كان الكفاح المسلح من أجل فلسطين هو الدعوة الجامعة للحركة الوطنية الفلسطينية منذ نشوئها في الستينات من هذا القرن، لكن نتائجه لم تكن قط أكثر من هامشية. وبدلاً من ذلك، أدت مجموعات الفدائيين وظيفة سياسية بالدرجة الأولى، إذ قدمت إلى الفلسطينيين في الشتات بنى تنظيمية للتعبير السياسي ولبناء الدولة. غير أن طبيعة منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف.)، ككيان في المنفى يحاول توحيد شتات متباين، أسفرت، بالضرورة، عن قيادة متسلطة وحذرة حيال الهيئات الإدارية والمدنية والاجتماعية، الضرورية لإنشاء دولة. وفي النهاية، قوّض الكفاح المسلح تحقيق قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، بقدر ما ساعده.
حين وقّعت م.ت.ف. وإسرائيل إعلان المبادئ في 13 أيلول/سبتمبر 1993، انتهت بذلك مرحلة كاملة في تاريخ فلسطين الحديث. لقد سقط آلاف القتلى من الجانبين منذ الحرب التي أدت إلى قيام الدولة اليهودية في فلسطين وإلى النزوح الجماعي للسكان العرب سنة 1948. والحركة الوطنية الفلسطينية التي تأسست بهدف محدد هو تحرير فلسطين بواسطة الكفاح المسلح، أثبتت عجزها، في الأعوام المنصرمة، عن تحرير أي جزء من ترابها الوطني بالقوة، وقبلت، في النهاية، بتسوية أوسلو التفاوضية التي جاءت بنودها معارضة، عملياً، لجميع المبادئ والأهداف التي تبنتها طوال هذا الوقت. ما هو إذاً الدور الذي قام به الكفاح المسلح، وقد كثر التبجح به في تاريخ فلسطين المعاصر؟ وأية عوامل حدّدت مساره ونتيجته؟
كانت التنظيمات الفدائية التي تتألف منها م.ت.ف.، تصف الكفاح المسلح، باستمرار خلال تطورها، بأنه الوسيلة الرئيسية، لا بل الحصرية، لتحرير فلسطين. ومع ذلك، فإن جهدها العسكري لم يتجاوز قط مستوى محدداً من حيث الدرجة والوقع، وأخفق بالتأكيد في أن يداني نموذجي الحرب الشعبية الصينية والفيتنامية اللذين طالما تمثلت بهما. ومهما بلغت التضحيات الفردية التي قدمها الأفراد الفلسطينيون، أو قوة اقتناعهم، فإن الحركة ككل كانت تفتقر إلى التصميم على نقل ممارسة الكفاح المسلح أو المستوى الرفيع الذي احتله في الأيديولوجيا الرسمية. ثم إن الانتقائية والارتجال أصبحا جزأين ثابتين في الثقافة السياسية والتنظيمية. وعلى الرغم من البيروقراطية الواسعة في الحركة، فقد كان الاستعمال الكثير لكلمة "الانتفاضة" في وصف الأعمال الجماهيرية يكشف القوة الثابتة للأشكال التقليدية للمساهمة غير المنظمة، مثل "فزعة" القرية، ويفضح نفور القيادة من دمج الجماهير في المنظمات السياسية القائمة. كذلك فإن حقيقة نجاح الحركة الفلسطينية لمدة طويلة في التوفيق بين هذا الفارق الملحوظ بين المعلن والواقع، وبين الشعارات والقدرات، وبين الأسطورة القومية والحاجة الاجتماعية، تشير إلى أن الإنجاز لم يكن يقاس بالمصطلحات العسكرية التقليدية، وإلى أن الكفاح المسلح أدى وظائف أولية أُخرى.
الفراغ بعد سنة 1948
قبل أي شيء آخر، قدّم الكفاح المسلح الموضوع والممارسة المركزيين اللذين قام حولهما البناء الممهِّد للدولة الفلسطينية. إن إنشاء إسرائيل، في القسم الأكبر من فلسطين سنة 1948، حرم الفلسطينيين القاعدة الوطنية التي تلتقي عليها الأرض والاقتصاد والمجتمع. كما قضت النكبة، بصورة حاسمة، على أي أمل بنشوء الدولة القطرية الفلسطينية. وقوّض فقدان الأرض وغيره من وسائل الإنتاج الإحساس بالهوية في مجتمع هو زراعي في الأغلب، وقضى على مصادر الثروة الذاتية وإعادة الإنتاج الاقتصادي. وقد تضاعف وقع ذلك بتشتت السكان وخضوعهم، في أماكن لجوئهم المتعددة لسلطات عربية منفصلة، بل متناحرة أحياناً.
في هذه الأوضاع لم تستطع السياسة الوطنية أن تعود إلى الظهور. فغياب قاعدة إقليمية واقتصادية واجتماعية واحدة عنى أنه لم يعد هنالك أساس لـ "ساحة" سياسية مشتركة، ذات أساليب متفق عليها للتنافس، ووسائل منظمة لاختيار جيل جديد من القيادة. وإلى جانب ذلك، عطلت مشاركة العرب الآخرين في اللغة والثقافة والدين أية نزعة لإحياء أي برنامج فلسطيني متميِّز من برنامج المجتمعات العربية المضيفة. وأوجدت تجربة النكبة انتماء فلسطينياً مميزاً، لا عقيدة فلسطينية بالضرورة. كما سعى الفلسطينيون للخلاص الوطني بالانضمام إلى الأحزاب العربية المعارضة، أو أمّلوا بأن يصل إلى السلطة قادة عرب جدد يدفعون بجيوشهم إلى تدمير إسرائيل وتحرير فلسطين. ومن شأن ذلك أن يفسر القوة الصلبة في الدعوة إلى الوحدة العربية بين الفلسطينيين في الخمسينات وأوائل الستينات، كما انعكس ذلك، قبل أي شيء آخر، في الدعم الواسع للرئيس المصري جمال عبد الناصر.
من جهة أُخرى، كان هنالك الحساسية الشديدة جداً التي أبدتها الدول العربية نحو النشاط السياسي بين اللاجئين الفلسطينيين الذين أتوا إليها سنة 1948. وردت الحكومات المضيفة إمّا بعزل اللاجئين الفلسطينيين عن سكان البلاد بحواجز مادية وقانونية، وإمّا بالحيلولة دون نشوء منظمات اجتماعية وسياسية ذات طابع فلسطيني واضح. ولهذه الأسباب كلها كان النشاط السياسي الفلسطيني بعد سنة 1948 غير مركّز ويعمل على المستوى الشعبي، وموجهاً، في الغالب، نحو الأحزاب العربية ذات البرامج الراديكالية والقومية والاجتماعية والدينية. واعتمدت إعادة ظهور السياسة الوطنية الفلسطينية المميزة، بالدرجة الأولى، على التطور الذي حققته الجوالي الفلسطينية المشتتة في إعادة بناء "مجالها السوسيولوجي"، إي إحياء شبكاتها الاجتماعية وأنظمة قيمها ومعاييرها ورموزها الثقافية. تلك كانت عملية شاقة؛ لم يقترب المجتمع الفلسطيني من "الكتلة الحرجة" اللازمة لتوليد سياسته العلنية الخاصة به، ولدعم حركة وطنية مستقلة سوى في أوائل الستينات. وليس مصادفة أن يكون الفلسطينيون بلغوا هذه المرحلة بعد وقت قصير من تحطم الأمل، المعلق على الوحدة العربية، نتيجة انهيار الوحدة المصرية - السورية في أيلول/سبتمبر 1961 وتجدد الحرب العربية الباردة.
دلّ التحرر من وهم السياسة العربية، في أوائل الستينات، على أن الحكومات المضيفة لم تدمج الفلسطينيين سياسياً بأي طريقة ذات مغزى. وبرز تراكم الضغط، في هذه الفترة، في ظهور العشرات من الجماعات الصغيرة التي تبنت الكفاح المسلح على طريقتها الخاصة. ويقصد تنفيس هذا التوجه واحتوائه، وافق رؤساء الدول العربية على تكوين م.ت.ف. سنة 1964. إلا إن أحمد الشقيري، مؤسس م.ت.ف.، تجاوز صلاحياته إلى حد كبير وواجه القادة العرب بحقيقة قائمة هي إنشاء هيئة شبيهة بالدولة، ذات دستور، وسلطة تنفيذية، ومجلس تشريعي، ودوائر "حكومية"، وجيش، وميزانية مدقَّقة، وأنظمة داخلية. حتى إن م.ت.ف.فرضت ضرائب محدودة وتجنيداً على السكان الفلسطينيين في قطاع غزة بمساعدة المصريين، وطلبت تسهيلات مماثلة في الدول العربية الأُخرى.
لم تستطع م.ت.ف.أن تحقق توقعات الجماهير. ومرد ذلك، على الأقل، إلى أن سلطتها السياسية وعملها العسكري كانا خاضعين بحزم للقيادة العربية. علاوة على ذلك، فإن الأردن كان قد أثّر بقوة في اختيار المندوبين إلى مؤتمر تأسيس م.ت.ف.والمهم كذلك أن م.ت.ف. أوجدت "الدولة" لكن بلا مؤسسات للمساهمة الجماهيرية في السياسة الوطنية. لقد عانى الشقيري وزملاؤه المأزق نفسه الذي عاناه عبد الناصر، الذي افتقر إلى هيئة سياسية من أجل تعبئة الدعم الشعبي لسياسة الحكومة، إذ إنه كان يسيء الظن بالأحزاب السياسية. وقلّدت م.ت.ف.قرار عبد الناصر بتأليف حركة رسمية بقيادة الحكومة على غرار اتحاده القومي ثم الاتحاد الاشتراكي العربي الذي خلفه. كان التنظيم الشعبي الفلسطيني محظوراً في أغلبية الدول العربية، ولم يسمح له بالعمل إلا في غزة؛ غير أن نقطة الضعف الأساسية هي أنه أُنشئ من فوق، بقرار سلطوي، ولذلك لم تكن له حياة خاصة به. وفي النتيجة، أخفقت م.ت.ف.في ناحيتين أساسيتين: فهي لم تأخذ مبادرة عسكرية ضد إسرائيل؛ ولم توفر لجماهيرها القنوات للمشاركة السياسية.
إن الهزيمة المخزية التي أنزلتها إسرائيل بالدول العربية في حزيران/يونيو 1967، أضعفت هذه الدول مادياً وسياسياً معاً، وجعلت من الصعب عليها أن تتحرك بقوة في وجه مجموعات الفدائيين الفلسطينيين التي راحت تظهر على الساحة. كان قرار حركة فتح وسواها القيام بثورة مسلحة ضد إسرائيل في الضفة الغربية وغزة، اللتين احتلتا مؤخراً، قد لفت الأنظار إليها بصورة أوسع. كما أن صمودها، في آذار/مارس 1968، في وجه قوة إسرائيلية متفوقة في معركة الكرامة في الأردن أطلقها في الساحة السياسية ومكّنها من السيطرة على م.ت.ف.في السنة التالية. وفي سنة 1969، كانت الحركة الفدائية قد ترسخت كعامل إقليمي قائم بذاته. ومكّنها تبني الكفاح المسلح والتنظيم الشعبي القاعدي من تحريك الجماهير الفلسطينية، ثم أخيراً من تحويل "الإمكانات السياسية إلى عمل سياسي."[1]
الكفاح المسلح والبناء التمهيدي للدولة الفلسطينية
ظلت الحركة الفدائية الفلسطينية قوة متواضعة من حيث القدرة القتالية والفعالية العسكرية. وفي عهد الذروة، في الفترة 1968 - 1970، كان عدد الفدائيين لا يزيد على عشرة آلاف، كما أن هجماتهم على إسرائيل لم تكن قط أكثر من محض إزعاج. الأهم من ذلك هو المساهمة التي قدمها الكفاح المسلح إلى العملية التاريخية لبناء الدولة الفلسطينية؛ وقد أدت، بصورة خاصة، إلى أربع نتائج مترابطة:
الأولى، هي تأكيد الهوية الوطنية الفلسطينية التي كانت قد بدأت تأخذ شكلها مجدداً مع إعادة البناء الاجتماعي في الخمسينات. وأصبح شن الكفاح المسلح سنة 1965 إعادة تأكيد للوجود الفلسطيني وإرادته الذاتية، وبرهاناً على التصميم على متابعة نهج مستقل. وأعطت الصورة واللغة البطوليتان للكفاح المسلح جوهراً جديداً للمجتمع المتخيَّل للفلسطينيين الذين أخذوا الآن ينظرون إلى أنفسهم كشعب ثوري يشن كفاحاً فعلياً لتقرير مصيره، لا كمجموعة لاجئين عاجزين ينتظرون الإحسان. ووعت القيادة هذه الوظيفة وعياً واضحاً. فقد لاحظ خليل الوزير (أبو جهاد)، على سبيل المثال، أن الكفاح المسلح - وهو "عملية مركزية، شاملة، متعددة الجوانب" - هو الطريق "لإعادة بناء شعبنا وإبراز هويته الوطنية من أجل تحقيق أهدافه في العودة وتحرير الأرض. نفهمه [الكفاح المسلح] كعملية متكاملة ذات أبعاد ثلاثة: تنظيم، إنتاج، قتال."[2]
النتيجة الثانية، هي التجسيد المؤسساتي لهذه الهوية الوطنية الفلسطينية بواسطة استيلاء الحركة الفدائية على م.ت.ف. في سنة 1969. إن الضربة التي وجهتها إسرائيل إلى البلدان العربية في حزيران/يونيو 1967 أحدثت صدوعاً سارعت التنظيمات الفدائية الفلسطينية إلى توسيعها. وبصورة فعالة، أبقى الكفاح المسلح فسحة مفتوحة، هامشاً من الحرية خارج سيطرة الحكومات العربية، استطاعت المؤسسات الفلسطينية أن تزدهر داخله. وقد انعكس ذلك في الاتفاقيات الرسمية التي عقدت مع حكومات الأردن ولبنان وسورية، وهو ما حفظ حق الحركة الفدائية في الحفاظ على حضور مستقل ذاتياً على ترابها الوطني وشن حملة عسكرية على إسرائيل من حدودها. وإلى الحد الذي أدى إلى النيل من سيادة الدول المضيفة، فإن التشديد على "حكومة فدائية" موازية، ولو أنها في بدايتها الجنينية، وضع القاعدة للتفكير والتنظيم على غرار دولة. كانت النتيجة الأُخرى للاستيلاء على م.ت.ف.أنها أتاحت للقيادة الفدائية أن تتخذ لنفسها غطاء - الاعتراف الدبلوماسي الذي سبق أن أعطي لـ م.ت.ف. - وأن تتحرك على ساحة إقليمية ودولية أوسع.
النتيجة الثالثة للكفاح المسلح بالنسبة إلى بناء الدولة الفلسطينيةكانت إيجاد "ساحة" سياسية مشتركة، حددت الأهداف التي حولها يمكن تحريك الجماهير الواسعة، كما أوجدت القنوات التي عبرها يمكن أن تحدث المشاركة الجماهيرية في السياسة الوطنية. فقد كانت التنظيمات الفدائية هي الأحزاب السياسية؛ وأعضاؤها يستطيعون أن يتنافسوا وأن يرتقوا في صفوفها وفقاً لأصول محددة ولمعايير غير رسمية؛ وبرلمانها في المنفى - المجلس الوطني الفلسطيني - وفر وسيلة إضافية لاحتواء قطاعات متعددة من السكان الفلسطينيين، كما فعلت ذلك المنظمات الجماهيرية المنتسبة إليه (النقابات والاتحادات الشعبية). وكانت المشاركة في الكفاح المسلح هي المصدر الأساسي للشرعية، وهي التي ميزت القيادة الفدائية، التي نشأت بعد سنة 1967، من الجيل المؤسس لـ م.ت.ف.
كانت النتيجة الرابعة للكفاح المسلح، وهي جدلاً الأكثر مركزية واستمرارية، تشمل عملية قريبة من بناء الدولة، والتي دلت على الدرجة التي بلغتها مدى تقدم استعادة الهوية الوطنية وإعادة تأكيد المجتمع المتخيَّل، ونشوء المؤسسات التمثيلية. فقد شمل بناء الدولة، في المثال الفلسطيني، تأسيس خدمات شبه حكومية توفر العناية الطبية والخدمات الاجتماعية للجماهير. وكان ذلك واضحاً أيضاً في الإصرار المتشدد على الحصول من الحكومات العربية وغير العربية على الاعتراف بـ م.ت.ف.باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. إن العلامة الدالة على أن نموذج الدولة هو الذي تجري مضاهاته، تكمن في الانتشار السريع للمكاتب التي تنافست التنظيمات الفدائية بشأن إنشائها في كل مخيم وقرية وحي مديني؛ وهو أقرب ما استطاعت بلوغه لتحقيق الوجود الشامل للبيروقراطية الحكومية. كما كانت روحية الدولة واضحة أيضاً في استعمال التعبئة الوطنية وسيلةً للشرعية لا أداة تحريك، ولا سيما بعد الهزيمة في الأردن خلال 1970 - 1971. والمهم كذلك هو دور التنظيمات الفدائية التي كانت تتصرف كأنها مساوية لأحزاب سياسية في تنافسها بشأن الحصول على التأييد الجماهيري وعلى نصيب من السلطة داخل م.ت.ف.ووجدت القيادة الفلسطينيةوسيلة لجمع مجتمعها المبعثر ولدمجه، عبر الفصائل والمنظمات الجماهيرية، وخصوصاً من خلال حركة فتح.
إن الأوضاع الخاصة لـ م.ت.ف. - من حيث افتقارها إلى سلطة سياسية في منطقة جغرافية واحدة، وإلى سكان موحدين، وإلى اقتصاد مستقل ذاتياً - شوهت، ولا ريب، عملية إنشاء الدولة وبترتها. لقد كانت عملية طيفية قائمة بالدرجة الأولى من حيث الشكل؛ ولم تكتسب جوهرها إلا إلى الحد الذي استطاعت م.ت.ف.فيه أن تفرض لها ملجأ مأموناً، وأن تنشئ دولة ضمن الدولة في البلد العربي المضيف، كما حدث في فترات مختلفة في الأردن ولبنان.
عوامل مقررة
تحدد تطور الكفاح المسلح الفلسطيني بثلاثة عوامل: الأول هو العلاقة المعقدة والمهمة كلياً مع المجتمعات العربية المضيفة، نظراً إلى أن القيادة والجسم الأساسي لـ م.ت.ف.كانا قائمين في المنفى. ودفعت الحاجة إلى إنشاء الملاذات الآمنة بالفدائيين الفلسطينيين إلى الاصطدام بالحكومات العربية المعنية، كما دعت إلى أعمال انتقامية إسرائيلية، الأمر الذي زاد العبء على السكان المدنيين وعلى الاقتصاد الوطني للدول المضيفة. وقد دفعت مقاومة الأوساط الحكومية أو الشعبية لوجود هذه الملاذات بالفدائيين إلى السعي لتحقيق الحماية عبر تطوير قدراتهم العسكرية، متوسلين مساعدة الحلفاء الخارجيين، ومنشئين تحالفات مع الأحزاب والقوى الاجتماعية المحلية. وأدى تدخلهم في السياسة المحلية، طبعاً، إلى تفاقم التوترات الكامنة في المجتمع المضيف، وإلى إشعال الصراع المدني. ولم يكن ذلك أكثر وضوحاً في أي مكان منه في لبنان حيث برزت م.ت.ف.قوة كبرى، وأنشأت لها دولة في المنفى خلال الفترة 1973 - 1982.
أمّا العلاقة مع الأردن فكانت أكثر تعقيداً. وفي لب القضية كان التنافس المتواصل بشأن من يمثل الفلسطينيين، وخصوصاً حَمَلَة الجنسية الأردنية الذين يقطنون الضفة الشرقية والضفة الغربية من نهر الأردن. ثم إن المملكة ذات حدود أطول من حدود أية دولة عربية مع إسرائيل؛ وهي تسيطر على طرق الإمداد الرئيسية الموصلة إلى المناطق الفلسطينية التي احتلت سنة 1967. وقد أدى فقد هذه القاعدة الرئيسية خلال 1970 - 1971 إلى إضعاف م.ت.ف.وزيادة الاعتماد على ملاذها في لبنان. كما أدى ذلك إلى زيادة اتكال م.ت.ف.على سورية التي مارست نفوذاً واسعاً في لبنان، وسيطرت على الحركة البرية لمؤونة الفدائيين وتعزيزاتهم. وفي الواقع، بذلت سورية نفوذاً مباشراً أعظم مما بذلته أية دولة عربية على مسار الكفاح المسلح الفلسطيني وسياسته. كما كان للعراق وللسعودية أيضاً ظهور بارز؛ إلا إن مصر كانت ذات أهمية مباشرة أكبر إذ إن دعمها العسكري والدبلوماسي كان مطلوباً من م.ت.ف.،كما أدى قرارها عقد صلح منفرد مع إسرائيل إلى نقلة أساسية في التوازن الاستراتيجي الإقليمي.
كان العامل الرئيسي الثاني الذي يحدد تطور السياسة الفلسطينية هو الانقسام بين "الداخل" و"الخارج"، ولا سيما بعد أن وقع القسم الباقي من فلسطين الانتدابية تحت السيطرة الإسرائيلية في حزيران/يونيو 1967. وكانت الضفة الغربية وغزة صغيرتين كثيراً لا تستطيعان دعم الحرب الفدائية التقليدية، ولا إنشاء ملاذات أو مناطق محررة. وقد أدى ذلك إلى اختزال العمل الفلسطيني العسكري، في المناطق المحتلة وإسرائيل، إلى إرهاب في المدن بالدرجة الأولى، وهو ما سهّل على الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن إغلاق الحدود والتعامل مع المقاومة بالأساليب البوليسية. كما أرغم ذلك الحركة الفدائية على البقاء في المنفى، ومواصلة عملياتها العسكرية من وراء الحدود. ومع القيادة انتقل مركز الثقل في السياسة الوطنية الفلسطينية.
حيال العجز عن حل الانقسام بين الداخل والخارج، عرفت م.ت.ف.توتراً متواصلاً بين الجناحين انعكس في أنماط الكفاح المتناقضة التي تبناها كل جناح. وكان العمل العسكري الذي استخدمه الخارج وسيلة أساسية لتأكيد الهوية الفلسطينية المتميزة داخل الهوية العربية الواسعة، ولإبراز الهوية الفلسطينية وتحديدها بين أنظمة الدول العربية. كذلك كان الكفاح المسلح أشد الأساليب فعالية في تحريك الشتات الفلسطيني المبعثر. وكان الوجه الآخر للقضية أن م.ت.ف.نزعت إلى إهمال أو تقليل أهمية أساليب النضال غير المسلح الذي مارسه الفلسطينيون في الأراضي المحتلة. وعلى الرغم من أنها علقت أهمية كبيرة على الدور السياسي للضفة الغربية وغزة، وكرست جهوداً رئيسية للعمل الجماهيري والتنظيم الاجتماعي منذ أواخر السبعينات، فإنها خشيت، عند ذاك، منافسة القادة المحليين لها وعملت على إخضاعهم لاستراتيجيتها بصورة حازمة. وكان في هذا الإطار أن استخدمت م.ت.ف.سياسة المحاباة من أجل تقوية نفوذها السياسي (ومنافسة الأردن) في المناطق المحتلة.
شكلت طبيعة القيادة الفلسطينية وسياستها العامل الحيوي الثالث الذي حدّد تطور الكفاح المسلح. وقد تشكلت هذه السياسة وتلك الطبيعة - بمعزل عن العوامل الاجتماعية والاقتصادية - نتيجة كون معظم قوة م.ت.ف.القتالية وعضويتها المدنية ومؤسساتها "الحاكمة" قائمة في المنفى، مثلما كان أيضاً نصف الشعب الفلسطيني على الأقل. ثم إن القيادة الفلسطينية التي بنت شرعيتها على دورها في الكفاح المسلح ضد إسرائيل، شجعت النزوع نحو السياسة الشعبوية والسيطرة السلطوية. لقد كان هذان الاتجاهان محتومين لأنه الحركة الفدائية الفلسطينيةكانت منهمكة في نزاع عسكري، وكان عليها أن تبني تنظيمها الداخلي وسياستها وفقاً لذلك. وهنالك خاصة أُخرى للقيادة ذات مؤشرات مهمة هي عدم التدرج إلى أعلى من القاعدة، كما أن أعداداً قليلة جديدة انضمت إليها من خارج التنظيمات الفدائية. وقد أدى تبقرط الحركة، منذ أواخر الستينات فصاعداً، إلى تماسك عضوية النخبة التي كانت تشمل عناصر مدنية وعسكرية وشبه عسكرية، وإلى ثبات هذه العضوية في آن واحد.
السياسة والتنظيم الداخليان
في إطار التشتت الفلسطيني وضعفه أمام تقلبات المنافسات بين الدول العربية، كان التحدي الرئيسي الذي يواجه قيادة م.ت.ف.هو الحفاظ على الوحدة الوطنية بين الفئات المتباينة والجوالي المشتتة في وجه تدخل دائم لهذه الدولة العربية أو تلك، الأمر الذي أدى إلى سياسة الإجماع واعتماد القاسم الأدنى المشترك لا حكم الأكثرية، إذ يمكن أن تبحث المجموعة المغلوبة عن دعم خارجي، وأن تهدد زعم م.ت.ف.أنها الممثل الشرعي الوحيد لجميع الفلسطينيين. وأدت سياسة الإجماع هذه إلى منح نفوذ غير متكافئ في صنع القرار إلى أصغر مجموعة ما دام لها مقعداً في هيئات م.ت.ف.، وبالتالي، أعطى ذلك نفوذاً كبيراً للدول العربية الداعمة للمجموعات المؤيدة لها. لذلك كان الحافز على تعميق الوحدة الوطنية ضئيلاً، وخصوصاً أنه كان لكل تنظيم منضو حق في نصيب من أموال م.ت.ف. ومناصبها وفقاً لـ "كوتا" متفق عليها.
كان للتشديد على الخطاب الوطني في السياسة الفلسطينية، مقروناً بالاعتماد على الدول العربية من أجل الدعم المادي، وقع أساسي على المضمون الاجتماعي للكفاح. وربما استخدمت التنظيمات اليسارية الفلسطينية التعابير الماركسية - اللينينية بعد سنة 1967، لكن برامجها شملت اليسير من التحليل الاجتماعي والاقتصادي. لقد حالت هيمنة الخطاب الوطني والظهور السريع لخيار الدولة، بتمويل عربي، دون قيام مشروع تحويلي اجتماعي. وكان ذلك واضحاً في غياب أي جهد منسق لإنشاء "اقتصاد فدائي" في الأردن في الفترة 1968 - 1970، أو في لبنان في الفترة 1973 - 1982، إمّا نتيجة وعي غير كاف لأهمية الحصول على الموارد من المجتمع، وإمّا نتيجة استعداد مفرط لاستبدال التعبئة الاجتماعية بمساعدة من الدولة وبعلاقات قائمة على الريع.
أدّى تدفق المساعدات المالية الضخمة من الدول العربية، في أواخر السبعينات، إلى تعزيز الاتجاه نحو السياسة الريعية في م.ت.ف. وفي كل تنظيم منتسب إليها. وبينما كان لسياسة المحاباة، على نطاق واسع، أثر توحيدي تجاه جمهور مشتت، وساهمت في ربط المناطق المحتلة بـ م.ت.ف.، فإنها في النهاية شوهت صوغ السياسة وحالت دون تحقيق الأهداف الوطنية. وقد كانت هذه الأمثلة نموذجية لبناء المؤسسات التي تدمج بين الطابع السلطوي لتوزيع الموارد والمنافع من خلال شبكة علاقات اجتماعية عنقودية تراتبية وبين الهيئات الرسمية والقانونية للدولة، لكنها نشأت أيضاً عن الأوضاع الخاصة للوطنية الفلسطينية. فقد أوقفت نكبة 1948 تطور التنظيم الاجتماعي والسياسي؛ وكانت النتيجة المحافظة على قوة العلاقات الأصلية القائمة على العائلة والعشيرة والجهوية والانقسامات المدينية - الريفية، وإعاقة نشوء السياسة الجديدة أساساً.[3] وأخيراً، شجع فقد الهوية والابتعاد عن الوطن الاهتمام بالخطاب الإنشائي المنمق وبالرموز، وأضعفا التنظيم الفعال أو المفيد. وبصورة خاصة، تجنبت حركة فتح البنية الجامدة أو "الأيديولوجيا العملية" إيماناً منها بأن جوهر التنظيم هو "الحركة الدائمة".[4]لقد كانت حركة، لا حزباً، والحركة هي "العمل المستمر البعيد عن التنظيم الجامد. فهي حركة شعب وليست حركة تنظيم."[5]
كان للدفق المستمر من المجندين ومن الأموال نتيجة فورية هي تعزيز القيادة الفردية أو القومية وخفض القدرة على المحاسبة، من النواحي السياسية والعسكرية والمالية. وثبت أن الجيل الذي سيطر على المنظمة، في أوائل سنة 1969، دائم إلى حد كبير، إذ لم يجر أي تغيير تقريباً في شخصياته الرئيسية خلال ربع قرن. وتمسك قادة التنظيمات الفدائية المتعددة بعناد بمناصبهم، حتى في الصف الثاني، إذ كانت التغيرات لا تشمل، في الأساس، غير التناوب في دائرة ضيقة من الأفراد. لذا كان تقويم الأداء سطحياً، وخصوصاً في حركة فتح وفي م.ت.ف.التي تسيطر عليها الحركة. حتى في الميدان العسكري، كان تكرار الجهود بين التنظيمات الفدائية، والغيرة على الاستقلال الذاتي، وغياب وحدانية معايير التدريب والتكتيكات، لافتة للنظر. وهنالك نتيجة أُخرى هي تقويض التعبئة والتنظيم الشعبيين، إذ إن زيادة الهيئات شبه العسكرية والكشوفات المالية أضعفت الروح التطوعية وجعلت القاعدة الجماهيرية بيروقراطية. وتحولت النقابات الفلسطينية والتنظيمات الشعبية إلى امتدادات للفئات السياسية بقيادة موظفي أجهزة مدفوعي الأجرة.
جسّد عرفات، أكثر من أي شخص آخر، هذا النظام. وكان تفضيله لتجنب المواجهات مع الحكومات العربية يوازيه توقه إلى القيام بالمساومة على سلطتها بأمل إضعاف مضيفيه ووقاية الحركة الفلسطينية من القمع. كذلك كان تمسكه بالاستقلالية عن السيطرة العربية مماثلاً لاستعداده لعقد صفقات مع حكومات متعددة، فيعطيها حصة بينما يحتفظ لنفسه بالسلطة النهائية لصنع القرار. إن السيطرة الشخصية التي مكنته من حث م.ت.ف.، المترددة في أحيان كثيرة، على القبول باستراتيجيا دبلوماسية ساهم هو نفسه في تطويرها، تحققت له جزئياً من خلال سياسته الواضحة منذ البداية، والقائمة على إنشاء هيئات ودوائر متوازية كثيرة، داخل حركة فتح أولاً، ثم داخل م.ت.ف. لاحقاً؛ وعلى تشجيع نشوء إقطاعات عسكرية، كوسيلة لتفتيت قواعد السلطة المنافسة. وبما أنه لم يكن مغايراً للكثيرين من القادة العرب في ارتيابه من القاعدة الجماهيرية المنظمة (كما اتضح من تهميشه الفعال لفروع حركة فتح المدنية وللنقابات والاتحادات الشعبية المنتسبة إلى م.ت.ف.)، فإن عدم ترؤسه دولة ذات سيادة، وعدم هيمنته على اقتصاد وطني، عمَّقا النتائج. وهكذا، فإن غياب القنوات التنظيمية المرسخة التي يمكن للجماهير من خلالها أن تشترك في السياسة الوطنية، ترك هامشاً واسعاً لعمل القوى السياسية الأُخرى، ولا سيما الإسلاميين.
الثورة وما بعدها
لم يتضح قصور الكفاح المسلح الفلسطيني حتى نشوب الحرب الأهلية في الأردن في أيلول/سبتمبر 1970، وطرد الفدائيين من البلد خلال 1970 - 1971. وتردّ هزيمة الفدائيين في كثير من أسبابها إلى إخفاقاتهم السياسية والتنظيمية. غير أنها، علاوة على ذلك كله، وبصورة صارخة، كشفت التوازن الفعلي في القوة بالنسبة إلى الدول العربية التي كانت انتعشت بعد هزيمة 1967، وناشطة في إعادة بناء أنظمتها للسيطرة على السكان. وفي الوقت نفسه، عززت التغيرات الجارية في المجتمعات والنظم الاقتصادية المحلية نظام الدولة العربية، وخفضت الاستجابة الشعبية لنداءات فلسطين والوحدة العربية.
كانت نتيجة النزاع في الأردن توجيه ضربة عنيفة، بصورة خاصة، إلى التنظيمات الفدائية اليسارية التي تبنت أكثر الشعارات والأهداف تطرفاً. ولم تتعاف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من الضربة لأعوام عدة، بينما استجابت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين عبر الانتقال إلى موقع قيادي في المعسكر البراغماتي الفلسطيني. أمّا التنظيمات الفدائية الباقية فضعفت أو تلاشت، وبين امتدادات جناحي حزب البعث، السوري والعراقي. لقد تراجعت مرحلة الحماسة الثورية وانتقلت إلى مرحلة تقلب أيديولوجي وجزر تنظيمي لتتحول، في النهاية، إلى مرحلة يمكن وصفها، على أفضل وجه، بأنها مرحلة بناء الدولة فيما بعد الثورة. لكن كان لا يزال على الفلسطينيين أن يحصلوا على الحد الأدنى من أهدافهم في أرضهم. وهكذا ظلت النزعة الوطنية قوة فاعلة تتطلب متابعة الكفاح المسلح. غير أن الطموح إلى بناء الدولة كان المسيطر بوضوح على جدول الأعمال السياسي.
كان للهزيمة في الأردن ثلاث نتائج مهمة، إذاً: أولاً، برزت حركة فتح باعتبارها القائد غير المنازع للحركة الوطنية الفلسطينية. ثانياً، استغلت فتح هزيمة التنظيمات الفدائية اليسارية لتأكيد م.ت.ف.ميداناً مشتركاً للسياسة الفلسطينية، وهي عملية وجهها عرفات بقوة. وأخيراً، اختفت الإشارات إلى حرب العصابات من التصريحات الفلسطينية الرسمية على الرغم من الاستمرار في التزام الكفاح المسلح.
وكشف غياب الصيغ الجديدة للعقيدة العسكرية عن مأزق استراتيجي، إن لم نقل عن اعتراف ضمني بأن الخطة الكبرى لتحرير فلسطين بالقوة أمر مستحيل التحقيق. غير أن الكفاح المسلح لم يكن استنفد غرضه. هنا استخدمت قيادة فتح أساليب عسكرية لتأكيد سيطرتها الداخلية عقب إخراجها من الأردن. وأقدمت على حملة استمرت عامين في ميدان الإرهاب الدولي لإخفاء مأزقها واستعادة المبادرة الاستراتيجية. وفي جهد منها لاحتواء الانشقاق الداخلي وإعادة بناء القوة العسكرية، أمرت بإعادة تنظيم القوات الفدائية على أسس شبه تقليدية، وشرعت في حيازة الأسلحة الثقيلة. وثبت أن الجهد المبذول في هذين المجالين حقق النجاح، إذ مكّن م.ت.ف.التي تسيطر عليها فتح من استغلال الفرص السياسية الجديدة التي جاءت بها الحرب العربية – الإسرائيلية في تشرين الأول/أكتوبر 1973.
تميزت حرب تشرين الأول/أكتوبر بأنها نقطة انطلاق جديدة في تطور الكفاح المسلح الفلسطيني. لقد قامت الدول العربية بالهجوم العسكري لكسر المأزق الدبلوماسي وتحسين وضعها التفاوضي في تسوية سلمية ممكنة مع إسرائيل. وأثبتت الحرب حدود القوة العسكرية والإرادة السياسية العربية، لكنها، في الوقت نفسه، دلّت على إمكانات الاستراتيجيا التفاوضية المدعومة باستخدام القوة وبتوجيه التحالفات الدولية والإقليمية. أسرع الجناح البراغماتي في قيادة م.ت.ف.إلى استغلال الفرصة لتحقيق أهداف أكثر تواضعاً من "التحرير الكامل" الذي ظهرت استحالة تحقيقه بوضوح. ومثّل برنامج "السلطة الوطنية"، الذي وافق عليه المجلس الوطني الفلسطيني في حزيران/يونيو 1974، قبولاً ضمنياً بتسوية تفاوضية تؤدي إلى إنشاء دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة وإلى الاعتراف بإسرائيل. وعزز هذه النقلة في الاستراتيجيا قيام الدول العربية وحركة عدم الانحياز، وغيرهما من تجمعات العالم الثالث والكتلة السوفياتية، بالاعتراف - بصورة أو بأُخرى - بـ م.ت.ف.ممثلاً شرعياً وحيداً للفلسطينيين، كما ساهم في ذلك دعوة عرفات إلى التحدث في الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر 1974.
لقد نجح الكفاح المسلح في إعادة تشكيل الهوية الوطنية، وأعطى معنى للمنظمة باعتبارها الكيان الممثل للفلسطينيين. ونتيجة ذلك، تغير عمله وأصبح العمل العسكري إحدى أدوات كثيرة للسياسة التي تخدم استراتيجيا دبلوماسية أكثر اتساعاً. فمن ناحية، صار القصد من الهجمات الانتحارية على إسرائيل من البحر أو عبر الحدود العربية، ومن حملات التخريب بواسطة خلايا سرية في الأراضي المحتلة، إثبات وجود م.ت.ف.، و"إفساد" المبادرات السياسية التي استثنت الفلسطينيين (كالدبلوماسية المكوكية التي قام بها وزير خارجية الولايات المتحدة، هنري كيسنجر، خلال 1974 - 1975)، وإقناع الولايات المتحدة وإسرائيل بضرورة إشراك المنظمة في عملية السلام. ومن ناحية أُخرى، هدف تطوير القوات الفلسطينية في لبنان إلى حماية كيان دولة المنظمة من الهجوم، وإلى تعزيز صدقيتها السياسية، وتقوية استراتيجيتها الدبلوماسية. وقد بات دور الكفاح المسلح الآن المحافظة على مكانة المنظمة باعتبارها عاملاً في بناء الدولة، ووقاية العمليات الداخلية لبناء الدولة الفلسطينية، حتى لو كان ذلك في المنفى.
لم يوافق الجميع على الاستراتيجيا الجديدة للمنظمة، والتي تضمنت، فعلاً، عناصر متناقضة. فقد قاوم "الرافضون" الفلسطينيون، بقيادة الجبهة الشعبية وبدعم من العراق وليبيا، بعناد، برنامج السلطة الوطنية للمجلس الوطني الفلسطيني لسنة 1974، وأية عملية تؤدي إلى الاعتراف بإسرائيل. أمّا الجبهة الديمقراطية، التي تزعمت خطة القبول بهذه الاستراتيجيا "المرحلية"، فعارضت محاولات حركة فتح لإنشاء محور مع مصر والمملكة العربية السعودية [....] ومباشرة الحوار مع الولايات المتحدة. وكان رأيها، كآراء الآخرين في المعسكر البراغماتي، مثل الصاعقة المدعومة من سورية والشيوعيين الفلسطينيين، أن المنظمة ينبغي لها ألاّ تفاوض إلا من موقع قوة يؤمنه لها التحالف الاستراتيجي مع الدول العربية "التقدمية" والكتلة السوفياتية.
بلغ عدم الثقة بعرفات وبحركة فتح مستويات جديدة في إثر زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى القدس في تشرين الثاني/نوفمبر 1977، وبدء المحادثات التي أدت إلى توقيع معاهدة الصلح المصرية - الإسرائيلية في آذار/مارس 1979. وأسفر ذلك عن نشوء تحالف، لا سابق له، من شتى التنظيمات الفلسطينية الأُخرى والعراق وليبيا وسورية، ومن الاتحاد السوفياتي ضمناً. كان لكل من هذه الدول العربية أسبابها الخاصة لكره الدبلوماسية الفلسطينية المستقلة، وخصوصاً إذا استتبعت هذه الدبلوماسية توسط مصر والولايات المتحدة وأمكن لها أن تؤدي إلى صفقة منفردة أُخرى مع إسرائيل. كانت المعارضة الفلسطينية، من جهتها، تبالغ في تصور قوتها الخاصة وفي تماسك تحالفاتها الإقليمية والدولية. لقد كانت قوية إلى حد كاف لتؤدي دور "المعطل" في إطار م.ت.ف.، لكنها كانت عاجزة بوضوح عن تقديم استراتيجيا تتباين في الأساس عن استراتيجيا حركة فتح، وعاجزة عن تطوير الكفاح المسلح ضد إسرائيل.
والسخرية هنا أن م.ت.ف.بلغت أيضاً ذروتها التاريخية في هذه الفترة. فوضعها في لبنان مأمون، على الرغم من التحديات الداخلية النامية، وبنيتها العسكرية في الذروة. كما عزز الدعم السياسي الذي تمتعت به في المناطق المحتلة، بالإضافة إلى النشاط العسكري المستمر لخلاياها السرية، ادعاءها أنها الممثل الفلسطيني المركزي. وأثبتت المنظمة قدرتها العسكرية في أثناء مواجهتها القوات الإسرائيليةفي الجنوب اللبناني في آذار/مارس 1978 وتموز/يوليو 1981، وأبرزت إمكاناتها الدبلوماسية من خلال التفاوض في وقف النار عبر الأمم المتحدة، ثم عبر الولايات المتحدة بصورة غير مباشرة. كذلك طورت علاقات عملية مع عدة بلدان أوروبية في أواخر السبعينات، وكسبت الاعتراف الرسمي من الأسرة الأوروبية في حزيران/يونيو 1980 كطرف أساسي في عملية السلام. وقد تلقت المنظمة مساعدات مالية متزايدة من الدول العربية منذ مؤتمر قمة بغداد في تشرين الثاني/نوفمبر 1978. وهذا الأمر، بالإضافة إلى امتداد مؤسساتها السياسية إلى المناطق المحتلة، وتوسع نشاطها الدبلوماسي على نطاق عالمي، حوّلها - بصورة فعالة - من مجرد دولة ضمن الدولة في لبنان إلى دولة واسعة الانتشار في المنفى.
كانت الفرص والقيود متوازنة بدقة بالنسبة إلى م.ت.ف.في بداية الثمانينات. لقد بلغت أقصى حدود طاقتها في الضغط العسكري على إسرائيل من قاعدتها في لبنان أو داخل الأراضي المحتلة. في المقابل، كانت تتعرض للهجوم المتزايد من إسرائيل واليمين اللبناني، بينما أخذت تنهار تحالفاتها السابقة مع ميليشيا "أمل" والحركة الوطنية اللبنانية وسورية. كذلك بلغت استراتيجيتها الدبلوماسية أقصى حدودها. كان الكفاح المسلح المحدود غير كاف لإرغام إسرائيل على الانسحاب من الضفة الغربية وغزة، ومع ذلك لم تكن المنظمة مستعدة للقبول بالعرض المقدم لها في اتفاق كامب ديفيد، أي حكم فلسطيني ذاتي لفترة انتقالية تعقبها مفاوضات في تسوية دائمة مع إسرائيل. وكان عرفات وزملاؤه المقربون لا يزالون يسعون بحذر للانضمام إلى عملية السلام بإشراف الولايات المتحدة، بأمل تحسين الشروط عند قبولهم شركاء. لكن دولة م.ت.ف.ضمن دولة لبنان كانت غير حصينة أمام الإجراءات الانتقامية من حلفائها الذين كانوا يرتابون منها فلم تتخذ هذه الخطوة. (وفي أية حال، فإن الحكومة الإسرائيلية برئاسة مناحيم بيغن كانت، على ما يرجح، سترفض متابعة مفاوضات الحكم الذاتي لو أن م.ت.ف.انضمت إلى المحادثات). لقد كانت المنظمة عالقة بين هذين الهدفين المتضاربين. وعلى الرغم من ذلك، كادت، بحلول سنة 1982، تحقق اختراقاً. وكانت قريبة من ذلك فعلاً، حتى إن الحكومة الإسرائيلية شنت الهجوم على لبنان لتحول دون المفاوضات التي يمكن لها أن تؤدي في النهاية إلى قيام دولة فلسطينية.[6]
النجاح غير الفعال
أسفر الغزو الإسرائيلي للبنان وإجلاء م.ت.ف.عن بيروت، في صيف سنة 1982، عن إنهاء فعلي للكفاح المسلح الفلسطيني ولعملية بناء الدولة. لقد واصلت القيادة الفلسطينية تنظيم النشاط المسلح ضد إسرائيل من مواقعها الجديدة في المنفى، وحافظت على مؤسساتها المدنية، وتابعت استراتيجيتها الدبلوماسية. غير أن العمل العسكري لم يعد المصدر الوحيد للهوية الوطنية، أو الدينامية الأساسية الحافزة على بناء الدولة. وكانت المشكلة هي أن المنظمة من دون قاعدة جغرافية مستقلة ذاتياً، تحولت إلى شيء أكثر قليلاً من بنية للإدارة السياسية من بعيد؛ وكان واضحاً أنها غير ملائمة لذلك. وما دام كان هنالك دولة في المنفى في لبنان، فإن القيادة كانت قادرة على أن تحول الطاقات في اتجاه التطوير العسكري والبيروقراطي، وأن تحتوي جماهير متعددة، إمّا بإنشاء مؤسسات جديدة، وإمّا بتوزيع المحاباة. غير أن فقدان هذا التأثير الداعم تركها معتمدة، إلى حد كبير، على أداء البنى الإدارية، والهيئات شبه العسكرية، والفروع المدنية، والمؤسسات الاجتماعية المنتسبة إليها، التي لم تكن مشتتة جغرافياً فحسب، بل كانت أيضاً مقسمة إلى محاور ومفتتة وبيروقراطية، إن لم نقل، بكل صراحة، فاسدة بفعل انتشار السياسة الريعية والمحاباة.
وبمقدار ما كانت المشكلة تتعلق بالسياسة والتنظيم الداخليين كان المأزق البنيوي للمنظمة نتيجة مباشرة للجمع بين المبادئ الشعبوية، والخطاب الوطني، والنظام السلطوي النفعي. تلك هي الخصائص الدائمة للكفاح المسلح الفلسطيني لأن التنظيمات الفدائية الرئيسية لم تكن، من جهة، قد شرعت في محاولة جادة لتحويل مجتمعها، ومن جهة أُخرى، بسبب سيطرة الرغبة في بناء الدولة منذ المراحل الأولى، ضمناً في البداية، ثم صراحة بعد ذلك. ولئن كان هنالك رجل واحد هو القوة الرئيسية الدافعة وراء هذا النظام، فإنه عرفات، بلا جدال. إن ميله البارز دائماً إلى عدم الثقة بأية بنية تنظيمية، ثم تفتيتها فعلاً إذا كان في إمكانها أن تتحدى قراراته، أو أن تعرقل توجيهاته السياسية، زاد حدة عقب الانسحاب من بيروت. وكان الكثيرون من أفراد القيادة الفلسطينية وكبار المسؤولين قد هُمِّشوا بعد أن فقدوا قواعدهم في لبنان؛ والآن أخذ عرفات يعمل على إضعاف بقية الزملاء والمنافسين المحتملين. فركّز في يده السلطة الرسمية في عدد متزايد من الدوائر، دامجاً القسمين العسكري والمالي في فتح وجيش التحرير الفلسطيني، وأوجد هيئات مرادفة شبيهة بتلك التي لم تكن تخضع لسيطرته. ثم زاد في تفتيت البنى والقنوات التنظيمية، معتمداً بدلاً من ذلك على سياسة المحاباة في التوزيع المتزايد للمنافع من أجل تأكيد سيطرته الشخصية.
ومع أساليب السيطرة هذه، أراد عرفات أن يربط جهاز م.ت.ف.والجماهير الفلسطينية الواسعة باستراتيجيته الدبلوماسية، وأن يشلّ المعارضة الفلسطينية التي كانت قاعدتها في دمشق منذ الانسحاب من بيروت. وفي هذا الإطار واصل خصومته التي لا هوادة فيها لسورية بين سنتي 1983 و1987، تاركاً لكبار زملائه وللأنفار العاديين خياراً محدوداً غير دعم "القرار الفلسطيني المستقل"، أو في الواقع، الرضوخ لتركيز السلطة والمناورات الدبلوماسية في يده. كرر عرفات هذه المقاربة في أثناء حرب المخيمات في لبنان، إذ حرض على الصدام، عن عمد أحياناً، أو صعّد النزاع كوسيلة لتشويه معارضيه الفلسطينيين وتأمين العطف الدولي لـ م.ت.ف. ثم عزز مقاربته هذه بالدفق المستمر في الأموال إلى المؤيدين السياسيين، والشبكات السرية، والإعلام، والمؤسسات الاجتماعية في المناطق المحتلة لتقوية موقعه بين الجماهير.
جاءت عودة تنظيمات المعارضة الرئيسية إلى حضن م.ت.ف.في دورة المجلس الوطني الفلسطيني من أجل الوحدة في نيسان/أبريل 1987 لتعطي إثباتاً ملموساً على نجاح عرفات في إعادة تأكيد قيادته للحركة الفلسطينيةككل. إلا إنه كان لا يزال يفتقر إلى الوسيلة لبذل الضغط على إسرائيل أو لفرض م.ت.ف.طرفاً في المفاوضات على أسس مقبولة من الفلسطينيين. وجاء اندلاع الانتفاضة في المناطق المحتلة في كانون الأول/ديسمبر 1987، إنقاذاً غير متوقع، إذ استغل عرفات الانتفاضة من أجل إعادة بناء الأرصدة السياسية لـ م.ت.ف.وتأمين قبول شركائه المتحالفين معه بحل الدولتين والاعتراف بإسرائيل.
كشفت الانتفاضة، أكثر من أي شيء آخر، عيوب قيادة م.ت.ف.بصورة عامة، وعرفات بصورة خاصة. كانت قدرة السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة على الاستمرار في الانتفاضة بعد انطلاقتها العفوية تعود إلى الخبرة الواسعة بمجال النشاط السري عبر الأعوام، وإلى المنظمات الجماهيرية التي أنشأتها حركة فتح والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية والشيوعيون ثم الإسلاميون أخيراً. كان خليل الوزير هو الشخص الأكثر مسؤولية عن هذه العملية في فتح، وفي م.ت.ف.ككل. لكن عرفات كان خصّص جهداً كبيراً في الثمانينات لإضعافه، بخفض ميزانيته، والحد من صلاحيات كبار مساعديه، وإنشاء لجان قيادية موازية، وإبعاده عن مراكز م.ت.ف.الرسمية ووفودها.
عقب اغتيال الوزير على يد الكوماندوس الإسرائيلي في نيسان/أبريل 1988، بقي عرفات وحده مسيطراً على حركة فتح وعلاقات م.ت.ف.في المناطق المحتلة. كان الوزير قد استخدم سياسة المحاباة لتأمين ولاء فئات اجتماعية معينة لـ م.ت.ف.، لكنه فعل ذلك بصورة محدودة، إذ كان يعمد، عادة، إلى توجيه الأموال إلى المؤسسات القائمة والروابط المهنية أو المنظمات غير الحكومية. لكن عرفات عمد، قياساً بذلك، إلى توزيع الأموال بحرية على أفراد في جميع الأوساط والمناطق، وشجع على نشوء شبكة واسعة غير متناسقة من المستفيدين ذوي الصلة المباشرة به.
ثم إن التنظيم السري الموحد نسبياً وحركة الشبيبة والهيئات شبه العلنية التي كان الوزير قد بذل جهداً شاقّاً في إنشائها في ظل الاحتلال الإسرائيلي سرعان ما تفتتت إلى فئات وزمر متنافسة تحت وقع سياسة المحاباة لدى عرفات. كما زادت المؤسسات المتشابهة واللجان الفائضة عن الحاجة بين المنظمات الفلسطينية غير الحكومية، الناشطة في مجالات العمل الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي في الأراضي المحتلة. كما ترك اغتيال مسؤولَي الأمن صلاح خلف (أبو إياد) وهايل عبد الحميد، في كانون الثاني/يناير 1991، عرفات وحده مسيطراً على هيئاتهما السابقة التي تفتت بالتالي وانتهت.
لعل عرفات أثبت أنه سياسي بارع، قادر على إنشاء نظام من السيطرة السياسية، وعلى تشغيل الريع على نطاق واسع، لكن هذه النماذج كشفت عجزه عن إنشاء مؤسسات للدولة. وسواء عند تسلمه قيادة م.ت.ف.سنة 1969، أو الانتفاضة سنة 1988، فإنه ورث بنى بناها آخرون، لكنه عمد إلى تجزئتها وإنشاء نظائر لها إلى درجة مذهلة، بإعادة تشكيلها وبجعلها في خدمته.
وبتوقيع اتفاق أوسلو بين م.ت.ف.وإسرائيل سنة 1993، كانت سيطرة عرفات السياسية شخصية إلى حد أصبحت فيه السياسة الفلسطينية خاضعة، كلياً تقريباً، لإحساسه بالتوقيت ولمزاجيته ولخياراته للأولويات وللأساليب. كانت عاقبة أحكامه المغلوط فيها، مثل قراره تصعيد الصراع في لبنان سنة 1976، أو دعم العراق في أثناء حرب الخليج خلال 1990 - 1991، مضخمة على الحركة الوطنية الفلسطينية نتيجة الربط بين القائد والقضية. في المقابل، فإن إدراكه الغريزي لوجهة التغيير في الاتحاد السوفياتي وفي النظام الدولي دفع به إلى التنازلات التي جاءت في وقتها سنة 1988 وسنة 1991، الأمر الذي ضمن لـ م.ت.ف.موقعاً مستمراً في السياسة الإقليمية، ودوراً في عملية السلام العربية - الإسرائيلية.
لقد نجح عرفات، لكنه حقق ذلك بطريقة ضخّمت التكلفة المادية لشعبه في كل مرحلة تقريباً، إذ حالت قبضته المتشددة على السلطة دون التخطيط العقلاني، وقلت الاستفادة من الخبرة إلى أدنى حد، وعطلت التنسيق بين الموارد. وأسفر ذلك عن تقليص النفع السياسي للتضحيات والفرص الاستراتيجية، وجعلهما بالتالي تعودان بمردودات متناقضة. وأخيراً، قبلت م.ت.ف.، بقيادة عرفات، بحكم ذاتي محدود في الضفة الغربية وغزة في فترة كانت التغيرات الأساسية في الدول والمجتمعات في الشرق الأوسط تهدد بدفع القضية الفلسطينية إلى ما وراء القضايا المحلية والإقليمية والدولية. ربما لم يكن في إمكان الكفاح المسلح، على ما يرجح، أن يحقق في أي وقت أكثر مما قدمه اتفاق كامب ديفيد من حكم ذاتي انتقالي سنة 1978. ومن غير المحتمل أنه كان لتنظيم أفضل ولأسلوب آخر مختلف من السياسة والقيادة أن يغيرا النتيجة بأية طريقة أساسية، في ظل الظرف الموضوعي المتمثل في الأولويات العربية المتضاربة، والقوة الإسرائيلية، والحياء السوفياتي، وعداء الولايات المتحدة. في أية حال، فإن المكاسب النهائية، على تواضعها، تحققت بتكلفة كبيرة للفلسطينيين ولمضيفيهم العرب. إن نجاح الفلسطينيين في النهاية في إقامة كيان حكم ذاتي في الضفة الغربية وغزة تحقق بفضل عرفات، من ناحية، وعلى الرغم منه من ناحية أُخرى. لقد أوصل الكفاح المسلح الفلسطينيين إلى هذا الحد، غير أن مستقبل محاولتهم لبناء دولة ذات سيادة، في جو من القيود الخارجية الصارمة، يتوقف، بالدرجة الأولى، على نجاحهم في تطوير سياستهم الداخلية والدينامية التنظيمية.
[1] نقلاً عن:
Augustus Norton, Amal and the Shi’a: Struggle for the Soul of Lebanon (Austin: University of Texas Press, 1987), pp. 34-35.
[2] أحمد سيف، "خليل الوزير يقيّم مختلف مراحل النضال الفلسطيني"، "شؤون فلسطينية"، العدد 152 - 153 (تشرين الثاني/نوفمبر - كانون الأول/ديسمبر1985)، ص14.
[3] Donna Divine, "The Dialectics of Palestinian Polotics," in Joel S. Migdal et al., Palestinian Society and Politics (Princeton: Princeton University Press, 1980), pp. 214-225.
[4] عبارة "الحركة الدائمة" استعملها خليل الوزير، وقد وردت في: فلسطين الثورة"، 12 كانون الأول/ديسمبر 1993.
[5] أحد قادة فتح في مقابلة معه في: "الأسبوع العربي"، العدد 450، 22/1/1968. النص في: "الوثائق الفلسطينيةالعربية لعام 1968" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية؛ جامعة بيروت العربية، 1970)، ص 26 - 31.
[6] تقويم التفكير الإسرائيلي معروض في:
ِAvnerYaniv, Dilemmas of Security: Politics, Strategy and the Israeli Experience in Lebanon (New York, Oxford: Oxford University Press, 1987), p. 89.