Fifteen Years Since June 1982: Testimony on the Battle of Burj al-Shimali Camp and the Massacres Caused by Israeli Shelling
Keywords: 
مخيم برج الشمالي للاجئين
مخيمات اللاجئين في لبنان
الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982
شهادات
التاريخ الشفوي
المقاومة الفلسطينية
الشهداء
تهديد لبنان
Full text: 

مقدمة

تحدث الكثيرون من الضباط والجنود الإسرائيليين للصحافة العبرية عن وقائع المقاومة العنيدة التي واجهتها القوات الإسرائيلية على أبواب المخيمات الفلسطينية في الجنوب اللبناني، ومنها مخيم برج الشمالي في إبان اجتياح هذه القوات للبنان سنة 1982. وركزت وسائل الإعلام الإسرائيلية، بصورة خاصة، على ظاهرة جديدة سمّتها أطفال الـ "آر.بي.جي." للدلالة على نوع جديد من المقاتلين الفلسطينيين، لم يتجاوزوا سن السادسة عشرة، استطاعوا أن يعيقوا تقدم الجيش الإسرائيلي في أكثر من موقع، وأن يدمروا عدداً من دباباته، وأن يقتلوا ويأسروا بعض ضباطه وجنوده.

كنت استمعت إلى الكثير من الروايات الشفوية عن بطولات المقاومة الشعبية، وعن أعمال القتل الوحشي التي مارستها القوات الإسرائيليةفي حق المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين في المخيمات وفي جوارها. بيد أن ما أثار اهتمامي ندرة المعلومات المدونة، سواء من الجانب العربي أو من الجانب الإسرائيلي، عن المأساة المروعة التي تعرض لها سكان مخيم برج الشمالي، نتيجة قصف الطيران الإسرائيلي المتعمد لملاجئ المدنيين، الذي راح ضحيته في يوم واحد (7/6/1982) وخلال ساعات معدودة نحو 125 من سكان المخيم نساءً وشيوخاً وأطفالاً:[1] ملجأ نادي الحولة 94 ضحية؛ مغارة علي الرميِّض/أبو خنجر 21 ضحية؛ ملجأ روضة النجدة الاجتماعية 7 ضحايا؛ مغارة حي المغاربة (3 ضحايا).

قد يتردد البعض، استناداً إلى معايير معينة، في تسمية ما حدث في مخيم برج الشمالي يوم 7 حزيران/يونيو، "مجزرة" على غرار ما حدث في دير ياسين أو صبرا وشاتيلا، باعتبار أن ما حدث جاء في سياق الأعمال الحربية التي يتعرض لها عادة المدنيون الموجودون في ساحات القتال. غير أننا لا نوافق هذا البعض الرأي لأسباب عدة منها: سجل الحروب الإسرائيلية الحافل بالمجازر ضد المدنيين العزّل استناداً إلى دعاوى أيديولوجية وتبريرات أسطورية يحفل بها التاريخ اليهودي، فضلاً عن ضرورة وضع مثل هذه الأعمال في سياق الاستراتيجيا الإسرائيليةكما عبرت عنها تصريحات المسؤولين الإسرائيليين آنذاك، والتي كانت تقضي بالقيام بحرب خاطفة لا تستغرق أكثر من 72 ساعة. وبحسب هذه الاستراتيجيا، كان لا بد من كسر شوكة المقاومة في المخيمات، عبر استهداف المدنيين بالقصف التدميري المتعمد للمخيمات قبل اقتحامها، من أجل التخفيف من خسائر القوات الإسرائيليةفي الأرواح. وهذا ما جرى في مخيم برج الشمالي وغيره من المخيمات مثل الرشيدية وعين الحلوة؛ أي محاولة تخطي "عجز القوة" إزاء صلابة المقاومة في المخيمات التي وصفها المعلق العسكري لصحيفة "هآرتس"، زئيف شيف، آنذاك بأنها "جزرة صعبة الكسر"، و"جوزات من فولاذ".

وفي المحصلة، مهما تكن التسمية، فإن ما حدث في برج الشمالي يوم السابع من حزيران/يونيو 1982 يفضح مقولة "طهارة السلاح" الإسرائيلي، ولا يقلل في الوقت ذاته من هول المأساة التي تعرض لها سكان المخيم، الذين لا يعتبرون ما حدث أنه أقل من مجزرة.

وقد حاولنا تصوير مشهد الحرب في مخيم برج الشمالي من خلال روايات المقاومين وروايات ذوي الضحايا التي تحكي وقائع ما حدث ضمن سياق المقاومة لا خارجه.

لجأنا إلى تكوين رواية واحدة للحصار والمقاومة التي جابه بها سكان المخيم القوات الغازية عن طريق دمج التفصيلات التي تضمنتها شهادات ثلاثة من المقاومين الشباب. كما سجلنا عدداً من الشهادات اخترنا أصحابها من أهالي الضحايا الأقربين أو من الناجين القليلين ممن كانوا في الملاجئ والمغاور التي تعرضت للقصف.[2]

أولاً: شهادات عن الحصار والمقاومة

 - وليد المصري (34 عاماً)، الناعمة/صفد

- كمال جمعة/أبو العز (49 عاماً)، الناعمة/صفد

- جمال حميد/أبو جميل (40 عاماً)

تمكنا من خلال دمج التفصيلات التي تضمنتها الشهادات الثلاث من تحديد وقائع الحصار والمقاومة بتسلسلها الزمني خلال اليومين الأولين للحرب (6 و7 حزيران/يونيو 1982). غير أن الشهادات تضمنت أيضاً وقائع مسيرة المجموعات المقاتلة عند انسحابها من المخيم في اتجاه صيدا، والأحداث التي تخللت تلك المسيرة.

ومما يجدر ذكره هنا أن شذرات من وقائع الحصار والمقاومة قد نجدها أيضاً في شهادات ذوي الضحايا.

الجمعة/السبت، 4 و5 حزيران/يونيو 1982

  • تعرضت مناطق الجنوب اللبناني، وخصوصاً منطقة صور ومخيماتها، لغارات الطيران الحربي الإسرائيلي وللقصف المدفعي. كما قامت سفن سلاح البحر الإسرائيلي بقصف مناطق عدة في محاذاة الساحل اللبناني.

الأحد، 6 حزيران/يونيو 1982

  • فوجئنا بوصول المجنزرات الإسرائيلية إلى مشارف المخيم، ظُهر هذا اليوم، وهي ترفع الأعلام اللبنانية. اعتقدنا في البداية أنها تابعة لجيش لبنان العربي بقيادة الرائد أحمد الخطيب. ولما تأكدنا من هويتها بدأنا بتنظيم المقاومة، فشكلنا مجموعات صغيرة من المقاتلين (2 - 3 أفراد) مسلحة بمدافع "آر.بي.جي." وأسلحة خفيفة، وتوزعت المجموعات على مداخل المخيم كافة.
  • حاولت الدبابات التقدم إلى المدخلين الجنوبي (المدخل الرئيسي) والشمالي الشرقي للمخيم (في اتجاه منطقة الرمالة)، فتم تدمير 4 دبابات عند المدخل الأول، و3 دبابات أُخرى عند المدخل الثاني.
  • حاولت القوات الإسرائيلية، نحو الثالثة عصراً، التقدم إلى المدخل الشرقي للمخيم (في اتجاه مدرسة فلسطين). وكان بين الدبابات جرافة (بلدوزر). تم تدمير الجرافة ودبابة واحدة، الأمر الذي أجبر القوة المتقدمة على الانكفاء.
  • تمكنت مجموعاتنا المقاتلة خلال نهار ذلك اليوم من أسر 4 من أفراد الجيش الإسرائيلي عند المدخل الجنوبي: اثنين منهم كانا أصيبا بجروح. كما استشهد أحد مقاتلينا، وهو الشهيد أبو خلدون.
  • عُقد اجتماع نحو السادسة مساءً لقادة المجموعات المقاتلة بهدف إعادة توزيع المجموعات على محاور القتال، بعد أن تركز ثقل القوات الإسرائيلية عند المدخل الشرقي للمخيم، وعند مدخله الرئيسي من جهة الجنوب.
  • سمعنا نحو الثامنة ليلاً أصوات انفجارات وإطلاق نار داخل المخيم في اتجاه مدرسة الصرفند. تحرك بعض المجموعات في هذا الاتجاه فوجد دبابات إسرائيلية داخل المدرسة، وفوق سطح الملجأ الذي يؤوي عدداً من الأهالي. وكان في محيط المدرسة مجموعة مقاتلة قررت عدم التصدي للدبابات خوفاً على الأهالي داخل الملجأ.
  • فوجئنا بمجموعة أُخرى في محيط المدرسة بدأت مهاجمة الدبابات الإسرائيلية، وشاركت المجموعات الأُخرى في التصدي للدبابات. كانت المحصلة تدمير 3 دبابات، بينما فرَّ بعض الجنود من دباباتهم في اتجاه مؤسسة جبل عامل؛ وقامت مجموعاتنا بتفكيك الرشاشات المنصوبة على الدبابات التي خلفوها وراءهم.
  • شنت القوات الإسرائيلية نحو الثالثة فجراً هجوماً آخر من ناحية الجنوب، فتصدت لها مجموعاتنا ودمرت دبابة واحدة قرب بستان أبو خليل.
  • تحركت دبابات إسرائيلية، نحو الرابعة فجراً، صوب المدخل الشمالي الشرقي للمخيم (منطقة الرمالة)، في محاولة لشن هجوم آخر، فتصدت لها مجموعاتنا وأوقفت تقدمها.

الاثنين، 7 حزيران/يونيو 1982

  • كررت القوات الإسرائيلية صباح هذا اليوم نداءاتها بالاستسلام (سلِّم تسلم... وغيرها)، وبخروج المقاتلين من المخيم.
  • قامت القوات الإسرائيلية طوال خمس ساعات (من الثامنة صباحاً حتى الواحدة ظهراً) بقصف جوي مدفعي تدميري لمداخل المخيم كافة. وبد القصف فوجئنا بالدبابات الإسرائيلية تتقدم في اتجاه المداخل كافة. تصدت مجموعاتنا للدبابات ومنعت اختراقها للمداخل.
  • توجه بعض مجموعاتنا لتفقد الملاجئ بعد القصف المكثف، ولتأمين حاجات الأهالي من المواد التموينية.
  • نفذ الطيران الإسرائيلي ما بين الخامسة عصراً والثامنة مساءً المجزرة، إذ شن غارات وحشية في عمق المخيم وفي محيطه طالت، بصورة خاصة، الملاجئ والمغاور التي لجأ إليها المدنيون. تسبب القصف بتدمير الملاجئ والمغاور على من فيها، وبتدمير عدد كبير جداً من بيوت المخيم. استخدم الطيران الإسرائيلي القنابل الفوسفورية الحارقة في ضرب الملاجئ، وخصوصاً ملجأ نادي الحولة، الذي كان في داخله نحو مئة من المدنيين. وكانت الحصيلة النهائية لهذا القصف 94 ضحية.
  • توجه بعض مجموعاتنا إلى ملجأ نادي الحولة، وكان لا يزال يُسمع أنين بعض الجرحى. كان الظلام دامساً في الداخل. أنرنا الملجأ عبر فتحة خلّفها القصف وحاولنا الدخول. كانت الجثث محترقة ومتفحمة. أخرجنا الطفل مازن فايز الذي ما لبث أن فارق الحياة في المستوصف... امرأة أُخرى حاولت جاهدة أن تقف على قدميها، لكن سرعان ما انهارت وفارقت الحياة. ثلاث نساء فقط نجون في المحصلة (أم العز وسعاد ولمعة)، بينما تحول الملجأ إلى مقبرة جماعية.

lتبين أن ملاجئ أُخرى قد دمرت وهي: ملجأ روضة النجدة الاجتماعية؛ مغارة علي الرميِّض/أبو خنجر؛ مغارة حي المغاربة التي استشهد بداخلها من استشهد. وكان هناك قتلى وجرحى في الشوارع. صادفنا أماً حاملاً وضعت طفلها في الشارع خلال فترة القصف، وهي آسيا كامل فياض. نجا الطفل من الموت فسمّته أمه ناجي.

lدب الذعر والهلع بين الأهالي فخرج معظمهم إلى مؤسسة جبل عامل في جوار المخيم، ظناً منهم أنها تشكل مكاناً آمناً. وبدأ وضع المدنيين يضغط على المقاومين من أجل إيقاف القتال حفاظاً على أرواح من بقي حياً منهم.

  • عُقدت ما بين العاشرة ليلاً والثانية فجراً اجتماعات في غرفة العمليات بقيادة الأخ بلال (قائد القطاع الأوسط). تم اتخاذ قرار الانسحاب من المخيم في تشكيلات قتالية. وتشكلت مجموعات بقيادة الأخ عيسى النبي لتفخيخ الدبابات المدمرة. وتم تأمين مواد تموينية من بعض الدكاكين المدمرة. وتجمع نحو 75 مقاوماً في حي الصفافرة (أهل بلدة صفورية) استعداداً للانسحاب.
  • جاء الأخ أبو علي مسعود (قائد منطقة صور التنظيمية)، والأخ بلال الذي كان معه بعض الأسرى الإسرائيليين. وتقرر أن تكون نقطة الانسحاب في منطقة الحمّادية، شمالي المخيم (يحد المخيم من جهة الشمال جرف صخري يؤدي إلى منخفض مغطى بالبساتين الكثيفة). وانقسمنا إلى مجموعات قتالية اصطحبت معها الأسرى الإسرائيليين.
  • انطلقنا من الحمّادية. كنا ننام نهاراً ونمشي ليلاً. وصلنا الحلوسيّة على نهر الليطاني. تجمع هناك نحو 600 مقاتل. وقدّم أهل الحلوسية والزرارية الطعام لكل هذا العدد من المقاتلين. نُقل الطعام على ظهور الحمير (خبز وأرز ولحم)، وكان بيننا مقاتلون من أهالي القريتين المذكورتين. من هناك انتقل بعض المجموعات إلى وادي جهنم الواقع تحت قرية الزرارية. ومنه سرنا ليلاً حتى وصلنا البابلية قرب الزهراني. وبينما كنا في البابلية استمعنا إلى تصريح صلاح خلف (أبو إياد) عبر المذياع يقول فيه: "إن المقاومة المسلحة قد انتهت، وإن نضالنا أصبح سياسياً." كان لهذا التصريح تأثير سيئ جداً في معنويات المقاتلين. كان ذلك في اليوم الخامس من المسيرة [يحدد الأخ وليد توقيت التصريح بتاريخ 12/6/1982 على وجه الدقة]. وفي الوقت ذاته، علمنا من الأخبار أن مخيم عين الحلوة ما زال يقاوم [بحسب اليوميات المدونة، دخلت القوات الإسرائيلية مخيم عين الحلوة في 14/6/1982]، فقررنا مواصلة المسيرة في اتجاه عين الحلوة والانضمام إلى المقاومة. انتقلنا من البابلية إلى تُفاحْتا، ومنها تحركنا ليلاً فقطعنا خط التابلاين ودخلنا بستان الصلح ومنه دخلنا بستاناً خلف الغازية كان فيه خيم بلاستيكية.
  • حاصرتنا الدبابات الإسرائيلية في هذا البستان بسبب وشاية أحد القرويين. كان ذلك نحو الواحدة والثلث ظهراً. وُجِّهت إلينا نداءات للاستسلام عبر مكبرات الصوت: "سلِّم تسلم... الإداري يسلم." اشتبكنا مع الدبابات واستشهد منا نحو 35، منهم 8 شهداء من شباب برج الشمالي و16 شهيداً من بنغلادش. وحُرِّر الأسير الإسرائيلي. كان بين شهداء المخيم: محمد الجمّال وممدوح والضابط علي بصل الذي كان الأسير بصحبته. وتم أسر نحو 29 من المجموعة، 7 منهم كانوا جرحى، نقلوا إلى داخل فلسطين. وكان بين الجرحى محمود إسماعيل. ثلاثة شباب فقط نجوا من الحصار وهم: أبو العز وخالد الأسمر وشاب آخر اسمه الأول سعيد.[3]
  • استغرقت المسيرة ثمانية أيام من دون طعام أو ماء، سوى القليل جداً منهما. وكانت الأولوية لإطعام الأسير الإسرائيلي بهدف إيصاله حياً معافى إلى صيدا. دخلت القوات الإسرائيلية مخيم برج الشمالي في 17/6/1982، بعد أن تأكد لها خلو المخيم تماماً من المجموعات المقاتلة. وعندما تم سحب الآليات المدمّرة من محيط المخيم انفجر ما كان منها قد فخخ قبل انسحاب المقاتلين.

خلاصة

إن الوقائع الجافة ليس لها أن تصور تصويراً حياً نابضاً بالأحاسيس والمشاعر التجربة التي عاشها مخيم برج الشمالي خلال يومين من الغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982. إنها تنبئنا بصورة تقريرية فقط بواقع التجربة من دون أن تجعلنا نعيشها حقاً مع من عاشوها؛ فهو عاشوا زمن التجربة ونحن نعيش زمناً آخر، زمن ما بعد التجربة. وهذان زمانان لا يلتقيان أبداً.

أود هنا تأكيد جملة من المسائل:

1) لقد خسر الجيش الإسرائيلي في معركة برج الشمالي وخلال يومين فقط نحو 14 دبابة وآلية بحسب معظم الروايات، كما تم أسر أربعة من أفراده بينهم قائد الوحدة المدرعة التي حاصرت المخيم، وهو ضابط برتبة عالية، بذلت القوات الإسرائيلية جهوداً مضنية من أجل العثور على جثته بعد مقتله، ربما نتيجة القصف الإسرائيلية نفسه. لكن الشهادات التي حصلنا عليها لا تتحدث سوى عن مصير أسيرين من هؤلاء. أحدهما الضابط ذو الرتبة العالية (الشهادتان 6 و7)، والآخر الأسير الذي اصطحبته معها المجموعات المقاتلة وحُرر في منطقة الغازية في إثر حصار القوات الإسرائيلية لتلك المجموعات (شهادة الحصار والمقاومة).

2) أدت المجموعات المحترفة من المقاتلين، الذين ظلوا في الجنوب ولم ينسحبوا مع قوات الثورة الفلسطينية إلى بيروت، دوراً مميزاً في تنظيم المقاومة داخل المخيمات. وفي هذا السياق كان لوجود الأخ بلال، قائد القطاع الأوسط في منطقة برج الشمالي، دور أساسي في تعزيز مقاومة المخيم. وهو المشهود له بالجرأة والإقدام خلال المعارك السابقة مع العدو الصهيوني، ومنها معارك اجتياح سنة 1978. غير أن مصير الأخ بلال بقي ملتبساً بعد خروجه من المخيم (!) يؤكد معظم الروايات التي سمعتها أنه ظل وقتاً طويلاً (ستة شهور) ينظم صفوف المقاومة في الجنوب بالتنسيق مع بعض أطراف المقاومة اللبنانية، لكن هذه الروايات ترجح استشهاده بعد أن وشى به عملاء إسرائيل هناك.

3) اتجهت مجموعات أُخرى من المقاتلين الذين خرجوا من المخيم، عدا المجموعة التي حوصرت في الغازية بحسب الرواية، إلى صيدا؛ ومن هذه المجموعات مجموعة الشهيد أحمد رحيِّل التي سلكت خط سكة الحديد ونجحت في الوصول إلى مخيم عين الحلوة، حيث اشتبكت مع القوات الإسرائيلية عند مفرق الفرن العربي الذي لا يزال قائماً حتى الآن. وقد استشهد من هذه المجموعة، إلى جانب أحمد رحيِّل، المقاتلان زاهي الحاج وأحمد مالك.

ثانياً: شهادات ذوي الضحايا

في مخيم برج الشمالي ثمة مساحة صغيرة للذاكرة الجماعية. ففي الطرف الشرقي من المخيم توجد بقايا نادي الحولة الذي نفذ الطيران الإسرائيلي في ملجئه المجزرة المروعة. تحول الملجأ إلى مقبرة جماعية، وامتدت البيوت لاحقاً لتحتل جزءاً من مساحة أرضه، عدا عدة أمتار مربعة أُقيم فوقها نصب تذكاري متواضع يتألف من عدة طبقات من الحجارة الأسمنتية، وتظلله شجرة سرو عالية. والنصب من دون لوحة أو نقش أو أي نوع من الكتابة التذكارية. في الأيام العادية يتجاور الأحياء مع أعزائهم الموتى في ألفة حميمة. وفي الأعياد يأتون إلى النصب فيضعون أغصان الآس ويحرقون البخور ويضيئون الشموع ويجددون أحزانهم الدفينة ثم يمضون.

كانت محض مصادفة أنني بدأت إجراء مقابلاتي في اليوم الثالث للعيد، عيد الأضحى. نبشت رماد الأحزان فانبعثت من جديد. وأخبرني أحد الرواة أن جواً من الحزن ظل يسكن بيتهم طوال أكثر من أسبوع منذ إجراء المقابلة:

1) محمد مصطفى عبد الله (45 عاماً)، الناعمة

محمد من مواليد الشتات (1953)، حائز شهادة بكالوريا فنية في كهرباء السيارات ويعمل سائق شاحنة. فقد محمد زوجته وأربعة من أطفاله في مجزرة ملجأ نادي الحولة. الأطفال هم: نضال (6 أعوام)؛ يمنى (4 أعوام)؛ سوسن (عامان)؛ نسرين (شهر واحد).

ما كدنا نجلس في غرفة الضيوف في بيت محمد حتى أطلت علينا والدته الحاجة أم خميس. لقد أحست الحاجة بأن غريباً جاء ولأمر غير عادي. استفسرت بطريقتها الخاصة عن مغزى الزيارة. لم يخبرها محمد بشيء. وكنت من جانبي أود لو تجلس وتشاركنا الحديث. ولما سألت محمد عن سبب عدم إخبارها بالأمر قال: لا أريد إثارة أحزانها من جديد. وأية أحزان!! فالحاجة أم خميس فقدت في ملجأ نادي الحولة ابنتها زينب (18 عاماً)، وابنها حسن فقد ابنة أسامة (عام واحد)، وأصيبت زوجته سعاد بحروق، ثم ما لبثت بعد علاجها أن فُقدت هي وزوجها حسن وهما في طريقهما إلى بيروت. بالإضافة إلى ذلك فقد ابنها نعمة زوجته وابنه وابنته. وأصيبت ابنتها مريم (أم العز) بحروق وإصابات بليغة بعد أن فقدت أطفالها الخمسة.

عندما عرفت كل هذه المآسي أدركت أن محمداً كان محقاً عندما أخفى الأمر عن أمه...

السنديانة العجوز أم خميس

بدأ محمد الحديث فقال: كانت حرب 1982 من أسوأ الحروب. دُمر المخيم وكان الوضع أشبه بيوم القيامة. كل إنسان يركض في اتجاه مختلف، يسأل عن ذويه وسط القصف والدمار... حائط كامل انهار علي وأنا أركض في الشارع. صديقي نوح الفايز غطى رأسه بصندوق خشبي ليقيه من القصف. انتشلوني من تحت الردم ولم أشعر بآلامي. وكانت الفاجعة الكبرى عندما علمنا بمجزرة نادي الحولة. ركضت إلى النادي وكنت أول الواصلين. شاهدت الضحايا تسبح في دمائها. انتشلت ثلاثة من أولادي ولم أعثر على الرابع ولا على جثمان زوجتي. نقلت أطفالي إلى مؤسسة جبل عامل وكانت الطرق مدمرة. ولم يكن يوجد وسائل إسعاف في المؤسسة. وما أن طلع الصباح حتى فارق أطفالي الحياة. دفنتهم في قبر جماعي في جنينة [حديقة] داخل المخيم. أُسرت مع من أُسر من الشباب ونقلت إلى أحد المعتقلات في فلسطين ثم إلى معتقل أنصار. وخرجت من المعتقل مع من خرجوا.

بعد أن انتهى محمد من قوله هذا، سألته: كيف تجاوزت هذه التجربة المأساة وبدأت حياتك من جديد؟!

أجاب: بعد عامين من خروجي من معتقل أنصار فكرت ملياً وتساءلت: هل أبني أسرة جديدة لكي أقدمها قرباناً مرة ثانية؟ ترددت ثم ما لبثت أن حزمت أمري في النهاية، لأن الحياة لا بد من أن تستمر. في أنصار تعمق لديّ الإحساس بقيمة الحياة.. حياتي وحياة الآخرين. قلت في نفسي لو لم أكن أسيراً لكنت ربما ميتاً. وكان هاجسي كيف أتماسك ولا أضعف فأُعرض حياتي وحياة رفاقي للخطر. كنت أردد بيني وبين نفسي الأجوبة المتعددة عن كل ما أتوقعه من أسئلة المحقق حتى أختار الجواب الأنسب. تشبثت بالحياة وتزوجت سنة 1984 وأنجبت خمسة أطفال هم: سلام (8 أعوام)؛ سماح (6 أعوام)؛ زينب (3 أعوام)؛ مصطفى (عامان ونصف العام)؛ شادي (ستة شهور). وهم اليوم في سن أطفالي الشهداء تقريباً.

سألت محمد: هل حدثت أطفالك عن المأساة؟ وهل تحتفظ بصور لإخوتهم الشهداء؟ وهل تسمح لهم برؤية تلك الصور؟ ولماذا لم تفكر في تسمية أولادك الأسماء السابقة نفسها؟

أجاب: لم أسمّ الأسماء نفسها حتى لا يبقى الجرح مفتوحاً. وأولادي يعرفون أنه كان لهم إخوة قتلتهم إسرائيل، وهم يشاهدون الصور أحياناً ويسألون لمن هذه الصورة أو تلك، فالإخوة متشابهون. غداً سيكبرون وسيعرفون. جيلنا مثلاً لم يشهد مجازر أيلول 1970، لكنه يعرف عنها كل شيء. كل جيل من الفلسطينيين يحفظ مأساته عن ظهر قلب وينقلها إلى الجيل الآخر.

2) نعمة مصطفى عبد الله (49 عاماً)، الناعمة

فقد نعمة زوجته (مريم) وطفليه رامي (6 أعوام) ورانيا (4 أعوام) في المجزرة وكانت زوجته حاملاً ومتوقعاً أن تضع مولودها يوم حدثت المجزرة بالذات. التقيته في بيت أخته مريم (أم العز) وكان قد تهيأ للحديث.

بعد أن حدثني عن محاصرة المخيم وفشل القوات الإسرائيلية في دخوله طوال يوم 6/6/1982، وتهديداتها بتدميره ما لم يُسلِّم "المخربون" أنفسهم وتُسلَّم الأسلحة قبل الثانية عشرة ظُهر يوم 7/6/1982، قال نعمة: ليلة 7 حزيران/يونيو، نقلت زوجتي وأولادي إلى ملجأ مؤسسة جبل عامل الواقعة في محاذاة المخيم. ولما بدأ القصف التدميري للمخيم بعد ظُهر اليوم نفسه، أدركت عن طريق الحاسة السادسة أن أولادي قتلوا. وكنت غادرت ملجأ روضة النجدة الاجتماعية قبل خمس دقائق من قصفه حيث استشهد فيه 13 شخصاً. أسرعت إلى ملجأ مؤسسة جبل عامل بحثاً عن أسرتي فقيل لي إنها انتقلت إلى ملجأ نادي الحولة. وهكذا صدق حدسي... لا أدري كيف وصلت إلى الملجأ الذي كانت الطريق إليه مغطاة بالركام والأنقاض. نزلت إلى الملجأ.. كانت الجثث محترقة والضحايا عراة بعد أن احترقت ملابسهم. "يعني شعري شاب مجرد ما شفت هيك منظر." قالوا لي: نقلنا أختك (أم العز) إلى مستوصف جيش التحرير الفلسطيني من أجل إسعافها لأنه "محروقة وعيونها ما بتشوف فيهن." وبعد أن علمت أن أختي الثانية (زينب) قد استشهدت في الملجأ فقدت صوابي ورحت في نوبة بكاء طويلة. وقلت "يا رب تخلّيلي هالأخت بس" [يقصد أم العز]. وكان في الملجأ أولادي وأولاد أخي محمد وأختي مريم (أم العز). انتشلنا الأولاد وكان بينهم ابنتي رانيا التي كانت تتعلم في روضة النادي. قالت لي رانيا يومها: "يا بابا... يا بابا... أنا معدش بدي أروح على المدرسة." لا أدري كيف قلت لها والبكاء يخنقني: "يا بابا معدش تروحي على طول." أخذتها إلى مستوصف جيش التحرير فقال لي الدكتور محمود عطايا "ما في أمل". عدت إلى الملجأ للمساعدة في الإنقاذ. رفعت طفلة عمرها أربعة شهور عن صدر أمها التي فارقت الحياة. لم يتعرف أحد على الطفلة فقلت: "خلص هالبنت إلي.. بربيها والله بيعوضني فيها." لكن الطفلة ماتت بمجرد أن لامس الهواء جسمها.

وتابع نعمة روايته قائلاً: ليلاً نقلت الأولاد إلى مؤسسة جبل عامل. وقلت: "بلكي الله بيعوضنا بشي ولد منهم." طلب الأولاد الماء.. ولا ماء في المؤسسة. بللت قطعة من القطن من ماء "سيفون" الحمام ومسحت بها شفاه الأولاد "ميّ حمرا" من صدأ السيفون.

صباح يوم 8 حزيران/يونيو، قررت أنا وأخي نقل من بقي حياً من أولادي وأولاده وأولاد أختي إلى مقر قوات الطوارئ في قانا غير آبهين للموت، لعل وعسى أن يتم إنقاذ أحد منهم. هناك استلموا الأولاد حتى من دون أن يسجلوا أسماءهم. وعرفت فيما بعد حينما كنت في معتقل أنصار وعن طريق الصليب الأحمر الدولي أن الأولاد نقلوا إلى مستشفى تبنين، ولم يعودوا من هناك قط.

عندنا إلى المخيم وأدركنا أنه لا بد من دفن الشهداء. وإذ لم يكن ممكناً نقلهم إلى مقبرة المخيم التي تقع في منطقة معشوق، قررنا دفنهم في المخيم. دفنا بعضهم، ومنهم زوجة أخي، قرب مؤسسة جبل عامل، وأطفالي دفناهم غير بعيد من هنا في "حاكورة" عمي الحاج، والبقية دفنوا في الملجأ نفسه. قالوا لي تعال وانتشل زوجتك من الملجأ. قلت: "وين بدي أشيلها إسّا. لا بي معشوق ولا شي... يعني مثلها مثل غيرها الموجودين في الملجأ."

ويمضي نعمة في روايته قائلاً: بعد دفن زوجتي وأولادي كدت أفقد صوابي "معدش في إلي شي بهالدنيا." فأشعلت النار في ما تبقى من أغراض بيتي وبيت أختي أم العز. فأي قيمة لأغراض البيت وقد فقدت أعزّ ما عندي؟! وكما يقول المثل الشعبي الفلسطيني: "إن راح البيت لا أسف ع الخوابي." التجأت إلى بيت أخي في بلدة برج الشمالي لمدة عشرين يوماً. ثم طلب منا مالك البيت تركه وهددنا، فرحلنا إلى صيدا. وفي صيدا تم أسري ونقلي إلى معتقل عتليت ثم إلى معتقل أنصار. خرجت من أنصار بعد نحو ستة شهور وخيّرني الصليب الأحمر بين الذهاب إلى صيدا أو صور فاخترت صيدا.

وتطول حكاية نعمة في صيدا، لكنه يعود إلى المخيم قبل انسحاب القوات الإسرائيليةمن المنطقة.

عند هذا الحد، سألت نعمة كيف بدأ حياته من جديد فقال: بعد المجزرة لم أكن أفكر في بناء أسرة جديدة، قلت: "قسمتي لهون وخلص"، لكني تجاوزت محنتي خلال إقامتي في صيدا وعين الحلوة حين رأيت المآسي التي مرّ بها غيري... بيوت بأكملها أُغلقت... أُسر كاملة أبيدت. وساعدني والدي في تجاوز المحنة. والدي الذي فقد نحو 18 عزيزاً من أولاده وذويهم كان صلباً وحنوناً جداً، قال لي يومها: يا ولدي "إذا الشجرة ما زال قشرها أخضر بتبرعم وبتخلِّف." تزوجت من أخت صديق لي. وأنجبت خمسة أطفال هم: رامي (6 أعوام) سمّيته رامي باسم طفلي الأول الشهيد؛ مريم (9 أعوام) وكان هذا اسم زوجتي الشهيدة؛ نَغَمْ (12 عاماً)؛ أماني (8 أعوام)؛ لَيالْ (عامان).

سألته هل تحدث أطفالك عن المجزرة. قال: لا. ولا أعلق صوراً لإخوتهم الشهداء، بل أحتفظ بها في صندوق مغلق. ولا أزال أُصاب بالصداع كلما تذكرت المأساة. لا أطيق رؤية المجازر على شاشة التلفاز، ولم أقوَ على رؤية مشاهد مجزرة قانا الأخيرة... عند هذا الحد خنقته العبرات. وهنا طويت سر الصندوق المغلق، وسكتُّ عن كل كلام مباح.

3) مريم مصطفى عبد الله (أم العز)، الناعمة
 كمال جمعة مشيرفة (أبو العز)، الناعمة

مريم زوجة كمال جمعة (أبو العز) هي أحد الناجين من مجزرة ملجأ نادي الحولة. فقدت جميع أطفالها في المجزرة وعددهم خمسة: فدوى (8 أعوام)؛ فادي (6 أعوام)؛ فاتن (4 أعوام)؛ التوأم فراس وإيهاب (ستة أشهر). أصيبت بحروق شديدة في الملجأ لا تزال بادية عليها حتى الآن. فقدت بصرها وطبلتيْ أذنيها، ثم خضعت لعلاج طويل حتى استعادة بصرها وسمعها.

كان أبو العز قد رتب في بيته اللقاء مع فايز حسن الغول (أبو خالد) ونعمة مصطفى عبد الله، وكانت أم العز تجلس مع أولادها في الغرفة المجاورة. استمعت إلى الشهادتين من خلف الباب، وخصوصاً شهادة أخيها نعمة التي تحدث فيها عنها وعن أبنائها الشهداء. وكانت تغالب دموعها أمام الأولاد من دون أن تنجح في ذلك. لم تستطع الانتظار حتى يفرغ نعمة من شهادته؛ فتحت الباب واندفعت إلى الغرفة حيث نجلس وانفجرت في البكاء. ومن دون استئذان أخذت تروي حكايتها بصوت متهدج تخنقه العبرات. تحدثت طويلاً عن تفصيلات إنسانية حميمة لا يتسع المجال لسردها كلها. وكان حديثها طوال الوقت يختلط ببكاء حميم نابع من صميم الروح. وكان قد تفجر بركان أحزانها فجأة وقذف بكل ما في مكنون روحها من أحزان نبيلة. بيد أن القيمة الحقيقية لشهادة أم العز تبقى في نبرات صوتها المسجلة على الشريط، إزاء قصور الكلمات المدونة على الورق في التعبير عن وجع القلب.

"صرت في الآخرة"

تداخل الحديث بين نعمة وأبو خالد وأم العز وأبو العز. قال أبو خالد: "عندما وصلت إلى الملجأ كانت أم العز على باب الملجأ. لم أعرفها بسبب الحروق. سألتها: "أنت مين؟" - هنا تدخّل نعمة قائلاً: "عيونها كان بنزل منها عَمَلْ [صديد]." قالت أم العز: تعرفت على أبو خالد من نبرات صوته. وتابعت لحظة قصف الملجأ كنت بداخله أرضع طفلي، ولا أدري ماذا حدث بعد الانفجار. كل ما أـذكره أنني مشيت على جثث الموتى والجرحى الذين كانوا يصدرون أنيناً خافتاً "الناس كلها بِتْعِنّ عنين." عندما خرجت من الملجأ لم أميّز شيئاً، فقدت الرؤية تماماً. وكنت "ما عارفة حالي أنا وين." وقلت في نفسي "أكيد أنا صرت في الآخرة." تعرفت إلى صوت جارنا أبو علي وهو يتحدث إلى زوجته. ناديته "يا عم أبو علي"، فأجاب: "أنت مين؟" قلت له أنا أم العز. صرخ أبو علي: "لِك أنت أم العز يا حول الله." [كانت لا تزال تبكي وهي تتحدث، ومسح أبو خالد دموعه أيضاً.. وحاول أبو العز أن يوقفها عن الكلام لكي تتمالك نفسها، ولم يفلح]. تفجر بركان مشاعرها وواصلت حديثها الباكي "ما عْرِفت حالي وين حتى أنت قلتلِّي [المقصود نعمة] تعالي يا خيتّا تاسْعِفِكْ." وهنا تحدث نعمة فقال: نقلتها إلى المستوصف، وهناك مددوها إلى جانب ثلاثة من الموتى، حيث لم تتوفر وسائل الإسعاف. وعادت أم العز إلى الحديث فقالت: رحت في غيبوبة طويلة "وما كنت أحس إلا وقت ما كان بيجي أبو رامي" [تقصد نعمة]. وخاطبته قائلة: "بتذكر لما قلتلّي خيتّا جبتلّك فرّاكية خبز، وقُلتلّكْ بس بدّي شربة ميّ." واسترسلت أم العز في سرد حكايتها فروت ما كانت تحس بأنه يدور حولها في تلك اللحظات الواقعة على تخوم الوعي والغيبوبة. حكت عن الممرضة مريم الشنشيري التي حاولت جاهدة مساعدتها. وتذكرت زوجة الشهيد مرعي [أول شهيد من شهداء الثورة في المخيم] وهي تواسيها "حبيبتي يا أم العز"، واستعادت شريطاً من الصور الضبابية للناس والحصار والموت!!

لم تستعد أم العز وعيها إلا وهي في أحد مستشفيات حيفا بفلسطين. وكانت قد نقلت من المستوصف إلى استراحة مدينة صور ثم إلى حيفا عبر الصليب الأحمر الدولي. حكت عن الممرض العربي كمال الذي اهتم بها اهتماماً بالغاً انطلاقاً من مشاعره الوطنية الفياضة، وليس واجبه المهني فحسب. ولم تكن تعرف حتى ذلك الحين أن أولادها الخمسة قد استشهدوا في المجزرة. قالت أم العز أنها بكت بمرارة عندما شاهدت وجهها المحروق وشعر رأسها الحليق في المرآة. وفكرت في مشاعر أولادها إذا ما رأوها في هذه الحال المزرية. جاءها الممرض كمال يوماً وقال لها: "يا مريم عندي لك خبر سار." تلهفت مريم لسماع خبر من البرج الشمالي. قال لها كمال: توجد امرأة في الغرفة المجاورة جاءت من لبنان وتقول أنها تعرفك. وكانت مفاجأة غريبة حين تبين أن جارتها لم تكن سوى سعاد زوجة أخيها حسن! التقيتا وتعانقتا. رجت أم العز سعاد أن تخبرها عن الناس في برج الشمالي. لم تستطع سعاد أن تكتم السر، وقالت: "العوض بسلامتك". صرخت أم العز صرخة دوى صداها في أرجاء الغرفة: "شو يعني العوض بسلامتي.. أولادي ماتوا.. أولاد حسن أخوي ماتوا.. وأولاد أخوي محمد ماتوا.. وأختي زينب ماتت كمان.. والعوض بسلامتي." بكت على صدر سعاد، ورفضت أن تصدق الخبر حتى عادت إلى صيدا وقابلت أخاها نعمة ووالديها فقطعت الشك باليقين.

عادت أم العز من حيفا بعد نحو 13 يوماً أمضتها في المستشفى. عادت من غربة "الوطن" وصقيعه إلى ألفة المخيم ودفئه. لكن المخيم ليس وطناً! عادت إلى أحضان الأهل تبحث عن ذاتها المتشظية. قالت أم العز: طلبت من أخي نعمة أن يأخذني إلى أولادي، فقال لي نعمة الذي لم يرد لعذابي أن يطول: "هل أولادك أغلى من أولادي وأغلى من أولاد أخوك محمد وأغلى من أختك زينب." قلت له: "لا مش أغلى"، فقال لي: "العوض بسلامتك، الكل استشهد." ومضت أم العز تقول: بْكيت.. بْكيت.. بْكيت.. شو بدي أعمل." وقال لها والدها مواسياً: "إنت يابا مش أكرم من ربنا.. خلص هدون الأولاد رزقتو واستردها." أمّا والدتها الحاجة أم خميس تلك السنديانة الشامخة فكانت تقول لها: "روحي شوفي العالم ع الشوارع كلها ماتت مش بس أولادك وأختك." كانت تقول لها ذلك لتواسيها فقط. أمّا هي نفسها فكانت تهيم على وجهها في البساتين و"تطفش"، كما تقول أم العز.

أخبرتني أم العز أنها كانت ذات يوم قريب في عيادة الأونروا، فتقدمت منها شابة مليحة سلمت عليها بحرارة وسألتها: هل تعرفينني يا أم العز؟ وقالت لها كنت رفيقة ابنتك الشهيدة فدوى. اغرورقت عينا أم العز بالدموع وهي تروي الحادثة وقالت "حسّيت قلبي هيك وكأنه سكين خبطتني فيها." الأحزان إذا ولدت لا تموت.. وكما يقال: "فإن قطرة من حزن توازي في عمقها بحراً من سرور في اتساعه."

ولا تنتهي الرواية

يأتي أبو العز ليواصل الحكاية. كان أبو العز مُنشدّاً إلى المعركة التي يخوضها المقاومون دفاعاً عن المخيم. وكان برفقة الأخ بلال حين وقعت المجزرة، فطلب إليه الذهاب وتفقد ملجأ النادي. يقول أبو العز: البيوت كانت مدمّرة والركام يغطي الطرقات، وكان الوقت غروباً. سرت في الاتجاه الذي يقود إلى الملجأ. هناك سمعت ابن عمي يصرخ بأعلى صوته: "أين أنتم يا عرب.. أين أنتم يا قيادات." تحركت في اتجاه الصوت وحاولت دخول الملجأ عبر ثغرة تركتها القذائف في جداره. المشهد في الداخل تقشعر له الأبدان: عشرات الناس اختلطت أشلاؤهم وتحولوا إلى أكوام من اللحم البشري المحترق. وكان جو الملجأ يعبق برائحة الكبريت والفوسفور الناجمة عن القذائف الحارقة.. أنين خافت يصدر من أرجاء الملجأ. حاولت أن أنتشل امرأة من خلال الثغرة. أمسكتها من ذراعها، فانسلخت الذراع في يدي. انتشلت طفلاً من مدخل الملجأ لكنه سقط ميتاً ما أن تنشق الهواء. أخرجت أطفالاً آخرين بأجساد محروقة. سمعت أنيناً خافتاً يصدر عن طفلة. التفت إلى المصدر فكانت ابنتي فدوى. انتشلتها من الملجأ وكانت لا تزال تئن مستغيثةً "دخيلك يا بابا". بحثت عن زوجتي وعرفت أنها في ملجأ جيش التحرير الفلسطيني ممددة كالفحمة السوداء إلى جانب جثث عدد من الشهداء. استغاثة ابنتي فدوى زادت في إصراري على مواصلة المقاومة. تركت مسرح المجزرة وتوجهت إلى حيث يوجد الأخ بلال. في مثل تلك اللحظات - يقول أبو العز - يتساوى الموت مع الحياة إن لم يتقدم عليها.

يتابع أبو العز روايته: خرجت مع المجموعات المقاتلة من المخيم إلى صيدا في مسيرة طويلة وصفتها في رواية "الحصار والمقاومة". وتوجهت إلى بيروت بعد مجزرة صبرا وشاتيلا. استأجرت بيتاً في مخيم شاتيلا. وهناك اطلعت على مآسي الناس بعد المجزرة. ساعدني ذلك في تجاوز مصيبتي. اعتكفت في البيت فترة ثم اتخذت قراري: لا بد من مواصلة الحياة. والتضحيات قدرنا الذي لا مفر منه. أحضرت زوجتي أم العز من الجنوب وعملت بكدّ لكي أُكمل علاجها الذي بدأته في فلسطين.

بنينا أسرة جديدة من خمسة أطفال: التوأم زينب وإيمان (14 عاماً)؛ رُلى (11 عاماً)؛ نسرين (8 أعوام)؛ ومحمد (6 أعوام).

وهكذا أطلقت "الفحمة السوداء" خمسة أغصان يانعة.

4) فايز حسن يونس/أبو خالد (56 عاماً)، الزوق/صفد

يعمل أبو خالد سائق سيارة أجرة على خط مدينة صور/مخيم برج الشمالي. التقيته مساءً في بيت أبي العز بعد عناء يوم طويل من العمل. فقدَ أبو خالد في مجزرة ملجأ نادي الحولة زوجته وأولاده جميعاً وعددهم ثمانية: خالد (12 عاماً)؛ أوصاف (13 عاماً)؛ وليد (8 أعوام)؛ منى (6 أعوام)؛ دلال (5 أعوام)؛ سهيل (4 أعوام)؛ مازن (3 أعوام)؛ طارق (عامان).

بعد أن حدثني أبو خالد عن حصار المخيم ووقائع المقاومة خلال يومي 6 و7 حزيران/يونيو، انتقل إلى الحديث عن المجزرة فقال: بعد نهاية جولة القصف التدميري عصر يوم 7 حزيران/يونيو، اكتشفنا أن ملجأ نادي الحولة قد دمّر كلياً. كنت من أوائل الذين وصلوا إلى الملجأ. هناك رأيت أم العز تبكي. وكنت أول من نزل إلى الملجأ. شاهدت المنظر "إشي ما بتصوره العقل"، وكان معي ابن خالتي نمر. حدثت الغارة وأنا في داخل الملجأ. خرج نمر ونادى "يا أبو خالد.. يا أبو خالد اطلع." رفضت الخروج وقلت "بدي أموت هين". أغمي عليّ "وظليت نايم مع الناس شي ربع ساعة." عندما صحوت سمعت أنين الناس. خرجت أركض في الشارع على غير هدى "وين رحت مش عارف." وجدت "الشباب" (أبو طلال وأبو نبيل) وأخذت أبكي وأصرخ بأعلى صوتي "ملجأ النادي انتهى... والناس اللي فيه انتهوا... ولادي وعيلتي معاهن." أصيب أبو خالد بغصة في الحلق وهو يعيد تذكر تلك اللحظة الرهيبة وقال: فقدت أعصابي، "مسكت البارودة وبدي أطخّ حالي." انتزع الشباب مني البندقية وهدأوا من روعي. ومضى أبو خالد يقول: "ظليت فترة أسبوع أو أكثر فاقد الذاكرة."

خرج أبو خالد مع المجموعات القتالية التي غادرت المخيم ضمن مجموعة الشهيد أحمد رحيِّل. وحدثني عن مسيرة الخروج فقال: كنا نمشي ليلاً ونختبئ نهاراً. وكانت مجموعات صغيرة تذهب لاستكشاف الطريق وتعود. عندما وصلنا الزهراني خرج أحمد رحيِّل على رأس مجموعة ولم يعد. بذهاب صديقي أحمد فقدت الإحساس بالأمان واتخذت قراراً متهوراً بأن أسير في وضح النهار. وصلت إلى الغازية، وهناك التقيت مجموعة أُخرى من المقاتلين.. لم أنضم إلى المجموعة وتابعت سيري وحيداً. رأيت راعي غنم أعرفه من قبل. طلبت منه خبزاً وطعاماً وأعطاني علبة سجائر.. التقيت مقاتلاً آخر وسرنا معاً. اصطدمنا بكمين إسرائيلي. طلب الجنود الإسرائيليون منا رفع أيدينا. جمدت مكاني ورفعت يدي وكان في جيوبي قنابل. أمّا زميلي فركض. أطلقوا عليه النار فأردوه. في تلك اللحظة بالذات تأكدت من وجودي قرب سياج عالٍ يؤدي إلى بستان. في لمح البصر اتخذت قراري وقفزت لا أدري كيف فوق السياج وأصبحت في البستان. وقعت في خندق وكنت قد أصبت بجروح في الصدر بسبب الشريط. واكتشفت أن "بطني مشلوخ". زحفت حتى ابتعدت. نمت حتى الصباح. وتابعت السير في اتجاه الغازية حتى وصلت إلى بستان. وهناك نمت تحت شجرة لمدة ثلاثة أيام من دون طعام.

جاء صاحب البستان واعتقد أنني ميت وسمعته يقول: "هذا جزاؤكم". حينها استجمعت قواي وسألته: "هذا جزاؤنا ليش.. شو عاملين كاينين إحْنا؟" تراجع الرجل وقال: "أنا مبقصدش والله ما بقصد." غيرت مكاني. جاءت زوجة صاحب البستان وأحضرت خبزاً ودواء (مرهماً) وبكت وبدأت تشتم العرب. دعواني إلى البيت فرفضت. وتابعت سيري على خط سكة الحديد المؤدي إلى عين الحلوة. وصلت إلى بيت أقاربي. وكان هذا بعد شهر من خروجي من المخيم، وكان شهر رمضان، وقد مضى منه خمسة أيام.

أُسرت في صيدا عندما طُلب منا التجمع في منطقة المسلخ. "عرَّف علي" شخص من المخيم. نقلت إلى معتقل عتليت لمدة شهر ثم إلى معتقل أنصار، حيث أمضيت عاماً وأربعة شهور. خرجت من أنصار وعدت إلى المخيم.

غريب في الأرض

تابع أبو خالد: "رجعت ع المخيم وبلشت من الأول." لا بيت. لا مدخرات. لا أحد سأل عنا "كأن الواحد منا نزل من القمر." نصحني والديّ أن أغير ظروفي بيدي وشجعاني على الزواج. لم أقتنع في البداية، وقلت لوالديّ "هاي الأرض أنا حاسس حالي فيها زي الغريب ولازم أسافر من هاي البلد." وكنت قد اتخذت قرار السفر منذ كنت في أنصار. وأضاف أبو خالد قائلاً: "الوالدة كانت حنونة.. شوقالتلي.. إذا بدك تسافر لا بعرفك ولا بتعرفني." عدلت عن السفر وتزوجت بعد أن كنت قد عمّرت بيتاً في المخيم من غرفتين بسطح من صفيح. وأنجبت خمسة أطفال هم: محمد (12 عاماً)؛ أوصاف (9 أعوام)؛ فاطمة (7 أعوام)؛ ريما (6 أعوام)؛ أحمد (4 أعوام).

وقال أبو خالد: عادة أصطحب ابني محمد معي حين أزور في الأعياد نصب الشهداء القائم في نادي الحولة، حتى لا ننسى جيلاً بعد جيل.

5) كمال حسن الذيب (49 عاماً) السميرية

كمال حسن الذيب يعرف بـ "المختار". وقد ورث هذا الموقع الاجتماعي عن والده بعد وفاته عقب الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني سنة 1978. فقدَ المختار في مجزرة ملجأ نادي الحولة نحو 37 عزيزاً من ذويه منهم: زوجته، وثمانية من أولاده، ووالدته، وأخوه وزوجته وأولادهما الثمانية، وأخته وسبعة أولاد، وأخته العزباء وزوجة أحد أبنائه وابنتان، وزوجة ابنه الثاني وابنتان. وكانت الأخيرة حاملاً، بالإضافة إلى خاله وزوجته وأولاده. ونجا من المجزرة ولدان من أولاده فقط كانا في جيش التحرير الفلسطيني. وكان بيت المختار وبيوت ذويه تقع في جوار الملجأ تماماً، السبب الذي دعاهم جميعاً إلى الاحتماء في هذا المكان.

وأخبرني المختار بأنه كان بباب الملجأ قبيل حدوث القصف، "كنت أشرب نارجيلة". قال: "عِطِشْ عمي الشيخ حمود الله يرحم أمواتك ويرحمه.. رحت ع البيت أجيب شُربة ميّ. وفي الأثناء حدث الانفجار في الملجأ. ما شفت هاللحم إلا طار. ذهبت إلى الملجأ وشفت هالناس ميتين.. كل شعر جسمي قبّ، وصرخت: أنا عيالي راحوا بالملجأ." وأخذت "أدور" على ملاجئ المخيم وأصرخ: "اتركوا الملاجئ... فِلّوا." وخلال تجوالي على الملاجئ رأيت أن "الحارة التحتا تدمرت".

خرج المختار من المخيم مع مجموعة الشهيد أحمد رحيِّل ووصل إلى عين الحلوة بعد ثلاثة شهور أمضاها مع المجموعة في البساتين. وقال المختار أنه بعد استشهاد أحمد الرحيل كَمَنَ مع بقية المجموعة في الغازية. دفنوا السلاح في البساتين وأخذوا يتسللون إلى مخيم عين الحلوة عن طريق خط سكة الحديد، "وصرنا نقول اثنين... ثلاثة على المخيم." وفي صيدا، اعتُقل ولداه الجنديان في جيش التحرير ونُقلا إلى فلسطين. وحُررا في إحدى عمليات تبادل الأسرى. أمّا هو فعاد إلى مخيم برج الشمالي. وكان ذلك بعد ستة شهور من احتلال المخيم. عاش المختار مع أخته في المخيم، ثم اعتقل بتهمة حيازة السلاح. وكان سجنه في بناية عزمي الصغِّير في صور. وأمضى في المعتقل مدة أربعة شهور، وخرج منه قبيل نسف البناية بعشرة أيام فقط.

وعن التحقيق معه في المعتقل قال المختار: كلما استدعيت للتحقيق كنت أقول للمحققين: "إنتو عم بتحققوا معي وقتلتولي مرتي وأولادي وأهلي." وكانوا يردون علي: "لا تقول هيك وشو ما بدك بنعطيك... إسمنت وحديد." وأضاف: "لكني ظليت مصمم ع هالكلمة."

رؤيا

بعد خروج المختار من المعتقل ذهب إلى الشيخ حمود، إمام مسجد المخيم آنذاك، وطلب إليه أن يخطب له زوجته الحالية. تزوج المختار وكان ولداه في السجن. أنجب ابنه محمد (12 عاماً) وهو يعاني إعاقة جسدية، وابنته ذيبة، سمّاها باسم الشهيدة والدته.

أخبرني المختار أن ما شجعه على إعادة بناء أسرة من جديد رؤيا عاشها في منامه: تراءت له حقول ممتدة من الصبار، كما تراءت له طيور بيض حطت على صدره. وكان أولاده الثمانية وزوجته يجلسون تحت قدميه ويحيطون به من كل جانب. حادثوه وحادثهم، وكانوا سعداء.

قال المختار: تمعنت طويلاً في رؤياي، ولم أخبر بها أحداً. فسّرت حقول الصبار بأنها تعني الصبر على المكروه. أمّا سعادة زوجتي وأولادي والطيور التي حطت على صدري ففسرتها بأنها دعوة إلى بناء أسرة جديدة وبيت جديد.

6) غسان علي الرميّض (30 عاماً)
الحاجة أم سالم الرميّض (65 عاماً)

في عام الحرب، كان غسان فتى في ربيعه الثالث عشر. وكان هو ووالدته الحاجة أم سالم الناجيين الوحيدين من قصف مغارة علي الرميِّض/أبو خنجر التي سميت باسمهم. وهذه المغارة التي تحولت إلى قبر جماعي يسكنه 21 من الضحايا تقع حالياً تحت حوش البيت تماماً على بعد أمتار عدة من الغرفة التي جلسنا فيها نتحدث. ويرقد في هذه المغارة سبعة أفراد من أسرة على الرميِّض فارقوا الحياة ولم يفارقوا البيت: الابن الأكبر سالم (22 عاماً)؛ زوجته عيدة (22 عاماً)؛ ابنته بثينة (عامان)؛ ابنه هيثم (عام واحد)؛ والأبناء الأصغر للأب: لميا (14 عاماً) وأمينة (12 عاماً) وصالح (8 أعوام)؛ هذا بالإضافة إلى ابنة عمهم فاطمة (12 عاماً).

تحدث غسان واصفاً الأحداث ومعرِّجاً على التفصيلات كأنما ذاكرة الفتى الغضة احتفظت بنضارتها منذ ذلك اليوم. وجاءت الحاجة أم سالم تجر قدمها التي أصيبت عند انهيار المغارة. واستهلت الحديث في البداية، لكنها جلست في معظم الوقت مستمعة إلى رواية ابنها، مؤكدة صحتها تارة وشاكية هموم الدنيا والعيش تارة أُخرى.

ظلت العجوز نحو 24 ساعة تحت أنقاض المغارة بعد انهيارها عقب القصف. وتقول الحاجة أم سالم: "المغارة كلها كانت ملانة أوادم وهدموها ع الناس ما ظل حدا... ظلي تلتاني يوم ومعرفتششو صار في المخيم لأنو طلعوني ع المستشفى.. وهاي رجلي عطيلة لا بمشي ولا شي.. بس من الباب للبوابة."

وهنا صمتت أم سالم وشخصت بنظرها إلى البعيد. وخيل إليّ حينها أن أحزاناً قديمة - جديدة قد تولدت تواً في عينيها المتعبتين. صمتت العجوز وتكلم الفتى.

دنيا تحت الأرض غير الدنيا

بداية اختبأنا في ملجأ أبو رياض. وعندما سمعنا أن الملاجئ عرضة للقصف، انتقلنا إلى المغارة أنا وإخوتي وعدد من العائلات، عدا والدي (علي الرميِّض). وقال غسان إنه عندما "شاهدت" الطائرات الإسرائيليةشخصاً يدخل المغارة قصفتها فوراً، وهو ما أدى إلى انهيارها وإغلاق مدخلها بصخرة كبيرة. ووصف غسان هذه اللحظات قائلاً: "فكرت إنّو حد جاب بطانية ولفّني فيها"، طمرت بالتراب وبدأت أصرخ وأستغيث. حفرت وأخرجت ساقي اليمنى من الردم بصعوبة، ثم أخرجت ساقي اليسرى. وحينها رأيت فتحة بين الصخور ينفذ منها ضوء خافت، فتصورت أن هناك دنيا تحت الأرض غير الدنيا التي نعيشها. "فكرت تحت الأرض في دنيا ثانية.. مش إنّو الدنيا اللي إحنا فيها برَّه." ويلخص غسان الموقف بكلمة واحدة فحسب "انبَهَلْتْ". حاولت أن أمشي وكانت "الوالدة قدّام مني بس مطمومة." أزحت التراب عن صدرها بقدر ما استطعت. "قد ما يباطح الواحد ما فيهوش لحالو... سحبت حالي واطلعت."

وعندما خرج غسان من المغارة إلى ما فوق الأرض كانت "القيامة": قصف وهلع ودمار.

كان أول مشهد وقعت عينا غسان عليه في دنيا ما فوق الأرض امرأة ضريرة ممدة وسط الشارع اسمها "منوة أبو خروب". كانت هذه المرأة بعين واحدة. عندما خرجت من المغارة قبل لحظات من قصفها لإحضار المذياع، فاجأها القصف في الشارع وكان يقودها رجل ضرير يدعى "سويد" فتركها ونجا بجلده. "يعني يا روح ما بعدك روح"، قال غسان معلقاً. وقد أصيبت المرأة بشظية قذيفة أفقدتها البصر تماماً. ضرير يقود نصف ضريرة في زمن الحرب: مشهد "سريالي"، لكنه إنساني وحميم للغاية. "وشر الجريمة ما يضحك."

اقتاد غسان المرأة إلى ملجأ "أبو رياض" حيث تولت إسعافها فتاة شابة تدعى نجاح هدروس. بحث غسان في الملجأ عمن يساعد في رفع أنقاض المغارة. لكن لا أحد يجرؤ على الخروج من الملجأ بسبب القصف. خرج هو وابن عمه و"ابن عمي شوي عالبركة"، يقول غسان: توقف القصف لحظات، ورأى غسان الناس يتركون البيوت والملاجئ ويتجهون إلى البساتين المجاورة.

في هذه الأثناء لمح غسان والده قادماً من بعيد يمشي متهالكاً، بعد أن سقط عليه حائط من جرّاء القصف "كان لاطي ورا الحيط.. نزل على ظهره الحيط." سأله الوالد عن مصير أسرته فلم يخبره غسان بشيء في البداية، وأخذه إلى ملجأ قرب المسجد.

ثم جاء عدد من الشباب يحملون المعاول والرفوض وبدأوا رفع أنقاض المغارة. أخرجوا أولاً، جمعة النهيلي (أبو شهاب) الذي توفي فيما بعد؛ ثم أخرجوا زوجة الأخ الأكبر سالم، عيدة، وحملوها إلى المستوصف. طلبت عيدة الماء فبللوا شفتيها فقط ثم ما لبثت أن فارقت الحياة؛ ثم أخرجوا الوالدة، ونقلناها إلى استراحة صور.

حكاية الضابط الأسير

يقول غسان: بينما كنا ننقل أبو شهاب إلى المستوصف سمعنا ونحن قرب بيت [فلان] على الشارع العام صوت أنين وكان معنا [فلان]. دخلنا البيت فوجدنا شخصاً جسمه نصف محروق ممداً على حمالة وبلباس عسكري تغطي كتفه عدة نجوم. ميزنا النجمة الإسرائيلية والكتابة العبرية. قررنا الحفاظ على حياته ومساعدته. قالوا: "إحنا إسّا بحالة حرب.. لو فش حرب بتصير وحدة بوحدة." في تلك الأثناء جاء الأخ بلال، ومعه مجموعة من المقاتلين وأخذوا منا الضابط الأسير واختفوا وسط البساتين.

ويمضي غسان في سرد التفصيلات: بعد عدة أيام جاء إليّ ضابط إسرائيلي يتكلم العربية وسألني عما إذا كنت في المغارة وقت القصف. وكان خائفاً من دخول المغارة وحده، ويريد مني أن أدخل معه، فرفضت وقلت له: "بدك تطخني طخني". قال: "نحن لا نقتل مدنيين". فقلت له: "والعالم هاي اللي ماتت يعني ماتت لحالها." قال: "إخرس، هؤلاء كانوا مخربين." جاءت الجرافات في اليوم التالي وسوت المغارة بالأرض.

أصبحت المغارة الآن داخل حوش بيت آل الرميِّض، وظل الضحايا يسكنون البيت بأجسادهم وأرواحهم التي ستبقى شاهداً أبدياً على الجريمة. جاء أطفال الجيران خلال حديثنا مع غسان والحاجة أم سالم. تصايحوا قليلاً واستمعوا وسألوا: هل مات كل هؤلاء الناس؟! ولم يتلق الأطفال جواباً شافياً.

7) محمد جعفر طاهر/أبو جعفر (66 عاماً)

تقع مغارة أبو جعفر داخل الجُرف الصخري الذي يحد المخيم من جهته الشمالية ويؤدي إلى منخفض واسع مكسو ببساتين الحمضيات، وضمنها بستان أبو جعفر. البستان لم يُسَمّ بهذا الاسم عبثاً، فأبو جعفر هو الذي استصلح الأرض وزرعها بالحمضيات منذ أن هاجر من قريته الحسينية في قضاء صفد سنة 1948. وهو لم يغادر بستانه منذ ذلك الوقت حتى ليكاد يكون شجرة أو صخرة من أشجار البستان وصخوره التي لا تقتلع.

رحب أبو جعفر بأبي العز وبي ضيفين في بيته الذي يقع في طرف البستان قرب البوابة تماماً. وعندما سألناه عن قصف المغارة ضجَّت في رأسه الذكريات وتداعت فعاد بنا إلى المجزرة التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في الحسينية سنة 1948، والتي قتل فيها أكثر من 25 من أهل القرية، في إثر نسف البيوت على رؤوس ساكنيها وبعد أن دافع شباب القرية عن قريتهم. وكان بين الضحايا والد أبي جعفر وأخوه الأكبر حسين. وقد تم تهجير أهل الحسينية عقب تلك المجزرة.*

كان في مغارة أبو جعفر نحو 50 شخصاً بين نساء وشيوخ وأطفال، استشهد منهم ثلاثة وجرح عدد آخر، منهم أم جعفر التي أُصيبت بصخرة شجَّت رأسها. القذيفة الأولى التي أُلقيت على المغارة لم تدمرها، لأن المغارة تقع في أسفل الجرف تحت طبقات سميكة من الصخور الرسوبية. وهذا ما أعطى الناس فسحة للخروج من المغارة والانتشار في البستان حين أُلقيت القذيفة الثانية التي دمرت المغارة وسدت منفذها بصخرة انهارت من الأعلى. ولم يتمكن ثلاثة أشخاص من الخروج فتحولت المغارة إلى قبر لهم.

قادنا أبو جعفر بنفسه إلى المغارة/المقبرة عن طريق ضيق وسط أعشاب عالية طاولت قاماتنا. وبدأ يروي لنا تفصيلات كثيرة عن الحصار والمقاومة ومجزرة ملجأ روضة النجدة الاجتماعية وإصابة أم جعفر، وغيرها.

حكاية الضابط الأسير

سألنا أبو جعفر عن حكاية الضابط الإسرائيلي فقال: "أجَتْ اليهود لعندي وطوقوني.. قالوا الضابط كان عندك هون في المغارة." والمقصود هنا مغارة أُخرى غير المغارة التي قصفت، وهي ملاصقة لبيت أبي جعفر تماماً. وأخبرنا أبو جعفر بأنه أنكر وجود الضابط وقال للإسرائيليين أنه لم يكن موجوداً في البستان أمس (7/7)، وأنه أخذ زوجته إلى تبنين لعلاجها من جروحها، وهو لم يرَ شيئاً.

ومضى أبو جعفر يشرح لنا حكاية الضابط الأسير فقال "رجعت من تبنين لقيت واحد مزتوت هين في المغارة.. زَتُّه مين.. أبو دلّة و[فلان].. زلمة أطول وأنصح مني... وحاططلك هالنِجَمْ... شو بدي أعمل، جبت حبل وسحبته وزتيته في بيت [فلان]."[4]

وذكر أبو جعفر أن القوات الإسرائيلية اتهمت المقاتل حسن سامي طه المعروف بـ "أبو دلّة" بإخفاء جثة الأسير الإسرائيلي. كما كانت من وقت لآخر تدعو الناس إلى التجمع في البستان من أجل التحقيق في هذه القضية. وأخيراً، جلبت القوات الكلاب البوليسية بحثاً عن الأسير. وقال أبو جعفر: "ظلوا يشمو الدم حتى وصلو لبيت [فلان]."

وسألنا أبا جعفر: هل وجدت القوات الإسرائيليةجثة الضابط؟ فأفاد بأن جماعة من الشباب ألقوا بها في بساتين منطقة شادينه إلى الشرق قليلاً من المخيم [أنظر المخطط]، وأن الكلاب البوليسية عثرت عليها، وأن أبو دلة اعترف مؤخراً تحت وطأة التعذيب بأنه هو الذي ألقى بجثة الضابط في مغارة البستان.

وأفاد أبو العز بأن القوات الإسرائيلية عندما اعتقلت أبو دلّة وضعته على ظهر دبابة وطافت به في أرجاء المخيم، ولم يعرف مصيره بعد ذلك!!

أفاد أبو جعفر في شهادته أن والد الضابط الأسير يهودي من مواليد فلسطين (طبرية) ويجيد اللغة العربية إجادة تامة. وأنه جاء إلى البستان باحثاً عن ابنه مستغيثاًَ. وقال له: "دخيلك يا أبو جعفر.. بدي أشوف ظُفره. وصار يبكي ويِشَلِّخ بشعره ويضرب رأسه.. ويقول كنا عايشين مع بعض ويلعن دين اليهود اللي صار هيك."

وعلق أبو جعفر على ما قاله الأب اليهودي القادم من طبرية: "إحنا نصدق اليهود؟!... بتعرف أنا مولود بفلسطين وبعرف اليهود وما بصدقهم."

ودعنا أبو جعفر قبل أن ينصرف من جديد ويدور في أرجاء البستان يحنو على أشجاره وثماره حنو الأم الرؤوم. وكنا كمن ألقى بحصاة في بحيرة عميقة فأزعجت صفحتها الهادئة بدوائر لا تحصى، ثم ما لبثت أن استقرت في القاع.

خاتمة

من الأكاذيب التي روجت لها الصهيونية في حروبها ضد العرب أكذوبة "طهارة السلاح" التي غدت مثار سخرية، حتى في بعض الأوساط الإسرائيلية. فالصحافي الإسرائيلي غبريئيل بيتربرغ يعلق في صحيفة "معاريف" (5/7/1996) على صدور الطبعة العبرية من كتاب "حرب الحدود" للباحث الإسرائيلي بِني موريس، معتبراً أن التوثيق الدقيق للوقائع من قبَل الباحث ينبغي له أن يدفن نهائياً ذلك الشعار الفظيع والمثير للسخرية عن "طهارة السلاح"، مستنتجاً أن البربرية لم تكن مجرد ظاهرة شاذة، وإنما هي ظاهرة شائعة تثير الأسئلة بشأن المجتمع والثقافة والأيديولوجيا، ما دام الجيش الإسرائيلي كان فعلاً ولا يزال جيش الشعب.[5]

وفي صيف سنة 1982، نشر روجيه غارودي والأب ميشال لولون والراعي إيتان ماتيو إعلانهم الشهير في "لوموند" بعنوان: "بعد مجازر لبنان: ما معنى العدوان الإسرائيلي؟!". كان الإعلان وثيقة تشرح للرأي العام الفرنسي ما جرى في لبنان سنة 1982 وقبلها في فلسطين منذ سنة 1948. حينها أقامت الأوساط الصهيونية القيامة ولم تقعدها واتهمت موقعي الوثيقة "بالحض على الكراهية والعنصرية ومعاداة السامية"، إذ يربط الإعلان بين مجازر إسرائيل بحق المدنيين في لبنان وبين المجازر النازية ضد اليهود، أو ما سمي "المحرقة".

تقوم الصهيونية بعملية تضليل تاريخية كبرى عندما تصور اليهود مجرد "ضحايا" للمحرقة، في الوقت الذي تقدم فيه على ممارسات مشابهة ضد الغير.

 

 

 

 

 

[1] مرفق قائمة بأسماء الضحايا كافة. وتضم هذه القائمة في معظم الحالات أُسراً بأكملها. ومما يجدر ذكره أن عدد ضحايا ملجأ النجدة الاجتماعية يشير فقط إلى الضحايا من سكان المخيم، وقد كان هناك عدد آخر من خارج كان المخيم تعذر علينا إحصاؤهم.

[2] أجريت المقابلات على مدار ثلاثة أيام في الفترة 19 - 21/4/1997. وقد ساعدني في إجرائها كمال جمعة مشيرفة (أبو العز) الذي كان رئيساً لنادي الحولة في فترة الحرب. وهو في الوقت ذاته أحد الرواة الأساسيين. كما تلقيت من رئيس نادي الحولة الحالي، محمود جمعة الحاج، ومن بقية أعضاء الهيئة الإدارية للنادي، مساعدة فعالة في اختيار الرواة وترتيب اللقاءات معهم.

[3] واصل أبو العز وخالد الأسمر مسيرتهما في اتجاه صيدا. واختبآ في منطقة الغازية لمدة شهرين. ووصل أبو العز إلى عين الحلوة وظل في صيدا إلى ما بعد مذبحة صبرا وشاتيلا. وقد التقيته في بيروت بعد انسحاب القوات الإسرائيليةمنها. أنظر: شهادة أبو العز (رقم 3).

* ارتكبت مجزرة الحسينية، وفق المصادر المدونة، بتاريخ 13/3/1948 وبلغ عدد ضحاياها 30 شهيداً.

[4] يتطابق اسم صاحب هذا البيت مع الاسم الذي ذكره غسان رميِّض في شهادته. ولم نذكر اسم صاحب البيت ولا بعض الأسماء الأُخرى بناء على رغبة الرواة.

[5] يتناول الكتاب ظاهرة "التسلل" عبر الحدود بعد سنة 1948 حتى سنة 1956، والعمليات الانتقامية الإسرائيلية(المجازر) ضد المدنيين مثل مجزرة قبية وغيرها. أنظر "نصوص من الصحافة الإسرائيلية"، "السفير"، 5/8/1996.

Author biography: 

جابر سليمان: باحث فلسطيني.