A Critique of the Intellectual or the Death of the Intellectual?
Keywords: 
المثقفون العرب
العربية
لبنان
المفكرون
Full text: 

 

يتقن علي حرب فن المباغتة؛ فهو يدخل، بلا توقع، على السائد من الأفكار وعلى الموروث من المقولات فيثنيهما إلى غير مألوفهما. وكالكيميائي الخبير، بدلاً من أن يعالج المسلّمات لتحويلها، يفكك عناصرها ثم يُشظّيها مرة واحدة فتتطاير على يديه وبين أصابعه هباء منثوراً. وهنا، بالتحديد، يكمن سر المباغتة والفجاءة.

يأتي كتاب "أوهام النخبة أو نقد المثقف"[1] في أوانه تماماً ليهز هزاً عميقاً القناعات الراسخة ويخلخل، من الجذور، العقائد الراكدة والآراء المبذولة. وهو، بحق، من الكتب النادرة التي تنجح في تغيير الأفكار بعد أن تُطوى آخر صفحة؛ إنه يفتح نوافذ للتفكير بعدما أغلق الكثيرون منافذ الفكر. وهذا ربما يفسر تزاحم السجال واصطراع المساجلين مع علي حرب وكتبه وآرائه وأفكاره، فهو صانع أفكار بامتياز.

قليلون هم المفكرون الذين تجرأوا على المحرمات الفكرية في العالم العربي، فبادروا إلى نقدها وتفكيك أسسها ثم دحضها. فتاريخ الفكر العربي المعاصر لم يشهد تياراً ثقافياً مناوئاً فعلاً وممانعاً حقاً، بل شهد خيانات متكررة. وفي المرات القليلة التي ارتكب فيها بعض المثقفين الكبار فضيحة فكرية فإنه ما لبث أن تراجع طالباً العفو والمغفرة. فالأديب طه حسين عاد عن التشكيك في أصل التراث العربي وبادر إلى تهذيب كتابه "في الشعر الجاهلي" وتشذيبه حتى صار "في الأدب الجاهلي"؛ وعلي عبد الرازق كسر قلمه بعد "الإسلام وأصول الحكم" ندماً على طيش شبابه وعاد إلى هيئة علماء الأزهر التي كانت طردته؛ ومنصور فهمي تناسى في شيخوخته غلطة شبابه، أي المجاهرة بضرورة تحرير المرأة؛ أمّا أحمد أمين فتغاضى عن اقتراحه تيسير النحو العربي بإلغاء تحريك أواخر الكلمات والوقوف على السكون.

غير أن الثلاثين سنة المنصرمة شهدت اندلاع معارك فكرية ذات طابع نقدي راديكالي أطلقت في سماء الثقافة العربية عجاجاً ونقيعاً لم يهدآ بعد، وأنتجت، في معمعان هذه المعارك وفي خضم هذه السجالات، كتباً تجرأت على الممنوع ومسّت الأيديولوجيات السائدة والموروثات الراكدة، فغيرت الآراء وطورت الأفكار وحركت العقول من سباتها والأدمغة في هاماتها، وكان لها شأن خطير في المصائر التي انتهى إليها، لاحقاً، الفكر العربي المعاصر؛ فبادر الدكتور صادق جلال العظم إلى نشر كتابه "نقد الفكر الديني"، فكان أول من تجرأ على هذا الموضوع في تلك الحقبة. وغامر العفيف الأخضر بنقد تابو اللينينية في كتابه "التنظيم الثوري الحديث"، فكان كمن يشتهي راهبات الدير. وصادم العلامة الشيخ عبد الله العلايلي في كتابه المذهل "أين الخطأ" فقهاء عصره الذين، كبعض أسلافهم، عطلوا العقل وأقاموا النقل وراحوا يستحلبون النصوص بدلاً من استنباط الأحكام. ونقض الدكتور كمال الصليبي ركاماً هائلاً من تاريخ الأفكار، وبالذات تاريخ اليهود، عندما أصدر كتابه "التوراة جاءت من جزيرة العرب". واجتهد الدكتور نصر حامد أبو زيد في قراءة عصرية للخطاب الديني في كتابيه "نقد الخطاب الديني" و"مفهوم النص"، فأثار في وجهه أعشاش الدبابير إياها الماثلة فوق رؤوسنا منذ ألف عام وأكثر.

دشنت هذه الكتب الستة حقبة النقد الراديكالي لبعض مظاهر العيش والفكر في الثقافة العربية التي يكاد معين الإبداع والتجدد يختفي منها تماماً، وتكاد هي نفسها تسير إلى الاندثار حاملة معها شاهد بقائها الوحيد، أي أنينها. وها هو كتاب "أوهام النخبة" يدير الرؤوس عن مواقعها ليضيف إلى القائمة عنواناً جديداً هو "نقد المثقف". وهذا الكتاب، بفاعليته الفكرية، سيكون، بلا ريب، علامة من علامات الحيوية المفتقدة في الفكر العربي المعاصر.

إن كتاب "أوهام النخبة" مرصود لنقد المثقفين العرب بنوع خاص. لكنه يطال، في النهاية، المثقفين كلهم عرباً كانوا أو غير عرب؛ "ففي ملاعب الفكر لا يجدي التفريق بين فرنسي وأميركي أو بين عربي وغربي أو بين مصري ومغربي إلا من باب معرفة العلامات الفارقة والتعريف بالهويات الفردية للكُتَّاب والمؤلفين، (ص 10). لقد تعِبتْ النخب العربية من الأفكار والتطلعات المتفائلة، وطال كثيراً عصر الطموحات القومية الفاشلة والمفاهيم الماركسية المهزومة، وحان زمن نقد النظريات والطموحات والأيديولوجيات التي لم تؤسس مدماكاً أو تُنشئ معماراً. وها هو علي حرب يبادر إلى هذا الأمر ويتقدم إلى أخذ ناصيته ويتصدى للأفكار، بتجلياتها المتنوعة، بالنقد الصارم الذي لا يرحم. وفي سياق هذا النقد، يطور ضرباً من التفكير الثاقب يقوم على تمييز عناصر الافتراق لا التركيز على عناصر الاشتراك، وفرز عناصر التنوع والتمايز من عناصر التشابه والتطابق، وإنعام النظر في ما هو متحول لا في ما هو ثابت وراسخ. وحسبُه أنه يضع أمام أعيننا طريحة نقدية خطيرة تعرّي، بدراية واحتراف، المثقف العربي كما تجلى، عياناً، في ممارسته السياسية والأيديولوجية والإعلامية والمسلكية.

يناور علي حرب بقوله: "لم أشأ تقويض مهمة المثقف أو إلغاء دوره، وإنما سعيت إلى إعادة النظر في هذا الدور" (ص 32). لكنه، في هذه الإعادة، يمارس أقصى ما يمكن من لعبة الفضح والإيلام، فيقلب داخل المثقف إلى خارجه كما تُقلبُ الجوارب أو كما تَقلِبُ المرأة الريفية مصارين الأغنام لحشوها، فيفضح الدواخل ويكشف الخفايا ثم يطلق رصاص الرحمة، بلا رحمة، على سائر المثقفين.

إن كتاب "أوهام النخبة" كتاب جليل وخطير في آن: جليل للفاعلية الفكرية التي أطلقها، وخطير لأنه يقدم صورة تقريبية يبدو فيها المؤلف أنه يضع المثقفين على ناصية الشارع، عراة تماماً بلا أقنعة أو حُجُبٍ أو رجاء، ثم يُعلن فضيحتهم المدوية قبل أن يطلق الرصاص عليهم جميعاً.

ماذا يقول الكتاب؟

يتساءل علي حرب وتؤرقه معرفة الجواب: "كيف أن الحرية تتراجع مع كثرة المطالبة بها، وكيف أن السعي إلى النهوض يُترجم تقهقراً، وكيف أن المناداة بالتنوير العقلي تفضي إلى انتعاش الفكر الغيبي واللاهوتي، وكيف أن مقاومة الغزو الثقافي تؤول إلى زيادة التبعية إلى الغرب" (ص 25). وهو يلاحظ أنه "حيث ازدهرت مهنة المثقف الداعية تراجعت الأوضاع إلى الوراء خصوصاً على صعيد الحريات" (ص 24). ثم يستنتج من باب الترجيح: "لعل هذا ما يفسر لنا كيف أنه حيث عملت النخب على توعية الجماهير ازدادت هذه تبعية وهامشية، أو جهلاً وتعصباً؛ وكيف أنه حيث تشكلت أنظمة سياسية على يد النخب أو باسمها كانت هي الأسوأ أو على الأقل أسوأ من الأنظمة التي أقامها السياسيون المحترفون." (ص 35).

مهما يكن الأمر، فإن هذا التساؤل، أكان يخفي لوعة أم شماتة، جوهري بالضرورة. وهو مفتاح أي نقد يبغي الكشف والإبانة لا الإخفاء والمراوغة.

من هو المثقف؟

اهتزت صورة المثقف وكادت تنكسر، ثم فقدت بريقها وجاذبيتها وإقناعها؛ فما عاد أحد يثق بقدرة المثقف على التنوير والتأثير، لأن ما جرى ويجري الآن يتم بخلاف ما كان يقوله أو يطالب به أو يدافع عنه أو ينتظر حدوثه. "لقد ولى الزمن الذي كان يقول فيه المثقف الحقيقة للناس لأنه لم يعد يعرفها أكثر منهم" (ميشال فوكو)، وصار المثقفون "سحرة يصنعون المعاني ويبيعون الأوهام" (ريجيس دوبريه). والمثقف ما عاد قادراً على الإقناع وإنما على الإيهام، لأن "مهنة المثقف هي مهنة قوامها أن تخفي حقيقتها" (ص 39). والمثقفون اليوم "مشغولون دوماً بحراسة هوياتهم وأفكارهم من غضب الوقائع." (ص 11)

يتحدد المثقف عند علي حرب، سلباً، على هذه الصورة: "لا أعني بالمثقف مَن يملك حظاً وافراً من الثقافة العامة أو المعارف المشتركة؛ ولا أعني به، بالطبع، الاختصاصي في فرع من فروع المعرفة أو المنتج في حقل من حقول الثقافة. أي لا أعني به، بالتحديد، العالم أو الكاتب أو الأديب أو الفنان (...) وأخيراً لا أعني به الداعية أو صاحب الأدلوجة، أي المنظِّر العقائدي أو المرشد الروحي أو القائد الثوري أو الزعيم الحزبي مع أن مهمة المثقف تكاد تتطابق مع مهمة الداعية" (ص 19). أمّا المثقف، إيجاباً، فهو الذي "تشغله قضية الحقوق والحريات أو تهمه سياسة الحقيقة، أو يلتزم الدفاع عن القيم الثقافية، المجتمعية أو الكونية، بفكره وسجالاته أو بكتاباته ومواقفه (...) فهو مَن يهتم بتوجيه الرأي العام أو مَن ينخرط في السجال العمومي دفاعاً عن قول الحقيقة أو حرية المدينة أو مصلحة الأمة أو مستقبل البشرية. فهذه صفته ومهمته، بل هذه مشروعيته ومسؤوليته. بهذا المعنى، فالمثقف هو الوجه الآخر للسياسي والمشروع البديل عنه." (ص 20)

إذن، اختار المؤلف خصمه وحدد مواصفاته ووزنه ومقدرته، وبقي عليه منازلته في الميدان الذي أتم تمهيده أحسن تمهيد. لقد صار المثقف، الآن، دريئة مهيأة لإطلاق النار، لكن الأمر يحتاج فقط إلى قرار الاتهام وهاكم هو: "إن معظم المثقفين العرب لا يزالون غارقين في سباتهم الأيديولوجي، لا يحسنون سوى نقض الوقائع لكي تصح مقولاتهم أو نظرياتهم. إنهم يرون العلة في الواقع لا في الأفكار (...) من هنا سعيهم الدائم لمطابقة الوقائع مع مقولاتهم المتحجرة أو لقولبة المجتمع حسب أطرهم الضيقة أو تصنيفاتهم الجاهزة. بهذا المعنى مارس المثقفون ديكتاتوريتهم الفكرية أو عنفهم الرمزي باسم الحقيقة والحرية أو تحت شعار الديمقراطية" (ص 25). و"بات المثقف الداعية أعجز من أن يقدم مشاريع لنهوض الأمة وتقدم المجتمع، بل هو الذي أصبح يحتاج إلى النهوض من سباته الأيديولوجي والتحرر من وهمه التقدمي" (ص 121). فالمثقف هو مَن يهتم بنسق الأفكار لا بمجريات الوقائع، وهذا منبع خيبته وهزيمته في آن، لأن "ثمة عالماً يتشكل على نحو يخالف حسابات المثقفين الذين لا يفعلون سوى أن يُفاجأوا بما يحدث أو يتفجعوا على المصائب والكوارث" (ص 36). وليست هذه الخيبة، في نهاية المطاف، إلا نوعاً من دهشة البدوي أو غفلة الفلاح حينما تدهمه الوقائع فيتوقف ذهنه عن التفكير ويشخص ببصره كالذاهل، حتى إذا انتهت مرحلة الدهشة راح يتعايش معها كالتابع الغافل. ولهذا، فإن "مشكلة المثقف لم تعد مع الدولة أو المجتمع وإنما مع أفكاره." (ص 29)

ثم يدحض علي حرب مقولة الطليعة التي عاشت دهراً في سمائنا مجللة مبجلة بقوله: "يمارس المثقف الوصاية على القيم والولاية على الناس بإعطاء نفسه الحق في تعيين ما هو حقيقي ومشروع وصالح، أي ما تمليه الحقيقة أو ما هو في مصلحة الشعب أو الوطن أو الأمة. هذا هو معنى مقولة الطليعة" (ص 32). وهذا الكلام لا يبتعد كثيراً عن الفكرة اللينينية القائلة بِـ "إدخال الوعي من الخارج" والتي كان من شأنها ترويج مقولة "الاستبدال" المشهورة التي أنتجت، في جملة مآسيها، تسلط الحزب على الناس وتسلط القيادة على القاعدة وتسلط الأمين العام على القيادة والحزب معاً، ونشوء ظاهرة "عبادة القائد" التي غيّبت في دياجيرها كل تفكير نقدي أو إبداعي أو ابتكاري. وكان العفيف الأخضر نَقَدَ، بالتفصيل، هذه العقيدة ودحض مرتكزاتها انطلاقاً من التجربة النظرية والعملية للماركسية الأوروبية، وذلك في كتابه الذي أحدث ضجيجاً في حينه: "التنظيم الثوري الحديث[2]*.

أمّا المثقفون كمجموعة بشرية، فلا يشكلون عند علي حرب "مجتمعاً مثالياً تحكمه مبادئ العقلانية وقواعد الفضيلة، فهم شأنهم شأن أصحاب المهن الأُخرى لهم حسناتهم ومساوئهم. وقطاعهم المجتمعي أو حقلهم الإنتاجي (...) هو مجال للتنافس والنزاعات" (ص 40). و"النخبة المثقفة لا تتحقق غايتها إلا بتقويض مهمتها. ذلك أن تحرر الناس أو مصلحة الجماهير هي في التحرر من نخبوية المثقفين ووصايتهم وأوهامهم" (ص 37). وهذا الكلام قريب، إلى حد ما، من مقولة كارل ماركس المشهورة: "إن تحرر البروليتاريا يؤدي، حتماً، إلى القضاء على البروليتاريا نفسها." غير أن أساس الحكم يختلف تماماً بين كارل ماركس وعلي حرب؛ فماركس يعتبر بروليتاريا القرن التاسع عشر هي الذات الصانعة للتاريخ، وهي تندثر في اللحظة التي تنتصر فيها وتكف عن أن تكون هي نفسها. بينما علي حرب لا يرى في المثقفين أي ذات مبدعة أو صانعة للتاريخ، بل إن بعضهم، كالمثقف الرسولي "لا يحسن سوى الخراب والدمار." (ص 42)

يحاول علي حرب في نقده المثقف والسلطة معاً أن يتجاوز هذه الثنائية ويتخطى الاختلاف بين عنصريها على نحو يتيح وضع المثقف والسياسي في سلة واحدة. "كلاهما يسعى على طريقته وباستخدام رأسماله إلى احتكار المشروعية" (ص 41). والمثقف "يزعم أنه يعمل على مقارعة السلطة السياسية فيما هو يعمل على منافستها على المشروعية" (ص 40). و"كلاهما يمارس التسلط والعنف: التسلط على الأجساد مقابل التسلط على العقول، والعنف المادي مقابل العنف الرمزي." (ص 41)

إن هذه المحاكمة تقيم نوعاً من التعسف والإخفاء. صحيح أن ثمة سمات مشتركة بين المثقف والسياسي، لكن ثمة نقاط افتراق كثيرة. وحتى تصبح الصورة صحيحة، لا بد من إحضار ما هو متضاد بينهما؛ فسلطة المثقف رمزية (والكاتب يعترف بذلك) وسلطة السياسي مادية. والعنف الرمزي يختلف اختلافاً بيّناً عن العنف المادي. ولا يمكن وضع الاثنين في سلة واحدة ورميهما إلى الخارج كالرضيع مع ماء غسيله.

لكن علي حرب لا يكف عن إدهاش القارئ ومصادمة تصوراته وأفكاره ومعتقداته، وهو يصل إلى قمة إدهاشه بالقول "إن المثقف (...) هو الوجه الآخر للسياسي: كلاهما وجهان لعملة واحدة تجعل من المثقف البديل السيئ للسياسي المحترف، كما تجعل من السياسي مجرد مثقف رديء وفاشل" (ص 128). ثم يفاجئنا بالاستنتاج التالي: "يمكن القول بأن السياسي المحترف هو أقل من المثقف ممارسة للعنف وأقدر منه على تسيير الأمور وتبرير الشؤون العامة. فالنموذج السياسي، أياً كانت شهوته للسلطة أو إرادته للمحافظة عليها، يقبل إجمالاً المداولة والمفاوضة ويتسم بقدر من الحيلة والمرونة ويتوسل بالقوانين والأنظمة ويأخذ بالاعتبار المصالح المشتركة والمنافع العامة (...) أمّا النماذج العقائدية والطلائع المتقدمة والنخب المثقفة فقد ترجمت أفعالها عزلة وهشاشة (...) وقادت البلاد والعباد نحو الخراب والهلاك وجعلت الشعوب رهائن لعقائدها ومشاريعها المستحيلة" (ص 42)، وهو ينزع عن المثقفين أية ميزة لهم: "ليتواضع أهل الثقافة والفكر. إنهم ليسوا نخبة المجتمع أو صفوة الأمة وإنما هم أصحاب مهنة كسائر الناس." (ص 81).

من هو المفكر؟

إن أطرف وأمتع ما في كتاب "أوهام النخبة" هو هذا التوازي الذي أقامه المؤلف بين المفكر والمثقف. ولا أدري مقدار التعسف في هذا الأمر، ولا سيما أنه أقام الواحد منهما خصماً للآخر. فالمفكر هو "من يبين أن الحقيقة هي دوماً أقل حقيقية مما نحسب" (ص 74)، في حين أن "المثقف هو من ينجح في خداع الناس" (الصفحة نفسها). ومشروعية المثقف هي في "الدفاع عن الحقوق والمصالح والحريات [أمّا مشروعية المفكر فهي في] القيام بنقد المثقف" (الصفحة نفسها). والمفكر لا يفكر كعقائدي يحرس مقولاته أو كطوباوي يحلم بتطبيق أفكاره المستحيلة، وإنما يهمه فهم ما يجري في الدرجة الأُولى، وشاغله الدائم أن ينتج معرفة. أمّا المثقف فيهتم بهويته الفكرية أكثر من اهتمامه بمعرفة الوقائع وصنع الحقائق؛ فهو مروّج أفكار لا صانع أفكار. و"المفكر ليس قاضياً أو شرطياً، وإنما هو قارئ يقرأ الحدث ويشخص الأزمة بترجمتها إلى مشكلة فكرية أو إلى أداة مفهومية" (ص 15). والأفكار تكتسب أهميتها "لا من كونها تكشف عن الحقيقة (...) بل من كونها تسهم في إنتاج الحقائق." (ص 46)

لماذا عجز أهل الفكر، إذن، عن الاضطلاع بمهمة تغيير الواقع، تماماً مثلما عجز المثقفون عنه؟ يجيب علي حرب: "العالم يتغير بقدر ما تتغير أدوات فهمه وطرق التعامل معه" (ص 16). و"المفكر الذي لا يستطيع تغيير العالم فكرياً بتجديد أفكاره أو بتغيير طريقته في التفكير أو بابتداع ممارسة فكرية جديدة لن يغير شيئاً." (ص 12)

أحسب أن التفرقة التي أقامها الكاتب بين المثقف والمفكر هي تفرقة منهجية في الدرجة الأُولى، وهي ذهنية أكثر مما هي واقعية، على الرغم مما يقدم الواقع، كل يوم، من أدلة تعزز هذه النظرة. لكن هذه التفرقة لا تؤدي، بالضرورة، كما أظن، إلى افتراق الثقافة عن الفكر. والعلاقة بين المثقف والمفكر جدلية تماماً؛ ففيها تضاد وانجذاب، اندحار وانتصار، توفيق وتفريق، معاندة ومهادنة. فإذا كان المثقف يروج الأفكار والمفكر ينتج المعرفة، فالمفكر يحتاج إلى المثقف لاختبار أفكاره، والمثقف يغتذي بما ينتجه المفكر. ثم إن ترويج الأفكار يصبح نوعاً من ابتداع الأفكار في الآن نفسه. فصناعة غلاف السلعة تصير، بالتدريج، جزءاً لازماً وضرورياً من صناعة السلعة نفسها. والمفكر هو صانع أفكار، لكن سلعة العقول ذات رقي وتمنّع ودلال، وليست كسلعة البطون بعد أن تدخل الفم تخرج إلى السلال. ولا أعتقد أن إعدام المثقف بات ضرورياً، ولا سيما في العالم العربي الذي يحتاج، أكثر ما يحتاج، إلى المثقفين النقديين بالتحديد. فثمة الكثير من المتعلمين وأنصاف المتعلمين الذين يتربعون في مواقعهم "الثقافية"، وثمة الكثير من مدّعي المعرفة والثقافة ممن يديرون مؤسسات "ثقافية"، لكن المثقفين بينهم قلة، بل قليلون جداً. ولا أدري، حقاً، ما المقدار الصحيح الذي يجب تحميله للمثقفين جراء الهزائم التي عصفت بنا وجراء الكوارث التي حاقت بجيلنا. إن الفشل كان شاملاً، وكذلك الهزيمة والخيبة. والمسؤولية عنها تشمل النظم والسياسيين المحترفين مثلما تشمل السياسيين الجدد ممن صعدوا في انقلابات الجيوش والقصور، مثلما تشمل أيضاً مثقفي النظم ومثقفي المعارضة على السواء. وتقدِّم الجزائر مثالاً شديد الدلالة لمأزق الفكر السياسي في العالم العربي وللاستعصاء الذي صارت إليه الحياة السياسية العربية؛ فالنخب السياسية والفكرية التي تربّت في أحضان الاستعمار الفرنسي هي التي بادرت إلى الثورة وأطلقت الطموحات التحررية الفخورة والآمال الكبيرة، في حين أن الجيل الذي تربى في أحضان الحكم الاستقلالي راحت نخبه تذبح الأطفال في بيوتهم وتفرض القصاص وتخرّق أجساد الصحافيين بالرصاص وتنزل بالبلد سلطان القتل والبلاء معاً. غير أن الفشل المتتابع للنظم والمعارضة أدى إلى ظهور حركات الانغلاق والتخلف، ووجدت المعارضة نفسها، أمام الوحوش الزاحفة من كهوف التعصب، مرغمة على الوقوف إلى جانب السلطة والاحتماء بها على طريقة "إن لم يكن إبلاً فمعزى"، وهو ما أفقدها مشروعيتها واستقلالها وفاعليتها وفائدتها.

إنه العياء الذي يلف، اليوم، بجلبابه أو بعباءته الجميع، فلا فكاك إلا بخلع الأردية السود التي تسد منافذ الضوء، ولا خلاص إلا بفتح نوافذ للنور وإطلاق الرجاء في العالم كله، ولا سيما العالم الذي نعيش في أرجائه، أي، بالتحديد، العالم العربي. فهل يتقدم الفكر ويبادر المفكرون إلى هذا الشأن بعدما يئس المثقفون وتراجعوا وكادوا يندثرون؟

ماذا نقول نحن؟

ليس القصد تتبع كل جملة أو فقرة أو عبارة أوردها علي حرب في كتابه "أوهام النخبة"، ثم نقْدها أو نقضها أو دحضها أو القبول بها؛ فتلك طريقة "قَوّالي" الزجل وتابعيهم من مرددي القوافي واللوازم والمذاهب. لذلك سأحاول، انطلاقاً من كتاب "أوهام النخبة"، أن أثير بعض الأسئلة، وربما بعض الأجوبة، كطريقة في السجال مع الآراء التي انتهى الكاتب إليها، والتي عرضنا لها للتو.

ما هي الثقافة؟ من هو المثقف؟

لم أقع على تعريف جامع وافٍ لمصطلح "الثقافة". غير أن في الإمكان دمج الكثير من التعريفات ذات الانسجام المعرفي في بنيان واحد لغرض الإحاطة والشمول. والثقافة، بحسب هذا الاجتهاد، هي هذا الكل المعقد المتشابك الذي يتضمن المعرفة والعقيدة والحقوق والفنون والأخلاق والأعراف، وكل قدرات أُخرى اكتسبها الإنسان كفرد في المجتمع.

ويمكن استخدام مصطلح "الثقافة" في المجال الأنثروبولوجي للتفريق بين الثقافة البدائية والثقافة المعاصرة. ويمكن استخدامه بمعنى السمات التي تميز أمة من أمة، أي أنها تعني الهوية القومية، كأن تقول: "الثقافة العربية" و"الثقافة الصينية". ويمكن استعماله أيضاً لوصف نشاط ما، فيقال: "ثقافة عمالية" و"ثقافة فلاحية"، أو للتعبير عن وظائف وآليات اجتماعية، كالحديث عن أثر "الثقافة" في سلوك الأفراد والفئات. واستطراداً، فإن "المثقف" هو من اكتسب، أولاً، معارف شتى باعتباره عضواً في مجتمع إنساني، وهو، ثانياً، من أنتج شكلاً من أشكال المعرفة.

إن روبنسون كروزو، على سبيل المثال، الذي اكتشف مهارات كثيرة واكتسب مفاهيم جديدة، لا يندرج في سياق المثقف، لأنه لم يكتسب هذه المهارات والمعارف بصفة كونه عضواً في مجتمع إنساني، ثم إنه لم ينتج أي شكل من أشكال المعرفة الإنسانية. وحتى لو افترضنا أنه توصل إلى بعض المفاهيم، فهذه المفاهيم لا علاقة لها بالمعرفة الإنسانية، بل إن صلتها الوحيدة كانت بالفرد المعزول الذي يقاوم من أجل البقاء.

إن مفهوم "الإنتلجنسيا"، كما ورد في الموسوعات وكما اتخذ قوامه في القرن السابع عشر فصاعداً، صار اليوم بائداً. وفي عصر العلوم الدقيقة والشديدة التخصص، تحولت لفظة "المثقف" عن مقاصدها تماماً، وتقلصت كثيراً مساحة الدور الذي كان المثقف يؤديه في السابق. غير أن في الإمكان اشتقاق "وظيفة" للمثقف من التعريف الماثل أمامنا؛ فالمثقف هو من اكتسب شتى المعارف باعتباره عضواً فاعلاً في المجتمع الإنساني، وهو من أنتج شكلاً من أشكال المعرفة الإنسانية.

غير أن علي حرب يرى المثقف على ثلاثة أنماط: "فالمثقف مثالي طوباوي أو أكاديمي مدرسي أو حزبي فئوي" (ص 33). وأخشى أن يكون "سرير بروكوست" لدى علي حرب ضيقاً لا يتسع إلا لهذه الأنماط الثلاثة. أمّا أنا، فسرير بروكوست لدي يتسع لأربعة ضروب من المثقفين أرى أن تصنيفهم على هذا النحو أقرب إلى واقع الحال:

  1. مثقف السلطة: وهو قليل الإبداع على العموم، وقليل الحساسية النقدية والحيوية الفكرية (يُعتبر أندريه مارلو استثناء).
  2. المثقف النقدي المستقل: وهو الذي يدفع الآن ثمن فشله المعرفي والسياسي وخيبته الذاتية.
  3. المثقف العضوي: وهو الذي أفاض أنطونيو غرامشي في الحديث عنه.
  4. المثقف المعزول: وهو الذي يحترف التعبير عن تجربته الذاتية شعراً أو فناً أو تصوفاً.

نستبعد هنا، وفي هذا السياق السجالي، كلاًّ من مثقف السلطة والمثقف المعزول. إن ما يعنينا، حقاً، هو المثقف العضوي والمثقف النقدي. غير أن الخيبة التي لازمت هذين النمطين، في التاريخ المعاصر للثقافة العربية، كانت من الهول بحيث أسلمتهما إلى السبات العميق الذي، ربما، لا صحو بعده، وأطاحت، على الأرجح، إمكان القيامة والتجدد. فالمثقف العضوي الذي وضع اليساريون بين يديه "جهيزة التي تقطع قول كل خطيب" هو في حالتنا العربية ليس إلا رجل الدين بامتياز، الذي لا ينفك متأرجحاً بين الاستقلال عن السلطة أو الانضواء في أحضانها، وهو الأقرب إلى الانضواء تحت عباءتها. فاحتكاره العلوم الدينية أعطاه مهنة وسلطة لكسب العيش. وهذه المهنة أضفت عليه وظيفة اجتماعية ودينية ومكانة بين الجماعة. وصار يتنكب مهمات قيادية كالقضاء والتوجيه الديني وتعليم الصغار وتزويج الكبار والتطليق والصلاة على الموتى وتوزيع التركات... إلخ. وهذا "المثقف" وأمثاله، إلا قليلين منهم، شكلوا قوة الاستقرار للنظام السياسي، وكانوا من أشد مؤيدي الأوضاع الراسخة، والفئات العليا منهم كان لها شأن كبير في الحكم والتأثير في الناس كأصحاب الطرق الصوفية وغيرها.

أمّا المثقف النقدي المستقل، فيجري الآن تهميشه أو تهشيمه ودفعه إلى العزلة جراء خيبته الفكرية وفشله المعرفي وتخطي العلوم الحديثة دوره الذي كان مرصوداً له. وهو يتحمل الأسباب المباشرة لهذه الخيبة لأنه جعل نفسه، مرات كثيرة، في خدمة الأيديولوجيا، ووظف معارفه في خدمة السياسة. إن تحويل الثقافة إلى أيديولوجيا، أي وضعها في خدمة سياسات التغيير، لم يكن يعني أن التغيير سيتحقق حتماً أو بالضرورة. لكنه، على الأرجح، أدى في التجربة العيانية إلى إلغاء دور الثقافة والفكر كمصدرين للإبداع والتجديد، وإلى إقصائهما عن مكانتيهما الأرفع، أي استقلالهما. وإذا كان من الحسن أن تستعيد الثقافة دورها والمثقف دوره، فأحسب أن المرغوب فيه هو التحريض على إعادة الاستقلال إلى المثقف وإلى الثقافة معاً، أي إحياء الثقافة بوصفها إبداعاً وعنصراً من عناصر التجديد. وبهذه الصفة، فهي ثقافة مناوئة وهجومية دوماً، ومعارضة للمفاهيم الزائفة.

المفكر

لا شك في أن ثمة فارقاً منهجياً بين المثقف والمفكر. غير أن الناقد يحتاج إلى مبضع جرّاح، في الكثير من الحالات، لفصل المثقف عن المفكر، أو المثقف عن الإعلامي. وهذه الحالات، في تجلياتها العيانية، ليست مفصولة بعضها عن بعض أو متراكبة بعضها فوق بعض كالطبقات الجيولوجية، بل هي متداخلة بحيث لا يمكن فصلها إلا في الذهن.

إذا كان هذا العصر الجديد راح يقصي المثقف عن دوره التقليدي، فإنه أيضاً بات يمنع الأفكار الكبرى من الانبثاق. إنه عصر الموت جوعاً هنا أو الموت ضجراً هناك. لقد حلّت العلوم الدقيقة وثورة المعلومات والاتصالات وعلم الجينات وتطبيقاته في مجال الغذاء والإنسان محل النظريات الكبرى التي حاولت أن تقيم عالماً جميلاً وعادلاً وسعيداً، أي إنزال الجنة من الأعالي إلى بسيط الأرض. إن عالماً جديداً بكامله يوشك أن ينبثق، والأفكار الكبرى والنظريات النقدية لا تؤدي فيه دوراً رائداً بل، ربما، لا شأن حاسماً لها في تطوره. إن ما يلائم هذا العصر الجديد هو الابتكارات العلمية والأفكار الخلاقة في مجالات محددة من العلوم البصرية والإلكترونية والاتصالات.

إذن، بالتلازم مع تراجُع دور المثقف، أرى أن دور المفكر يتراجع أيضاً. وإذا ارتفع صوت فكري لفترة فهو لا يلبث أن يخبو بعدها فوراً. إنه عصر إبادة الأفكار بسرعة، وما فوكوياما وتشومسكي وهانتنغتون إلا أمثلة لاضطراب الحال الفكرية في العالم كله. فهؤلاء، وقبلهم الفلاسفة الجدد في فرنسا، باتوا الآن مجرد سجلات في الذاكرة القريبة لتاريخ الأفكار الحديثة، وما عادوا من مبتدعي الأفكار وخالقي النظريات.

يبدو أن العقول المفكرة تضوي وتنكمش وتنحسر. فبعد ميشال فوكو وجاك دريدا وجان زيغلر وأمثالهم لا نجم ينبثق ولا صوت يرتفع. إن الماركسية كانت هي النظرية النقدية الكبرى في مئة السنة الأخيرة، وهي تبلورت في معمعان السجال مع الفلسفة ونقدها في آن (نقد هيغل مثلاً). أمّا الأفكار الكبرى اليوم، فهي لن تتبلور من نقد الماركسية، كما يحاول البعض، بل من نقد الحضارة. فالأفكار العظيمة تستمد شِعرها من المستقبل لا من الماضي فقط. والماركسية صارت، في أية حال، من الأفكار الكبرى التي انبثقت في القرن التاسع عشر وازدهرت في القرن العشرين، وها هو العالم يدخل القرن الحادي والعشرين وقد خلّف الماركسية وراءه. ولهذا "لا ينبغي أن نبني أوهاماً كثيرة بشأن مهنة التفكير أو مهمة أهل الفكر. فالمفكرون ليسوا رسل الحقيقة أو صُنّاع الحرية ولا هم بناة السلام والسعادة، وإنما هم، شأنهم كشأن الأدباء والشعراء (...) يسهمون في صناعة الكلمات وإنتاج الرموز والنصوص.[3]

السجال

أراد علي حرب أني كنس أمام بيته فلم يجد سوى المثقفين، فشرع في مهمته ثم أقام صلاة الجنازة عليهم. وكانت لديه الحجة في الإقدام على ما أقدم عليه؛ فالمثقفون، إلا أقلهم، صاروا فئة تتسول عيشها من خدمة السلطان، وصارت عبادة السلطة دين المثقفين الحقيقي وديدنهم اليومي. والأنكى من هذا أن المثقف العربي أصيب بنوع من الحمل الكاذب فتوهم أنه صاحب شأن وأنه مرصود لتأدية دور تاريخي ورسالة مقدسة، وأنه رافعة التحديث والتقدم والتنوير، لكن علاقته بالتنوير لم تكن في أي يوم من الأيام "علاقة إنتاج وإبداع بقدر ما هي علاقة ترويج ودفاع. فهو مجرد داعية للتنوير، في حين أن المثقف الغربي هو من صُنّاع التنوير." (ص 60)

لم يكن علي حرب أول من نقد "النخبة"[4]، لكنه، بحسب علمي، أول من وضع أصابعه العشرة على الأماكن الظليلة في تجارب المثقفين العرب، ولا سيما في التجربة اللبنانية. وأحسب، مع بعض الظن، أن علي حرب ينظر إلى المثقفين باعتبارهم كتلة ذات طبيعة متجانسة وشبه منسجمة، وهؤلاء، في رأيه، ما عاد من الممكن التعامل معهم إلا برميهم أو تبديلهم. لكنني أظن أن المثقفين لا يؤلفون فئة متماسكة ذات طابع خاص وموحد. إنهم شظايا وذوات وأفراد كالرمل تحسبهم جمعاً وهم فرادى. وهي فئة حديثة تماماً، ولم يكن لها جذور قبل أكثر من قرن من الزمان.

والمثقفون، كفئة مهنية ذات تباينات شتى، لم يظهروا إلا مع شيوع التعليم. وقبل ذلك كان رجال الدين وعلماؤه هم فئة المثقفين الوحيدة المغلقة التي احتكرت المعرفة والنشاط الثقافي. لكن انتشار التعليم كسر هذا الامتياز منذ أواخر القرن التاسع عشر فصاعداً. فالعالم العربي ظل يغط في سباته قروناً إلى أن حركته، أول مرة، حملة نابليون على مصر، ثم هزته هزاً من الأعماق، مرة أُخرى، "عصا موسى" التي هي دولة إسرائيل. وبين هذين التاريخين ظل الفكر العربي يتلاطم في ازدواجية فكرية مهينة، وينوس بين اتجاهين رئيسيين: الأول يرتبط بالموروث الغيبي، حيث الخرافة والاستكانة والاستسلام للقضاء والقدر، والآخر يرتبط بمشروع تحديثي وافد مفصول عن النسيج التاريخي للمجتمع. وأدى هذا الأمر إلى قطيعة معرفية بين بنية المجتمع والعلوم الإنسانية، أي بين الدين والعلم، ومنع انبثاق أفكار ثورية ذات طابع تغييري راديكالي. وإذا كان البعض يعتبر أن العالم العربي استيقظ حقاً فأطلق لفظة "اليقظة" أو "النهضة" على الحال التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، فإن العالم العربي إياه لم يبدأ بعدُ رحلة الخروج من قفص الماضي ومن الارتباط الخرافي به؛ لقد استيقظ لكنه لم يفعل شيئاً سوى الاستيقاظ. فاليقظة، وهي المرادف لكلمة التحديث، لم تكن في العالم العربي وليدة الحاجة بل نتيجة التحدي الذي فرضه الغرب على المنطقة منذ حملة نابليون على مصر سنة 1798. فالتقدم أو التحديث أو التنوير ينشأ الواحد منها من الحاجة لا من الأفكار. والأفكار، بدورها، لا تولد في رؤوس المفكرين أو المثقفين كما ولدت مينيرفا من رأس جوبيتر، بل من الحاجة أيضاً.

ولا شك في أن بعض مقولات علي حرب عن هزيمة المثقفين وعن إحباط المثقف صحيحة ومنطقية لأن نتائجها تطابق مقدماتها، أي أنها تستنبط الفكرة من الفكرة وتستحلب الطريحة من الفريضة والنقيضة. لكن هل هي صادقة، بالضرورة، من حيث مطابقة نتائجها الواقع؟

إن هزيمة المثقفين ناتجة، في العمق، من مصدر رئيسي هو أن عصر الطموحات الفكرية والسياسية في العالم العربي انتهى من غير أن نطل على إنجاز فكري أو سياسي كبير. لقد أُحبطت جميع المخاضات، ويبدو أن الحقبة المقبلة غير قادرة على توليد أي إنجاز فعلي في شروط الانتصار الكبير الذي حققه المركز الأميركي والذي أحكم طوقه على محيطه، ورسّخ التبعية وتقسيم العمل على المستوى الدولي، وها هو ينقل الكرة الأرضية برمتها إلى طور جديد هو "العولمة" أو "الكوكبة" التي لا تعني، في نهاية المطاف، إلا توحيد العالم كله بالصورة المرئية، وفرض مثاله الوحيد على الجميع، أي "أمركة" العالم وإلغاء التنوع.

إن إحباط المثقف العربي ناشئ، فضلاً عن أسباب متعددة ومتشعبة، عن الهوة الكبيرة التي تتسع، باستمرار، بين تقدم العلوم في الغرب وتخلفها في العالم العربي. والمثقف العربي غير قادر على ردم هذه الهوة واجتياز مسيرة الحداثة "عيناً عيناً وشبراً شبراً"، على ما يطالب محمد أركون به[5]. جل ما يستطيع أن يفعله هو الإقبال الاستهلاكي على منتوجات العلم والتكنولوجيا. ولأنه لا يستطيع أن يساهم في هذه الثورة الجديدة مساهمة المشتغل والخلاق والمبدع، فهو يتحول إلى مجرد مستهلك غبي لبضاعة راقية.

ثمة عالم بكامله أنهار أو هو يوشك على الانهيار. وفي منطقتنا، أدى انهيار المثال القومي إلى انبثاق مثائل متعددة ذات إغراء وفتنة، كالكيان والانتماء إلى الطائفة والمذهب والعشيرة والعائلة. وبانهيار هذا المثال، استبدل الكثير من المثقفين المشروع الحضاري الموعود بمشاريع لتسويق التخلف العربي تغتذي بالفقه والتدين الشعبي وإيمان العجائز وركام التراث ومزابله. كذلك تسبب انهيار المثال الماركسي بتداعيات كثيرة ومتسارعة. فالأفكار النقدية المنبثقة من الماركسية، بالتحديد، تحولت على أيدي الأيديولوجيين المحترفين إلى سكولاستيكية عاجزة عن الإمساك بالواقع أو فهمه، وهذا أرغم الفكر على إنكار الواقع الماثل أمام أعيننا، وصارت المفاهيم الاجتماعية المنبثقة من الماركسية لا تنطلق من الواقع الاجتماعي العياني وإنما تبحث في الواقع عما يتلاءم وهذه المفاهيم. وهنا بالذات كان يكمن سر العطب الذي أدى إلى موتها.

نعم، إن الدور التبشيري للمثقف يتراجع بلا ريب. لكن دوره النقدي والحواري والسجالي لم يضمحل قط. فالتقدم، أو التغيير، لا ينطلق من الفكر وحده، بل من الواقع أيضاً. ولأنه يجب أن ينطلق من الواقع، فللمثقفين هنا شأن كبير ومهم. حتى المثقف المعزول يمكن أن يكون له تأثير كبير جداً في هذا السياق. فماركس، مثلاً، كان "مثقفاً" معزولاً وصارت نظريته في كل مكان وهو لم يكن في أي مكان؛ كان يدخل مكتبة المتحف البريطاني في التاسعة صباحاً ليغادرها في التاسعة ليلاً، وكان وهو في هذه الحال الأقدر على التأثير والتحريض على تغيير العالم من عشرات الفرق التي كانت تمارس الركض الحيواني في المدن والأرياف سعياً لاكتساب العناصر والمناصرين لمنظماتها.

والثقافة، في جانب مختلف، أحد عناصر الاندماج الاجتماعي. وهي عنصر ضروري ولا بد منه لتأسيس نظام اجتماعي[6]. إنها كالمِلاط الذي لا غنى عنه لجمع شتات المجتمع وفرقه وجماعاته وانقساماته. و"المثقف فاعل فكري يسهم في عقلنة السياسات والممارسات (...). إنه يتوسط بين الدول والمجتمع الأهلي لكي يسهم في الحؤول دون سحق الدولة للأفراد والجماعات (...). المثقف وسيط للحد من الاستبداد والطغيان" (ص 131). ولأن المثقف وسيط يحول دون سحق الأفراد والجماعات، فإن له شأناً مهماً بالضرورة وجديراً بالنقد في آن.

لكن يبدو أن الصورة الغالبة للمثقف لدى علي حرب هي صورة مثقف الأحزاب صاحب العقيدة والمدافع عنها والمروِّج لدعايتها، وهي صورة تختلط بصورة الإعلامي في الصحافة الحزبية والعقيدية أو القريبة منها. ويبدو أن علي حرب عندما بادر إلى "نقد المثقف" والنخبة كانت تتجمع في ذهنه تجربة الحركة الثقافية في لبنان عندما انهارت جميع الحركات السياسية المعارضة، والأفكار والعقائد، ومقولات اليسار واليمين، والماركسية بفرَقِها وشِيَعِها الماوية والتروتسكية والغيفارية والبلانكية والمجالسية.

كانت بيروت، وقتذاك، مشروع مدينة متوثبة ومختبراً للأفكار والحركات والعقائد، فصارت مختبراً للحروب، والانهيارات، والقتل العشوائي، والصعود الهمجي للمذاهب، وتدمير المدينة، وانحطاط النخب، والإثراء الفردي المتوحش، ودونية المثقف، وانتهازية الكاتب، وتنمر القادة، ولؤم السلطات، واستكانة الجماهير، وحماقة المسالمين، وشراسة الغوغاء والرعاع والمحاربين. لكن لبنان هو بلد التجارة بامتياز؛ فالمروِّجون فيه كثر، أمّا الصانعون فقلة. لهذا ازدهرت فيه الصحافة ووسائل الإعلام والمصارف، وتراجع الفكر.

لا يوجد في لبنان مفكرون مميزون، وإن ازدحم بالمتعلمين وأنصاف المتعلمين ومدّعي العلم. حتى الذين نبغوا فيه ولمعوا في سمائه من المفكرين ليسوا، في معظمهم، من اللبنانيين[7]. أمّا في المرات القليلة التي أنتج لبنان فيها مفكرين، فقد جاء أولئك المفكرون على شاكلة شارل مالك.

إن علي حرب هو كسر للقاعدة. فها هو ينضم إلى القلة القليلة من المفكرين العرب النقديين بلا أدنى ريب. وكتابه "أوهام النخبة" وإن تفوّق على كتبه العشرة الأُخرى، فهو يضيف إليها مدماكاً جديداً في عمارته الفكرية اللامعة.n

 

[1] علي حرب، "أوهام النخبة أو نقد المثقف" (بيروت - الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1996)، 135 صفحة.

[2] بيروت: دار الطليعة، 1974.

[3] علي حرب، "أطروحات في الفكر والهوية"، مجلة "أبواب"، العدد 6، خريف 1995، ص 45.

[4] أنظر، على سبيل المثال: وليد نويهض، "النخبة ضد الأهل" (بيروت: دار ابن حزم، 1994). لكن وليد نويهض يختلف، تماماً، عن علي حرب في منطلقاته وفي النتائج التي توصل إليها.

[5] أنظر: علي حرب، "مسيرة التقدم والحداثة بين أنصاف زينون وأشبار أركون"، "الحياة"، 18/11/1996.

[6] من وجهة نظر تاريخية وسوسيولوجية وحضارية، أي علمية بالتمام، من المحال تأسيس نظام اجتماعي خارج الدولة.

[7] من السوريين فقط نذكر: قسطنطين زريق وإدمون ربّاط وصادق جلال العظم وأدونيس ومطاع صفدي وجورج طرابيشي