مقدمة عامة
بعقد مؤتمر القاهرة الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أو مؤتمر القاهرة كما درجت تسميته، خلال فترة 13 - 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1996، تكون آلية تحقيق الشرق الأوسطية قد تلقت دفعاً جديداً في مسارها، ولا سيما أن هذا المؤتمر هو الثالث من نوعه، بعد مؤتمر الدار البيضاء (1994) ومؤتمر عمّان (1995).
تعد آلية تحقيق الشرق الأوسطية هذه تجاوزاً ملحوظاً لصيغة مدريد التي كانت تتم في إطار المفاوضات المتعددة الأطراف، ومن خلال لجنة التنمية الاقتصادية المنبثقة من محادثات مدريد، بقيادة الاتحاد الأوروبي؛ إذ تدار الآلية الجديدة عبر المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس (سويسرا) ومجلس العلاقات الخارجية الأميركية في نيويورك، وهذا الأخير يتولى الإشراف على مشروع بحثي بعنوان "الولايات المتحدة والشرق الأوسط". وهنا تبرز السمة الأُولى لهذه الآلية، وهي قيادتها عبر مؤسسات من خارج المنطقة، لا من داخلها. وبمعنى آخر، إنها تعبر عن رغبة خارجية أكثر من كونها ضرورة داخلية للأطراف المعنية ككل، وهذا طبعاً لا ينفي إمكان استفادة بعض الأطراف منها في حال تحققها.
من جهة أُخرى، فإن هذه الصيغة تضم، إلى جانب الحكومات المعنية، الكثير من رجال الأعمال، والمنظمات الدولية، والجهات المعنية الأُخرى؛ أي أنها لم تعد مقصورة على ممثلي الدول، بل تضم مستويات متعددة من البلاد المشاركة. ولذلك، فقد اختلطت الأوراق بين السياسة والاقتصاد. ومصطلح "القمة"، الذي أُطلق على هذه اللقاءات، يختلف جذرياً عن معناه في الأمور السياسية؛ إذ إنه يشير إلى مشاركة مجموعة لا بأس فيها من رجال الأعمال والشركات الكبرى، جنباً إلى جنب مع كبار المسؤولين الحكوميين.
من هنا، أصبحنا نشهد مساراً تاريخياً متسارعاً تتشكل فيه الخريطة الاقتصادية للمنطقة، عبر تفاعل أطراف كثيرة من الداخل والخارج، ومن القطاعين العام والخاص، ومن الشركات ذات النشاط الدولي، وغيرها.
لقد حظي مؤتمر القاهرة بما لم يحظ المؤتمران السابقان به من جدل ونقاش، وخصوصاً أن عقده تزامن مع كثير من التطورات والتغييرات السياسية المهمة التي أثرت في التفاعلات الاقتصادية في المنطقة. ويأتي في مقدم هذه التطورات والتغييرات صعود كتلة الليكود، بزعامة بنيامين نتنياهو، إلى الحكم في إسرائيل، وتأليف أول حكومة شابة منذ نشأة الدولة العبرية؛ إذ لا يزيد متوسط أعمار أعضائها عن الخمسين عاماً، مع ملاحظة أن هناك ستة وزراء من أصل شرقي ولدوا في دول عربية، وستة وزراء ولدوا في البلد (جيل الصابرا)، ووزيرين من المهاجرين الروس الجدد. وهذا ما يعكس في تركيبتها جيلاً جديداً يختلف فكرياً عن الجيل السابق؛ وهو ما برز في رؤية الحكومة الجديدة للنظام الشرق الأوسطي أو للتعاون الإقليمي، الذي هو محور عمل المؤتمرات الاقتصادية الحالية. ونقصد بذلك، تحديداً، تخلي هذه الحكومة عن مبدأ "الأرض في مقابلل السلام" واستبداله بمبدأ "السلام في مقابل السلام"، واقتراحها إقامة مجلس لـ "الأمن والتعاون في الشرق الأوسط" بدلاً من محاولات بناء نظام شرق أوسطي جديد.
وفي هذا السياق، رأت الحكومة المصرية ضرورة عقد المؤتمر في موعده المحدد، لكن مع تحويله من لقاء قمة إلى مجرد مؤتمر اقتصادي. ولذلك، فقد غلب في الحضور تمثيل رجال الأعمال، الذين قُدر عددهم بنحو 2000 رجل أعمال (منهم 560 مصرياً) يمثلون 78 دولة، في مقابل 1114 رجل أعمال في مؤتمر الدار البيضاء مثلوا 61 دولة فقط، مع ملاحظة تراجع التمثيل الأميركي من 205 مشاركين في مؤتمر الدار البيضاء إلى 177 مشاركاً في مؤتمر القاهرة. وعلى النقيض من ذلك، ارتفعت نسبة المشاركة الأوروبية، ولا سيما الفرنسية، إذ ارتفع عدد المشاركين منها إلى 70 فرداً، في مقابل 40 فرداً فقط في مؤتمر الدار البيضاء. كما أن إنكلترا شاركت في مؤتمر القاهرة بنحو 84 فرداً في مقابل 65 فرداً فقط في مؤتمر الدار البيضاء. هذا فضلاً عن انخفاض نسبة المشاركة الدبلوماسية بصورة ملحوظة؛ إذ لم يحضر إلى القاهرة سوى عشرة وزراء خارجية من الدول المشاركة. كما تراجع مستوى تمثيل مؤسسات التمويل الدولية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد، وغيرهما.
وعلى الجانب الآخر، فقد سبق عقدَ مؤتمر القاهرة عدة مؤتمرات مهمة على المستوى نفسه، وخصوصاً مؤتمر القدس الذي عقدته الحكومة الإسرائيلية قبل مؤتمر القاهرة مباشرة، بمشاركة أكثر من 4000 من رجال الأعمال، وركزت فيه على المشاريع التكنولوجية المتطورة، ولا سيما الأجهزة الإلكترونية و"الإنترنِت"، وروجت لمشروعها القاضي بإنشاء ما يطلق عليه اسم "البارك التكنولوجي "في إسرائيل؛ وذلك انطلاقاً من أنها وحدها القادرة، على المستوى العالمي، على إدخال التقنيات الإلكترونية في مجالات إنتاج النسيج والطباعة وصناعة الورق والطب والزراعة، وهو ما مكّنها من جذب الشركات الأميركية الكبرى العاملة في هذه المجالات.
وفي هذا السياق أيضاً، شاركت إسرائيل، في تشرين الثاني/نوفمبر 1996، في معرض "ميليبول 1996" الخاص بمعدات الأمن والسلامة، بثماني شركات متخصصة بصنع الأسلحة والأجهزة العسكرية، وغيرها.
وكان البنك الدولي عقد مؤتمراً مهماً في تركيا يتعلق بدور القطاع الخاص في تدعيم البنية الأساسية لبلاد الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وشاركت إسرائيل في ذلك المؤتمر بفاعلية كبيرة، واستطاعت وضع كثير من أطر التعاون في هذا المجال.
في خضم هذه الأحداث، جاء عقد مؤتمر القاهرة تحت شعار "البناء من أجل المستقبل وإيجاد بيئة مؤاتية للمستثمر"، وشهد 7 اجتماعات مفتوحة و30 اجتماعاً لموضوعات قطاعية محددة، بالإضافة إلى لجان عمل ناقشت مشاريع بعض الدول (مصر والأردن وفلسطين وإسرائيل وقطر والمغرب).
عموماً، لا يزال الجدل الدائر منذ مؤتمر القاهرة شديداً بشأن مدى تأثير هذا المؤتمر في مسيرة النظام الشرق الأوسطي عامة، والسوق الشرق الأوسطية خاصة. وأصبح التساؤل المطروح هو: هل يعتبر مؤتمر القاهرة نقلة كيفية في عمل هذه المؤتمرات، أم أنه مجرد استمرار لهذه الآلية بالصورة المرسومة له من قبل؟ ثم، ما هو مستقبل هذه اللقاءات؟ هل ستتحول إلى لقاء ذي طبيعة دورية، على غرار اللقاءات الدورية للمنتديات الإقليمية الأُخرى، أم أنها ستبقى آلية موقتة تهدف إلى تحقيق أهداف بعينها، وتزول بتحقق هذه الأهداف؟ ثم، ما هي القوى التي تندفع في اتجاه الشرق الأوسطية؟ وهل هناك حدود للعمل مع إسرائيل، أم أن الحواجز والحدود كافة سقطت؟
وللإجابة عن هذه التساؤلات وعن تساؤلات أُخرى، فإننا سنتناول الجوانب التالية: أولاً، الفلسفة التي تقوم المؤتمرات الاقتصادية عليها؛ ثانياً، نتائج المؤتمرات الثلاثة: الدار البيضاء وعمّان والقاهرة؛ ثالثاً، مستقبل هذه الآلية، وقراءة في بيانات المؤتمرات الثلاثة؛ ثم خاتمة.
أولاً: الفلسفة التي تقوم المؤتمرات الاقتصادية عليها
تنطلق فكرة هذه اللقاءات من فرضية أساسية فحواها أن السلام لا يتحقق من دون منافع ملموسة تجنيها شعوب المنطقة؛ منافع لا تجنى إلا من خلال زيادة التجارة والاستثمار. وهذه مقولة تتبناها الأطراف الرئيسية الداعية إلى هذه الآلية، والتي ترى أن اتفاقات السلام في حد ذاتها لا تصنع السلام وإن تكن ذات أهمية كبرى، وينبغي التعامل معها بوصفها الخطوة الأُولى في عملية طويلة وصعبة لإقامة العلاقات بين شعوب المنطقة. فالسلام لا يتأكد إلا إذا تجسد في شبكة كثيفة من العلاقات بين الأفراد أو بين المجموعات، وفي أنحاء المنطقة كافة؛ إذ إن العلاقات السلمية بين الدول علاقات اقتصادية في المقام الأول، وبالتالي، فإن تحقيق السلام يصبح واقعاً حياً مرتبطاً بالتفاعل الاقتصادي، إلى حد بعيد، عندما يُتخذ القرار الاستراتيجي بإقراره.
وبمعنى آخر، إن خلق مصالح اقتصادية متبادلة بين الأطراف الداخلة في أي تحالف يمكن أن يؤدي في مرحلة لاحقة إلى تسهيل التوصل إلى حل سياسي، ضمن ما يسمى إجراءات بناء الثقة؛ فتعزيز التعاون الإقليمي يشكل عنصراً أساسياً في التنمية، إذ يؤدي إلى تخفيف التوترات السائدة، وهو ما يتيح لدول المنطقة إعادة توجيه مواردها نحو التنمية وتطوير البنية الاقتصادية.[1] ومن هنا برز الحديث عن ضرورة خلق أشكال جديدة للتعاون الاقتصادي ودعمها، وإنشاء منطقة للتجارة الحرة، مع العمل على إقامة سوق شرق أوسطية على غرار السوق الأوروبية بقواعدها وتنظيماتها نفسها.
والفرضية الثانية التي تقوم هذه العملية عليها تكمن فيما سمّاه أمين المنتدى الاقتصادي العالمي، كلاوس شواب، "خصخصة صنع السلام"، التي تنطلق أساساً من رؤية مفادها أن عملية صنع "السلام" في الشرق الأوسط أهم وأكثر تعقيداً من أن تُترك بمفردها للسياسيين والدبلوماسيين، بل يجب أن يساعدها ويدعمها علاقات تجارية واقتصادية تساهم في بناء الجسور اللازمة لعملية التسوية،[2] وهو ما ذهل إليه وزير الخارجية الأميركي السابق، وارن كريستوفر، في كلمته أمام مؤتمر القاهرة، قائلاً "إن القطاع الخاص يستطيع أن يترجم وعود السلام إلى مكاسب حقيقية من الممكن أن ترفع مستوى المواطن العادي، وعن طريق منح الأفراد والمجتمعات جانباً من فوائد السلام تمهد الطريق للمصالحة الحقيقية بين الشعوب."[3] وهذا ما أكده منذ فترة طويلة رئيس الحكومة الإسرائيلية، نتنياهو، الذي يرفع شعار "السلام هو الاقتصاد".
وهنا نلاحظ أن فكرة المؤتمرات الاقتصادية في حد ذاتها تعدُّ، في الأساس، تتويجاً لهذه الرؤية الهادفة إلى الاستفادة من المسؤولية الجديدة للقطاع الخاص، في ظل تصاعد نفوذه على المستوى الدولي، للمساهمة في دبلوماسية السلام (كما جاء في إعلان الدار البيضاء)، ولا سيما أن هذه الصيغة تركز بصورة أساسية على تفاعل رجال الأعمال في المنطقة بعضهم مع بعض من جهة، ومع المستثمرين الأجانب والشركات ذات النشاط الدولي وغيرها من جهة أُخرى. وبالتالي، فإن هذه العملية لم تعد مقصورة على الجوانب السياسية، بل تعدتها لتشمل الجوانب الاقتصادية الخاصة بهذه المسألة.
إن هاتين الفرضيتين تحتاجان إلى مناقشة بشأن مدى تأثيرهما في عملية التسوية السياسية الجارية الآن على الساحة الإقليمية؛ إذ إنهما تطرحان عدة تساؤلات، أولها يتصل بالعلاقة بين المسارين السياسي والاقتصادي، وثانيها يتعلق بحدود الدور الذي يمكن للقطاع الخاص الاضطلاع به في هذه المسألة. وبالتالي، ما هي حدود دور الدول في ضبط هذه العملية وإدارتها، وهل هناك قطاع خاص قادر على تحقيق هذه الأهداف؟ قد تبدو الإجابة بسيطة وسهلة أول وهلة، وهي أن الدولة يمكن أن تترك للقطاع الخاص ولرجال الأعمال مهمة القيام بالأمور الاقتصادية بما يتوافق مع التوجهات الجديدة للدول، والقاضية بترك الأمور لآليات السوق بما لا يتعارض مع مصالحها القومية والأساسية، ويمكنها وقف هذه المسألة إذا ما تجاوزت حدود الدور الذي يرسمه لها صانعو القرار في المجتمع. لكن الواقع العملي المعاش أكثر تعقيداً وتشابكاً من هذه النظرة البسيطة، وخصوصاً في ظل تزايد الحديث عن "عولمة" الاقتصاد الذي يشير إلى أن فضاء الإنتاج والتسويق امتد إلى السوق العالمية، وأصبح هناك المزيد من الاقتناع بتجانس حاجات المستهلكين تحت تأثير التكنولوجيا الجديدة ووسائل الإعلام، وتوحيد معايير الإنتاج. وبمعنى آخر، فإن منطق "العولمة" يدعو إلى البحث عن مجموعات عبر وطنية، أو عن مجموعة تجمع بين أفرادها ظروفُ الحياة والقيم والأولويات والأذواق والمقاييس نفسها، أي يكونون ـ باختصار ـ متشابهين من حيث العقلية الثقافية والاجتماعية.[4]
كما أن هذه العملية تتزامن مع دخول أقطار المنطقة في كثير من الإجراءات الاقتصادية، الهادفة إلى التحول نحو استراتيجيا للنمو يقودها القطاع الخاص، في إطار برامج التكيف الهيكلي المطبقّة في المنطقة. وبالتالي، أصبحت آلية السوق هي المحدد الأساسي للقرار الاستثماري في البلاد.
وتأتي خطورة هذه المسألة من عدة جوانب، أولها يتعلق بطبيعة كل من القطاع الخاص العربي ونظيره الإسرائيلي، إذ إن الأخير يملك رؤية واضحة ومحددة المعالم بالنسبة إلى دولته، وبالتالي يتم التضحية بكثير من الاعتبارات الاقتصادية في سبيل تحقيق حلمه في دولة الرفاة التي تستوعب المزيد من المهاجرين الجدد، ولا سيما أن هؤلاء المهاجرين يحصلون على الدعم اللازم لهذه العملية عبر المنظمات اليهودية الموجودة في العالم الغربي، في حين أن القطاع الخاص العربي، في معظمه، لا يعطي الأمور السياسية والاعتبارات التاريخية حتى الآن أي اهتمام على الإطلاق. وخير دليل على ذلك ما قاله أحد كبار رجال الأعمال المصريين في قمة عمّان: "لقد جئنا للبزنس ولا شيء غيره، أمّا الأمور السياسية فهي متروكة للحكومات والسياسيين."[5]
كما أن هذه العملية تشل يد الحكومات تماماً، لا نتيجة ما تخلقه من مشاريع لا يمكن الاستغناء عنها بسهولة فحسب، وخصوصاً إذا كانت هذه المشاريع تعتمد على العمالة الوطنية، بل نتيجة قيود شديدة أيضاً تضعها على حرية الدولة في وقف هذه المعاملات، إذا ما وجدت أنها تضر بمصالحها الاقتصادية أو السياسية، وذلك لأنها ستُتَّهم بإعاقة حركة الاستثمارات الخارجية، أو على الأقل بأنها تحول دون انسيابية المعاملات وفقاً للعرض والطلب، أو بأنها لا تطبق مبدأ "المعاملة الوطنية" باعتباره أحد المبادئ الحاكمة للعلاقات الاقتصادية الدولية الآن، بعد دخول منظمة التجارة العالمية حيز التنفيذ.
فضلاً عن ذلك، هناك إمكان استخدام سياسة "ليّ الذراع"، ونقصد بذلك تحديداً إشاعة أخبار غير صحيحة عن المناخ الاقتصادي للدولة المعنية، مع استخدام الآلة الإعلامية في الترويج لهذه المسألة، الأمر الذي يعرّض الدولة المذكورة لمخاطر كثيرة، ولا سيما إذا كانت تعتمد على الاستثمارات الأجنبية بصورة كبيرة؛ وهو ما حدث فعلاً قبيل انعقاد مؤتمر القاهرة، حين أعلنت إحدى الشركات الإسرائيلية العاملة في الصناعات الغذائية إلغاء خطتها الاستثمارية داخل مصر. ويذكَر أن هذه الشركة ترتبط بإحدى الشركات الكبرى العاملة في هذا المجال على الصعيد العالمي.
على الجانب الآخر، فإن هذه الفرضية ستصطدم بما للدولة العبرية من طبيعة اقتصادية تقتضي الحفاظ على كونها دولة استيطانية عنصرية لسكانها اليهود، وهي لن تقبل بالتالي رفع يدها عن التدخل في المجال الاقتصادي، نظراً إلى ما سيحدثه ذلك من آثار في مستويات المعيشة فيها، وفي الهجرة إليها. فالمشروع الصهيوني وجوهره يستندان إلى فكرة الأرض، وجلب يهود العالم والتوسع العدواني، وغير ذلك.[6] وفي هذا السياق، يرى نتنياهو "أن الدرس الذي يجب أن تتعلمه دولة صغيرة كإسرائيل هو أنه في عصر الصواريخ تزداد أهمية الأرض ولا تنقص، الأمر الذي يزيد من أهمية السيطرة على مناطق تمنح الجيش الإسرائيلي قدرة الامتصاص لهجوم يشن عليها من مناطق أُخرى." ويضيف في موضع آخر: "إن الهدف الرئيسي للحركة الصهيونية هو تجميع الشعب اليهودي في دولة إسرائيل، وتعتبر الهجرة أهم عنصر في المعادلة السكانية. إن تاريخ الصهيونية هو تاريخ هجرة اليهود إلى ’أرض إسرائيل’، وهذا هو العنصر الذي سيحسم مستقبل الدولة السكاني، لذا فإن المفتاح لمستقبل الدولة والحل لكافة مشاكلها، يكمنان في استمرار هجرة اليهود إلى إسرائيل، حتى تصبح مأوى للجماهير اليهودية التي شاهدها مؤسسو الحركة الصهيونية في أحلامهم."[7]
وهنا يبرز التناقض الرئيسي بين اعتبارات الأمن والدولة وعناصر الاندماج الاقتصادي في المنطقة، وبين الحرص على الهوية الصهيونية بمضمونها الاستبعادي السلبي لـ "الآخر" العربي، وبين طموحاتها السلمية التي ترغب في تفاعل إيجابي مع الآخر.
من جهة أُخرى، فإن استمرار العمل في ظل الفرضية الأُولى، المرتكزة على أن "السلام هو الاقتصاد"، جاء بنتائج عكسية ومخيبة للآمال؛ إذ إننا نلحظ أن هناك علاقة عكسية بين المسارين السياسي والاقتصادي. وخير دليل على ذلك تتبّع التطورات الجارية في المجالين منذ مؤتمر الدار البيضاء حتى الآن. فبينما عُقِد مؤتمر الدار البيضاء عقب "إعلان المبادئ"
الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وقيام المغرب وتونس بإنشاء مكاتب اتصال بالدولة العبرية، وإعلان دول مجلس التعاون الخليجي رفع المقاطعة العربية من الدرجتين الثانية والثالثة، فإن قمة عمّان تواكبت مع قرار الكونغرس الأميركي بنقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس، ضارباً عُرض الحائط بكافة التعهدات والمواثيق المتعلقة بهذا الموضوع، فضلاً عن قضية السلاح النووي الإسرائيلي واغتيال فتحي الشقاقي على يد جهاز الموساد الإسرائيلي.
فإذا ما أضفنا إلى ذلك الأحداث التي جرت قبل مؤتمر القاهرة، والمتمثلة في الاعتداءات الوحشية والهمجية على لبنان (مجزرة قانا)، والإجراءات الأخيرة في القدس والأراضي المحتلة، واتساع حركة الاستيطان، يتضح فوراً أن هناك مسارين متعارضين. ويبدو أن الحكومة الإسرائيلية ترى في ذلك نجاحاً لسياستها؛ إذ أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية، عقب افتتاح أكبر مشروع مصري ـ إسرائيلي لتكرير النفط في الشرق الأوسط، وهو مشروع "ميدور"، برأس مال قدره 1.2 مليار دولار: "إن ما يقال في العالم العربي شيء والأفعال شيء آخر"، مشيراً إلى أن التطبيع لا يسير على قدم وساق فحسب، بل إنه يتقدم بخطوات هائلة إلى الأمام.[8]
وتبرز هذه المسألة بشدة إذا ما تتبّعنا تطور العلاقات بين العرب وإسرائيل منذ مؤتمر الدار البيضاء حتى الآن، ولا سيما أن هذا المؤتمر وضع الأطر العامة للعلاقات الاقتصادية بين الطرفين، وأزال جميع المخاوف التي كانت سائدة آنذاك، الأمر الذي اعتبر بمثابة الإنهاء الفعلي للمقاطعة العربية لإسرائيل. ثم انتقلت هذه العملية، في مؤتمر عمّان، إلى مرحلة نوعية مختلفة تماماً؛ إذ تم إعلان كثير من المؤسسات الإقليمية للمنطقة ككل. وجاء مؤتمر القاهرة ليتّوج هذا المسار، ويعزز العلاقات الثنائية مرة أُخرى. وخير دليل على ذلك رصد ما حدث فعلاً على صعيد العلاقات الاقتصادية العربية ـ الإسرائيلية، منذ بدء الدخول في هذه الآلية حتى الآن.
ثانياً: نتائج مؤتمرات الدار البيضاء وعمّان والقاهرة
يسود لدى البعض انطباع فحواه أن مؤتمر القاهرة أنهى فعلاً الفكرة الشرق الأوسطية تماماً، وأن آليات المؤتمرات الاقتصادية تحولت إلى مجرد لقاءات دورية ذات طبيعة اقتصادية بحتة. ويبرر أصحاب هذا الانطباع وجهة نظرهم بما حدث في مؤتمر القاهرة ذاته من تحجيم للدور الإسرائيلي ومن سيطرة على مقاليد الأمور فيه، فضلاً عن التغيير في برنامجه، وإدراج جلستين مهمتين، إحداهما خاصة بالتعاون العربي ـ العربي، والأُخرى خاصة بالتعاون الأوروبي ـ المتوسطي. ولا يخفى ما لذلك من دلالات فيما يتعلق بطبيعة هذه المؤتمرات ومهماتها. وعند مناقشتنا هذه الآراء، يجب أن نفرق أولاً بين ما حدث في مؤتمر القاهرة في حد ذاته وبين الشرق الأوسطية ككل؛ إذ إن الأخيرة تهدف إلى دمج الدولة العبرية في المنطقة والحفاظ على أمنها وستقرارها في مرحلة ما بعد التسوية، من خلال جملة من المصالح والعلاقات الاقتصادية المتشابكة بينها وبين أطراف الإقليم، والتي يمكن بلورتها في مجموعة من المشاريع التجارية والاقتصادية.[9] ومن هذا الإطار، يمكننا النظر إلى مؤتمر القاهرة باعتباره محطة في النظام الإقليمي الجديد.
إن هذا لا ينفي، في طبيعة الحال، أن هناك أوجه اختلاف عديدة بين مؤتمر القاهرة ومؤتمري الدار البيضاء وعمّان، إلاّ إنها كلها أوجه اختلاف في سياق الأهداف والمنطلقات نفسها. وبمعنى آخر، لقد كان لكل من المؤتمرات الثلاثة وظيفة محددة في الإطار نفسه.
وعلى الجانب الآخر، فإن النظام الشرق الأوسطي، الجاري تكوينه، يعتمد على ثلاثة محاور رئيسية: أولها يتعلق بالمشاريع الإقليمية الكبرى، وثانيها خاص بالعلاقات المتعددة الأطراف، وثالثها يخص العلاقات الثنائية بين الدولة العبرية وبين كل دولة من دول المنطقة على حدة. وبالتالي، فإن الحديث عن تراجع الشرق الأوسطية، أو عدم تراجعها، يتوقف على مدى التقدم أو التراجع الذي حدث على المستويات الثلاثة السالفة الذكر. وفيما يلي عرض لكل منها:
أ) المؤسسات الإقليمية الكبرى
توصل مؤتمر عمّان إلى ضرورة إقامة خمس مؤسسات جديدة للتعاون الاقتصادي، هي:
-
بنك التعاون الاقتصادي والتنمية في الشرق الأوسط وشمال إفريقي
-
مؤسسة إقليمية للسياحة للشرق الأوسط والبحر المتوسط.
-
مجلس إقليمي للأعمال لتدعيم التعاون والتجارة بين القطاعات الخاصة في دول الإقليم.
-
أمانة عامة تنفيذية للمؤتمرات الاقتصادية، ومقرها الرباط، بهدف تعزيز أواصر الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
-
أمانة عامة للجنة متابعة لمجموعة عمل التنمية الاقتصادية الإقليمية كمؤسسة إقليمية دائمة، على أن تتولى هذه اللجنة مسؤوليات البنية الأساسية والسياحة والتجارة والتمويل، ومجالات أُخرى ضمن خطة عمل كوبنهاغن.
ويلاحظ المتتبع لهذه العملية أن هناك تقدماً ملحوظاً في سبيل إنشاء هذه المؤسسات؛ إذ تم الانتهاء من وضع القوانين الأساسية للمؤسسة الإقليمية للسياحة "مميتا"، على مدار سنتي 1995 و1996، من خلال عدة اجتماعات في تونس وإسرائيل وغيرهما، وتم بمقتضاها إقامة مجلس المحافظين والمجلس التنفيذي. وتضم المؤسسة في عضويتها كلاً من مصر والأردن والسلطة الفلسطينية وإسرائيل وتونس والمغرب وقبرص وتركيا. وتعد هذه النتيجة إحدى النتائج الأساسية لهذه المؤتمرات، لأنها تضم تحالفاً بين الحكومات والقطاع الخاص، حيث ينقسم العمل في هذه المؤسسة بين مجلس الإدارة، الذي يتألف من ممثلين للحكومات المنضمة، وتكون رئاسته لدورة واحدة مدتها سنة واحدة، بحسب ترتيب الحروف الأبجدية لأسماء الدول، وبين مجلس القطاع الخاص الذي يضم مندوبين اثنين من كل دولة، ودوره هو تعيين المدير التنفيذي للمؤسسة، وبعض المهمات الأُخرى.[10]
وكانت أعمال هذه المؤسسة توقفت قليلاً عقب تسلم الليكود مقاليد الحكم في إسرائيل، إلا إنها عادت إلى العمل بعد مؤتمر القاهرة مباشرة، ونجم عنها كثير من الاتفاقات المشتركة في مجال السياحة داخل الإقليم وخارجه.
وفيما يتعلق ببنك التعاون الاقتصادي والتنمية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فقد تقرر في عمّان أن تكون القاهرة مقراً له، وأن يكون رأس ماله المصرح به 5 مليارات دولار، وأن يكون رأس المال المدفوع ملياراً ومئتين وخمسين مليون دولار. ويهدف البنك إلى:[11]
-
دعم المشاريع ذات الطابع الإقليمي، ولا سيما مشاريع البنية الأساسية.
-
دعم القطاع الخاص في المنطقة، وتدعيم المبادرات الخاصة.
وقد تم خلال اجتماع في القاهرة (تشرين الثاني/نوفمبر 1995) توزيع 75% من رأس مال البنك على الأطراف المؤسِّسة. وكانت حصة الولايات المتحدة منه 21%، واليابان 9.5%، وإيطاليا 5%، وهولندا 6.51%، وروسيا 6.0%، بينما اكتتبت الدول الشرق الأوسطية الأربع (مصر والأردن وإسرائيل وفلسطين) بحصص متساوية مقدار كل منها 4%. وبلغت حصة كل من الجزائر وتونس والمغرب 2%. وهناك حصص أُخرى موزعة على اوستراليا وكندا وقبرص واليونان وكوريا الجنوبية ومالطا وتركيا.[12] وتقرر ترك النسبة الباقية من دون تخصيص، لمواجهة الاكتتاب المتوقع مستقبلاً.
وهنا نلاحظ أن اختيار مجلس إدارة البنك سيتم بالأغلبية المطلقة، بحسب المساهمة في رأس مال البنك. أمّا إدارياً، فسيتشكل الهيكل الإداري من رئيس البنك ومجلس المستشارين، إضافة إلى مجلس للمحافظين. وتتحدد مهمات بعض الكادر الإداري لاحقاً. إلا إن معظم الصلاحيات، وخصوصاً العمليات التشغيلية، سيتركز في أيدي مجلس المحافظين. أمّا صلاحيات قبول الأعضاء الجدد وحرمان الأعضاء العاملين، وقرارات زيادة رأس المال، وغيرها من القرارات المتعلقة بماهية البنك، فستكون من صلاحيات مجلس المستشارين الذي يتألف من مندوبين عن الدول المشاركة، وسيكون هناك مجلس للمديرين يقوم بمساعدة مجلس المحافظين، على غرار الآلية المتبعة في بنك التنمية الأوروبي. أمّا حجم التصويت، فيرتبط مباشرة بحجم المساهمة الرأسمالية المدفوعة. وأية دولة تمتنع من دفع مستحقاتها تخسر هذا الحق في التصويت.[13]
لا شك في أن هذا التصور لا يتلاءم، بأي شكل من الأشكال، مع الأوضاع السائدة في المنطقة عامة وفي الدول الفقيرة منها خاصة. إذ إن الحاجة إلى الإعمار تتطلب تمويلات ضخمة لا يمكن أن تحقق عائدات ملائمة، على الأقل في المديين القصير والمتوسط. هذا فضلاً عن أن قوة التصويت، التي ترتبط بحصة الدولة من رأس المال، ستؤدي إلى سيطرة الولايات المتحدة، صاحبة الرصيد الأعلى، على القرار داخل البنك، الأمر الذي ينحرف بها عن التوجهات التنموية العامة، ويجعلها تهمل هذه التوجهات لمصلحة بعض المشاريع الإقليمية، ذات الأهداف المحددة، وبما يتلاءم مع الأهداف الأميركية أساساً، وبغض النظر عن المصالح العربية.
وعلى الجانب الآخر، فإن الأموال المقترحة كرأس مال ستأتي أساساً، في معظمها، من الدول العربية النفطية، وذلك مع التزامات محددة من الخارج. وبالتالي، فإنه لن تتوفر مصادر تمويلية جديدة من خارج المنطقة إلا بشكل بسيط وضئيل لا يتلاءم مع المهمات المطروحة على البنك، أو مع الحاجات التمويلية في المنطقة ككل.
وبالتالي، فإن هدف البنك في الأساس لا يخرج عن كونه إحدى الآليات الهادفة إلى دعم الوجود الإسرائيلي في المنطقة، وذلك عبر المشاريع الإقليمية التي سيمولها، وعبر سحب مسألة تمويل عملية التنمية الإقليمية من اللجنة المتعددة الأطراف الخاصة بالتنمية الاقتصادية، التي يرئسها مسؤول أوروبي، إلى البنك الذي سيرئسه مسؤول أميركي.
وهناك المجلس الإقليمي للأعمال الهادف إلى تطوير فرص التجارة والاستثمار وتنميتها بين رجال الأعمال من دول المنطقة، وبينهم وبين العالم الخارجي، وإتاحة الفرصة لرجال الأعمال لتبادل الآراء وتقديم التوصيات بشأن السياسات الاقتصادية في المنطقة. وتقتصر العضوية في هذا المجلس على القطاع الخاص من داخل المنطقة. وتم حتى الآن وضع اللوائح الأساسية لعمل المجلس ومعايير العضوية.. إلخ.[14] وقد استضافت إسرائيل الاجتماع التأسيسي للمجلس، وكان من المفترض أن يدخل حيز التنفيذ عقب مؤتمر القاهرة، لكن ذلك لم يتم بسبب عدم حسم بعض النقاط الخلافية، وفي مقدمها مقعد الرئاسة الذي تسعى إسرائيل للانفراد به، بالإضافة إلى رغبتها في أن يكون لها في مجلس الإدارة ثلاثة أعضاء. في حين أن الأطراف العربية ترى ضرورة أن تتولى هي مقعد الرئاسة، مع الموافقة على منح إسرائيل منصب نائب الرئيس. ومن جهة أُخرى، هناك خلاف ثان بشأن آلية العمل ذاتها؛ إذ ترى مصر ضرورة حصر مهمات هذا المجلس في اختيار المشاريع الإقليمية والترويج لها، بينما ترى إسرائيل ضرورة أن يُعطى هذا المجلس دوراً أكبر، بحيث يصبح المستشار الرئيسي لبنك الشرق الأوسط في حال إنشائه، وبالتالي ينبغي ألا يقوم بتمويل أية مشاريع مشتركة إلا بعد الحصول على موافقة هذا المجلس.[15]
كما أن الأمانة العامة للجنة المتابعة لمجموعة عمل التنمية الاقتصادية الإقليمية بدأت عملها الفعلي والرسمي في أيار/مايو 1996، واستمرت الأمانة العامة التنفيذية للمؤتمرات الاقتصادية للشرق الأوسط وشمال إفريقيا في عملها في الرباط، وطورت برامجها وأنشطتها لخدمة القطاعين العام والخاص.
هذه المؤشرات كلها تؤكد أن المؤسسات الخاصة بـ "المشروع الشرق الأوسطي" تسير على طريقها المرسوم، من دون أن تتأثر بالتغييرات الجارية في الساحة السياسية. بل على العكس، يبدو أن العلاقة بينها عكسية؛ إذ يزداد الحديث عن ضرورة تدعيم هذه المؤسسات عندما تتأزم العلاقات السياسية بحجة أنها ستكون إحدى الأوراق الضاغطة على الحكومات المعنية، وهو ما يتطلب دراسة المحور الثاني لهذه العملية، ونقصد به تحديداً المشاريع التنموية المتعددة الأطراف.
ب) المشاريع التنموية المتعددة الأطراف
يجري التخطيط لهذه المشاريع على المستوى الإقليمي في إطار مجموعة العمل للتنمية الاقتصادية الإقليمية (Regional Economic Development Working Group – REDWG). وهي تتمحور حول ثلاثة برامج للتعاون في المجالات التي يمكن تطبيق التعاون فيها، كالزراعة والسياحة والنقل والتجارة والمياه. ويتولى بعض الدول من الخارج المنطقة قيادة مجموعات العمل في الأنشطة المتعلقة بهذه القطاعات.
وأول هذه البرامج هو برنامج "تنمية وادي الأردن" (Jordan Rift Valley Development)، الذي يشمل المنطقة الممتدة من البحر الأحمر إلى بحيرة طبرية، ويضم إسرائيل والأردن، ويحظى بدعم الولايات المتحدة. وقد دخل حيز التنفيذ عقب الاتفاق الأردني ـ الإسرائيلي، الذي أشار في مادته العشرين إلى ضرورة تنمية هذه المنطقة عبر إصلاح البنية الأساسية المشتركة بينهما، والمشاركة في استخدام الموارد الطبيعية القائمة في المنطقة، وتبادل الخبرات التكنولوجية المحلية عبر إدخال المشاريع المشتركة بينهما.[16]
ويبدأ هذا البرنامج بإصلاح المنطقة الممتدة من جنوب البحر الميت إلى إيلات والعقبة، وذلك بإنشاء مشاريع زراعية وسياحية فيها، وتعزيز المواصلات والنقل، فضلاً عن بعض المشاريع الخاصة بالمياه. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا المشروع يحظى بأولوية خاصة بالنسبة إلى إسرائيل؛ فوفقاً للكتاب المقدم منها إلى مؤتمر القاهرة، خُصَّت هذه المنطقة بـ 66 مشروعاً من مجموع 139 مشروعاً، مع ملاحظة أن أغلبها يتمحور أساساً حول موضوع المياه الذي أصبح محدِّداً حاسماً لعملية التسوية في المنطقة، ولا سيما أن إمكان استغلال المياه اقتصادياً متعذّر إلا عبر عدد من المشاريع المشتركة. وبمعنى آخر، فإن مشاريع التعاون المائي التي توضع حالياً إنما تأتي في سياق العمل الجاري جدياً في الوقت الراهن لفرض تسوية للصراع العربي ـ الإسرائيلي، وتشكل جزءاً لا يتجزأ من المشروع الشرق الأوسطي المقترح. وقد شاركت إسرائيل فعلاً في وضع خطة لإقامة مركز إقليمي برعاية دولية لأبحاث تحلية المياه في مسقط، بتمويل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان، إضافة إلى سلطنة عُمان، وهو ما يعطي الدولة العبرية فرصة إضافية للقيام بدور فني، إضافة إلى الدور التمويلي.
وثاني البرامج المتعددة الأطراف الموضوعة في قيد التنفيذ، هو برنامج تنمية منطقة جنوب شرق المتوسط.[17] وهو يشمل الساحل الجنوبي من إسرائيل، وقطاع غزة، وشمال سيناء، في مساحة تقدر بنحو 200 كلم2، ويغطي قطاعات المواصلات والنقل والسياحة والتجارة والعمالة، وينطوي على تعاون ثنائي وثلاثي بين مصر وإسرائيل والسلطة الفلسطينية، في إطار لجنة التوجيه التي أنشأها الاتحاد الأوروبي. وهناك مشاريع محددة في مجالات التنمية الزراعية، والتدريب المهني، وإدارة المشاريع الشاطئية، وتنمية الصناعات الصغيرة في المنطقة. كما يهدف هذا البرنامج إلى تجربة زراعة البندورة في الأراضي ذات التربة المالحة، باعتبارها تجربة يمكن أن تفيد دول الخليج العربية، وغيرها من الأقطار ذات الظروف المشابهة.
هذا بالإضافة إلى مشروع "طابا ـ العقبة ـ إيلات"، الذي ينطوي على تعاون إقليمي في مساحة مشتركة بين مصر والأردن وإسرائيل تقدر بنحو 180 كلم2. وهو يهدف إلى إقامة الكثير من المشاريع الاقتصادية في هذه المنطقة. ويتولى الاتحاد الأوروبي تعيين قيادة اللجنة الخاصة بهذا المشروع.
ومن الملاحظ بصورة عامة أن هذه المشاريع تقع في المناطق الحدودية للأطراف الداخلة فيها، وذلك انطلاقاً من فكرة أساسية فحواها أن إمكان نشوب حروب كبيرة في المنطقة سيتراجع، نظراً إلى أن هذه المناطق ستشكل عاملاً مانعاً لمثل هذا الإمكان.[18] وفي هذا السياق، تأتي فكرة إنشاء مناطق "حرة حدودية" باعتبارها من وسائل دعم التعاون الإقليمي، وخصوصاً أنها ستتعدى الحدود السياسية، وتتخلص من جميع الحساسيات تجاه مسألة العمالة. وفضلاً عن ذلك، فقد أعلنت مجموعة طابا، التي تضم مصر وإسرائيل والأردن وفلسطين، بالإضافة إلى الولايات المتحدة، أنها مستمرة في عملها كي توحد النظم الحالية لمراقبة الجودة والمواصفات القياسية، بما يضمن النفاذ إلى الأسواق.[19]
وتشمل هذه المشاريع جميع المجالات. ففي مجال المياه، هناك مشاريع مماثلة للمشروع الأردني ـ الإسرائيلي الناشئ عن تعهد إسرائيل نقل 50 مليون متر مكعب من المياه سنوياً إلى الأردن، ومد أنابيب، وبناء سدود بتكلفة مقدارها 400 مليون دولار، يتم تأمينها عبر الاتحاد الأوروبي. وهناك مشاريع أُخرى في منطقة وادي عربة، وغزة، وشمال سيناء.[20]
وفي مجال المواصلات، الذي يقع تحت الرعاية الفرنسية، توصلت لجان العمل إلى عدد من المشاريع، أهمها طريق التفافية بين طابا وإيلات، وطريق تربط مدينة حيفا (إسرائيل) بمدينة إربد (الأردن) ثم تمتد شرقاً، وثلاثة ممرات في سيناء إلى الشمال الشرقي.
كما أن إسرائيل والأردن باشرا إجراء مباحثات بشأن إنشاء سكك حديد تصل مصانع الفوسفات الأردنية والإسرائيلية في منطقة البحر الميت بكل من ميناءي إيلات والعقبة، بالإضافة إلى ربط المصنع الأردني بأحد الموانئ الإسرائيلية المطلة على البحر المتوسط. وهناك مشاريع عديدة في مجالي السياحة والمواصلات الجوية.. إلخ. (كما يتضح من الجدول رقم 2). وتم الاتفاق على العديد من الأمور المهمة في هذا الصدد، بالإضافة إلى إنشاء شبكة معلومات للشرق الأوسط.
ج) العلاقات الثنائية بين إسرائيل والدول العربية
كان لانعقاد مؤتمر مدريد أثر كبير في دعم العلاقات الاقتصادية بين العرب وإسرائيل. وازدادت هذه العملية بشدة منذ الأخذ بآلية المؤتمرات الاقتصادية للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهو ما دفع إلى قيام كل من المغرب وتونس بإنشاء مكتب اتصال بإسرائيل، وقيام دول مجلس التعاون الخليجي برفع المقاطعة العربية من الدرجتين الثانية والثالثة. وتطورت هذه العلاقات بعد ذلك بتوقيع الأردن وإسرائيل اتفاقاً للتعاون التجاري والاقتصادي، يتضمن تخفيضات جمركية متبادلة بين البلدين للعمل على تنمية التجارة الثنائية والأعمال المشتركة بينهما. كما اتفقت كل من سلطنة عُمان وإسرائيل في 1 تشرين الأول/أكتوبر 1995 على تبادل التمثيل التجاري، والعمل على تدعيم التعاون في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية، مع التركيز على قطاعي الزراعة والمياه.
وتعد سلطنة عُمان أول دولة خليجية تستضيف وفداً إسرائيلياً رسمياً، في إطار المباحثات المتعددة الأطراف بشأن قضية المياه (نيسان/أبريل 1994). كما كانت أول دولة خليجية تستقبل رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، يتسحاق شمير، الذي زار مسقط في كانون الأول/ديسمبر 1994، وأول دولة خليجية تقدم على خطوة التعاون الاقتصادي والفني من خلال مكتب تمثيل مع إسرائيل.[21] وقد تم أخيراً توقيع اتفاق بين بنك هابوعليم الإسرائيلي وبنك مسقط الأهلي لإقامة علاقات مصرفية بين الطرفين. ويرى مسؤولون في بنك هابوعليم أن هذا الاتفاق سيفتح الطريق أمام التبادل التجاري وإقامة مشاريع مشتركة بين الطرفين.[22]
وتلا ذلك قيام دولة قطر باستقبال رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق، شمعون بيرس، في بدايات سنة 1996، وتقرر فتح مفوضية اقتصادية في كل من الدولتين. كذلك تم الاتفاق على تبادل وفود رجال الأعمال، والإسراع في بلورة اتفاق لحماية الاستثمارات ومنع الازدواج الضريبي، والاتفاق على التعاون في مجال تحلية مياه البحر. وهناك اتجاه لتنفيذ مشاريع مشتركة في مجالات مكافحة التصحر، واستخدام المياه المالحة في الأغراض الزراعية، ومجالات أُخرى.[23]
وفيما يتعلق بالعلاقات الثنائية بين مصر وإسرائيل، فإنها تنتظم طبقاً للاتفاق التجاري الموقع في أيار/مايو 1980، والذي يتضمن شرط الدولة الأَولى بالرعاية. وقد وصل حجم التبادل التجاري بين الطرفين إلى 669 مليون جنيه في نهاية سنة 1995 في مقابل مليار جنيه سنة 1992، الأمر الذي يشير إلى هبوط إجمالي حجم التبادل التجاري، وذلك بعد انخفاض حجم الصادرات المصرية من النفط الذي يمثل 80% من الإجمالي.[24] (أنظر الجدول رقم 1).
وهناك الكثير من المشاريع المشتركة بين إسرائيل وشركاء مصريين في مجالات النسيج والزراعة والصناعات الغذائية وتكرير النفط. وتتم هذه المشاريع عبر عدة جهات، منها برنامج إسرائيل للتعاون الدولي، "مشاف"، التابع لوزارة الخارجية، والذي أُسس سنة 1958؛ إذ يقوم بتنفيذ برنامج للتدريب الزراعي شارك فيه أكثر من ألف من المهنيين المصريين، ويعمل على إقامة مزرعة نموذجية مصرية/إسرائيلية مشتركة في منطقة النوبارية، بهدف زراعة البندورة في الأراضي ذات التربة المالحة، بالإضافة إلى ثمانية مشاريع زراعية أُخرى.[25]
وجاءت القفزة الكبيرة في المشاريع المشتركة بتوقيع عقد إنشاء أكبر وأحدث معمل لتكرير النفط في الشرق الأوسط (مشروع "ميدور")؛ إذ يبلغ رأس ماله 1.2 مليار دولار أميركي. وهو عبارة عن مشروع مشترك بين كل من مجموعة "مِرحاف" الإسرائيلية (بنسبة 20%) ورجل أعمال مصري (بنسبة 20%) والهيئة المصرية العامة للبترول (بنسبة 60%). وستبلغ الطاقة الإنتاجية للمشروع خمسة ملايين طن بنزيناً خالياً من الرصاص، وسيخصَّص 50% ـ 60% من الإنتاج لمصر و 20% ـ 30% لإسرائيل، وسيتم بيع الباقي لتركيا وإيران، أو لإحدى دول الجوار الجغرافي.
وأخيراً، قام أحد رجال الأعمال المصريين بشراء 7% من رأس مال مجموعة "كور" الإسرائيلية العاملة في القطاع الصناعي، وخصوصاً صناعة الأسمنت وبعض المجالات التكنولوجية الأُخرى.[26]
وعلى الجانب الآخر، بدأت تلوح في الأفق ظاهرة جديدة هي وجود عدد كبير من المستثمرين الإسرائيليين في قطاع المنسوجات والملابس الجاهزة يرغبون في نقل مصانعهم إلى مصر. وهناك عدة مصانع أُنشئت فعلاً في المنطقة الحرة في مدينة نصر، أو في مدينة شُبرا الخيمة، والمحلة الكبرى، وغيرها، برأس مال إسرائيلي ومشاركة مصرية. ووصل الأمر إلى إعلان اتحاد الصناعات الإسرائيلية سعيه لإنشاء جامعة، بتمويل أميركي، متخصصة بالغزل والنسيج في مدينة العاشر من رمضان، وتتبع جامعة شنكار الإسرائيلية المتخصصة بالصناعة نفسها،[27] وهي كلها أمور تعكس تغييرات في التوجهات الإسرائيلية القديمة. ويرجع السبب في ذلك إلى ما تتعرض له هذه الصناعة في إسرائيل من مخاطر جراء المنافسة العاتية القادمة مع تحرير التجارة؛ إذ إن ذلك دفعها إلى محاولة فتح أسواق جديدة لها في شرق أوروبا، وأميركا اللاتينية، والشرق الأقصى. لكن مشكلة رخص أجور الأيدي العاملة لدى الدول المجاورة ظلت تحد من قدرتها على المنافسة، وجعلتها تلجأ إلى حلول أُخرى عن طريق شراء المواد الخام من مصادر بديلة ذات تكلفة أقل، وتحويل جزء من أنشطتها الصناعية إلى الخارج، ولا سيما إلى الدول المجاورة، مثل مصر.[28] وهنا، تشير دراسة لمعهد الصادرات الإسرائيلية إلى أن التعاون في مجال الصناعة النسيجية بين إسرائيل وكل من مصر والأردن سيعزز مزاياها كدولة منشأ لمنتوجات يتم تصنيعها على أساس المقاولة من الباطن كي تدخل تلك المنتوجات أسواق الولايات المتحدة، في ظل اتفاق التجارة الحرة معها. كما أن هذا التعاون سيجعل المشترين الخارجيين يعرفون أن الشراء من إسرائيل يضمن حصول المشتري على منتوجات عالية الجودة، وعلى صفقات اقتصادية مربحة.[29]
ومن المفارقات أن تتزامن هذه التحركات مع التراجع الشديد في هذه الصناعة داخل الأسواق المصرية، إذ أُغلقت مصانع كثيرة في منطقتي شبرا الخيمة والمحلة الكبرى، وهما من المناطق الرئيسية للإنتاج الخاص.
وكانت هذه العلاقة بدأت باتفاق بين المنتجين المصريين والإسرائيليين على تصدير المنتوج المصري إلى الأسواق الإسرائيلية القديمة، كالولايات المتحدة وأوروبا. ثم بدأ بعض الإسرائيليين يرسل "الخامات" لتحوَّل إلى ملابس جاهزة في مصر. وتطورت الأمور إلى حد أن بعض المصانع المصرية بدأ ينتج طبقاً للمواصفات الإسرائيلية، ويشتري من إسرائيل معدات مستعملة. وهنا، يرى البعض أن هذا التعاون سيساعد الاقتصاد المصري؛ إذ ستتمكن الصادرات المصرية من دخول أسواق الولايات المتحدة وأوروبا عبر إسرائيل، نظراً إلى ما تتمتع الأخيرة به من إعفاء جمركي وغياب أية قيود كمية، فضلاً عن إمكان الاستفادة مما لديها من تكنولوجيا في تطوير الصناعة المحلية. وهذه النظرة غير صحيحة على الإطلاق؛ إذ إن لدى الصناعة النسيجية المصرية قدرات تمكنها من المنافسة في الأسواق الخارجية، بدلاً من التحول إلى المقاولة من الباطن، ولا سيما أن التسليم بهذه المسألة يعني اختفاء الصادرات النسيجية المصرية من الخريطة العالمية لمصلحة المنتوجات الإسرائيلية.
وعلى الجانب الآخر، تمخض مؤتمر القاهرة عن تأليف لجنة عمل مشتركة بين مصر وإسرائيل، تضم في عضويتها 70 شخصاً، منهم 40 من مصر و30 من إسرائيل، وذلك بهدف قيام نقاش بين حكومتي البلدين لتسهيل عملية التجارة والنقل والبضائع العابرة بينهما، وتنمية السياحة المشتركة، بالإضافة إلى دفع الاستثمارات المشتركة، وتبادل التجارة في إطار الاتفاقات المشتركة.[30]
هذه الأمور كلها تشير إلى حقيقة واحدة مفادها أن هناك تطوراً ملحوظاً في العلاقات الثنائية بين إسرائيل وكثير من الدول العربية، وفي مقدمها مصر. وبالتالي، لا صحة إطلاقاً للحديث عن تجميد العلاقات، أو عن أن هناك رابطة وثيقة بين التقدم على المسار الاقتصادي وبين التقدم على المسار السياسي؛ إذ تكاد العلاقة تصبح علاقة عكسية، أي أن التراجع في مسيرة التسوية يقابله تحسين في العلاقات الاقتصادية بين الطرفين.
الجدول رقم 1
التبادل التجاري بين مصر وإسرائيل (بالمليون جنيه)
الأعوام |
الصادرات المصرية* |
الواردات من إسرائيل** |
الميزان التجاري |
1992 |
959.4 |
41.2 |
918.2 |
1993 |
774.8 |
64.3 |
710.5 |
1994 |
637.2 |
44.1 |
593.1 |
1995 |
590.0 |
79.1 |
510.9 |
المصدر: جهاز التمثيل التجاري المصري، "العلاقات التجارية بين مصر وإسرائيل"، دراسة غير منشورة، 1996.
* تتركز الصادرات المصرية إلى إسرائيل في النفط وغزل القطن والمنسوجات الخام والفحم والبصل المجفف والأرز والحلويات.
** تتركز الواردات المصرية من إسرائيل في الكيماويات والأسمدة والبذور ومستلزمات الري والمعدات الزراعية والخيوط الصناعية.
ثالثاً: مستقبل المؤتمرات الاقتصادية:
قراءة في البيانات الثلاثة
بعد أن عرضنا للنتائج الاقتصادية للمؤتمرات الثلاثة، لا بد من التساؤل: ما هو مستقبل هذه اللقاءات الدورية للمنتديات الاقتصادية، كمجموعة الدول السبع الصناعية أو اجتماعات الاتحاد الأوروبي، وغيرها؟ أم لعلها ستتوقف عند محطة معينة تعدّ بمثابة التدشين الرسمي لانتهاء أعمال هذه اللقاءات، والدخول في مرحلة جديدة؟ ما هي هذه المحطة، وما هي شروطها؟
عند الإجابة عن هذه التساؤلات وعن تساؤلات أُخرى، يجدر أن نشير إلى أنها مبنية أساساً على ضرورة تحقيق التسوية السياسية للصراع العربي ـ الإسرائيلي، والوصول إلى "السلام" الذي يتطلب إقامة علاقات طبيعية بين الأطراف المتحاربة، وهما الأمران اللذان ركز إعلان الدار البيضاء عليهما عندما أشار إلى أن "السلام سوف يسهم في خلق الأسس والحوافز لتشجيع التجارة والاستثمارات، والتي تسهم بدورها في بناء دعائم اقتصادية تخدم السلام وتجعله يقام على أسس متينة." ولذلك، فقد انتقد الإعلان "استمرار المقاطعات الاقتصادية والحواجز أمام التجارة والاستثمار." أمّا إعلان مؤتمر عمّان، فقد اقتصر على الإشادة "بالصفقات التجارية الهامة التي عقدت بين دول المجموعة" وبإعلان طابا، بالإضافة إلى إعلان دول مجلس التعاون الخليجي رفع المقاطعة عن إسرائيل. وأعاد إعلان مؤتمر القاهرة التشديد على "تحقيق السلام العادل والشامل على أساس مرجعية مؤتمر مدريد واستناداً لقراري مجلس الأمن رقمي 242 و338." وعلى الرغم من أن الإعلان الأخير أكد "أهمية الدعائم الاقتصادية للسلام"، فقد شدَّد مجدداً على "الضرورة الملحة لتحقيق تقدم ملموس في البعد السياسي لعملية السلام بالشرق الأوسط."
على الرغم من أن إعلاني الدار البيضاء وعمّان أشارا بصورة واضحة وصريحة إلى أهمية الدورين السوري واللبناني في تنمية المنطقة، وبالتالي إلى ضرورة إلحاقهما بهذه العملية عن طريق التوصل إلى معاهدات سلام في أقرب وقت ممكن، فقد اكتفى إعلان القاهرة بالمطالبة بتوسيع السلام وتعميقه، من دون إشارة إلى أي من الدولتين.
وفي هذا السياق أيضاً، جاء إعلان القاهرة ليؤكد ضرورة التنفيذ الفوري والأمين للاتفاقات التي وقّعتها الأطراف كافة، وبصورة خاصة على المسار الإسرائيلي/الفلسطيني. كما شدد على الأهمية القصوى لتنمية الاقتصاد الفلسطيني، وأشار إلى ضرورة فك القيود التي تؤدي إلى إغلاق الأراضي، وتعوق حركة انتقال التجارة والعمالة الفلسطينية.
إذاً، جاء إعلان القاهرة مختلفاً عن إعلاني الدار البيضاء وعمّان، اللذين كانا أكثر تفاؤلاً بالنسبة إلى مستقبل التعاون في المنطقة، إذ إنه مثَّل إدانة للمواقف الإسرائيلية الراهنة تجاه الشعب الفلسطيني؛ وهو ما يجعلنا نتساءل عن مغزى هذه التغييرات؛ هل إنه يعكس تغييراً في رؤية الأطراف المشاركة في هذه العملية؟ أم أنه محاولة لتهدئة المخاوف العربية من التوجهات الجديدة لحكومة الليكود؟
هنا، تدلنا وثائق المؤتمرات الثلاثة على عدة تغييرات مهمة في توجهات الدول المعنية تجاه هذه المؤتمرات؛ إذ جاء الكتاب المصري المقدَّم إلى مؤتمر القاهرة تحت عنوان "الفرص الاستثمارية في مصر"، بينما كان عنوان الكتابين المقدَّمين إلى مؤتمري الدار البيضاء وعمّان "التعاون الإقليمي والتنمية الاقتصادية" (Regional Economic Development & Cooperation). واحتوى على 188 مشروعاً بتكلفة تقدر بـ 33.5 مليار دولار، يقع أغلبها في مجالات الصناعات الكيمياوية (27 مشروعاً)، والتعدين والمواصلات (لكل منهما 14 مشروعاً)، والزراعة (11 مشروعاً)، والإلكترونيات (10 مشاريع)، والسياحة (19 مشروعاً)، والصناعات الهندسية (16 مشروعاً).[31]
وبينما ركز الكتاب المصري المقدَّم إلى مؤتمر عمّان على أن التعاون الدائم يعتمد أساساً على إنهاء حالة الصراع التي شهدتها المنطقة، وأوضح معالم الاستراتيجيا المصرية القائمة على محاور ثلاثة، هي الاستقرار السياسي وضبط التسلح والأمن بين دول الإقليم والتعاون الاقتصادي في المنطقة، فإن الكتاب المقدم إلى مؤتمر القاهرة ركز أساساً على مدى التقدم والتطور في البنية الاقتصادية المصرية، وتأثير ذلك في مناخ الاستثمار والنمو داخل البلد، مع ملاحظة أن المشاريع المصرية إمّا تتعلق في معظمها بالأوضاع الداخلية وإمّا ترتبط ببعض الدول العربية؛ إذ تركزت مشاريع المواصلات، مثلاً، على إنشاء طرق خاصة بالمغرب العربي، واستكمال الطريق الساحلية لشمال إفريقيا، بالإضافة إلى عدة مشاريع تهدف إلى تحسين شبكة المواصلات الداخلية، مثل طريق الفيّوم ـ أسوان، وطريق الإسكندرية ـ الفيّوم، وطريق الواحات الخارجة شرق العوينات، فضلاً عن بعض المشاريع المتعلقة بخطوط سكة الحديد، مثل خط الإسماعيلية ـ رفح، وخط السلّوم ـ القاهرة.[32]
أمّا الجانب الإسرائيلي، فقد تقدم إلى مؤتمر القاهرة بكتاب عنوانه "برنامج للتعاون الإقليمي"، بينما كان كتابه المقدم إلى مؤتمر عمّان بعنوان "الخيارات التنموية للتعاون في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا". واحتوى الأخير على مقدمة خاصة، تحت عنوان "نحو عصر جديد"، ركزت على الاندماج الإقليمي في المنطقة ودور القطاع الخاص في عملية السلام، وأوضحت التصورات الإسرائيلية الخاصة بهذه المسألة، منطلقة أساساً من أن المنظمات الإقليمية هي مفتاح الأمن والاستقرار في المنطقة، وبالتالي ينبغي ألاّ تؤجَّل العلاقات الاقتصادية أو ترتبط بمسارات التسوية السياسية. وهذه تصورات تعكس الفكر السائد لدى حزب العمل الإسرائيلي، الذي كان يتولى زمام الأمور في إسرائيل آنذاك.
أمّا في مؤتمر القاهرة، فقد احتوى الكتاب الإسرائيلي على ثلاث رسائل قصيرة، جاءت الأُولى من جانب رئيس الحكومة الحالي، بنيامين نتنياهو، الذي ركز فيها على أهمية الأمن بالنسبة إلى السلام، قائلاً: "يعتقد البعض أن السلام يعد قاعدة أساسية للتنمية الاقتصادية، والبعض الآخر يعتقد أن التنمية الاقتصادية يمكن أن تخلق مناخاً مناسباً للسلام، ولكننا نضيف أنه بدون الأمن.... لن يتحقق شيء. فإذا ما أنهينا حلقة العنف يمكن أن نحظى بمستقبل أفضل، فالسلام والأمن هما عصب وجودنا."[33] وأشارت الرسالة الثانية، وهي من وزير الخارجية دافيد ليفي، إلى ضرورة تعزيز التعاون الإقليمي وتهيئة المناخ الملائم للسلام في المنطقة، وهي الأفكار ذاتها التي جاءت في الرسالة الثالثة التي وضعها وزير المال، دان ميريدور.
وهنا نلاحظ أن إسرائيل تقدمت إلى مؤتمر القاهرة بـ 139 مشروعاً تقدر تكاليفها
بـ 13.350 مليار دولار، في مقابل 218 مشروعاً بتكلفة تقدر بـ 24.7 مليار دولار كانت تقدمت بها إلى مؤتمر عمّان. وهذا يشير إلى تراجع عدد المشاريع الإسرائيلية التي جاء معظمها في القطاع السياحي (من 31 مشروعاً إلى 17 مشروعاً فقط)، والنقل (من 12 مشروعاً إلى 4 مشاريع فقط)، والاتصالات (من 22 مشروعاً إلى 9 مشاريع فقط)، والصحة العامة (من 20 مشروعاً إلى 4 مشاريع فقط)، بينما استمرت المشاريع الخاصة بالمياه عند مستواها (28 مشروعاً).[34]
الجدول رقم 2
المشاريع الإسرائيلية المقدمة إلى مؤتمري عمّان والقاهرة
القطاع |
مؤتمر القاهرة 1996 |
مؤتمر عمّان 1995 |
||
|
إجمالي المشاريع (مشروع) |
التكلفة التقديرية (مليون دولار) |
إجمالي المشاريع (مشروع) |
التكلفة التقديرية (مليون دولار) |
الإجمالي |
139 |
1330 |
218 |
24.700 |
المياه |
27* |
2500 |
28 |
9000 |
الزراعة |
12 |
110 |
13 |
4000 |
النقل |
4 |
150 |
12 |
500 |
السياحة |
17 |
500 |
31 |
2000 |
المواصلات |
18 |
2250 |
22 |
4000 |
الطاقة |
10 |
2270 |
18 |
6000 |
الاتصالات |
9 |
100 |
22 |
1000 |
التجارة والصناعة |
13 |
350 |
16 |
500 |
الموارد البشرية |
5 |
75 |
15 |
200 |
الصحة العامة |
4 |
25 |
20 |
300 |
البيئة |
13 |
100 |
16 |
500 |
المشاريع التكنولوجية |
5 |
200 |
5 |
200 |
المصدر: تم تجميع الجدول، بمعرفة الباحث، اعتماداً على الكتب الإسرائيلية المقدمة إلى مؤتمري عمّان والقاهرة.
* بالإضافة إلى مشروع قناة البحر الأحمر ـ البحر الميت (بتكلفة مقدارها 5 مليارات دولار) الذي وُضِع بمفرده في كتاب مؤتمر القاهرة.
إن هذه التغييرات تعكس طبيعة التباينات بين تصورات حزب العمل وتصورات كتلة الليكود. إذ إن رؤية حزب العمل، كما عبر عنها من خلال كتابي عمّان والدار البيضاء، تنطلق من كون المنظمات الإقليمية هي مفتاح الأمن والسلام والاستقرار في المنطقة، وبالتالي، فإن القضاء على مشكلات الإقليم لا يتم بالاتفاقات الثنائية، بل عن طريق ثورة عامة في المفاهيم. من هنا، يجب أن تعكس السوق الإقليمية المشتركة توجهات جديدة في المنطقة بحيث يسود نمط الحضارة الغربي، الذي أصبحت "السوق" بمقتضاه أكثر أهمية من الدول المنفردة، وأصبح الجو التنافسي أهم من وضع الحواجز على الطريق. ولهذا، ينبغي ألاّ تؤجَّل العلاقات الاقتصادية أو ترتبط بعملية السلام؛ إذ في الإمكان الشروع في تعاون اقتصادي لامتصاص المعارضة السياسية، وفي الإمكان بالتالي أن تَسُوق العلاقات الاقتصادية العلاقات الدبلوماسية.[35]
وترى هذه الرؤية أن الهدف الأساسي من هذه العملية هو إنشاء سوق مشتركة، على غرار الجماعة الأوروبية، وذلك على ثلاث مراحل: تعتمد الأُولى على المشاريع الثنائية والمتعددة الأطراف، مثل عمليات مكافحة التصحر وتحلية المياه، وتعتمد الثانية على مشاريع ضخمة تتولى تمويلها مؤسسات التمويل الدولية بإشراف من دول المنطقة، بينما تهتم المرحلة الأخيرة بوضع سياسة للمجتمع الإقليمي وإنشاء المؤسسات الرسمية الجديدة.[36]
أمّا الليكود، فإنه يرفض الفكرة تماماً، ويرى أنها أدت إلى إضعاف السياسة الإسرائيلية وإلى سلب الشرعية منها، وشلّتها استراتيجياً. وقد عبر نتنياهو عن هذه الرؤية بوضوح في كتابه "مكان تحت الشمس". كما أن هذه الرؤية برزت أكثر في دراسة معهد الدراسات السياسية والاستراتيجية المتقدمة في القدس وواشنطن، المعنونة: "إسرائيل سنة 2000"، والتي أوضحت أن مبدأ "الأرض في مقابل السلام" أدى إلى تراجع مكانة إسرائيل الاستراتيجية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وبالتالي لا بد من وضع أسس جديدة للحوار تستند إلى مبدأ "السلام في مقابل السلام". وقامت هذه الاستراتيجيا على عدة محاور رئيسية، أولها المحور الأردني ـ التركي الذي تم التركيز عليه باعتباره القادر على الحد من المخاطر والتهديدات التي تواجه الدولة، وطالبت باستبدال شعار "السلام الشامل" بشعار "توازن القوى".[37] وثانيها المحور الذي ركزت فيه على ضرورة إيجاد بديل من عرفات، وإعادة النظر في الاتفاقات الموقعة لجعل إسرائيل أكثر قدرة على دخول مناطق الحكم الذاتي بحرية تامة. وانصب ثالث المحاور على إعادة النظر في أسس العلاقات مع الولايات المتحدة.
وتنطوي هذه الرؤية على مفهوم جديد يقوم على العناصر التالية:[38] معاهدات سلام رسمية بين الدول العربية وإسرائيل؛ ترتيبات أمنية مع الدول العربية تحمي إسرائيل من أي هجوم، وتمكن الأطراف من تأكيد أن الاتفاقات تنفذ نصاً وروحاً؛ تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل وإلغاء المقاطعة الاقتصادية؛ وقف الدعاية اللاسامية واللاصهيونية الرسمية في المدارس ووسائل الإعلام في الدول العربية؛ هيئة دولية تمنع بيع أسلحة ووسائل قتال غير تقليدية لأنظمة الحكم المتطرفة في الشرق الأوسط؛ مشروع دولي لتوطين اللاجئين؛ تعاون إقليمي لتطوير مصادر المياه وحماية البيئة والطبيعة.
وتنطلق هذه الرؤية مما أشار نتنياهو إليه في كتابه من أن "السلام" الذي يمكن تحقيقه في الشرق الأوسط هو السلام المبني على الردع، إذ إن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، في حين أن الدول العربية جميعها ذات نظم استبدادية، وبالتالي فإن "سلام الردع" يمكن تحقيقه، ولا سيما أنه يعتمد على قدرة إسرائيل على الردع؛ فكلما بدت إسرائيل قوية أبدى العرب موافقتهم على إبرام سلام معها. لذا، فإن الأمن، أي قوة الردع المعتمدة على قوة الحسم، هو العنصر الحيوي للسلام، ولا بديل منه. ويشير نتنياهو في موقع آخر إلى أن المطلوب هو "توسيع الاستيطان اليهودي وليس العربي، وزيادة الهجرة اليهودية وليس تحقيق فكرة العودة الفلسطينية، وتعزيز قوة الجيش الإسرائيلي، أي أن البديل هو تقوية الصهيونية.[39]
وترفض هذه الرؤية الفكرة القائلة إن إبطاء عملية التسوية يمكن أن يؤدي إلى تراجع معدلات النمو الاقتصادي في إسرائيل. وهي ترى أن المهاجرين الجدد من الاتحاد السوفياتي السابق، الذين يصلون حالياً بمعدل 70 ألف مهاجر سنوياً، سيواصلون تحريك الاقتصاد، بصرف النظر عما يحدث في مسألة التسوية السياسية. يضاف إلى ذلك أن قطاع التصدير الإسرائيلي يزداد انعزالاً عن عملية السلام؛ فعدد كبير من الأسواق التي انفتحت أمام الصادرات الإسرائيلية بفضل عملية السلام، أو تزامن انفتاحها مع هذه العملية، كأسواق الهند وبورما والصين وأوروبا الشرقية واليابان، لن يعود إلى الانغلاق أمام هذه الصادرات.[40]
كما أن جزءاً كبيراً من النمو يعود إلى التكنولوجيا المتطورة وبرامج الاتصالات. وهناك عدد كبير من الشركات الإسرائيلية العاملة في هذا المجال ينشط خارج إسرائيل، وبالتحديد في الولايات المتحدة الأميركية. ومن جهة أُخرى، هناك شركات عالمية كبرى ـ مثل "إينتل" و"موتورولا" و"آي.بي.أم" ـ اختارت إسرائيل موقعاً إقليمياً لها في المنطقة. كذلك، فإن لصناعة الإلكترونيات الإسرائيلية زبائن، مثل وكالة الفضاء الأميركية، والجيش الأميركي، وشركات "هانيوِل" و"هيوز إيركرافتس" و"وستنغهاوس" و"كومبالو" و"كوداك" و"سيفنر" و"فيلبس" و"تويوتا" و"سوني"، وغيرها.[41]
وتشير الإحصاءات إلى أن رؤوس الأموال الأجنبية التي استُثمرت في إسرائيل خلال سنة 1995 وصلت إلى 2.03 مليار دولار. ويرى البعض أن هذا الاستثمار ليس في إسرائيل فقط، بل في الشرق الأوسط ككل؛ إذ إن الشركات العالمية التي استثمرت في إسرائيل، مثل "كوبنهاغن" و"ماك دونالد" و"سيمنس لوريال" و"سام سونغ" و"هيونداي"، وغيرها من الشركات، ترى في إسرائيل مقراً رئيسياً إقليمياً لأنشطة مستقبلية كامنة في الشرق الأوسط.[42]
ولذلك يمكننا القول، من دون أدنى تجاوز للحقيقة، إن هذه العملية مكّنت إسرائيل من تحسين أوضاعها الاقتصادية، وخصوصاً في مجال جذب الاستثمارات التكنولوجية. فقد أعلنت كل من "موتورولا" و"إينتل" عزمها على الاستثمار في إسرائيل بأكثر من 2.6 مليار دولار لإقامة مصانع لأشباه الموصلات، وهو ما أثار جدلاً شديداً في المنطقة العربية، ولا سيما في مصر التي تُعِدّ البنية التحتية لافتتاح "وادي التكنولوجيا" في شمال سيناء، والتي تكاد تكون الدولة الوحيدة الحائزة بذور هذه الصناعة، من حيث الكفاءة وقدرة الأسواق المحلية على الاستيعاب. إلا إن معظم الشركات التي لها وجود في مصر شركات أجهزة لا شركات برامج، وبالتالي فإن العنصر الزمني في المنافسة بين إسرائيل ومصر يجعل المنافسة أصعب بالنسبة إلى مصر، وخصوصاً أن هذه الصناعة تسير في إسرائيل بوتيرة متسارعة إلى درجة أنها ستحتاج، بحلول سنة 2000، إلى استخدام 12 ألف مبرمج كمبيوتر ومهندس للعمل في هذه الصناعات. كما بلغت قيمة صادراتها منها، سنة 1995، نحو 5.5 مليارات دولار.[43] ومما يعزز وضع إسرائيل نجاحها في إبرام اتفاق تعاون علمي وتكنولوجي مع أوروبا، إذ ستصبح بموجب هذا الاتفاق أول دولة غير أوروبية وغير عضو في الاتحاد الأوروبي تشترك في الأبحاث العلمية والتكنولوجية الأوروبية المتطورة وتنتفع منها، وسيفتح الاتفاق الأبواب على مصاريعها أمام العلماء الإسرائيليين، وسيكون جسراً لتقديم الإمكانات المتاحة إلى الإسرائيليين لينتفعوا من مزايا الأبحاث العلمية في جميع دول الاتحاد، ما عدا الأبحاث الخاصة بالطاقة النووية.
وعلى النقيض من ذلك، لا يزال هذا القطاع ضعيفاً في المنطقة العربية عامة وفي مصر خاصة؛ إذ إنه لا يساهم إلا بنحو 0.3% من الناتج المحلي. كما أن متوسط إنتاجية العامل في هذه الصناعة لا يتجاوز 10% ـ 20% من إنتاجية العامل في الشرق الأقصى وأميركا الشمالية.[44]
يتضح مما سبق أن هناك خريطة جديدة لتقسيم العمل في المنطقة تهدف، أساساً، إلى إحداث تخصص جديد يتلاءم مع التطورات والتغييرات في بنية الاقتصاد الإسرائيلي وهيكله، بحيث تتخصص إسرائيل بالصناعات التكنولوجية المتقدمة، بينما تتخصص مصر بالصناعات التقليدية، كالمنسوجات.
من هنا، يمكننا القول إن مسار هذه العملية حتى الآن قد انعكس إيجاباً على الاقتصاد الإسرائيلي، ومكّنه من تنمية الصناعات المتطورة الواعدة بالتزايد في ظل الثورة التكنولوجية الحالية. وتزداد خطورة هذه المسألة في ظل اللوبي الضخم من الشركات الكبرى والجوالي اليهودية المتشددة التي تساند إسرائيل في أوروبا والولايات المتحدة. وسيساعد ذلك في خفض تكاليف الإنتاج، وبالتالي في تعزيز المنافسة على الصعيد الدولي.
وعلى النقيض من ذلك، لم تتمكن الأطراف العربية من تحقيق أية فائدة تذكر في هذا المجال. فمع التسليم الكامل بعدم تضخيم حجم المكاسب العائدة على إسرائيل، جراء عملية التسوية، فإننا نؤكد أن هذه العملية يمكن أن تصل إلى حدها الأدنى إذا ما تحركت الأطراف العربية بوعي وبقدرة على امتلاك المبادرة وزمام الأمور في هذه المسألة، وذلك عن طريق إعادة تنظيم عجلة العمل الاقتصادي العربي بما يخدم الأهداف التنموية العربية، وبالتالي عدم الاشتراك في أية مشاريع إقليمية أو ثنائية، إلاّ إذا كانت ستعود بالنفع على عملية التنمية العربية ككل، لا على مصالح هذا القطر أو ذاك فحسب. بل يمكن استغلال نتائج القمة العربية الأخيرة في توحيد الإطار العربي للعمل الاقتصادي المشترك، وتحجيم الأوهام الإسرائيلية المفرطة بشأن سياسة "الركوب المجاني"، أي أن تحقق إسرائيل أهدافها الاقتصادية من دون أن تتحمل أية أعباء سياسية.
[1] World Bank, Gleaming the Future (Washington, D.C., 1995).
[2] أنظر كلمة وارن كريستوفر أمام مؤتمر القاهرة الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
[3]أنظر كلمة وارن كريستوفر أمام مؤتمر القاهرة الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
[4] عبد الفتاح الجبالي، "النظام الاقتصادي من الدولنة إلى العولمة" (باريس: مركز الدراسات العربي ـ الأوروبي، 1995).
[5] "الحياة"، 18/10/1995.
[6] أنظر: فضل النقيب، "الاقتصاد الإسرائيلي في إطار المشروع الصهيوني: دراسة تحليلية" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1995).
[7] بنيامين نتنياهو، "مكان تحت الشمس" (عمّان: دار الجليل، 1996).
[8] "الشرق الأوسط"، 7/8/1996.
[9] هشام الدجاني، "كفى تهويلاً بالشرق أوسطية"، "الحياة"، 13/12/1995.
[10] "العالم اليوم"، 15/7/1996.
[11] رؤوف سعد، "آليات القمة الاقتصادية للشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، دراسة غير منشورة.
[12] "مجلة البنوك"، العدد 3، 1996.
[13] المصدر نفسه.
[14]المصدر نفسه.
[15] سعد، مصدر سبق ذكره.
[16] Jordan Rift Valley Development.
[17] South-East Mediterranean Region.
[18] أحمد قريع، "ليس هناك ما نخشاه" في: سلامة أحمد سلامة، "الشرق أوسطية: هل هي الخيار الوحيد؟" (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1995).
[19] بلال الحسن، "التسويات التي تمت هل تكفي لقيامها؟" في: المصدر نفسه.
[20] وزارة الخارجية الإسرائيلية، "نافذة لفرص الأعمال في الشرق الأوسط"، تشرين الأول/أكتوبر 1996.
[21] "الحياة"، 9/12/1994.
[22] المصدر نفسه، 16/10/1996.
[23] المصدر نفسه، 3/4/1996.
[24] جهاز التمثيل التجاري المصري، "العلاقات التجارية بين مصر وإسرائيل"، دراسة غير منشورة، 1996.
[25]صمويل بوهر في حديث إلى جريدة "الحياة"، 15/11/1996.
[26] "العالم اليوم"، 9/2/1997.
[27]عبد الفتاح الجبالي، "الآثار الاقتصادية للتسوية السياسية بين العرب وإسرائيل"، بحث مقدم إلى المؤتمر الاستراتيجي العربي الرابع، القاهرة، 1996.
[28] المصدر نفسه.
[29] المصدر نفسه.
[30] هيئة الاستعلامات المصرية، "وثائق أعمال مؤتمر القاهرة الاقتصادي"، القاهرة، كانون الأول/ديسمبر 1996.
[31] Egypt’s Perspective, Regional Economic Development and Cooperation, October 1995.
[32] Ibid.
[33] Government of Israel, Programs for Regional Cooperation.
[34] Ibid
[35] شمعون بيرس، "الشرق الأوسط الجديد".
[36] Government of Israel, “Development Options,” An Interim Progress Report.
[37] Institute for Advanced Strategic and Political Studies, “A New Strategy for Securing the Realm,” June 1996.
[38] Ibid.
[39]نتنياهو، مصدر سبق ذكره.
[40]"الحياة"، 7/6/1996.
[41] وزارة الخارجية الإسرائيلية، "نافذة..."، مصدر سبق ذكره.
[42] دان بوبر، "التطور الإقليمي للمنطقة المشتركة" في: المصدر نفسه.
[43] "الحياة"، 16/3/1996.
[44] المصدر نفسه.