Egyptian-Palestinian Relations: An Analytical View
Keywords: 
العلاقات الفلسطينية - المصرية
الدولة الفلسطينية
العلاقات الخارجية الفلسطينية
مصر
Full text: 

مقدمة

تمر العلاقة بين مصر والسلطة الفلسطينية بمرحلة تتسم بخصوصية شديدة. ويكفي أن نتأمل في وتيرة اللقاءات التي تُعقد بين المسؤولين الفلسطينيين والمصريين، على المستويات كافة، لندرك المدى الذي وصلت كثافة التفاعلات المصرية - الفلسطينية إليه في الوقت الراهن. إذ لا يكاد يمر يوم واحد من دون عقد لقاء واحد أو أكثر من هذه اللقاءات. كما أن معدل اللقاءات بين الرئيسين مبارك وعرفات يفوق كثيراً معدل لقاءات كل منهما بأي من رؤساء الدول الأُخرى. ويعد ذلك أحد المؤشرات المهمة والرئيسية إلى وصول علاقات التعاون بين الطرفين إلى مرتبة عالية جداً تستدعي مثل هذا المقدار من التنسيق والتشاور المكثف.

ولأن العلاقات المصرية - الفلسطينية مرت بمراحل متذبذبة بين تعاون وصل إلى حد التطابق شبه الكامل في المواقف وبين تصارع وصل أحياناً إلى حد القطيعة أو الحرب الكلامية، فإن الوضع الراهن قابل للتطور، سواء في اتجاه مزيد من التعاون أو في اتجاه ارتداد معاكس. ومن هنا، فإن فهْمنا مستقبل العلاقات بين مصر والسلطة الفلسطينية يتوقف على قدرتنا على تحديد العوامل المؤثرة في هذه العلاقات وتحليلها. وهذه العوامل يمكن حصرها في ثلاثة: أسلوب إدارة الصراع مع إسرائيل؛ الدور الإقليمي؛ الطبيعة الخاصة والسمات المميزة للسلطة الفلسطينية وللدولة والسلطة في مصر. وسنتناول كلاً من هذه العوامل بالتحليل.

أولاً: إدارة الصراع مع إسرائيل

شكل المشروع الصهيوني لإنشاء دولة يهودية على الأرض الفلسطينية خطراً على مصر أيضاً، وهذا ساهم في إنشاء أرضية مشتركة التقت فوقها الأهداف والمصالح المصرية والفلسطينية. ومع ذلك، فقد كان من الطبيعي أن تدرك مصر مخاطر هذا المشروع على نحو مختلف عن إدراك فلسطين لهذه المخاطر. فقيم دولة يهودية على حدود مصر الشرقية، وارتباط هذه الدولة ارتباطاً عضوياً بالقوى المهيمنة في النظام الدولي، شكّلا خطراً على أمن مصر الوطني واستقلالها، وهددا مصالحها في المشرق العربي، في حين أنهما كانا بالنسبة إلى فلسطين خطراً على الوجود ذاته وعلى المصير، وهددا الشعب والأرض والهوية. وقد أدى هذا التباين في الإدراك، تلقائياً، إلى تباين في السياسات والرؤى بشأن أسلوب التعامل مع هذا الخطر، وذلك بسبب حجم المصالح المعرضة للتهديد ونوعيتها ومستواها. فبالنسبة إلى فلسطين، مثَّل الصراع مع المشروع الصهيوني "مباراة صفرية" شكّل أي مكسب فيها بالنسبة إلى طرف خسارة صافية بالنسبة إلى الطرف الآخر. أمّا بالنسبة إلى مصر، فكان من الممكن، نظرياً على الأقل، تصور إمكان التوصل إلى تسوية ما لأن الصراع المصري - الصهيوني ليس بالضرورة من نوع "المباريات الصفرية". ولذلك، يلاحظ أن علاقة مصر بالسلطة الفلسطينية كانت تقوى دائماً وتزداد تلاحماً كلما ازداد الصراع بين مصر والمشروع الصهيوني سخونة واشتعالاً، والعكس صحيح.

حتى حرب سنة 1948، كانت الأهداف والمصالح المصرية والفلسطينية، ولا سيما بعد اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936، تتجه نحو التلاقي إلى حد التطابق الكامل من أجل تحقيق الهدف المشترك، وهو الحيلولة بكل الوسائل الممكنة دون قيام دولة يهودية مستقلة في فلسطين. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، شاركت قوات مصر العشبية في جيش الإنقاذ، ثم شاركت قوات مصر الرسمية في حرب سنة 1948.

غير أن هزيمة سنة 1948 أدت إلى ظهور عاملين جديدين كان لهما تأثيرات مستقبلية بعيدة المدى في علاقة مصر بالسلطة الفلسطينية: الأول هو أن إسرائيل أصبحت أمراً واقعاً، ودولة يعترف العالم بها بعد القبول بها عضواً في الأمم المتحدة وترتبط مصر معها باتفاق هدنة أُبرم سنة 1949؛ والعامل الآخر هو غياب مرجعية مؤسسية فلسطينية تعبّر عن الشعب الفلسطيني كله وتتحدث باسمه، وخصوصاً بعد إقدام إمارة شرق الأردن على ضم الضفة الغربية إليها وإعلان قيام المملكة الأردنية الهاشمية، وخضوع قطاع غزة للإدارة المصرية لكن من دون ضمه إلى مصر. وفي ظل غياب هذه المرجعية الفلسطينية، أصبحت العلاقات المصرية - الفلسطينية، وخصوصاً منذ فشل مشروع "حكومة عموم فلسطين" حتى قيام منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964، جزءاً من كلٍ أوسع هو العلاقات المصرية - العربية.

وعلى الرغم من أن الوثائق التاريخية تشير إلى أن مصر كانت مستعدة، نظرياً على الأقل، ولا سيما خلال فترة 1949 - 1950، لأن تقبل بتسوية سياسية مع إسرائيل، فإن العلاقات المصرية - الفلسطينية لم تشهد حتى سنة 1967 توترات حادة، وذلك لسببين: الأول، رفض إسرائيل رفضاً باتاً شرطي التسوية المصرية، وهما وضع النقب تحت السيطرة العربية ضماناً للتواصل الجغرافي بين مصر والمشرق العربي، وتطبيق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لسنة 1948 الخاص باللاجئين الفلسطينيين على أساس العودة و/أو التعويض. والسبب الآخر هو دخول العلاقات المصرية - الإسرائيلية مرحلة تصعيد جديد، وخصوصاً بعد اشتراك إسرائيل مع بريطانيا وفرنسا في مؤامرة العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، وهو الأمر الذي أدى إلى تطابق المصالح والأهداف المصرية والفلسطينية مرة أُخرى.

بيد أن هزيمة سنة 1967 خلّفت نتائج بعيدة المدى، وغرست بذور انشقاق بين المصالح المصرية، كما عبّرت السلطة المصرية عنها، وبين المصالح الفلسطينية، كما عبّرت منظمة التحرير عنها؛ فقد أدت هذه الهزيمة القاسية إلى إدخال تعديل جوهري في الإدارة العربية للصراع مع إسرائيل، وذلك عن طريق التمييز بين مرحلتين: مرحلة إزالة آثار عدوان سنة 1967، وهي مرحلة لم تكن تعني الفلسطينيين كثيراً - وخصوصاً في ظل إمكان أن ينجم عنها عودة الأوضاع الفلسطينية إلى ما كانت عليه قبل سنة 1967 - واستندت مرجعيتها إلى القرار رقم 242؛ ومرحلة لاحقة يمكن خلالها البحث في مسألة الحقوق الفلسطينية.

وكان قبول مصر بالقرار رقم 242، الذي لا يشير إلى القضية الفلسطينية إلا من زاوية بُعدها الإنساني المتمثل في اللاجئين، هو بداية الخلاف والتوتر العلني بين مصر ومنظمة التحرير. غير أن استمرار الرئيس عبد الناصر في تأكيد أن ما أُخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، واندلاع حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية، وتفجر عمليات المقاومة الفلسطينية المسلحة انطلاقاً من الجبهة الأردنية، كل ذلك عوامل ساهمت في احتواء الخلاف وتحجيمه والالتفات نحو متطلبات النضال المسلح ضد الخطر المشترك. لكن قبول عبد الناصر بمبادرة روجرز وبوقف إطلاق النار على الجبهة المصرية أدى مجدداً إلى تفجر الخلاف بين مصر ومنظمة التحرير وبروز تباين واضح في المصالح. فعلى الرغم من أن هدف عبد الناصر من قبوله بوقف إطلاق النار كان إتاحة الفرصة لبناء حائط الصواريخ الضروري لصد الغارات الإسرائيلية على العمق المصري، فإن منظمة التحرير لم تكن قادرة على تفهم طبيعة المصالح المصرية في تلك المرحلة، فصعّدت هجومها العلني على عبد الناصر، وهو ما أدى إلى أزمة حادة في العلاقات المصرية - الفلسطينية نشأ عنها قيام مصر بإغلاق "إذاعة فلسطين من القاهرة". لكن رحيل عبد الناصر، وتعثر جميع محاولات التسوية على أساس المبادرات السلمية التي أطلقها الرئيس السادات، ثم اندلاع حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، كل ذلك عوامل ساعدت في احتواء الخلافات بين مصر ومنظمة التحرير لتتفجر من جديد، لكن بعنف هذه المرة، عندما بدأت مصر، تحت قيادة السادات، تغير سياستها كلياً وتقرر المضي قدماً على طريق البحث عن تسوية سياسية بأي ثمن، حتى لو أدى ذلك إلى تسوية منفردة مع إسرائيل.

وهكذا، فإن الاختلاف بين رؤيتي القيادتين المصرية والفلسطينية لوسائل إدارة الصراع مع إسرائيل في مرحلة ما بعد حرب سنة 1973 هو الذي أدى إلى اتساع الفجوة بينهما على نحو متزايد. ثم تفرقت السبل تماماً بعد قرار السادات زيارة القدس سنة 1977، وهي الزيارة التي أدت إلى قراره عقد اتفاق صلح منفرد مع إسرائيل سنة 1979. وقد أثار هذا القرار ردات فعل فلسطينية صاخبة أفضت بدورها إلى انضمام منظمة التحرير إلى "جبهة الصمود والتصدي"، ومقاطعة مصر رسمياً، والمشاركة في محاولات فرض العزلة عليها عربياً وإسلامياً ودولياً. وبصرف النظر عن الدوافع والاعتبارات التي حدت كلاً من السادات وعرفات على سلوك هذا النهج، والتي سنشير إلى بعضها لاحقاً، فقد راهن كل منهما على جياد مختلفة؛ إذ راهن السادات على قوة مصر الذاتية ومكانتها النسبية في العالم العربي، وراهن على الولايات المتحدة أيضاً. أمّا عرفات، فراهن على المعارضة المصرية وموقع القضية الفلسطينية في الوجدان المصري والعربي عامة، كما أنه راهن على الدعمين العربي والسوفياتي.

وقد أثبتت تطورات الأحداث اللاحقة أن ميزان القوى كان يميل إلى مصلحة الجبهة التي راهن السادات عليها. أمّا الجبهة الأُخرى التي راهن عرفات عليها، فقد تراوح حظها بين النجاح والفشل والصمود والانكسار، لكن ميزان القوى على الأرض اتجه إجمالاً في غير مصلحتها. وعلى سبيل المثال، كان في وسع المعارضة المصرية أن تغتال السادات، لكن لم يكن في وسعها أن تستبدل نظامه بنظام أكثر راديكالية. وكان في وسع تحالف الحركة الوطنية اللبنانية وسورية وإيران والاتحاد السوفياتي أن يجهض اتفاق 17 أيار/مايو 1983 على الجبهة اللبنانية، لكن لم يكن في وسع هذا التحالف أن يحمي منظمة التحرير ويحول دون خروجها من بيروت. وبدا الانكشاف العربي عامة، والسوري خاصة، وكذلك الانكشاف السوفياتي، واضحة جداً في أثناء الأزمة اللبنانية، على الرغم من علامات الصمود النسبي التي ظهرت بعد ذلك. لكن تدهور مكانة السوفيات على الصعيد الدولي بعد وصول غورباتشوف إلى السلطة، وفتح باب الهجرة إلى إسرائيل أمام اليهود السوفيات، ساعدا في زيادة هذا الانكشاف.

وأدى تغير القيادة السياسية في مصر من ناحية وانهيار "جبهة الصمود والتصدي" من ناحية أُخرى، وخصوصاً بعد خروج منظمة التحرير من بيروت، إلى نشوء أرضية جديدة لتقارب مصري - فلسطيني. فقد أدركت القيادة المصرية الجديدة أن السلام إمّا أن يكون شاملاً وإمّا لا يكون هناك سلام على الإطلاق، وأن إشراك منظمة التحرير في عملية التسوية هو المدخل الصحيح، لا لأنه يكسر نطاق العزلة المفروضة على مصر فحسب، بل لأنه أيضاً شرط لا غنى عنه لتوسيع نطاق التفاوض والتحرك على طريق التسوية الشاملة. ومع ذلك، لم تكن القيادة المصرية مستعدة لأي تغيير مفاجئ في سياستها، فانتهجت خطاً براغماتياً يقوم على البناء فوق المكسب الوحيد الذي تحقق من اتفاق الصلح مع إسرائيل، أي عودة سيناء، وتجنب أية خطوة أو مغامرة قد تعرض هذا المكسب للخطر. وحاولت مصر في الوقت نفسه استغلال جميع الفرص المتاحة للحركة والضغط والمناورة لدعم مطالب الأطراف العربية الأُخرى وحقوقها. وعلى الناحية الأُخرى، أدركت القيادة الفلسطينية أن الحرب من دون مصر مسألة غير واردة، وأن زمن المقاومة المسلحة ضد إسرائيل انطلاقاً من أراض عربية مجاورة ولّى، ولم يبق سوى إعادة ترتيب الأوراق من أجل تحسين موقف المنظمة التفاوضي تمهيداً للانضمام إلى عملية التسوية حين يجيء أوانها. وفي هذا السياق، لم يعد التنسيق المصري - الفلسطيني ممكناً فحسب، بل ضرورياً أيضاً بالنسبة إلى الطرفين.

بدأت هذه المرحلة من التنسيق والتشاور بين القيادتين فور خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت. وحاولت كل واحدة منهما جر الأُخرى انطلاقاً من أرضيتها وأولوياتها في ظل نظام عربي وإقليمي ودولي يتغير بمعدلات سريعة الإيقاع. ولا يتسع المجال هنا لعرض تفصيلات القضايا التي شملها هذا التنسيق والتشاور، لكن من الواضح أن مصر بذلت جهداً كبيراً جداً لإدخال المنظمة في نسيج عملية التسوية، سواء من خلال المساعدة في التوصل إلى صيغة تعاون مع الأردن تسمح بالالتفاف حول عقبة اشتراك منظمة التحرير في عملية التفاوض اشتراكاً مباشراً، أو من خلال المساعدة في فتح قنوات اتصال سري بين المنظمة من ناحية وبين كل من الولايات المتحدة وإسرائيل من ناحية أُخرى.

ومع ذلك، ولأن هذا التنسيق المصري - الفلسطيني في سبيل الدفع في اتجاه التسوية الشاملة لم يصحبه تغير نوعي في موازين الصراع لمصلحة الطرف العربي، وجد الطرف الفلسطيني نفسه مطالَباً على الدوام بتقديم تنازل تلو آخر. وكان من الممكن أن يؤدي اندلاع الانتفاضة الفلسطينية وعودة مصر إلى الصف العربي إلى تحسين موقف العرب التفاوضي إجمالاً، لكن العناد الإسرائيلي والدعم الأميركي غير المشروط، ثم انفجار النظام العربي من داخله بإقدام العراق على غزو الكويت، كل ذلك عوامل أدت إلى إضعاف النظام التفاوضي العربي على نحو خطِر. ومع أن أزمة الخليج نفسها باعدت بين الموقفين المصري والفلسطيني بعض الوقت، إلاّ إنه ما أن بدأ التمهيد لعقد مؤتمر مدريد حتى عادت قوة الدفع في العلاقات بين مصر ومنظمة التحرير إلى سابق عهدها، بل أكثر. ويلاحظ أن التنسيق المصري - الفلسطيني في مرحلة ما بعد مدريد سار في اتجاهين متوازيين: الأول، قيام مصر بوضع خبراتها التفاوضية مع إسرائيل وما تملكه من وثائق في تصرف الوفد الفلسطيني في مدريد؛ والآخر، استمرار الجهود الرامية إلى فتح قنوات اتصال مباشر بين المنظمة والولايات المتحدة ثم بين المنظمة وإسرائيل، وخصوصاً بعد وصول حزب العمل بقيادة رابين إلى السلطة.

وتشير الكتابات التي صدرت مؤخراً، وتناولت بالتحليل الملابسات التي أدت إلى المفاوضات السرية بين المنظمة وإسرائيل في أوسلو، إلى أن مصر كانت تعلم بهذه المفاوضات، وأن عرفات أحاط الرئيس مبارك علماً بنتائجها عندما أصبح الاتفاق جاهزاً للتوقيع. لكن ليس هناك ما يقطع بوجود مشاورات مصرية - فلسطينية بشأن نصوص الاتفاق قبل التوقيع، وربما كان السبب رغبة منظمة التحرير في إحاطة النصوص بأكبر قدر ممكن من السرية، والتصرف كطرف مستقل لا يتلقى تعليمات من أحد. ويضاف إلى ذلك أن مصر نفسها كانت حريصة على أن تتحمل المنظمة كامل المسؤولية عما تقبل أو لا تقبل بتوقيعه، وأن تنفي عن نفسها شبهة ممارسة أية ضغوط على المنظمة. ومن هنا تبدو المفارقة بشأن طبيعة الدور المصري؛ فمن دون جهود الدبلوماسية المصرية وتشجيعها، كان من الصعب أن تصل المنظمة إلى محطة أوسلو وتوقع هناك ما وقعته. لكن ما حصلت المنظمة عليه في أوسلو لم يكن سوى انعكاس لعلاقات القوى بين الطرفين، وهي علاقات كانت تميل إلى مصلحة إسرائيل بصورة حاسمة. ولذلك، لم يكن غريباً أن يثير اتفاق أوسلو تحفظات شعبية في مصر بلغت حد المعارضة الصريحة والعنيفة في بعض الأوساط، وأن يثير أيضاً قلقاً مكتوماً داخل الأوساط الرسمية نفسها.

لا مجال هنا لتحليل اتفاق أوسلو بالتفصيل، لكن يعنينا أن نوضح بعض آثاره المستقبلية المحتملة في العلاقات الفلسطينية - المصرية. فالاتفاق يبدو أنه صُمم خصيصاً لفصل فلسطين، أو ما بقي منها، عن مصر، ووضعها، مع الأردن، تحت الوصاية الإسرائيلية، وتشكيل مثلث أو محور إسرائيلي - فلسطيني - أردني يكون ركيزة أو قاعدة السوق أو المشروع الشرق الأوسطي الذي هو غاية إسرائيل أو طموحها، وفقاً لرؤية بيرس. بعبارة أُخرى، يمكن إعادة تحديد معالم الطريق الذي رسمته أوسلو، من وجهة نظر بيرس، على النحو التالي:

1) إعادة نشر القوات الإسرائيلية التي يتعين سحبها من المدن الفلسطينية الكبرى خلال فترة وجيزة نسبياً، ومن ثم لا يبقى مبرر لاستمرار الانتفاضة.

2) تأجيل القضايا الرئيسية الكبرى، مثل المستوطنات والقدس واللاجئين، إلى مرحلة لاحقة تجري فيها مفاوضات بشأن المرحلة النهائية تمتد ثلاثة أعوام لاختبار قدرة سلطة الحكم الذاتي على الاستمرار.

3) خلال هذه الفترة، تكون سلطة الحكم الذاتي قد استطاعت، بمساعدة من إسرائيل، تحطيم "المنظمات الإرهابية"، مثل "حماس" و"الجهاد"، وبالتالي القضاء على المعارضة الفلسطينية الراديكالية التي قد تشكل عقبة أمام القبول بالحل النهائي، كما تتصوره إسرائيل.

4) تبدأ خلال هذه الفترة نفسها، وبالتوازي، عملية دمج الاقتصادين الفلسطيني والأردني في إطار الاقتصاد الإسرائيلي، ووفقاً لشروط الأخير ومقتضيات توسعه، ويتم في الوقت نفسه البحث عن شكل آخر لتعاون اقتصادي إقليمي تسقط بفعله المقاطعة الاقتصادية العربية وتبدأ عملية التطبيع العربي - الإسرائيلي بمعناه الواسع، من دون انتظار مفاوضات المرحلة النهائية.

وبصرف النظر عن أهداف إسرائيل وطموحاتها، فقد تعاملت مصر مع الاتفاق بطريقة براغماتية بحتة، واعتبرته خطوة مهمة يتعين استثمار إيجابياتها ومحاولة محاصرة سلبياتها أولاً بأول. ولهذا ألقت مصر رسمياً، على الرغم من مخاوفها ومصادر قلقها، بكل ثقلها لدعم منظمة التحرير وإنجاح الاتفاق. وشهد التنسيق المصري - الفلسطيني منذ توقيع الاتفاق حتى الوقت الحاضر ذرى لم يصل إليها من قبل، للتغلب، بالتعاون مع إسرائيل والولايات المتحدة، على العقبات الهائلة التي اعترضت تحويل المبادئ العامة إلى اتفاق قابل للتنفيذ على الأرض، ثم لإزالة العقبات التي اعترضت عملية التنفيذ نفسها إلى درجة أن مصر أصبحت تبدو أيضاً طرفاً مسؤولاً بصورة مباشرة عن تنفيذ الاتفاق لا مجرد شاهد عليه. كما حرص الرئيس مبارك على أن يرافق بنفسه ياسر عرفات في الطائرة الرئاسية إلى العريش، وهناك قام رئيس الوزراء المصري بمرافقة عرفات إلى مدخل رفح.

وقد اتضح من تطورات الأحداث اللاحقة أن الاتفاق الفلسطيني - الإسرائيلي، الذي جاء ثمرة جهد وتنسيق مصريين متواصلين، آثار بالنسبة إلى مصر عدداً من الإشكالات الجديدة، التي تعين عليها أن تتعامل معها. من هذه الإشكالات:

1) إطلاق العنان لبعض الدول العربية للهرولة في اتجاه تطبيع علاقاته بإسرائيل من دون انتظار استكمال مسيرة السلام. ولم تكن مصر سعيدة بهذا التطور، وأبدت تحفظاتها حياله، الأمر الذي أثار حفيظة إسرائيل.

2) كشْف حقيقة ما تطمح إسرائيل إلى القيام به على صعيد الدور الإقليمي، وخصوصاً بعد أن أفصح بيرس في مؤتمر الدار البيضاء عن أن قيادة مصر للمنطقة أفضت إلى كارثة، وأن على إسرائيل أن تتقدم لقيادة هذه المنطقة نحو الرخاء والاستقرار!! وهو ما ساعد في تفجير الصراع المصري - الإسرائيلي المتوقع بشأن موقع كل من مصر وإسرائيل على خريطة الشرق الأوسط "الجديد".

3) بروز حجم وثقل القوى الرافضة للاتفاق داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، ولا سيما بعد مصرع رابين ووصول نتنياهو إلى الحكم، وهو تطور أدى إلى تجميد الاتفاق نفسه، وتجميد عملية السلام برمتها.

وفي ظل هذا الوضع الجديد، تبدو علاقة مصر بالسلطة الفلسطينية متلاحمة ومتماسكة على نحو عضوي لا فكاك منه، نظراً إلى أن السلطة الفلسطينية بأمس الحاجة إلى الحماية والمساندة في ظل الصلف الإسرائيلي الحالي. وتدرك مصر الآن أنه يستحيل عليها أن تقبل بالمشروع الإسرائيلي المتعلق بالمنطقة، وخصوصاً وفقاً لرؤية نتنياهو، الذي يعتقد أن في إمكانه أن يفرض على العرب المشروع الشرق الأوسطي الذي تكون إسرائيل الكبرى فيه قاعدة له. إن مثل هذا المشروع يشكل خطراً كبيراً على أمن مصر القومي وعلى دورها في المنطقة، ويعيد طرح التساؤلات القديمة ذاتها التي كانت مصر تطرحها على نفسها قبل قيام الدولة الإسرائيلية. ومن ناحية أُخرى، تشعر مصر بمسؤولية واضحة تجاه السلطة الفلسطينية، لا بسبب الدور المصري في الاتفاق المبرم فحسب، بل لأن مصر أيضاً لا تستطيع أن تترك ما بقي من فلسطين فريسة لإسرائيل، لأنها إذا فعلت ذلك تكون قبلت بأُولى أهم الخطوات الرامية إلى فرض الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة بكاملها.

في هذا السياق، يبدو التنسيق المصري - الفلسطيني مهماً وضرورياً للطرفين من أجل دعم وحدة الشعب الفلسطيني في الداخل، وكي يكون ركيزة التنسيق العربي - العربي، ثم العربي - الدولي، من أجل تنظيم الضغط على إسرائيل، وفي الوقت نفسه إعادة ترتيب البيت العربي لمواجهة التحديات الجديدة.

وهكذا، نعود إلى القانون الثابت نفسه الذي يحكم العلاقات المصرية - الفلسطينية، وهو أن التلاحم بين الطرفين يبرز حتماً في ظل تصاعد الصراع المصري - الإسرائيلي. لكن السؤال الذي يتعين طرحه الآن هو: هل الهدف من التنسيق الحالي تحريك عملية السلام فقط كي يُستكمل تنفيذ اتفاق أوسلو، أم أنه البدء بوضع تصور عربي جديد للمنطقة في ظل سلام شامل لم يتحقق بعد؟ إن التحرك في سياق الهدف الأول يعني أن التنسيق مطلوب لمرحلة معينة، وهو بالتالي يعرض العلاقات المصرية - الفلسطينية لمخاطر مستقبلية مؤكدة. أمّا التحرك على أرضية الهدف الآخر، فمن شأنه أن يحصّن العلاقات المصرية - الفلسطينية ضد مخاطر الإلحاق الإسرائيلي لما بقي من فلسطين بوسائل أُخرى، كما سنشير إلى ذلك لاحقاً.

ثانياً: الدور الإقليمي

تُعتبر تفاعلات النظام العربي أحد المحددات الرئيسية لعلاقة مصر بالسلطة الفلسطينية. وللنظام العربي خصائص وسمات معينة تميزه من جميع النظم الإقليمية الأُخرى في العالم؛ فهو، من ناحية، نظام يسوده شعور عام بالانتماء إلى أمة واحدة على الرغم من واقع التجزئة، وتطمح شعوبه إلى تحقيق الوحدة فيما بينها، بصرف النظر عن صيغة هذه الوحدة أو عن أسلوب تحقيقها. وقد استطاعت القضية الفلسطينية أن تفرض نفسها (منذ اللحظات الأُولى لإنشاء جامعة الدول العربية، الإطار المؤسس للنظام العربي) باعتبارها قضية العرب الأُولى والتجسيد العملي الحي لقومية النظام العربي. لكن هذا النظام، من ناحية أُخرى، نظام تقليدي تحكمه موازين القوى وتتنافس في قيادته دول أو زعامات أو تجمعات معينة. ولهذا، يلاحظ أيضاً أن أية دولة عربية تطمح إلى قيادة النظام العربي أو إلى التنافس في زعامته كان يتعين عليها أن تتبنى القضية الفلسطينية أو أن ترتبط بعلاقة خاصة بالشعب الفلسطيني أو بالسلطة الفلسطينية. ومن دون فهم تلك الأنماط المميزة للتفاعلات العربية - العربية، وموقع القضية الفلسطينية منها، يصعب فهم طبيعة علاقة مصر بالسلطة الفلسطينية وخصوصيتها، أو تفسير بعض المواقف المصرية من السلطة الفلسطينية، والعكس صحيح.

الواقع أن مصر، وفي العهود كلها، حددت الكثير من مواقفها تجاه القضية الفلسطينية عامة، وتجاه السلطة الفلسطينية خاصة، من منظور تأثير هذه القضية في دور مصر الإقليمي وفي مصالح مصر في العالم العربي ككل، وفي المشرق العربي تحديداً. وكان بين الدوافع التي حدت مصر على دخول حرب سنة 1948 للحيلولة دون قيام دولة يهودية على حدود مصر الشرقية، إدراكها أن مثل هذه الدولة يمكن أن يشكل حاجزاً جغرافياً يحول دون اتصال مصر بالمشرق العربي، وحاجزاً سياسياً يمكن أن يؤدي إلى إضعاف (إن لم يكن إلى تهديد) دور مصر الإقليمي في العالم العربي ككل، وحاجزاً اقتصادياً يضر بمصالح مصر الاقتصادية في العالم العربي. ولا يزال هذا الإدراك عميقاً لدى النخبة المصرية، على الرغم من حدوث تغير في إدراك هذه النخبة على صعيد أسلوب إدارة الصراع مع إسرائيل.

ويلاحظ أيضاً أن مصر أظهرت خلال المرحلة الأُولى لاستكشاف إمكان التوصل إلى تسوية مصرية - إسرائيلية (1949 - 1955)، سواء في عهد الملك فاروق أو في عهد عبد الناصر، إصرارها على أنه لا بد لأية تسوية من أن تتضمن تخلي إسرائيل عن منطقة النقب ووضعها تحت السيادة العربية، المصرية أو الأردنية، ضماناً لاتصال مصر بالمشرق العربي جغرافياً.

ولأن مصر كانت تتصور لنفسها دوراً إقليمياً، بوصفها الدولة المؤهلة طبيعياً لقيادة العالم العربي، فقد كان لها على الدوام موقف معارض لأية تحالفات أو تجمعات أو تجارب وحدوية موجهة نحو تقليص نفوذها في العالم العربي أو لا تكون طرفاً فيها. ومن هذا المنطلق، عارضت مصر مشروعي سورية الكبرى والهلال الخصيب، وجميع المشاريع الوحدوية التي كانت تقودها الأُسرة الهاشمية في المنطقة، وكانت فلسطين جزءاً منها. وبعد هزيمة سنة 1948، اعترضت مصر بشدة على قيام الأردن بضم الضفة الغربية إليه، ثم خشيت أن تؤدي الاتصالات الأردنية - الإسرائيلية، التي كانت تجري سراً في أثناء الحرب وبعدها، إلى قيام علاقة خاصة بين الأردن وإسرائيل تكون موجهة ضد مصر في الأساس. ولذلك، سارعت مصر إلى محاولة قطع الطريق على الأردن، وتقدمت بمشروع القرار الشهير الخاص بقومية القضية الفلسطينية إلى مجلس جامعة الدول العربية سنة 1950، وهو القرار الذي حرّم أن تقوم أية دولة عربية، بمفردها، بالتشاور أو بإجراء مفاوضات أو توقيع أية اتفاقات مع إسرائيل، وفرض على الدول الأعضاء في الجامعة مقاطعة أية دولة عربية تقدم على مثل هذه التصرفات، واعتبارها مفصولة من الجامعة. وقد ترسخت هذه السياسة كثيراً واستقرت بديهيةً أو مسلّمةً في ظل زعامة مصر الناصرية للعالم العربي، ولا سيما خلال الخمسينات والستينات.

ومع ذلك، فإن التنافس التقليدي بين الدول والزعامات العربية من ناحية، وموقع القضية الفلسطينية في الوجدان العربي من ناحية أُخرى، أديا إلى نتائج وسياسات وآثار بعيدة المدى ومتناقضة، سواء بالنسبة إلى العالم العربي ككل أو بالنسبة إلى مصير القضية الفلسطينية. فالدول العربية المعنية بالصراع مع إسرائيل، أو الطامحة إلى القيام بدور إقليمي، سعت لأن يكون لها فصيل يتحدث باسمها داخل الصيغة الفلسطينية، وخصوصاً بعد قيام منظمة التحرير. وكانت مصر الدولة الوحيدة التي امتنعت من ممارسة هذه السياسة لأسباب سنوضحها في موضع لاحق. وفي هذا السياق، كان من الطبيعي أن تتأثر قرارات المنظمة، ومنها القرارات المتعلقة بالعلاقة بمصر، بالتوازنات داخل تركيبة المنظمة نفسها، وكذلك بالتوازنات العامة داخل العالم العربي. ومن ناحية أُخرى، حاولت منظمة التحرير أن تستغل هذا الوضع التوازني أو التنافسي في العالم العربي لتمكين نفسها من الحصول على أكبر قدر ممكن من الاستقلال وحرية الحركة، وذلك من خلال اللعب بالتناقضات العربية كي لا تتحول هي إلى أداة في يد أية دولة عربية أو نظام عربي أو زعيم عربي.

وتفسر هذه التوازنات ونمط التفاعلات العربية بعض المواقف الفلسطينية، منها مثلاً خلاف المنظمة مع مصر الناصرية بشأن القبول بالقرار رقم 242 والقبول بمبادرة روجرز.. إلخ. كما أنها تفسر جانباً من أسباب تناقض المنظمة الحاد مع سياسات مصر الساداتية، ولا سيما بعد زيارة السادات للقدس وتوقيعه معاهدة سلام منفصلة مع إسرائيل. وتفسر أيضاً لماذا قرر ياسر عرفات زيارة مصر في عهد مبارك بعد خروجه من بيروت في سياق خلافاته الحادة مع سورية في ذلك الوقت.. إلخ.

والواقع أن التدقيق في العلاقات المصرية - الفلسطينية، من منظور العلاقات العربية - العربية الأوسع وموقع القضية الفلسطينية في سياق التنافس في الدور الإقليمي، يشير إلى وجود نمط خاص لهذه العلاقات، يدفع دوماً في اتجاه التلاحم بين مصر والسلطة الفلسطينية أو، بمعنى أدق، بين مصر والتيار الرئيسي في الحركة الفلسطينية بصورة عامة.

ومع ذلك، فإن الأمر لا يخلو من استثناءات إمّا بسبب التجاوز الفلسطيني للسقف الطبيعي لهذه العلاقة (وهو ما حدث عندما تصورت منظمة التحرير أنها تمثل طليعة الثورة العربية الشاملة، وأن في استطاعتها تحريك الشارع العربي حتى بما يتجاوز زعامة عبد الناصر نفسه، فلم تتردد بالتالي في دخول صراع علني معه بسبب قبوله بمشروع روجرز وقرار وقف إطلاق النار سنة 1970)، وإمّا بسبب التجاوز المصري للسقف الطبيعي لهذه العلاقة (وهو ما حدث عندما تصور السادات أن في وسعه أن يحافظ على دور مصر الإقليمي حتى لو انسحبت مصر فعلاً من معادلة الصراع مع إسرائيل). وكانت النتيجة في الحالتين مأساوية، ودفع الفلسطينيون ثمناً باهظاً. ففي الحالة الأُولى اندلعت أحداث أيلول/سبتمبر الأسود في الأردن سنة 1970، وفي الحالة الأُخرى سنحت الفرصة لإسرائيل كي تصول وتجول في لبنان وتتمكن من إخراج منظمة التحرير منه.

من ناحية أُخرى، يمكن تأكيد وجود علاقة طردية بين مدى صدقية الدور المصري وتأثيره في العالم العربي وبين حالة العلاقات المصرية - الفلسطينية. فكلما تزايدت هذه الصدقية وتزايد هذا التأثير على المستويين الرسمي والشعبي، ازدادت العلاقات المصرية - الفلسطينية متانة، والعكس صحيح. ويصدق هذا في حالات المد القومي العام، كما يصدق في حالات الانحسار أو الانكسار القومي أيضاً. لكن متانة العلاقات المصرية - الفلسطينية تصلح في جميع الأحوال لأن تشكل قاعدة للنهوض العربي في حالات المد، أو قاعدة للصمود العربي ووقف التدهور في حالات الانحسار.

وتؤكد المرحلة الراهنة للعلاقات المصرية - الفلسطينية أن هذه العلاقات يمكن أن تشكل بداية لصمود عربي، وربما لإحياء النظام العربي وإعادة بنائه على أسس جديدة. فالتنسيق والتشاور المستمران بين مصر والسلطة الفلسطينية يشيران إلى استمرار التزام مصر الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية التي تتمثل في حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة. كما أن العلاقة الجيدة التي تربط مصر بالدول الرئيسية في النظام العربي، ولا سيما سورية والسعودية، ساعدت المنظمة في تذليل الكثير من العقبات التي كان يمكن أن تفجر الرفض العربي لاتفاق أوسلو، ومنحتها فرصة لاختبار قابلية تنفيذه على أرض الواقع. فمن المعروف أن مصر ساعدت في فتح أبواب دمشق والرياض أمامي اسر عرفات بعد اتفاق أوسلو. وعندما تعثرت عملية تنفيذ الاتفاق على أرض الواقع كان البديل دائماً عقد قمة عربية، سواء قمة مصغرة كالتي عقدت بين مصر والسعودية وسورية في الإسكندرية سنة 1995، في إثر إعلان حكومة رابين مصادرة أراض فلسطينية في القدس، أو قمة مكتملة كالتي عقدت أول مرة منذ حرب الخليج بعد وصول نتنياهو إلى السلطة.

وأخيراً، يتعين إعادة تأكيد ما أُشير إليه سابقاً، وهو أنه بعد انتهاء مرحلة التسوية المنفردة مع مصر ودخول الدول العربية الأُخرى مجال التسوية وإطارها، عاد الصراع بين مصر وإسرائيل بشأن الدور الإقليمي يطل من جديد، لكن بوسائل أُخرى. وفي هذا السياق، يعود الجدل القديم، لكن في ثوب جديد، بشأن علاقة مصر بالمشرق العربي في ظل احتمالات التسوية. ويبدو من ملاحق التعاون الاقتصادي الملحقة باتفاق أوسلو، ومن التصورات والرؤى الإسرائيلية التي طرحت في مؤتمرات "التعاون الاقتصادي لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" التي عقدت في الدار البيضاء (1994) وعمّان (1995) وأخيراً في القاهرة (1996)، أن إسرائيل لا تسعى للانخراط في نسيج المنطقة كدولة عادية، بل تسعى أساساً لتفتيت النظام العربي تمهيداً للهيمنة على المنطقة، ووسيلتها الأساسية لتحقيق ذلك تشكيل مثلث إسرائيلي - فلسطيني - أردني رأس حربة لاختراق النظام العربي. وهذه الاستراتيجيا تضعف الدور المصري الإقليمي، إن لم تكن تستبعده تماماً، وتحوّل المشرق العربي إلى منطقة نفوذ خاصة بإسرائيل. وفي هذا السياق، لا بد لأية استراتيجيا عربية مضادة من أن ترتكز على تلاحم وتنسيق مصريين - فلسطينيين كاملين كنواة لتنسيق مصري - فلسطيني - أردني - سوري أوسع.

بعبارة أُخرى، إن علاقة مصر بالمشرق العربي، التي كانت في الخمسينات تطرح نفسها في إطار ضرورة أن تكون منطقة النقب عربية، تعود الآن فتطرح نفسها بأشكال وأساليب أُخرى، لكن جوهرها واحد؛ هل تتمكن إسرائيل من فصل مصر عن المشرق العربي، أم أن مصر، في حالة حرب أو في حالة سلم، تتحرك مع المشرق العربي باعتبارهما كتلة واحدة؟

ثالثاً: السمات الخاصة لطرفي العلاقة

تحتل مصر، باعتبارها الدولة القاعدة، موقعاً خاصاً ومتميزاً داخل النظام العربي. كما تحتل السلطة الفلسطينية، باعتبارها تعبيراً عن حركة تحرر وطني ومتحدثاً باسم قضية العرب القومية الأُولى، موقعاً خاصاً ومتميزاً أيضاً داخل النظام العربي. وبالتالي، من الطبيعي أن تشكل العلاقات بين الطرفين نمطاً فريداً من أنماط العلاقات التي تربط أياً منهما بالأطراف العربية الأُخرى. لكن قدرتهما على تحقيق أفضل استثمار ممكن لهذه العلاقات تتوقف على مدى استعداد أي منهما لفهم خصوصية وضع الآخر وسماته المميزة، وهو ما لم يتوفر دائماً.

فالسلطة الفلسطينية صيغة تعبّر عن حركة تحرر وطني لم تستقر بعدُ بصورة نهائية على شكل دولة، وهي بالتالي لا تمثل سلطة بالمعنى الدقيق والمتعارف عليه، سواء في مواجهة الفصائل التي تتكون منها أو في مواجهة الأفراد الذين تتحدث، أو يفترض أنها تتحدث، باسمهم وتعبّر عن مواقفهم وطموحاتهم. وهي تضم فصائل متعددة، لكل منها قيادته الخاصة وأيديولوجيته الخاصة وارتباطاته الخاصة بالأطراف العربية الأُخرى وبالأطراف الدولية. وهناك فلسطينيو الداخل وفلسطينيو الخارج، كما أن هناك عرب فلسطين الذين يعيشون داخل الأرض المحتلة قبل سنة 1967. وقد تأثر القرار الفلسطيني أيضاً، وبصورة دائمة، بهذه التعددية السياسية والأيديولوجية والجغرافية، وعكس نفسه على العلاقات بمصر بشكل أو بآخر.

أمّا مصر، فهي ليست فقط أكبر الدول العربية من الناحية السكانية وأكثرها تجانساً من الناحية الإثنية وأشدها إشعاعاً من الناحية الثقافية والحضارية، بل هي أيضاً دولة نهرية تتسم السلطة فيها بمركزية شديدة، وشعبها يتحلى بنوع غريب من الصبر والتحمّل، ولديه قدرة كبيرة على التكيّف، وعلى التعبير عن الغضب والثورة العارمة أحياناً. ومصر فوق ذلك كله دولة جوار لفلسطين ودولة مواجهة لإسرائيل، وهي من ثم أكثر الأطراف تأثيراً في مسار الصراع العربي - الإسرائيلي، وفي مصير القضية الفلسطينية.

ولقد انعكست هذه السمات على علاقة مصر بالسلطة الفلسطينية؛ فمصر لم تكن بحاجة في أي وقت من الأوقات، بما في ذلك فترات الأزمة في العلاقات المصرية - الفلسطينية، إلى تشكيل فصيل فلسطيني يتحدث باسمها ويعبّر عن سياستها داخل الصيغة أو التركيبة الفلسطينية، مثلما فعل معظم الأطراف العربية الراغبة في أن تقوم بدور إقليمي أو في التأثير في مسار الصراع العربي - الفلسطيني بصورة أو بأُخرى. ولذلك، عملت مصر دائماً على أن يكون للفلسطينيين سلطة مركزية وهيئة سياسية تمثل فئاتهم وتياراتهم كافة. ففي الأعوام التي تلت حرب سن 1948 أيدت مصر قيام حكومة "عموم فلسطين" التي اتخذت من غزة مقراً لها، لكن تعقيدات العلاقات العربية - العربية حالت دون استمرار هذه الصيغة، أو فعاليتها. وعندما نضجت الظروف، قامت مصر بالدور الرئيسي في إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964... إلخ.

ومع ذلك، فإن تطور العلاقات المصرية - الفلسطينية يشير إلى عدم قدرة أو عدم رغبة أو عدم استعداد كل من طرفي العلاقة لفهم خصوصية الآخر بصورة كافية، ولذلك وقع كل طرف منهما في خطأ الحساب أو في سوء التقدير أحياناً. وعلى سبيل المثال، يشير بعض الكتابات إلى أن حركة "فتح" شاركت، بالتعاون مع بعض العناصر القيادية في حزب البعث الحاكم في سورية، في بلورة وصوغ ما سمي "حرب التوريط" التي كان هدفها تصعيد التوتر على الحدود السورية - الإسرائيلية لاستدراج مصر إلى دخول حرب ضد إسرائيل، وبالتالي، كان لـ "فتح" دور، بقصد أو م دون قصد، في دفع الأمور نحو كارثة سنة 1967. وعلى سبيل المثال أيضاً، كانت المزايدات بين الفصائل الفلسطينية داخل منظمة التحرير هي التي أدت إلى تفجّر الخلاف علناً مع مصر الناصرية، ولم تكن المنظمة قادرة على فهم وضع مصر الخاص في ظل ظروف حرب الاستنزاف، وغلّبت الاعتبارات الأيديولوجية على الاعتبارات السياسية والعملية. وتصور بعض الفصائل أن في استطاعته الحلول محل مصر وعبد الناصر في قيادة العالم العربي، مستغلاً مكانة القضية الفلسطينية وقدرتها التعبوية عند الشعوب العربية، لكن تلك الفصائل خلطت هنا بين الأماني والطموحات التي تغذيها اعتبارات أيديولوجية صرفة وبين واقع موازين القوى في النظام العربي. وتكررت الأخطاء نفسها، لكن بصور وأساليب مختلفة، في الأردن (فأفضت إلى كارثة أيلول/سبتمبر الأسود سنة 1970) وفي لبنان (فأفضت إلى سلسلة من الكوارث بدءاً باشتعال الحرب الأهلية وانتهاء بالخروج الحزين من بيروت).

لقد كان في وسع مصر الناصرية أن تتغاضى عن أخطاء الفصائل الفلسطينية الأكثر تطرفاً، وذلك من منطلق الإيمان العميق بأهمية وأولوية المحافظة على النضال الفلسطيني قدر الإمكان، والفهم الواعي لخصائص الحركة الفلسطينية وتاريخها. ومن هنا، فإن مخاوف عبد الناصر القديمة من حركة "فتح" لم تمنعه من مساعدتها في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية نفسها بعد تغيّر الظروف وبروز حاجة ماسة إلى كل البنادق المصوبة إلى إسرائيل. ولم يحل خلافه العلني مع حركة "فتح" بشأن مبادرة روجرز دون محاولة إنقاذ الحركة من قبضة النظام الأردني الذي أطبق على رقبتها سنة 1970. وكان هذا آخر عمل قام عبد الناصر به قبل رحيله في 28 أيلول/سبتمبر من السنة نفسها. أمّا مصر الساداتية، فقد تعاملت مع المنظمة بمنطق مختلف، وارتكبت بدورها أخطاء في حق المنظمة وفي حق الشعب الفلسطيني؛ إذ تعامل السادات في أعوامه الأُولى مع القضية الفلسطينية باعتبارها "ورقة" حرص على أن تكون في يده عند اللزوم، واللعب بها أو استبعادها ساعة يشاء. وبالغ في تعظيم قدرة مصر وفي الاستهانة بقدرة المنظمة إلى درجة جعلته يفاوض نيابة عنها في كامب ديفيد، ويقدم تنازلات فيما لا يملكه أو فيما لم يفوض أحد إليه التصرف فيه. وراحت الأخطاء المتبادلة تتصاعد إلى حد إقدام بعض الفصائل الفلسطينية على اغتيال شخصيات مصرية (مثل يوسف السباعي في قبرص)، وعدم تردد السادات في وصف قادة منظمة التحرير بـ "مناضلي الكباريهات"!!. وكان ذلك كله يلحق الضرر بصدقية مصر وصدقية المنظمة معاً، ويصب في غير مصلحة العلاقات الاستراتيجية بينهما.

وتعتبر الأعوام الأربعة الأخيرة من حكم السادات أسوأ مراحل العلاقات المصرية - الفلسطينية على الإطلاق؛ إذ انطلقت سلسلة من الأفعال وردات الأفعال كانت تنم عن عدم فهم لطبيعة عملية صنع القرار وخصوصيتها لدى الطرف الآخر، أو عن مبالغة في القدرات الذاتية واستهانة بقدرات الآخر أو بهامش الحركة المتاح أمامه. ومع ذلك، يلاحَظ أن السادات وياسر عرفات ظلا حريصين حتى النهاية على عدم قطع "شعرة معاوية"، فبقي سعيد كمال في القاهرة حلقة وصل غير رسمية بين مصر ومنظمة التحرير، على الرغم من قطع العلاقات بينهما تطبيقاً لقرارات مؤتمر بغداد سنة 1978.

وكما سبق أن أشرنا، تمت العودة المتدرجة للعلاقات بين مصر والمنظمة على أساس براغماتي لحل مشكلات وإزالة ضغوط تواجه كلا الطرفين. لكن العودة تطورت على نحو متصاعد في اتجاه بناء علاقة استراتيجية مؤسسة على قاعدة المصالح المشتركة، وخصوصاً في ظل تصاعد التحدي الإسرائيلي وانكشاف خططه الواضحة للهيمنة. لكن مستقبل هذه العلاقات يتوقف على مدى قدرة كل من الطرفين على فهم خصوصية موقع الطرف الآخر ومكانته وقدراته.

وفي الوقت الذي تبدو احتمالات التغيير في مصر، سواء في سياسات النظام أو في أهدافه أو قيمه، محدودة، فإن الوضع بالنسبة إلى السلطة الفلسطينية يبدو مختلفاً؛ فقد كانت المنظمة تواجه انتقادات عنيفة من داخلها ومن خارجها بسبب استئثار ياسر عرفات بالسلطة وهيمنته على آليات صنع القرار، وبسبب ما تردد عن انتشار بعض صور الفساد. وقد أدى توقيع اتفاق أوسلو إلى زيادة حركة الانشقاقات داخل المنظمة، بل بدا أن توقيع المنظمة اتفاق أوسلو محاوَلةٌ لإنقاذ مستقبل ياسر عفات نفسه، حتى لو كان ذلك على حساب المصالح الفلسطينية العليا البعيدة المدى. كما كانت المنظمة تواجه تحدياً خطراً في الداخل من جانب "حماس" و"الجهاد"، ومعارضة لا يستهان بها من جانب الفصائل العشرة المعارضة لياسر عرفات، والتي تتخذ من دمشق مقراً لها. لذلك كله، بدا موقف مصر من السلطة الفلسطينية أنه رهان على شخص ياسر عرفات وقدراته. وتعرض هذا الرهان للاهتزاز عندما تحركت الأمور على أرض الواقع، بعد عودة ياسر عرفات إلى الوطن، في اتجاه الصدام المسلح بين السلطة الوطنية وبين عناصر استشهادية في إثر قيام الموساد باغتيال فتحي الشقاقي ويحيى عياش.

وإذا كانت الخلافات الفلسطينية - الفلسطينية قد هدأت الآن في ظل تصاعد التحدي الإسرائيلي وعدم تمييزه بين عرفات والآخرين، فإن موازين القوى بين الفصائل ومختلف التيارات الفلسطينية ستتوقف على مدى تقدم عملية التسوية السلمية وحجم التنازلات التي ستقبل إسرائيل بتقديمها. وفي هذا السياق، يبدو أن نظرة السلطات المصرية إلى "حماس" و"الجهاد" متأثرة برؤيتها الأمنية للعناصر المنتمية إلى الجماعات المتطرفة في مصر، وهي رؤية تنطوي على قدر كبير من الشك والريبة وعدم الفهم، وبالتالي عدم الثقة، ويغلب عليها النظر إلى هاتين المنظمتين أنهما مجرد منظمتين إرهابيتين، شأنهما في ذلك شأن الجماعات المتطرفة داخل مصر نفسها. ومع ذلك، فإن الشارع المصري والنخبة المصرية بصفة عامة لا يتفقان مع هذه الرؤية الرسمية، وينظران إلى عمليات "حماس" و"الجهاد"، بصفة عامة، باعتبارها عمليات مقاومة لمحتل غاصب. ولئن وجداها أحياناً غير ملائمة سياسياً من حيث التوقيت، فإنهما لا ينظران إليها البتة على أنها عمليات إرهابية. وقد تحمل هذه الفجوة بين الرؤية الرسمية والرؤية الشعبية في مصر حيال فصائل السلطة الفلسطينية دلالات معينة بالنسبة إلى مستقبل العلاقات بين مصر والسلطة الفلسطينية.

خاتمة

هناك أسباب تاريخية وحضارية وجغرافية كثيرة معروفة تدفع العلاقات المصرية - الفلسطينية دوماً في اتجاه التعاون. لكن الخطر الصهيوني المشترك وحّد بين مصير البلدين تماماً. ومع ذلك، فقد أدى اختلاف وجهات نظر النخب الحاكمة بشأن أسلوب التعامل مع هذا الخطر إلى إحداث فجوة كبيرة أحياناً فيما يتعلق بالمصالح والأهداف المرحلية، وارتُكب الكثير من الأخطاء هنا وهناك. فقد تصور البعض هنا، في مراحل معينة، أن مصر تستطيع أن تستغني عن العرب وأن تتحلل بالتالي من التزاماتها تجاه القضية الفلسطينية، وكان ذلك افتئاتاً على حقائق التاريخ، والجغرافيا أيضاً. وتصور البعض هناك، في مراحل معينة أيضاً، أنه قار على قيادة العالم العربي من دون مصر وضد إرادتها، وكان ذلك وهماً صوّره التطرف الأيديولوجي ضد معطيات الواقع كافة. وتسببت الأخطاء هنا وهناك بإلحاق أضرار فادحة، لا بالآخر فحسب وإنما بالذات أولاً.

وها هي العلاقات المصرية - الفلسطينية تدور دورة كاملة، بعد أن تلاحمت في فترات الكفاح المسلح وتفرقت بها السبل في فترات التسوية، لتعود فتلتقي مجدداً حول أهداف أكثر واقعية. لكنها تجد نفسها مرة أُخرى في المربع رقم واحد، لأن هذه الأهداف المتواضعة تحتاج إلى عمل نضالي ضخم في ظل تحديات عاتية. وما لم تتمكن النخبتان السياسيتان المصرية والفلسطينية من وضع تصور لعلاقة جديدة ترتبط برؤية وتصور للتحرك الاستراتيجي العربي في مواجهة محاولات الهيمنة الإسرائيلية، التي تبدو الآن سافرة وواضحة للجميع، فإن هذه العلاقات، التي تبدو في أفضل أوضاعها الآن، ستتعرض للانفجار، سواء تحت ضغط التحديات المحلية في كل من البلدين أو تحت ضغط التناقضات العربية - العربية التي لا تزال قائمة، أو تحت ضغط نظام دولي لا يرحم الضعفاء.

Author biography: 

حسن نافعة: أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة.