسطين (الجليل) عن سائر البلاد، كما يتحكم عند طرفه الشرقي في (البوّابة) الشرقية لفلسطين عند بدء مرج ابن عامر."[28]

يجب هنا تصحيح حالة سوء فهم (أو سوء نية) يتصل بحجم ما امتلكه اليهود من أرض فلسطين حتى قيام الدولة. فكثيرون ممن يتحدثون عن هذا التملك ينسون أو يتناسون حقيقة ضآلة حجمه، ثم ينسبونه إلى تفريط الفلسطينيين في أرضهم ـ على أن الواقع غير ذلك تماماً، وهو يستحق بعض التفصيل والتدقيق عبر تحديد المساحة التي حصلوا عليها، وإيضاح كيفية حصولهم على ما حصلوا عليه من مساحات بلغ مجموعها نحو 1.6 مليون دونم. والحقيقة في الأمر هي على النحو التالي:

(أ) نحو 30 في المئة مما امتلكه اليهود قبل قيام الدولة، أي 462.250 دونماً، تم شراؤه من مالكين غير فلسطينيين باعوا مساحات واسعة، أكبرها 240.000 دونم تم شراؤها من عائلة سرسق اللبنانية، والتي كانت أكبر صفقة شراء على الإطلاق وأدت إلى اضطرار سكان 23 قرية إلى النزوح عنها. وأسماء مالكي بقية الأرض التي باعها لبنانيون (ومجموع مساحتها 388.800 دونم) متوفرة في وثائق رسمية.[29]

(ب) نحو 56.450 دونماً باعها ملاكون سوريون.

(ج) 8000 دونم باعها ملاكون مصريون من أصل لبناني.

(د) 8000 دونم باعها ملاكون بهائيون (إيرانيون) يقطنون بفلسطين.

(هـ) جزء آخر من الأرض التي امتلكها اليهود حتى نهاية سنة 1936 ومجموع مساحته يبلغ 526.776 دونماً، تم شراؤه من مجموعتين من البائعين: ملاكين كبار غير مقيمين بفلسطين باعوا ما مساحته 358.974 دونماً؛ ملاكين كبار مقيمين بفلسطين باعوا ما مساحته 167.802 دونم.

(و) جزء آخر جرى امتلاكه أيضاً حتى نهاية سنة 1936 تبلغ مساحته 91.001 دونم كانت الحكومة والمؤسسات الدينية والشركات الأجنبية في فلسطين تمتلكه.

(ز) جزء آخر تبلغ مساحته 64.201 دونم تم شراؤه كذلك حتى نهاية سنة 1936 من فلاحين (مالكين صغار).

(ح) أخيراً، إن جزءاً تقدر مساحته بنحو 444.137 دونماً تم شراؤه بين نهاية سنة 1936 ونهاية سنة 1945، وكذلك عبر مبيعات لم تسجل في سجلات الملكية حتى نهاية الانتداب. وهكذا، تكون المساحة الإجمالية لما استطاع اليهود شراءه حتى منتصف سنة 1948 نحو 1.588.365 دونماً. وهناك تباين بين تقديرات المساحة الإجمالية كما تظهر في التفصيلات التي ترد في المصدر الرسمي المشار إليه في حاشية رقم 29 أعلاه، وبين ما يورده خبير يهودي في دراسة له نشرت سنة 1952.[30] والتباين هو 261.635 دونماً (أي بين التقدير العالي كما أورده الخبير، والبالغ 1.850.000 دونم، وبين التقدير الرسمي وهو 1.588.365 دونماً).

أُجريت عدة تقديرات لقيمة الخسائر التي لحقت بالفلسطينيين في إثر قيام دولة إسرائيل من أراض ومبان ومنشآت وتجهيزات متنوعة. أول التقديرات قامت به الأمم المتحدة ـ مكتب اللاجئين، وآخر قامت به الهيئة العربية العليا في صيغتين، ورابع قامت به لجنة الأمم المتحدة للتوفيق. لكنني اعتمدت تقديرين آخرين: أولهما قمت به[31] سنة 1962، والآخر قام به الاقتصادي عاطف قبرصي ونشر سنة 1988 ضمن كتاب لسامي هداوي.[32] والدراسة الأخيرة شارك فيها عدة باحثين استخدموا الخرائط المأخوذة من الجو لأراضي فلسطين والمحفوظة لدى الأمم المتحدة في نيويورك. وجاء تقديرا صايغ وقبرصي متقاربين جداً وبلغا نحو 757 مليون جنيه فلسطيني (نحو 3.8 مليارات دولار بأسعار سنة 1948)، و743 مليون جنيه فلسطيني (نحو 3.7 مليارات دولار بأسعار سنة 1948).[33] إن دراسة صايغ لم تشمل الخسائر البشرية على أنواعها، في حين أن قبرصي أجرى تقديرات لها على أساس نسبة ما دفعته ألمانيا الاتحادية تعويضاً من الخسائر البشرية من مجموع ما دفعته لضحايا النازية، والثانية للتعويض من خسائر الممتلكات، واتفاقية ثالثة أصغر مع 12 بلداً بما فيها النمسا. وبلغ مجموع قيمة الاتفاقيات بأصنافها جميعاً 85 ملياراً و840 مليون مارك ألماني في أوائل سنة 1984، وهي السنة الأخيرة التي تتوفر بشأنها معلومات رسمية مستقاة من مصدر ألماني.[34]

أما بالنسبة إلى موضوع الموارد المائية، فنجد أن إسرائيل تسيطر على نحو 2.200 مليون متر مكعب من المياه بحسب الإحصاءات الإسرائيلية الرسمية.[35] ولم يحدث تبدل كبير في حجم هذا المورد بعد سنة 1967 لأن إسرائيل كانت قبل هذا التاريخ بدأت تسحب نسبة كبيرة من المياه الجوفية، وخصوصاً في الضفة الغربية، وإلى مدى أقل في قطاع غزة، قبل احتلالهما. وبالنسبة إلى الضفة الغربية، كان السحب يتم عن طريق آبار عميقة جداً تستولي إسرائيل بفضلها على جزء من المخزون المائي الجوفي. فالاغتصاب الضخم للمياه تم قبل سنة 1967، وتحديداً منذ أن تمكنت إسرائيل من تحويل قسم من المياه المتدفقة من ينابيع وأودية ومجار خارجة من الجنوب اللبناني وجبل الشيخ (منها نهر اليرموك ونهر الأردن، وتشير التكهنات غير الموثقة رسمياً إلى الاستيلاء على جزء من مياه نهر الليطاني كذلك).

يبلغ الاغتصاب من المياه الجوفية في باطن أرض الضفة الغربية ما يعادل ربع إجمالي المياه المسيطر عليها والمتاحة حالياً لإسرائيل. وقد سمح هذا الاغتصاب لإسرائيل بنمط توزيع يتيح لكل مواطن إسرائيلي خارج المستعمرات، نحو 400 متر مكعب من المياه في السنة. أمّا المستعمرات فنصيبها 600 متر مكعب للفرد سنوياً. غير أن نصيب الفرد الفلسطيني في إسرائيل أقل كثيراً من نصيب الفرد اليهودي، ويبقى في المقابل أن المتاح للفرد الفلسطيني في الضفة والقطاع هو نحو 100 متر مكعب سنوياً. وهكذا، يجب أن يضاف استلاب الموارد المائية إلى الجوانب الأُخرى من الاستلاب الاقتصادي.

وفي هذا المجال، تردد إسرائيل، باستمرار، أنها تواجه أزمة مائية خانقة، وخصوصاً بالنسبة إلى المستقبل، وتطلب ـ مدعومة من الولايات المتحدة بصورة خاصة، ومن الدول الغربية بصورة أقل حدة ـ أن يصار إلى "إدارة المورد المائي" على المستوى الإقليمي. والمطلب المشار إليه يعني أن يصار إلى مقاربة موضوع الموارد المائية إقليمياً، وأن يصار إلى توزيعها على أساس الحاجات الفعلية مع الحاجات الاحتمالية في المستقبل. وتذكر إسرائيل الأسباب التي تدعو إلى طلب ترتيبات إقليمية تجعلها مرشحة للحصول على موارد مائية تفوق ما هو متاح لها، وتحاجج في أن حجم سكانها ازداد كثيراً منذ سنة 1948 وسنة 1967 وأن اقتصادها ـ وخصوصاً القطاع الزراعي منه وكذلك السياحي ـ يستوجب موارد إضافية في المستقبل القريب. على أنه بالنسبة إلى الحجتين المعتمدتين، فإن الأزمة، فعلاً، هي "أزمة مستدرجة"، أو أزمة مفتعلة، فازدياد الحجم السكاني لا يعود إلى ارتفاع نسبة التزايد الطبيعي (وهي متواضعة) وإنما، أساساً، إلى موجات الهجرة التي استدرجتها إسرائيل، وخصوصاً بعد تفكك الاتحاد السوفياتي واستقدام إسرائيل
لـ 800.000 يهودي تقريباً من الاتحاد السوفياتي السابق. وبالنسبة إلى حاجات القطاع الزراعي، فإن الإجابة هي أن هذا القطاع لا يزال مدعوماً منذ قيام إسرائيل، الأمر الذي يشير إلى أنه غير مجز. ومن جهة استخدامه للمياه على الرغم من التكلفة المرتفعة، فإن إسرائيل حتى أعوام قليلة كانت تخصص للزراعة ما لا يقل عن 70 في المئة من إجمالي الموارد المائية المتاحة لها ولا تزال هذه النسبة نحو 60 في المئة.[36] إذاً، سواء أكان بالنسبة إلى التزايد السكاني المستدرج أم إلى الاستخدام المائي في الزراعة، فإن الأزمة المائية، في الواقع، مستدرجة أو مفتعلة ولا يجوز أن يتحمل الفلسطينيون وعرب الجوار ـ أو أن يحملوا ـ مسؤوليتها عبر مقولة "إدارة المياه على المستوى الإقليمي"، أي إعادة توزيع المياه بطريقة تتيح لإسرائيل أكثر مما هو متاح حالياً، بل أن المطلوب إعادة التوزيع بحيث يستعيد الجوار العربي مياهه المسلوبة.

و) الموارد المالية

فيما يتعلق بالموارد المالية، سنضطر إلى الاقتصار على المعلومات عن الكتل المالية الضخمة من المساعدات الخارجية. ذلك بأن المعلومات المتصلة بشأن جميع ما حصلت عليه الحركة الصهيونية، منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى أواخر القرن العشرين، غير متاحة بصورة مفصلة تسمح بتقدير مجاميعها. ولعل العودة إلى ما يتوفر سنوياً من معلومات بشأن المساعدات الخارجية في جداول "ميزان المدفوعات" تمكن الباحث من التفصيلات المطلوبة ما هو منشور، إلاّ إن هذه العملية تتطلب من الوقت والجهد ما يجعلها خارج قدرتي على القيام بها.

إن أبرز الكتل المالية الضخمة جداً اثنتان: أولاهما وردت من الولايات المتحدة، والثانية من ألمانيا الاتحادية ثم الموحدة. وقد نشر مؤخراً معلومات أميركية رسمية تشير إلى حجم المساعدات الأميركية المباشرة، أي التي تسجل في الميزانية العامة للحكومة، وتدخل في ميزان المدفوعات. وقد بلغ مجموعها بحسب ما نشر رسمياً، منذ قيام الدولة سنة 1948 حتى نهاية سنة 1997، 77.7 مليار دولار.[37] وتشير المعلومات التفصيلية الواردة في المجموعة الإحصائية السنوية لإسرائيل لسنة 1997 إلى أن إسرائيل حصلت في سنة 1996 على 7.8 مليارات دولار من التحويلات، منها 844 مليون دولار من الحكومة الألمانية (بموجب اتفاقيتي التعويضات اللتين سبقت الإشارة إليهما واللتين تنفذان منذ الخمسينات)، ومنها "مقبوضات مؤسسية" بلغت مليار دولار (والأرجح أن المقصود ما يرد بواسطة المنظمة الصهيونية العالمية وسواها من مؤسسات صهيونية)، و"تحويلات شخصية" بلغت 3.5 مليارات دولار.[38] وهناك مساعدات أُخرى عينية وإعفاءات جمركية ومساهمات أميركية في مشاريع صناعية وأبحاث تتصل بالأسلحة المتطورة، تقدر عادة بنحو نصف المساعدات الرسمية المسجلة في الميزانية العامة، أي 1.5 مليار دولار سنوياً منذ أكثر من عقد من الزمن.

والكتلة الثانية من المساعدات الخارجية هي ما دفعته ألمانيا الاتحادية (حالياً ألمانيا الموحدة) من تعويضات بموجب اتفاقيات عقدت مع إسرائيل في السنوات الأولى من الخمسينات. وقد تعددت أشكال هذه المساعدات بين نقدية وعينية (والفئة الثانية كانت سلعاً ومعدات وكذلك أسلحة). والشكلان معاً قدما كتعويضات لمختلف زمر المتضررين مادياً وجسدياً في أثناء الحكم النازي. وبلغ مجموعها حتى أول سنة 1984 نحو 86 مليار مارك كما ذكر سابقاً.[39] وإذ لا تتوفر لنا معلومات بشأن حجم المساعدات بعد بداية سنة 1984، فإن تقديرنا أن هذه المساعدات ـ على الرغم من تواضع حجمها بالنسبة إلى الأعوام السابقة وقياساً بما كانت عليه سنة 1996 بحسب ما أشرنا قبلاً ـ لن يكون حجمها، على الأرجح، أقل من مليار مارك سنوياً. فإذا صح تقديرنا، يكون المجموع حتى نهاية سنة 1997 بلغ أو تخطى 100 مليار مارك (أي يرجح أن تكون إسرائيل استلمت 16 مليار مارك بين أول سنة 1984 ونهاية سنة 1997). وهكذا يشير إجمالي حجم المساعدات الرسمية الأميركية والألمانية منذ قيام إسرائيل إلى نهاية سنة 1997، إلى أن إسرائيل (بالنسبة إلى عدد سكانها) وُضعت في رأس قائمة الدول المتلقية لمساعدات خارجية في العالم، ويكون المكلف الألماني ـ كما الأميركي ـ حمل عبئاً ضريبياً ثقيلاً بسبب ما قدمته حكومته من مساعدات إلى إسرائيل. على أن ما تحمله المواطن الفلسطيني (من لاجئ ومقيم) من خسائر مادية متنوعة يضعه في موقع مواز لموقع المواطن الأميركي والألماني على الأقل، وبالإضافة إلى أن عبء المعاناة التي تحملها الفرد الفلسطيني بسبب اغتصاب وطنه وحرمانه من حريته وحقه في تقرير المصير السياسي والاقتصادي يفوق ما تحمله كل من المواطنين الأميركي والألماني كثيراً، إذ يستحيل إعطاء قيمة مالية رقمية للمعاناة النفسية والجسدية ولما مثله استلاب الوطن الفلسطيني من كارثة أليمة لا تحد ولا تقدر بثمن، فضلاً عن الخسائر المادية التي أشرنا، قبلاً، إلى تقديرات حجمها.

ثالثاً: كيف جابه الفلسطينيون عملية الاستلاب الاقتصادي منذ سنة 1897؟

بدأت المجابهة بحالة من التخوف والتحسب لدى قلة ضئيلة من المثقفين والسياسييين الفلسطينيين الذين سمعوا بالمؤتمر الصهيوني الأول بعد عقده، إلاّ إنها لم تتخذ شكلاً شعبياً ولم تؤد إلى أية تعبئة جماعية أو تبصر بكيفية المجابهة، إذ كان اليهود يشكلون، في حينه، مجموعة صغيرة جداً، أي 40.000 نسمة فقط من مجموع السكان في أوائل الثمانينات.[40] فلم يؤخذ وجودهم ولا المؤتمر الصهيوني الأول على أنهما يشكلان سبباً للقلق، إذ كانت الثقة بالنفس والاطمئنان إلى سلامة المجتمع الفلسطيني وحصانة وطنه كافية لحصر ردة الفعل، أساساً، في أضيق الحدود، بحيث يمكن القول إنه لم يكن هناك ردة فعل. فالتباين بين عدد اليهود، ومعظمهم كان في فلسطين لأغراض التعبد في القدس والخليل وطبرية، وبين عدد العرب، من جهة، وضآلة ما كان اليهود يمتلكون من أرض اقتصرت على مساحة المستعمرة الأولى التي أقيمت في الثمانينات من القرن التاسع عشر، من جهة أُخرى، لم يكونا كافيين لإعطاء أخبار المؤتمر الصهيوني الأول أية أهمية تذكر.

تكثفت حالة وعي الخطر الصهيوني، بالتدريج، قبل إصدار وعد بلفور الذي تضمنته رسالة اللورد بلفور الموجهة إلى اللورد روتشيلد باسم الحكومة البريطانية في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917. وكان قد سبق إقرار الوعد اتصالات امتدت عدة أعوام بين قادة الحركة الصهيونية من جهة، والحكومة البريطانية من جهة ثانية، ورئاسة الولايات المتحدة وشخصيات صهيونية (أبرزها القانوني برانديس) من جهة ثالثة. وكان محور الاتصالات والمداولات والنقاش حدود مفهوم "الوطن القومي" ومضمونه وصيغة التحفظات المراد منها استباق مخاوف واعتراض العرب الفلسطينيين والسلطات العثمانية، ثم روسيا وفرنسا. ولئن كان العنصر الأبرز في المخاوف سياسي الطابع، إلاّ إن دلالات "الوعود" الاقتصادية بالنسبة إلى مصالح الفلسطينيين كان يمكن قراءتها بين السطور.

عندما عُرف نص وعد بلفور اشتد القلق وتعززت المخاوف العربية، ونشط التحرك الفكري والسياسي لاستكشاف كيفية الدفاع عن الحقوق والمصالح الفلسطينية.[41] إلاّ إن التحرك البريطاني، وبريطانيا "سيدة المستعمرين" بحسب المصطلح الذي صاغه وليد الخالدي في كتابه المشار إليه قبلاً، وما رافقه من تحرك أميركي في مسارات وصيغ متعددة، هيّآ المناخ في الساحة الفلسطينية للمقاومة والنضال. وكان انطلاق عهد الانتداب معلماً فاصلاً بين حقبتين لأنه وضع الفلسطينيين أمام امتحان قاس؛ فقد حظي كل من الحركة والطموحات الصهيونية، عندئذ، بدعم الحكومة المنتدبة وبدعم الحكومتين البريطانية والأميركية.

وسرعان ما أدرك الفلسطينيون ضعفهم في مقابل زخم الصهيونية ومؤسساتها وما تستند إليه من دعم عسكري وسياسي خارجي (معظمه من بريطانيا)، ومالي (معظمه من اليهودية العالمية، لكن أيضاً من الولايات المتحدة بدءاً من الستينات وبصورة خاصة بعد ذلك انطلاقاً من سنة 1973). ولم يكن للفلسطينيين سبيل للمجابهة ةقد استنفدوا سبل المقاطعة في التعامل، إلاّ النهوض بانتفاضات نضالية في مواقع متعددة من البلد تطورت إلى مقاومة فثورة شاملة في الثلاثينات. وأدى هذا إلى محاولات بريطانية للإلهاء وللالتفاف على المقاومة المسلحة عبر تشديد قبضة الحكومة الضاربة من جهة، وقيام بريطانيا بإرسال بعثات للتحقيق والتقصي من جهة أُخرى. واستمر أسلوب "المعالجة" هذا حتى عشية نهاية الانتداب البريطاني وتسليم القضية إلى الأمم المتحدة. وانصبت اهتمامات لجان التحقيق على قضايا السيادة والهجرة اليهودية، والمحاصّة في السيطرة على الأرض وعلى "الأماكن المقدسة".

وظهر، بالتدريج، عجز العرب عن صد الغزو الاغتصابي. وعلى الرغم من عنف المقاومة وما أنزلته من خسائر بشرية بين اليهود، فإنها ظلت أضعف من أن تؤدي دوراً حاسماً بما لديها من أسلحة محدودة الكمية وبدائية النوعية، وتعبئة بشرية محدودة، في مقابل ما يتوفر لليهود من قوى قتالية مدربة وأسلحة وافرة ومتطورة نسبياً، وسياسة بريطانية داعمة وتشريعات وإجراءات رادعة وصارمة ضد العرب، وضاغطة اقتصادياً.

وإذا أجرينا مقارنة بين ما توفر لليهود في أعوام الانتداب الأخيرة من قدرات عسكرية ذاتية، بشراً مدربين وسلاحاً، مدعومة بالقدرات البريطانية، ومن موارد مالية وافرة جداً قياساً بما كان متاحاً للعرب،[42] ومن دعم دولي غربي في مقابل الدعم العربي المحدود التنظيم والفاعلية عسكرياً وسياسياً والهزيل مالياً ـ إذا أجرينا مثل هذه المقارنة يتضح لنا استعداد العرب للتضحية والمقاومة في مواجهة ظروف متناهية القوة، كما تتضح استحالة صد الغزو ومنع الاغتصاب في محصلة الحساب لميزان القوى. ويصبح هذا أكثر وضوحاً إذا فككنا عناصر ووسائل الغزو والاغتصاب من جهة، وما يقابلها من عناصر ووسائل الدفاع من جهة أُخرى. ونذكّر هنا بمجموعات العناصر والوسائل التي تناولناها في القسم الثاني من البحث، من أجل تفسير وتبرير الاستنتاج القاسي الذي انتهينا إليه بشأن استحالة صد الغزو ومنع الاغتصاب، وذلك على النحو التالي:

الرؤية الشمولية العامة: وكانت مدروسة ومفصلة وقوية التأثير إذ امتدت في عمق التاريخ والثقافة اليهوديين ـ في المقابل كان هناك ردة فعل عربية تتمحور حول مفاهيم الحقوق الوطنية والاعتقاد بعصمة القواعد التي تقوم عليها هذه الحقوق وبحتمية انتصارها النهائي.

استراتيجيا الاغتصاب وخطته: لم تقابل هذه باستراتيجيا دفاعية/اقتحامية مقابلة وبتنظيم وتعبئة قادرة على الصد والدفاع الناجح.

المؤسسات والوسائل: ظلت هذه بدائية ومتناثرة لدى العرب، وإن تميزت بالتصميم، فلم تكن على المستوى العلمي والتنظيم الكافي ولم تحظ بالأبعاد الدولية الداعمة والقادرة على تشكيل أدوات دفاعية/اقتحامية فعالة.

الموارد البشرية: لئن تميزت هذه بالاستعداد للنضال وقبول التضحيات التي نجمت عنه، وبالتفوق العددي، إلاّ إنها كانت من الضعف تنظيماً وتدريباً وتسلحاً وقيادة بحيث لم يكن في قدرتها الصمود طويلاً تحت وطأة ما يقابلها من القوى الصهيونية، ثم الإسرائيلية لاحقاً.

الموارد الطبيعية ـ الأرض: كان للعرب تفوق واضح في مجال امتلاك الأرض، لكنه جوبه بإقدام ملاكين كبار غير فلسطينيين وكذلك فلسطينيين على التفريط في أرضهم أمام الإغراءات المالية اليهودية؛ وتمسُّك صغار الملاكين/الفلاحين بأرضهم بصلابة لم يضعف إلاّ حين سلّطت عليهم قوانين الضرائب الجائرة وأوامر المحاكم بِرَهْن الأرض وبيعها عند الفشل في دفع الضرائب، إمّا لبوار المواسم، وإمّا لاحتباس الأمطار، وإمّا تحت عبء الديون في غياب حركة تعاونية فاعلة وقوية أو نظام تسليف مصرفي زراعي واف.

الموارد الطبيعية ـ المياه: هنا برز دور الدولة بعد سنة 1948 في اغتصاب الموارد المائية باستلاب نصيب كبير من مياه نهر الأردن ثم استلاب قسم لا يستهان به من نهر اليرموك ومن المياه المنحدرة من سورية ولبنان، وكذلك بالقيام، غير الشرعي، بحفر آبار عميقة جداً لسحب المياه من جوف أرض الضفة الغربية، إضافة إلى السيطرة القاسية على المياه المتاحة احتمالياً للفلسطينيين من آبارهم وينابيعهم، بحيث ظلت الكمية الاستهلاكية محدودة، إذ كانت 31 مليون متر مكعب سنة 1979، لتهبط إلى 29 مليون متر مكعب سنة 1984، لتستقر على 28 مليون متر مكعب في الفترة 1990 ـ 1995 (آخر سنة مشمولة بالمجموعة الإحصائية الإسرائيلية لعام 1997).[43]

الموارد المالية: في مقابل الموارد المالية الضخمة التي تدفقت من الجوالي اليهودية في الخارج ـ أفراداً ومؤسسات ـ وخصوصاً تلك المبالغ الضخمة جداً من الولايات المتحدة وألمانيا الاتحادية (وأخيراً من ألمانيا الموحدة) كما بينا في القسم الثاني من البحث، لم يتوفر للعرب الفلسطينيين دعم مالي يذكر. وأسجل في هذا السياق المثالين البارزين لما حظي به الفلسطينيون من دعم مالي: أولهما كان سعي موسى العلمي (أبو فكرة إنشاء "المكتب العربي" بفروعه في الولايات المتحدة وبريطانيا والقدس) لنشر وجهة النظر الفلسطينية في الخارج، وكان سعيه لجمع مليون جنيه (خمسة ملايين دولار) من المشرق، من أجل شراء أراض مهددة بالتحول إلى اليهود. وقد تيسر للعلمي ذلك، لكن المبلغ كان زهيداً في وجه الحاجات الضخمة لإنقاذ الأرض (إمّا لاستعادة بعض ما تم بيعه، وإمّا للحيلولة دون بيع أراض أُخرى). إلاّ إن ما أنشأه الصهيونيون من مؤسسات وتنظيمات للدعاية والإعلام على نطاق واسع جداً، ولجمع الأموال بمئات ملايين الدولارات، لم يكن لتتم مجابهته قط بما توفر للجانب العربي من موارد متواضعة جداً وغير دائمة؛ ثانيهما كان إنشاء "بيت المال العربي" سنة 1946 لغرض تمويل المقاومة الفلسطينية على أسس مدروسة جيداً تتضافر عبرها عطاءات الفقراء (بمقدار "شلن" واحد للفرد ـ كل فرد كان يشتري طابعاً بقيمة شلن من محلات البقالين، ثم تتم جباية الأموال من تلك المحلات.)، وعطاءات الأثرياء الذين جرى تصنيفهم في زمر بحسب مهنهم وحرفهم وقدرتهم على الدفع. وكان لي شرف تكليفي أن أكون المدير العام لبيت المال في فلسطين. وتطلب هذا العمل إقامة لجان في كل من الأقضية داخل الألوية الستة تتألف من ممثلين لكل الحرف والمهن والأنشطة ليقوموا بأنفسهم بتصنيف زملائهم المكلفين، بحسب قدرتهم على دفع ما يطلب منهم. ولدى انتهاء هذه التحضيرات بدئ العمل. وفي سنة 1947، وخلال أشهر معدودة جمع مبلغ 167 ألف جنيه، إلاّ إن اشتداد حالة القتال بين العرب واليهود حال دون استمرار سفر مسؤولي بيت المال إلى مختلف الأقضية والألوية. وتوقف العمل كلياً في خريف سنة 1947 بعد الاضطرابات الدامية التي حال بالبلد لدى إعلان مشروع التقسيم في تشرين الثاني/نوفمبر 1947.[44] (حدثت مفارقة مؤلمة بعد إعلان ما تم جمعه خلال نصف عام من نشاط بيت المال العربي، إذ نشرت الصحف اليهودية أن أرملة يهودية تعيش في جنوب إفريقيا تبرعت بمفردها للوكالة اليهودية بمبلغ مليون جنيه فلسطيني. وجاء هذا العمل تعبيراً مؤلماً عن التباين بين الأموال المتاحة للفلسطينيين من أجل الدفاع عن أرضهم ووطنهم، وبين تلك المتاحة لليهود في سبيل اغتصاب أرض الفلسطينيين ووطنهم).

دور الحكومة البريطانية في تسهيل الاغتصاب: شكلت سياسات حكومة الانتداب وقوانينها وإجراءاتها الوعاء الشمولي الذي سمح للصهيونيين ـ بما كانوا يمتلكون من قدرات ووسائل ذاتية وخارجية ـ باغتصاب فلسطين خلال قرن من الصراع. وقد تضافرت عناصر القوة التي امتلكها اليهود من عسكرية وسياسية ومالية واقتصادية وتقانية وإعلامية وتنظيمية، في مقابل ما كان يحيط بفلسطين من ضعف وتفتت على الصعيد العربي وضآلة المتاح للفلسطينيين من موارد ـ باستثناء صلابتهم وإصرارهم على الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم بالقليل القليل الذي توفر لهم ـ تضافرت بحيث تمكن اليهود من أن يصبحوا أكثرية على أرض فلسطين بعد أن كانوا أقلية صغيرة، ومن أن يستولوا على 80% ـ 85% من مساحة فلسطين بعد أن كانوا يملكون أقل من 6% من هذه المساحة، ومن أن يصبحوا قوة عسكرية ذات قدرات وتجهيزات تضعهم في مصاف الدول الأكثر قوة على الرغم من عددهم الضئيل نسبياً، ومن أن تكون لهم هيمنة سياسية وأمنية واضحة، ويشكلوا قوة عسكرية تستطيع التحكم في المنطقة العربية بأكملها. وبالتالي، مكنتهم هذه العناصر ـ بدعم الولايات المتحدة الأميركية ـ من تحدي مختلف قرارات الأمم المتحدة والقوانين الدولية التي توجب عليهم الانسحاب من الأراضي المحتلة وفسح المجال للفلسطينيين المقيمين كي يمارسوا بحرية حق تقرير المصير السياسي والاقتصادي والعمراني، وللاجئين كي يعودوا إلى أراضيهم ومنازلهم ـ إلى وطنهم المغتصب ـ ويمارسوا بدورهم حقهم في تقرير المصير.

* * *

يتضح الآن، إذ تكتمل عملية الاغتصاب أو تكاد بما لا يترك مجالاً للشك، أنه ما لم يتمكن الشعب الفلسطيني من أن يتجمع على أرضه ومن أن يمارس حق تقرير المصير السياسي، فلن يكون في قدرته ممارسة حق تقرير المصير الاقتصادي، وستظل الفرص الاحتمالية للتنمية والتقدم في مختلف المجالات التي تؤهله قدرات أبنائه وأبناء الشعوب العربية الشقيقة لاقتناصها بعيدة المنال، وسيستمر الفشل في الدفاع عن المصالح والحقوق الحيوية للشعب الفلسطيني، وسيظل المصير العربي ـ كما الفلسطيني ـ مهمشاً وسجيناً في نفق مظلم إلى المدى المنظور.

 

*  قدّم هذا البحث في ندوة صراع القرن (الصراع العربي مع الصهيونية وإسرائيل عبر مئة عام) التي عقدتها مؤسسة عبد الحميد شومان في عمان في الفترة 19 ـ 21/5/1998.

[1]  The Complete Diaries of Theodor Herzl, edited by Raphael Patai, translated from German by Harry Zohn (New York: Herzl Press, 1960), Vol. I, pp. 88-90, 98.

*  يستعمل هيرتسل تعبيراً ترجمته الإنكليزية هي Natives؛ وهو توصيف للسكان يحرمهم صفة المواطنة ويقوم على النظر إليهم كمجموعات بدائية مهمشة.

[2]  Ibid., Vol. II, p. 581.

[3]  كما يرد في المرجع التالي: Marvin Lowenthal, The Diaries of Theodor Herzl (New York: Dial Press, 1956), p. 124. وأنا مدين للمؤلف الفلسطيني وخبير الأراضي البارز سامي هداوي بشأن تناوله تاريخ قضية فلسطين، وخصوصاً بالنسبة إلى الأراضي. وفيما يتعلق بموضوع حدود الدولة اليهودية، أنظر:

Sami Hadawi, Palestine in Focus, edited by Yusif A. Sayigh (Beirut: Palestine Research Center, 1965),

  1. 9-13.

[4]  The Complete Diaries…, op.cit., Vol. II, p. 711.

[5]  Oscar A. Rabinowicz, A Jewish Cyprus Project (New York: Herzl Press, 1962), p. 17.

[6]  أنظر: Ben Halpern, The Jewish State (Boston: Harvard University Press, 1962), pp. 303, 304.

[7]  الاقتباس من المصدر الوارد في:

Yusif A. Sayigh, “Towards Peace in Palestine,” (Beirut: Pamphlet Published by the Fifth of June Society, 1970), p. 8,

نقلاً عن: William B. Ziff, The Rape of Palestine (New York: Longmans & Green, 1930), p. 171.

[8]  أنظر: "التقرير السياسي" المؤرخ في كانون الأول/ديسمبر 1918 المقدم إلى المؤتمر الصهيوني الثاني عشر في لندن من الهيئة التنفيذية للمنظمة الصهيونية، كما يشير إليه:

Robert John & Sami Hadawi, The Palestine Diary (Beirut: Palestine Research Center, 1970), Vol. I, p. 115.

[9]  United States Government, Foreign Relations of the U.S., 1943: Near East and Africa (Washington D.C., 1964), Vol. IV, pp. 736, 771.

وما ورد اقتباسه بالنسبة إلى تقرير الجنرال هيرلي (Patrick J. Hurly) منقول نصه الحرفي من: John & Hadawi, op.cit., p. 13.

[10]  Royal Institute for International Affairs, Great Britain and Palestine: 1915-1945 (London), pp. 139-140.

[11]  بالنسبة إلى السكان، أنظر: يوسف صايغ، "الاقتصاد الإسرائيلي" (القاهرة: جامعة الدول العربية، 1964)، نقلاً عن: Government of Palestine, A Survey of Palestine, 1946, Vol. I, chap. 5, Table, p. 141.

وبالنسبة إلى الأرض أنظر:

Government of Palestine, Village Statistics 1945: A Classification of Land Use and Area Ownership in Palestine, Explanatory Notes by Sami Hadawi, Official Land Valuer and Inspector of Tax Assessments of the Palestine Government (Beirut: Republished by the Research Center of the Palestine Liberation Organization, 1970), chaps. III, IV, and V, pp. 19-36 and detailed Tables, pp. 39-180.

الإحصاءات والمعلومات كلها بالنسبة إلى أرض فلسطين مأخوذة من هذا المصدر الرسمي الموثوق به. والمساحة المشار إليها في البحث مأخوذة من: Ibid, p. 25.

[12]  The Complete Diaries…, op.cit., Vol. I, pp. 88-90, 98.

[13]  أنظر: وليد الخالدي، "الصهيونية في مئة عام: من البكاء على الأطلال إلى الهيمنة على المشرق العربي (1897 ـ 1997)" (بيروت: دار النهار، 1998)، ص 18.

[14]  المصدر نفسه، ص 15.

[15]  المعلومات والإحصاءات المتعلقة بـ "بيكا" (PICA) وما يتصل كذلك بمؤسسات التملك الزراعي مأخوذة من: A Survey…, op.cit., Vol. I, chap. 8; Vol. II, chap. 9.

[16]  أنظر: James McDonald, My Mission in Israel (New York: Simon and Schuster, 1951), p. 176.

[17]  Jewish Agency, Statistical Handbook of Jewish Palestine (Jerusalem, 1947);

وانظر أيضاً:

A Survey…, op.cit., Vol. I, chap. 5, p. 141.

[18]  بالنسبة إلى عدد اليهود ومجموع السكان في سنة 1918، أنظر: Jewish Agency, op.cit.

وكذلك ما يرد في تقرير الحكومة البريطانية بعنوان:

The Royal (Peel) Commission Report, cmd, 5479 (London, 1937), pp. 93, 94.

أمّا بالنسبة إلى عدد اليهود ومجموع السكان مباشرة عند قيام الدولة اليهودية، فانظر:

A Survey…, op.cit., Vol. I, chap. 5, p. 141,

حيث جرى تقدير السكان حتى منتصف أيار/مايو 1948.

[19]  بالنسبة إلى عدد السكان العرب واليهود معاً، أنظر: Statistical Abstract of Israel 1997, Table ½, p. 49. والرقم المنشور هنا هو الأكثر حداثة ويعود إلى سنة 1996.

[20]  أجرت دائرة الإحصاء المركزية الفلسطينية إحصاء لسكان الضفة الغربية (بما فيها القدس الشرقية) وقطاع غزة في ربيع سنة 1998، وكانت النتيجة أن مجموع عدد السكان بلغ نحو 3 ملايين نسمة. ونشرت الصحف اللبنانية والأردنية نتائج الإحصاء في حينه.

[21]  أبرزها اثنان لهما طبيعة عامة هما: التقرير السنوي لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية، "تقرير التنمية البشرية في العام..."، والثاني Statistical Abstract of Israel 1997 تحت فصول مختلفة تتناول زمر القدرات المشار إليها في البحث.

*  متوسط قيمة الدولار في منتصف سنة 1998 يساوي 3.2 شيكلات جديدة.

[22]  بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل، أنظر:

Statistical Abstract of Israel 1997, Table 1/6, p. 175.

من أجل تحويل الشيكل الجديد إلى دولار استخدمت معادلة: الدولار الواحد = 3.111 شيكلات جديدة. كما يرد سعر العملة في: Ibid., Table 9/13, p. 251.

[23]  بالنسبة إلى الناتج القومي للفرد في أستراليا أو المملكة المتحدة الذي جرت المقارنة به في البحث، أنظر: البنك الدولي، "تقرير عن التنمية في العالم 1997"، الجدول رقم 1 في الملحق الإحصائي بعنوان "مؤشرات مختارة للتنمية الدولية".

[24]  أنظر: الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، صندوق النقد العربي، منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول، "التقرير الاقتصادي العربي الموحد 1997"، الفصل الثالث عشر بعنوان "الاقتصاد الفلسطيني"، ص 195 ـ 202، والجدول رقم 1/13، ص 373، 374، بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي لعام 1996 (مصدر المعلومات سلطة النقد الفلسطينية). وجرى تعديل المعلومات بشأن الناتج المحلي، الإجمالي وللفرد باللجوء إلى:

Economist Intelligence Unit, Israel – The Occupied Territories, Country Report, 1st Quarter 1998, Table “Economic Structure,” p. 27. The GDP is estimated at NIS 13,965 bn or 4,031 billion $. Thus the GDP per capita would be about 1,345$.

[25]  J.P. Loftus, National Income of Palestine, 1945 (Jerusalem: Government of Palestine, 1947), Data for 1945 are projected to 1948 from Government of Palestine, A Survey of Palestine (Jerusalem, 1946), Vol. I, Table 1, p. 141.

[26]  جرى احتساب النسبة بين الدخل الفردي للعرب واليهود باستخدام المعلومات لسنة 1946 (والمقدرة لسنة 1948) من جهة، وتلك المسجلة لسنة 1996، من جهة أُخرى، كما في: "التقرير الاقتصادي العربي الموحد 1997" و Economist Intelligence Unit, op.cit. للفلسطينيين، وفي: Statistical Abstract of Israel 1997 لليهود معدلة بما يسجله البنك الدولي في "تقرير عن التنمية في العالم 1997"، الجدول رقم 1.

[27]  أجريتُ الاحتسابات بالنسبة إلى المساحات التي تسيطر عليها إسرائيل (من دون أن تمتلكها كلها) بناء على الإيضاحات الواردة في البحث.

[28]  الخالدي، مصدر سبق ذكره، ص 52 ـ 53.

[29]  أنظر: Government of Palestine, Village…, op.cit., chap III, pp. 26-28.

[30]  Abraham Granott, The Land System in Palestine (London: Eyre and Spottiswoode, 1952), p. 278.

[31]  ترد هذه التقديرات في كتابي "الاقتصاد الإسرائيلي"، الفصل الثالث، وتبلغ 757 مليون جنيه فلسطيني بأسعار سنة 1948.

[32]  أنظر: Dr. Atef Kubursi, “An Economic Assessment of Total Palestinian Losses,” in Sami Hadawi, Palestinian Rights and Losses: A Comprehensive Study (London: Saqi Books, 1988), Part V,
pp. 115-189.

[33]  أنظر: Ibid., p. 183. يقدر قبرصي قيمة ما خسره الفلسطينيون من ممتلكات سنة 1948 بمبلغ 743 مليون جنيه بأسعار سنة 1948 ـ أي أقل من تقدير صايغ (حاشية رقم 31) بنحو 2 في المئة فقط.

[34]  المصدر الألماني الرسمي الذي اقتبس قبرصي المعلومات منه بشأن حجم التعويضات بموجب "اتفاقية لوكسمبورغ" المعقودة سنة 1952 بين الحكومة الألمانية الاتحادية من جهة، وإسرائيل وعدد من المنظمات اليهودية من جهة أُخرى، واتفاقية "تعويض من الممتلكات المفقودة" المعقودة سنة 1957، هو: Federal Republic of Germany, Focus on Restitution in Germany (New York: German Information Center, 1985), p. 6.

[35]  أنظر: Statistical Abstract of Israel 1997, Table 6/15, p. 391.

[36]  Ibid.، وهو يشير إلى أن استخدام المياه للزراعة سنة 1996 كان 59 في المئة من مجموع الاستهلاك، أي مليار و297 مليون متر مكعب من مجموع المياه المتاحة، وهو ملياران و198 مليون متر مكعب.

[37]  أعلنت وكالة الولايات المتحدة للإنماء الدولي ـ مكتب التشريع والشؤون العامة (U.S. Agency for International Development – Bureau of Legislation and Public Affairs) أن مجموع ما قدمته الحكومة الأميركية من مساعدات رسمية لدولة إسرائيل منذ قيامها حتى نهاية سنة 1997 بلغ 77.7 مليار دولار. ونشرت صحيفة "السفير" اللبنانية (25/4/1998) هذه المعلومة نقلاً عن وكالات أنباء دولية.

[38]  Statistical Abstract of Israel 1997, Table 2/7, p. 212.

[39]  Kubursi, op.cit., chap. 18, p. 141 especially.

[40]  في حين يضع الخالدي (مصدر سبق ذكره، ص 18) تقديره الذي سبقت الإشارة إليه وهو 40.000 نسمة، فإن Statistical Abstract of Israel 1997, Table 3/2, p. 52 يقدر عدد اليهود في فلسطين، سنة 1914، بنحو 85 ألف نسمة، مكرراً بذلك ما ورد في كتاب: Jewish Agency, op.cit.

[41]  بالنسبة إلى القلق والمخاوف الفلسطينية والعربية الناجمة عن التحركات الإمبريالية السابقة لإصدار وعد بلفور واللاحقة له، أنظر: John and Hadawi, op.cit., chaps. I, IV, VI.

[42]  أنظر أدناه بند "الموارد المالية" (صفحة 92) من أجل مقارنة الموارد التي أتيحت للفلسطينيين في مقابل تلك المتاحة لليهود، كما تشير إليه الحواشي رقم 33 و34 و37.

[43]  بالنسبة إلى كمية المياه المتاحة للفلسطينيين، أنظر:

Statistical Abstract of Israel 1997, Table 6/15, p. 391.

[44]  تضمنت خطة العمل الفلسطيني التي ضمت ـ فيما ضمت ـ دراسة بشأن بيت المال العربي أعدها الباحث في مركز التخطيط الفلسطيني د. سعيد حمود. وقدمت الدراسة تفصيلات منها ما جاء في هذا البحث بالنسبة إلى بيت المال. وأُعدت الخطة بإشرافي عندما كنت في الفترة 1968 ـ 1971 رئيساً لمجلس التخطيط ومديراً عاماً له. وشارك في إعداد الخطة بأجزائها الخمسة مجموعة من الخبراء الفلسطينيين وبعض الخبراء العرب سواهم. على أن نص الخطة لم ينشر نظراً إلى طبيعتها ومحتوياتها الحساسة، وإنما طبع على الآلة الناسخة عدد محدود من النسخ ووزع على مسؤولي منظمة التحرير الفلسطينية ومجموعة صغيرة جداً غيرهم.

Author biography: 

 أستاذ اقتصاد سابقاً، وناشط في التأليف عن الاقتصادات العربية.