يهدف هذا الكتاب إلى البرهنة عن أن مسرح الحوادث التي ورد ذكرها في التوراة كان في اليمن، ولا سيما في محيط صنعاء بالتحديد، وأن التوراة هي، في الأصل، ذات منِشأ عربي تماماً، وأن القبائل التوراتية القديمة التي انتقلت من التحضر إلى البداوة، بفعل التصحر، اندثرت أو اندمجت بقبائل وشعوب أُخرى، أو نزحت إلى أماكن مختلفة فحملت معها حكاياتها وأسماء رجالها التي جرى إسقاطها، في ما بعد، على مواقع ومواضع متعددة في بلاد الشام، ولا سيما في فلسطين. غير أن الكاتب اعتمد منهجاً أظنه غير كاف لعرض آرائه وأفكاره واستنتاجاته. فهو لم يجادل قط في تاريخية النص التوراتي، على الرغم من إقراره بأنه عبارة عن زجليات شفاهية عاشت في أفواه الناس طويلاً قبل أن يَجري تدوينها لاحقاً. ثم إنه يكتفي باستخدام طريقة المقابلة اللغوية وتطويع أحرف التصويت في الأسماء للوصول إلى جذر أو صيغة لفظية يمكن إقرانها بأحد المواقع الجغرافية في اليمن. إن هذه النظرية الخطرة فعلاً، يلزمها عدة بحثية متكاملة كي تصل عملية الاستدلال والإثبات إلى غايتها العلمية القصوى. ولا بد من أن تتضافر لهذه المهمة خمسة علوم، بل خمس طرائق، معاً هي: الآثار والجغرافيا والتاريخ المدوَّن والتاريخ الشفهي واللغة. وواقع الحال أننا في كتاب "التوراة العربية وأورشليم اليمنية" أمام طريقة واحدة فقط يستخدمها الكاتب هي طريقة المقابلة اللغوية التي يعمد إلى إسقاطها على الجغرافيا. إن الاعتماد على اللغة فقط، ثم إسنادها بالجغرافيا، يمدنا بآراء مختلفة في هذا المجال، ومتضاربة في أكثر الأحيان، وفيه تعسف كبير، ولا يمكن الركون إلى هذه النتائج إلا إذا أنجدتها الأحافير واللقى والنقوش. وحده علم الآثار يمكنه أن يحسم، إلى حد كبير، الجدل والتناقض والاضطراب والبلبلة. فلو اتخذنا مدينة الناصرة مثالاً على ذلك، فإن معظم المصادر يعتبرها المدينة التي ولد المسيح فيها قبل ألفي عام. وهذا يعني أنها كانت آهلة منذ عشرين قرناً على الأقل. غير أن الحفائر فيها لم تثبت، حتى الآن، أن الناصرة كانت آهلة إلا منذ 800 عام فقط. لذلك، فإن العلم مضطر إلى الشكل في قصة مولد المسيح في الناصرة. أمّا كيف جاءت صفة الناصرى وكيف صار أتباعه يسمَّون الناصريين، فربما كان الأصل في ذلك فرقة دينية تدعى Nazarean نشأت في العراق على توقير يوحنا المعمدان. غير أن البعض يرى أن هذا الاسم مشتق من كلمة Netzer، أي الغصن، وهو صفة المسيح المنتظر تأكيداً لنبوءة سفر أشعيا التي تقول: "ويخرج قصيب من جذع يسي وينبت غصن من أصوله." ويقول كهان اليهود إن ذلك الغصن الذي سيُزهر ويبني هيكل الرب يدعي يشوع.* وبنى أتباعه على هذا الشيء مقتضاه فدعّوه "يسوع الناصري".
وهكذا، فكي تكون النتائج التي توصل الكاتب فرج الله صالح ديب إليها يقينية وعلمية وتاريخية في آن، يجب ان تؤكدها الحفائر فتبرهن عن أن هذه القرى ذات الأصل التوراتي، من ناحية التسمية، كانت آهلة حقاً في التاريخ المفترض لظهور قبائل التوراة؛ والحال أن الكتاب لا يفصح عن ذلك بتاتاً، بل إنه لا يستخدم علم الآثار ومكتشفاته في اليمن في جملة وسائله المنهجية.
كان علماء التوراة والمؤرخون عامة لا يختلفون في جغرافية التوراة؛ فجميعهم اعتقد ان حوادثها جرت في فلسطين. لكنهم اختلفوا كثيراً في تفسير النصوص التوراتية نفسها، وفي قراءتها ومدى مطابقتها العلم والتاريخ. حتى جاء الدكتور كمال الصليبي *ليفترض أن النص صحيح، وكان عليه أن بيرهن عن أن الجغرافيا خطأ. وتوصل، في جملة ما توصل إليه، إلى أن جغرافية التوراة هي في منطقة عسير في شبه الجزيرة العربية، ولم يناقش، طبعاً، تاريخية النص التوراتي نفسه. وعلى هذا المنهج سار الكاتب فرج الله ديب، فلم يناقش تاريخيه النص التوراتي، مع إقراره بأنه زجليات شفاهية، بل أقام البرهان عن أن مسرح حوادث التوراة كان في اليمن. إذن، توصلنا باستخدام منهج متقارب إلى نتائج متضاربة، فأين الصحيح في هذه الحال؟
يكمن أساس هذا الاختلاف، برأيي، في التوارة نفسها. فالنص التوراتي منحول ومحرّف عن أساطير وعقائد نشأت في وادي الرافدين ومصر، وربما الشام. ثمةـ إذن، خطأ منهجي في قراءة نصوص منحولة في ضوء جغرافيا صحيحة. ويجب، أولاً، إعادة تركيب النص التوراتي في ضوء المكتشفات التاريخية والآثارية ثم قراءته مجدداً بحسب الجغرافيا.
وأرى أن التفكير العلمي البسيط يجبرنا بعد الإشارة بهذا الكتاب، على الإشارة إلى التالي: إن أية نظرية جديدة أو أية أفكار مبتكرة تبدأ، كما هو متبع في مناهج العلوم، بنقد النظريات التي سبقتها، إمّا لدحضها وإمّا لتطويرها وإمّا لتعميقها وتهذيب الزوائد فيها. وكنت أتوقع أن يقوم الكاتب، قبل أن يتقدم بهذا التفسير الجديد لجغرافية التوراة، بنقد نظرية الدكتور الصليبي، لا تلبية لرغبة ما أول لهواية ما، بل تطبيقاً للمنهج فقط. فالكاتب لا يسعى هنا لتطوير نظرية الصليبي كما فعل الدكتور زياد منى في كتابه "جغرافية التوراة"،**بل إنه يقدم أفكاراً جديدة تماماً ومثيرة حقاً، وإنْ تقاطعت في بعض جوانبها مع نظرية الدكتور الصليبي، ومن حق العلم عليه أن يعمد إلى هذا الأمر. ولو فعل لاكتسبت آراؤه الجديدة صدقية علمية أوفى وقدرة على الإقناع أقوى.
سأتعسف قليلاً في المقارنة، وإن كان لا يوجد في هذا التعسف ضيم أو ضير. فقد حدد الدكتور الصليبي أكثر من 90 في المئة من الأسماء الواردة في التوراة على خريطة عسير ونجران. وأثبت الدكتور منى 349 موقعاً توراتياً في المنطقة ذاتها تقريباً. وها هو الأستاذ فرج الله ديب يؤكد، بيقين عال، أن الأسماء التوراتية موجودة في اليمن بلا ريب؛ فهو مقتنع، مثلاً، بأن قرية محنايم التوراتية موجودة في اليمن باسم آل مَحْن جنوب ردّاع، في حين أن الدكتور الصليبي يجعلها في القنفذة بنجران، واسمها هناك أم مناحي. ويخبرنا الدكتور الصليبي أن صور التوراتية هي زور في نجران، وأرواد هي رواد في عسير، وأن الجليل يقع جنوب الطائف، وحرمون هو حمران في الحجاز، والفرات هو فرت، ومصر هي المصرمة في عسير الداخلية، وأريحا هي يرحو، وجبل نبو أو جبل موسى هو جبل نبوة، وأن أسباط إسرائيل الاثني عشر، من رؤوبين حتى بنيامين، هم الآن في الحجاز. في حين أن هؤلاء أنفسهم، وغيرهم الكثير من المواقع والرجال والأسباط حتى جنة عدْن وبلاد نَوْد والأنهر الأربعة، موجودون الآن لا في عسير، بحسب الدكتور الصليبي، بل في اليمن، بحسب الأستاذ ديب. فأريحا هي روحان من قرى بني حبش، وبيت لحم اكتسبت اسمها من آل أبو لحوم، ويهوذا فرع من قبائل حضرموت، ويشوع بن نون ما زال اسمه في قرية يشيع شمال الريدة،وسيط لاوي أعطى اسمه أو أخذه من اللاوية وهي قرية تهامية قريبة من الحديدة، وبيت هكاريم هي قرية هكر في جنوب شرق ذمّار. وبما أن الموقع نفسه لا يمكن أن يكون موجوداً في اليمن والحجاز في الوقت عينه، فقد حرنا أيما حَيرة، وصرنا كالقائل: "ليت شعري ما الصحيح؟". وأحسب أن العلم لا يستقيم لأية نظرية ما لم تعمد إلى نقد ما سبقها.
إنني ميال إلى القول إن ثمة تعسفاً في قراءة الأسماء التوراتية. فإذا كان الدكتور الصليبي حاول نزع أحرف التصويت من الكلام العبري ثم أعاد تصويته من جديد فتوصل بذلك إلى مدلولات جديدة وقراءة جديدة، فإن الباحث ديب ربما بالغ في قراءة الأسماء نفسها، لأن المقابلة اللفظية بين الكلمات وحدها، حتى لو أنجدت الجغرافيا بعضها، ربما أفضت إلى نتائج من الصعب إثباتها أو التحقق من تاريخيتها. لنراقب، على سبيل المثال، التقابل بين العربية والإنكليزية. فالإله الجاهلي وَدْ يشبه لفظاً الإله الأنكلوسكسوني Wooden ، والإلهة العربية مناة هي نفسها Mona الإنكيزية، والأرض بالعربية يقابلها Earth بالإنكليزية، ونقول في وقودWood ومسيطرMaster وبيت أو حمىHome وقطعCut وقطةCat وقالCall وطويل أو طالTall وباطنBottom وتلاTell وهُرعHurry وخصْر أو وسطWaist والكهفCave والمرأةMarita ومنها To Marry يتزوج وصوتSound وبدنBody وزخرفةZoograph وقسطاسjustice وعنقNeck وتوأمTwin وجاريةGirl وهلاHello ونبيلNoble وفطيرةTorta، وضمير الغائب هو يصبح He وهمThem، وحتى كلمة Look بالإنكليزية تشبه "ليك" العامية العربية.
إنها مجرد مقارنة لفظية لا أكثر، ولا أستنتج منها أية نتيجة. لكنني أتساءل: إلى أين تقود هذه المقابلة إذا اقتصرت على اللفظ فقط؟
سأحاول، انطلاقاً من كتاب " التوراة العربية وأورشليم اليمنية"، أن أثير بعض الأسئلة كطريقة في السجال مع الآراء التي انتهى الكاتب إليها. يقول سفر التكوين إن فرعون مصر أهدى إلى إبراهيم جمالاً بعد قصته مع ساراي، أخت إبراهيم وزوجته في آن، و"صار لإبراهيم غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأُتُن وجمال." والمعروف في غرب آسيا قبل القرن العاشر قبل الميلاد. إذن، فقصة إبراهيم ربما نشأت في بلاد غير الشام تكثر فيها الجمال، كالجزيرة العربية مثلاً. وهنا نتساءل: هل كان الجمل معروفاً في اليمن في تلك الفترة المفترضة لعصر إبراهيم، أي منذ نحو 1500 سنة قبل الميلاد؟ المسألة في حاجة إلى جهد وتحقيق وتدقيق.
وقصة موسى وانتشاله من الماء هي نفسها قصة شائعة، وتشبه في تفصيلاتها قصة صرغون الأكدي. والتوراة نفسها تشير إلى موسى، بلا خجل، باعتباره ابن زنا، لأن والده عميرام تزوج عمته يوكابد فولدت له هارون وموسى (أنظر: سفر الخروج، 20:6). وكانت العادة أن يُلقى بمن يُشَك في نسبه في النهر فإن طفا كان النسب صحيحاً، وإن غرق يموت، ويكون ذلك مصير ابن الزانية، وعقاب أمه الرجم. وهذه العادة كانت موجودة في الحضارات المائية – الزراعية، مثل حضارتي مصر والعراق. تُرى، هل كانت موجودة أيضاً في اليمن؟
أمّا يشوع بن نون، فهو شخصية أسطورية نموذجية بامتياز. فهو إله كنعاني قديم على هيئة السمكة، واسمه يعني المخلص. وربما كان إله الشمس، لأن النون تعني عين السمكة وترمز دائرتها إلى الشمس. وكانت السمكة شعار المسيحيين الأولين، وهي الرمز الذي نقشه المسيحيون على جدران الكهوف القديمة التي كانوا يلتقون فيها للاجتماع والتعبد، علماً بأن تلامذة المسيح كانوا في معظمهم صيادي سمك من مدنية طبرية، بحسب الأناجيل.
يمكنني القول في هذا السياق إن معظم ما ورد في التوراة يرجع إلى أصل قديم جرى اكتشافه في المدونات السومرية والأكدية والبابلية والأشورية والمصرية والكنعانية؛ فسفر التكوين، ولا سيما قصة الطوفان فيه، يتشابه إلى حد الدهشة مع ملحمة جلجاميش. وقصة قايين وهابيل التي ترمز إلى الصراع بين الفلاح والراعي هي نفسها قصة جلجاميس وأنكيدو. وهي تطابق حكاية يعقوب وعيسو (بالعربية العيص)وقصة قحطان وعدنان وبني هلال والزناتي خليفة وداود حامل المقلاع وجوليات حامل الرمح. وسفر الشريعة مأخوذ في كثير من نصوصه من شريعة حمورابي، وبعض المزامير ترجمة حرفية لنشيد الأموات المصري.
أمّا النبي هود، الذي يصر الكاتب على أن ينسب اليهود إليه، فربما كان هو نفسه الإله العربي وَدْ الذي وجدت عبادته في دومة الجندل وقبلها في جدة في نواحي الجزيرة العربية، ولا أعلم هل كانت عبادته شائعة في اليمن أيضاً. وغير بعيد عن هذا عبادة الإله فَلْس الذي كان صنماً لقبيلة طيء. ألا بيدو أن ثمة علاقة بين لفظة فَلْس وفلسطين. وهذا الصنم كان في الجزيرة العربية لا في اليمن بحسب ما أعلم.
والغريب أن غزة تظهر في إحدى الخرائط (صفحة 160) في الداخل لا على البحر، والكرمل بيدو في قلب الصحراء.
قصارى القول، إن قراءة النصوص التوراتية في ضوء جغرافية اليمن محاولة جريئة وفريدة وممتعة. ولا شك في أنها قدمت أساساً معرفياً أولياً يحتاج إلى الكثير من الجهد لإعلائه وإكسائه وإتمامه. وهذه ليست مهمة الأستاذ فرج الله صالح ديب وحده، إنماهي مهمة جبّارة تحتاج إلى جهد متضافر من أهل الاختصاص والخبرة. وإن ما فعله الأستاذ فرج الله هو أنه فتح الأبواب ومهد السبل. وفي هذا ريادة وفضل كبير ومكرمة لا تضاهي.
*أنظر: عصام الدين حنفي ناصف، "المسيح في مفهوم معاصر" (بيروت: دار الطليعة، 1979).
*أنظر مؤلفات الدكتور الصليبي في هذا الحقل: "التوراة جاءت من جزيرة العرب" (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1985)؛ "خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل" (بيروت: دار الساقي، 1988)؛ "حروب داود" (عمان: دار الشروق، 1990).
**زياد منى، "جغرافية التوراة: مصر وبنو إسرائيل في عسير" (بيروت – لندن: رياض الريس للكتب والنشر، 1994).