الأمن والتنظيم على المستوى الإقليمي
منذ نهاية الحرب الباردة وحرب التحالف ضد الاجتياح العراقي للكويت، يعتقد الكثيرون أن السياسة في الشرق الأوسط دخلت عصراً جديداً. فمسيرة السلام في مدريد، وما تبعها من اتفاقات سلام ثنائية وما واكبها من مناخ بيدو واضحاً أنه جديد، قد أدت جميعها إلى بروز تفاؤل بشأن السياسة الإقليمية. ويرى البعض أن هذا المنحى يسير باتجاه المزيد من التعاون الإقليمي، وأن هذا الأمر من شأنه أن يؤثر في السياسة في الخليج. ويرى أصحاب هذا الرأي أن التأثير الإيجابي للحدّ من التسلح وللحوار في الميدان العربي – الإسرائيلي خلّف آثاراً طيبة في مجال السياسة في الخليج، الذي هو مجال ذو صلة وإن يكن منفصلاً.
ومن هذا المنظور، فإن الوجود الأميركي العسكري في المنطقة يُنظر إليه بأنه أمر موقت وضروري. كما أن القوتين الكبيرتين المثيرتين للمشكلات في الخليج، أي إيران والعراق، ستغيّران نظاميهما أو سياستهما في نهاية المطاف، وربما في القريب العاجل، و"تنضمان إلى الروح" السائدة في هذا العصر الجديد. ومرد جزء كبير من هذا التفاؤل إلى النظرية القائلة إن الحروب، وخصوصاً بين الدول، لا تجدي نفعاً، ولذا فإنها في طور الانحدار والانتهاء في العلاقات الدولية. وهذا الرأي بدوره يعززه الاعتقاد أن التنافس في القوة في الماضي، والذي لا طائل تحته، قد تم استبداله بالاعتراف المتزايد من جانب الدول بمصالحها المشتركة، والتي ليست بالضرورة موضع تنافس، وقد تكون ذات نفع مشترك، وأن هذه الرؤية قد تتجه نحو مزيد من هذا التعاون على المستويين الثنائي والإقليمي.
تبحث هذه الدراسة، وباقتضاب، في هذا الزعم كما يتصل بالسياسة في الخليج. ما هو الوضع الأمني وما هي التهديدات في الخليج؟ ما هي العوامل التي تؤدي إلى المزيد من التكامل الإقليمي، وما هي العوامل التي تؤدي إلى التفكك؟ ما هي فرص حصول مزيد من التعاون بين الدول المحلية يؤدي إلى تعزيز الأمن الإقليمي؟ إن هذا كله يتطلب نقاشاً بشأن ماهية نظام "الأمن الإقليمي" وتوضيحا لافتراضاتنا بشأن مثل هذه الأنظمة. وفي العادة، فإن الهدف المثالي البعيد المدى الذي يُستخدم معياراً هو أن تنظم الدول علاقاتها، وتتفاعل بطريقة سلمية، وتسوّي خلافاتها بروح من الصداقة على الصعيد الجماعي، بل المؤسساتي في أفضل الأحوال.
إن صورة "المجموعة الأمنية" هي تلك التي تتغلب فيها المصالح المشتركة على الخلافات ، الأمر الذي يجعل اللجوء إلى القوة أمراً مكلفاً وذا مردود سلبي، وفي نهاية الأمر أمراً لا يمكن تصوره. ومثل هذا المجتمع يعتمد على إجراءات وأنماط عملية وآليات للتحكم في النزاعات، ومن الأفضل أن يتم ذلك على المستوى "الإقليمي". وهذا يشمل عادة مؤسة تُعَزٍّزُ التعاون أو التكامل الإقليمي، بل كثيراً ما يستند إلى مثل هذه المؤسسة (كما تطورت الأمور من مجلس التعاون والأمن الأوروبي إلى الاتحاد الأوروبي). غير أنه ليس من الواضح ما إذا كان مثل هذه "المجموعة الأمنية" نتاجاً فريداً لفترة زمنية بعينها، أم أنه قابل للتصدير. لكن الواضح أن المثال الأوروبي يملك بعض الخصائص المميزة ومنها:
(1) تاريخ طويل من التعامل بين دول مستقلة؛ (2) تاريخ يشمل حروباً عدة، حيث تم توضيح المواقف النسبية للدول، أي مراتب هذه الدول من حيث القوة؛ (3) إن جميع هذه الدول ديمقراطية. هل الخليج معدٌّ للدخول في مثل هذا النظام؟ وإذا لم يكن معدّاً، فما هي التقديرات بشأن المستقبل؟
يمكننا ان نصوغ أطروحة دراستنا هذه باختصار ووضوح على الوجه التالي: كي يتم التعاون على أساس إقليمي شامل، لا بد للدول الرئيسية من أن تملك شعوراً بمصالح مشتركة. وعلى أقل تعديل، لا بد من أن يتعامل بعضها مع بعض، وأن تملك حسّاً حيال موقفها من الدول الأًخرى المهمة على المستوى الإقليمي. وليس في هذه المنطقة إلا القليل من التاريخ للتفاعل بين الدول المطلّة على الشواطئ ذاتها. وكان النظام الإقليمي، ولا يزال نتاج التدخل الخارجي ولو توضح الحروب الأخيرة مواضع القوة للدول الرئيسية ولا مكانتها النسبية على الهرم الإقليمي. وكانت القضية الرئيسية في السياسة الخليجية، ولا تزال، هي عدم تمكن إيران والعراق والعربية السعودية من الاتفاق على توزيع إقليمي للقوة، أي على مواقع كل منها في هرم القوى. وإلى أن تتم تسوية هذا الأمر، فإن التنافس الذي يؤدي إلى النزاع بين الفينة والأُخرى أمر محتمل. وفي يومنا هذا، فإن اثنتين من الدول الثلاث الكبيرة تخضع لحظر، وهي " محتواة". وأخيراً، فإن مجلس التعاون الخليجي تم إنشاؤه في أيار/ مايو سنة 1981 كردة فعل على التهديد الخارجي المشترك الصادر عن إيران (والعراق). وقد استُخدم هذا التهديد الخارجي مبرراً لإيجاد إطار يسثني (ويستهدف) قوتين إقليميتين كبيرتين، وذلك تحت رعاية القوة الثالثة. وبيقى المجلس في الجوهر مجموعة محلية ولا يعدو كونه تحالفاً غير رسمي.
بعد مختلف الهزائم التي مُني العراق وإيران بها، فإنهما يظلان معاديين للنظام الراهن المفروض عليهما. وهما يستبطنان مشاعر الثأر، وهي مشاعر ليست بالضرورة خاصة بالأنظمة ذاتها، بل إنها قد تستمر بعد زوال تلك الأنظمة. وفي الوقت ذاته، فإنهما ما زالا يتنافسان، ومن غير المحتمل أن يستطيعا التوصل إلى أهداف مشتركة. إن من شأن النزاع بينهما، كما المصالحة، أن يهدد أمن الخليج.
إن دول المجلس بحاجة إلى التعاطي مع التهديدات الخارجية، لكن من دون تفاقم مشكلاتها الداخلية المتنامية. وهذا يفترض سياسة توازن، الأمر الذي يستلزم عنصراً أميركياً وسياسةً داخلية تعزز شرعيتها الداخلية. وثمة توتر بين حاجاتها الأمنية الخارجية التي بيدو أنها تقتضي درجة أشد من التكامل داخل مجلس تعاون أقوى تحت قيادة السعودية، وبين متطلبات الشرعية الداخلية والاستقلال الفردي والسلالي، الأمر الذي يدعو إلى درجة أكبر من الحرية والتمايز. [1]
والأمر الذي يوازي هذا أهمية هو استمرار النزاعات الحدودية. وثمة شرط مهم لقيام نظام أمني إقليمي، والذي يشكل مصلحة مشتركة لدول الخليج كافة، وهو اتفاق جماعي بشأن الوضع القائم على الأرض، أو على الأقل اتفاق بشأن النزاعات وتسويتها. إن ميثاقاً بشأن عدم التدخل جزء مهم من هذا الترتيب. والإشارة إلى ان هذا الشيء لم يتم التفاوض بشأنه بعد بين دول المجلس ذاتها تشكل في حد ذاتها تأكيداً لطول المسافة التي تفصلنا عن الاتفاق بين دول الخليج كافة.
وهناك اعتبار آخر هو البروز المتنامي للقضايا الداخلية. وعلى أقل تقدير، فإن دول المجلس ستكون أكثر تقييداً في سياستها الخارجية بسبب سياستها الداخلية وجماهيرها. وقد تنمو الخلافات بين دول المجلس من جراء: (1) بروز الاهتمامات المحلية إلى السطح، الأمر الذي قد يهمش المصالح المشتركة؛ (2) نمو النزعات الوطنية داخل الدول، ويظهر هذا النمو في هيئة حكام يميّزون أنفسهم من غيرهم، ويزيد في أهمية ورمزية بعض القضايا كالحدود والموارد والتوجه نحو استلهام الأساطير الوطنية، ولكل ذلك نتائج تسبب الخلاف: [2] (3) بروز مجالس تمثيلية وطنية تتعالى أصواتها وتزداد صعوبة السيطرة عليها.
وثمة كتلة أُخرى من القضايا التي يثيرها التبدل في السياسة الداخلية هي العلاقة بين الإصلاح المحلي والسياسة الأمينة.
العقبات أمام التكامل الإقليمي
كانت حجتي أن الأساس الذي يقوم التعاون الإقليمي عليه لم يتحقق في الخليج بعد، وذلك بسبب غياب الاتفاق بين الدول الكبيرة الثلاث بشأن أدوارها أو بشأن علاقات القوة فيما بينها. ويمكن أن يُنظر إلى التنافس بين هذه الدول الثلاث من خلال أكثر من منظور واحد: المنظور الجغرافي – السياسي والمنظور التاريخي والمنظور الأيديولوجي. إن التنافسات الجغرافية – السياسية هي حصيلة امتلاك موارد وسكان وحجوم وأماكن (الوصول إلى البحر، العمق الاستراتيجي) مختلفة، وإلى ما هنالك من الاختلافات. أمّا التنافسات التاريخية، فتشمل النزاعات السلالية والإقليمية كما الضغائن والحسد وغيرها من الخلافات "التاريخية". وثمة كثير من النزاعات والضغائن التي لها جذور عميقة في الماضي بين دول المجلس في جزيرة العرب، وبينها وبين غيرها.
أمّا النمط الثالث من الخلافات، أي النمط الأيديولوجي، فإنه عنصر يساهم في التأزم وليس سبباً رئيسياً، كما ليس بارزاً اليوم في معظم الحالات، غير أنه بيقى مهمّاً على صعيد العلاقات كغطاء لمصادر أُخرى من التنافس ، وبقدر ما يؤثر في قضية مصدر الشرعية في دولة ما. فالعداوة من جهة بين الملكيات والجمهوريات وتلك التي تستند إلى اعتبارات العداء بين الشرق والغرب أضحت أقل حدة. ومن جهة أُخرى، فإن الهوة بين الدول العلمانية والدول الدينية قد ازدادت حدة، كما التنافس بين تفاسير متضاربة للإسلام.
وعلى الرغم من أن النزاعات تتجسد بلغة الخلاف على الأرض (شط العرب مثلاً) أو بلغة الأيديولوجيا، فإنها تتمحور في الجوهر حول القوة والهيمنة الإقليمية. وتستخدم إيران الغطاء الأيديولوجي من خلال الإشارة إلى مزاياها الإسلامية، وهي بذلك تخفي طموحاتها الحقيقية التي تبقى بالنسبة إلى الكثير من الدول العربية غير قابلة للتمييز من طموحات الشاه السابق. وهذه الدول ترى في إيران خطراً عسكرياً ممكناً ومهوّلاً لا يكاد يخفي تهويله، ومروٍّجاً لأعمال التخريب. كما أنها ترى في إيران دولة مستعدة للقيام بدور مخرّب اللعبة، بالنسبة إلى مسيرة السلام في الشرق الأوسط، لتجني مكاسب سياسية في العالم الإسلامي.
إن دول الخليج الكبيرة تملك أنظمة سياسة وبُنى ومجتمعات مختلفة جداً، وهذه عوامل تجعل التعاون صعباً. وفي أقل تقدير، فإن المجتمع العراقي المتشرذم ونظامه يشجعان الحكام على أن يحاولوا تعزيز شرعيتهم من خلال القيام بدور التعويض في ميدان السياسة العربية الشاملة. والسعودية تستمد هويتها من القبيلة، وتستمد شرعيتها من دورها الإسلامي. وكثير من هذه الدول يعتمد بصورة حرفية على مواطنين أجانب، في حين أن كثيراً منها أيضاً لا يزال يساوي بين النظام والسلالة الحاكمة وبين الأمن "الوطني". وبالإضافة إلى ذلك، فقد يقال عن بعض دول المجلس إنها تواجه ما هو بمثابة التهديدات الوجودية. وفي المقابل، فإن إيران ليست بحاجة لا إلى القبيلة ولا إلى الإسلام كإطار لهويتها. إن شرعيتها كأمة – دولة أكثر رسوخاً، ومظهرها الإسلامي هو في أساسه استنسابي، أي أن للنظام حرية تأكيد هذا المظهر أو عدم تأكيده، وكما يحلو له. وبوصفها "نظاماً للحشد"، فإن إيران الثورية تملك قدرة الدولة (وإن كانت هذه القدرة تتناقص) على استخدام سلطة فرض الضرائب والخدمة العسكرية الإجبارية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن إيران لا تجابه أخطاراً تهدد وجودها. لذا، فهي ترفل في نعمة تعريف الأمن من خلال الكلام على الاعتماد على الذات والاستقلال، وغياب الاعتماد على الآخر.
سيناريوات النزاع
ما هي أنماط النزاع المحتملة والممكنة في الخليج، بالنظر إلى عدم وجود صراع طاغ وإلى أن ثمة محاور عديدة من النزاع الممكن؟ بما أن التنافسات تتداخل ولا يلغي بعضها بعضاً، فلا حافز يذكر لدى معظم الدول لربط نفسها بكتلة واحدة من الحلفاء. وقد نقترح أربع مجموعات من الصراعات:
- إيران ضد العرب (كالوضع القائم في أواخر الحرب العراقية – الإيرانية تقريباً)؛
- العرب ضد العرب (الاجتياح العراقي للكويت)؛
- العرب ضد إسرائيل (العراق ضد إسرائيل سنة 1990/ 1991)؛
- إيران ضد إسرائيل.
ومن بين هذه الأنماط الأربعة من النزاع، فإن النمط الرابع فقط هو الذي لم يحدث (بعد؟). وليس لكل النزاعات أهمية استراتيجية؛ فمعظم النزاعات داخل مجلس التعاون لا يؤدي بالضرورة إلى نتائج "تخل بالنظام". ما هي المصادر الأساسية الأكثر ترجيحاً للنزاع في المستقبل؟ بالنسبة إلى دول المجلس والولايات المتحدة، فإن السيناريو الكلاسيكي هو هجوم إيراني و/ أو عراقي على دول المجلس. إن درء ذلك الخطر هو الذي حمل الولايات المتحدة على نشر قواتها في مواقع متقدمة وعلى إنشاء الأسطول الخامس. غير أن نزاعات أُخرى هي أيضاً ممكنة بالدرجة نفسها، وخصوصاً اندلاع حرب إيرانية – عراقية من جديد لربما سببها تغييرات سياسية في هذه الدولة أو تلك أو في كلتيهما معاً. وهناك مصادر أُخرى لعدم الاستقرار مستقبلاً وتؤدي إلى صراع، منها إمكان حصول تدخلات تنافسية في العراق أو غيره. وسياسة الولايات المتحدة ليست مهيّأة للتعامل سوى مع أُولى هذه الحوادث الطارئة الأربع.
إن إمكان وقوع هجوم إيراني أو عراقي على دول المجلس تحدده إلى حد بعيد إمكانات هاتين الدولتين والفرص المتاحة لهما، ودوافعهما أيضاً. وبالنسبة إلى العراق، فإن هجومه قد يكون مدفوعاً بالعطش للثأر أو بالسعي للاستيلاء على الأرض (إعادة رسم الحدود أو الاستيلاء على أراض جديدة)، أو مدفوعاً برغبة في استغلال أية قلاقل محلية قد تنشأ أو التأثير فيها. كما أن إيران قد تكون مدفوعة بالرغبة من استغلال القلاقل المحلية التي قد تقع في دول المجلس. غير أن الاستيلاء على أراض في الجانب العربي من الخليج، في حالة إيران، أمر غير واقعي سياسياً وصعب عسكرياً (أنظر أدناه). وعلى العكس من العراق، ليس ثمة من دليل على أن إيران تضمر مثل هذه النيات والأهداف. ولا جدال في أن هاتين الدولتين "ترتدعان" بالوجود المادي الأميركي والاحتياط التابع له. غير أن الارتداع من الشيء يعني تغيّر السلوك في غياب الرادع. وهذا الأمر قد يصح في حالة العراق، غير أنه ليس واضحاً في الحالة الإيرانية.
وإذا كانت دوافع إيران والعراق وأهدافهما مختلفة، فإن التقييدات المفروضة عليهما مختلفة أيضاً. إن القدرات العسكرية لهاتين الدولتين محدودة بسبب إجراءات الحظر، والعقوبات، وفقدان الأموال ومصادر التزويد. غير أن الجغرافيا، في سيناريو ضد دول المجلس، لا تعرقل العراق بقدر ما تعرقل إيران وفي ظل أوضاع عادية، ليست حملة عراقية باتجاه الكويت أو إلى جنوبيها بالأمر العسير عسكرياً. أمّا بالنسبة إلى إيران، فإن أي هجوم عسكري ممكن على دول المجلس يتطلب طريقاً برّياً عبر الجنوب العراقي، وخطوط إمدادات طويلة تحتاج إلى حماية ومقدرة لوجستية لم تبرهن إيران بعد عن أنها تمتلكها. كما أنه يتطلب غطاء جوياً ودفاعات جوية، وليس في حيازة إيران، في الوقت الراهن، أية قدرة من هذه القدرات. وتبقى أيضاً مسألة صغيرة هي العراق، فإذا حاولت إيران أن تهاجم دول المجلس براً، عليها أولاً أن ترتب أمورها مع العراق، إلا إذا كانت تعمل بالتنسيق مع العراق، وهو أمر غير مرجح. كذلك فإن إيران تحتاج، إذا تدخلت عسكرياً ضد دول المجلس أو اشتبكت معها بحراً، إلى قدرات لنقل قوات برمائية أكبر كثيراً لتدفع قواتها نحو الشاطئ الجنوبي. وهنا أيضاً، تحد النواقص الإيرانية في مجال القوة الجوية والدفاعات الجوية من قدراتها الهجومية ضد دول المجلس، إنْ لجهة الاحتفاظ بأية أرض تستولي عليها، أو لجهة عمل عسكري يساند الاشتباكات البحرية.
دور الحد من التسلح: احتمالات مستقبلية
إن الحد من التسلح في الخليج، حيث لا كتل ولا معسكرات منقسمة بصورة دقيقة إلى قسمين، أمر صعب على ما بيدو. غير أن ثمة بعض العبر العامة التي يمكن الاستفادة منها في تجربة الحد من التسلح في سياق النزاع بين الشرق والغرب. إن سباقات التسلح تعكس مشاعر انعدام الأمن وتؤججها. ولا يمكن للحد من التسلح أن يسبق العلاقات السياسية، فضلاً عن الحلول مكانها. غير أن الحد من التسلح يمكن أن يعزز التقارب السياسي، وخصوصاً إذا كان ذلك مندمجاً في عملية سياسية. فالحوار والتواصل عنصران لا غنى عنهما للتقدم في العلاقات السياسية.ولا غنى عن الصلات التي تستند إلى مؤسسات من أجل تطوير العلاقات وتعميقها وجعلها متراكمة وعزلها عن النكسات في ميادين أُخرى من العلاقة. وهذه الملاحظات تنطبق طبعاً على حد من التسلح وفاقي لا مفروض. ولا يمكن تطبيق أنماط الحد المفروضة على العراق إلى الأبد، ولا تعميمها على غيره من الدول.
كيف تنطبق هذه المقولات على الخليج؟ أولاً، ليس ثمة سوى اهتمام ضئيل في دول المجلس أو في الولايات المتحدة بالحد من تصدير الأسلحة إلى حلفائها. إن "الاحتواء المزدوج" يهدف إلى إضعاف العراق وإيران، في حين أن شحنات الأسلحة من قبل الولايات المتحدة تعزز قوة دول الخليج الأُخرى.ولشحنات الأسلحة أيضاً دور اقتصادي في إعادة تدوير الدولارات النفطية، ودور دبلوماسي؛ إذ أنها تعمل بمثابة التعهد في المعاهدات. وعوضاً عن تقليص التسلح لدى الدول كافة، فإن الهدف هو بناء قدرات دول المجلس و "تفكيك" قدرات إيران والعراق. [وهذا بدوره يعكس المشكلة الأوسع، أي عدم تمكن الدول الكبرى في الخليج من الوصول إلى اتفاق بشأن مواقف القوة النسبية لديها وتنافسها في الزعامة والسيطرة].
من الممكن أن يّترجم هذا الأمر إلى خلافات بشأن الحد من التسلح؛ فعندما كان العراق وإيران يتحاربان، كانت النفقات السعودية العسكرية أكبر من نفقات هاتين الدولتين معاً. وفيما بعد، وبين سنتي 1989 و1992، فاقت النفقات العسكرية السعودية نفقات إيران والعراق معاً مرتين ونصف مرة. وبسبب الحربين وما تبعهما من حظر، واستمرار السعودية في عملية بناء التسلح، تحولت مواقف الدول الثلاث النسبية بصورة لافتة للنظر. وهكذا، وإذا أخذنا مثالاً واحداً فقط، كانت إيران سنة 1979 تملك 460 طائرة والسعودية 170 طائرة، وكانت إيران تملك أكثر من ألف دبابة والسعودية 250 دبابة. وفي سنة 1994، كانت السعودية تملك عدداً يوازي ما كانت إيران تملكه من الطائرات (270) والدبابات (700). وكانت التقديرات تشير إلأى أن هذه الأسلحة السعودية كانت أكثر تطوراً من الأسلحة الإيرانية.[3] وهذا من شأنه أن يجعل أي اتفاق بشأن حساب الحد الأدنى من الحد من التسلح أمراً صعباً للغاية. ومن الطبيعي أن إيران تفضّل الحد الأدنى لسنة 1979، ويفضل العراق سنة 1988، وتفضل السعودية سنة 1995.
ما الدور الذي يمكن أن يقوم به الحد من التسلح في الأمن الإقليمي في غياب اتفاق بين الدول الكبيرة الثلاث بشأن مواقف قواها النسبية؟ إن الحد من التسلح "البنيوي" الذي قد يجري في الميدان العربي – الإسرائيلي، والذي يشمل الموقف والعقيدة العسكرية وبنية القوة، لا يزال أمراً بعيد المنال. وانعدام التوازنات، وهو أمر موجود في الخليج أيضاً، لا يمكن معالجته بشمولية في المدى القريب. لكن ربما يوجد بعض المتّسع للحد من التسلح الذي يكون الهدف منه تحسين الاستقرار في زمن الأزمات. وقد يمكن الوصول إلى اتفاقات ثنائية إذا كانت جزءاً من عملية أوسع لبناء الثقة. وقد يمكن الوصول كذلك إلى اتفاقات تحد من خطر الحروب التي تحدث من طريق الخطأ. إن السيناريوات الأكثر خطراً هي تلك القائمة على الحدود البرية بين إيران والعراق، وبين العراق والكويت. ولربما يمكن اتخاذ إجراءات ثنائية أو أحادية، من شأنها أن توفر الحماية ضد خطر هجوم مفاجئ ولزيادة الاستقرار. وقد تشمل أيضاً إجراءات لنزع الأسلحة في المناطق الحدودية، بما في ذلك تقييدات على الانتشار، ومناطق يُخفّف فيها الانتشار، وإشعار مسبق بالمناورات، وغيرها من الإجراءات لزيادة وقت الإنذار بشأن حشد للقوات يسبق الهجوم. وقد تشمل أيضاً تكنولوجيا للمراقبة، ومحطات للإنذار المبكر، وتبادلاً للمعلومات، ومنشآت مشتركة للأقمار الاصطناعية والاستطلاع. وفي إمكان التعهدات الثنائية أن تكون مثمرة كمقدمة للحد من التسلح على نطاق أوسع، وخصوصاً إذا شملت الحوار السياسي، كما هي الحال بين العراق وإيران لا بين العراق والكويت.
أمّا السيناريو الآخر، أي الهجوم البرمائي الإيراني عبر الخليج، فهو يستدعي جهوداً أكبر على الصعيد العسكري. وبالنظر إلى أن السياق السياسي والدافع إلى مثل هذا الهجوم ليسا من البديهيات، فإن نظرة الولايات المتحدة وبعض دول المجلس، التي تقول إن إيران قد تسعى لاستغلال صعوبات محلية خلال نشوب أزمة ما، أو إذا ما سنحت الفرصة، هي نظرة يصعب تبيان وجه الخطأ فيها. ومع ذلك، فإن القدرات العسكرية اللازمة لهجوم مطوّل وللاستيلاء على الأرض، وكذلك لنشر القوة العسكرية إلى مسافة تبعد عن الشاطئ الإيراني، هي الآن وفي المستقبل المنظور بعيدة عن القدرات الإيرانية. وعلى أقل تقدير، فإن هذا يتطلب تحسيناً في النقل البحري والدفاعات الجوية والغطاء الجوي. إن نمط وحجم المناورات العسكرية الإيرانية المتكررة في الخليج يكتنفهما الغموض فيما يختص بالنيات القصوى. غير أنه لا يوجد حتى الآن أي دليل على وجود أية أولوية تُمنح لتحسين قدرتها على نشر قوتها (المدرعات والجنود بأعداد كافية) لشن هجوم سريع على شاطئ الخليج الجنوبي. لذا فإن الحد من التسلح دوراً محدوداً في هذا المضمار.
وثمة ميدان ثالث آخر ذو أهمية هو ميدان أسلحة الدمار الشامل ووسائل إيصالها إلى أهدافها. فالدول الثلاث الكبيرة في الخليج تملك جميعها صواريخ بعيدة المدى. ويُعتقد أن العراق وإيران يطوران الطيف الكامل من أسلحة الدمار الشامل. ولا يمكن لأي طرف منهما أن يتأكد من أن الطرف الآخر لن يسعى لاستغلال عدم جهوزية الطرف الآخر، وكلاهما يسعى ليصبح في وضع يمسح له بردع هجمات تشنها الولايات المتحدة عليه. ولا دليل على أن أيّاً من هذين النظامين يرى أن هذه الأسلحة هي أسلحته المفضّلة، وبيدو ن كلاً منهما يرى أن هذه الأسلحة أسلحة ردع، وأنها إلى حد ما بمثابة تعويض عن عدم الوصول إلى مصدر ثابت للأسلحة التقليدية. ويبقى أن يتم تثيبت عملية التبادل بين الصواريخ والطائرات، والروابط بين الأسلحة الكيماوية والأسلحة النووية، وبين النوعية والكمية. إن فرض الحد من التسلح بالقوة، كما هو جار اليوم في حالة العراق، لا يمكن تعميمه ولا الاستمرار فيه إلى ما لا نهاية. أمّا الحد من التسلح النابع من الإجماع والتوافق، فيتطلب حسّاً بالمصلحة المشتركة. وفي الوسع أن يُبنى على أسس الأنظمة العالمية السائدة، غير أنه بحاجة إلى عناصر ومكونات إقليمية. وينبغي لتركيز الاهتمام على منطقة الخليج الفرعية في الشرق الأوسط أن يتم التشديد على التثبت من صحة المعلومات إقليمياً، وبصورة مشتركة. وكما تبرهن اتفاقية نزع السلاح النووي الكورية، فإنه يمكن حتى لألد الأعداء الجيران أن يخططوا لوضع تدابير تحقُّق شاملة ومتداخلة بعضها في بعض، ضمن اتفاقات للحد من التسلح. ولربما يمكن لمثل هذه التدابير أن يُطبّق ببطء وحذر، هذا إذا طبٍّق أصلاً. غير أن لهذه التدابير مزية جذب الأطراف المعنية مباشرة نحو مسعى مشترك لها فيه مصلحة مشتركة.
الأنظمة الأم
- ميزان القوى
منذ أن غادرت بريطانيا منطقة الخليج سنة 1971، ظل ابتكار الوسائل لتحقيق الأمن والحفاظ عليه أمراً بعيد المنال. فميزان القوى بين مختلف الكتل الذي كان سائداً بين سنتي 1971 و1979 قد برهن عن فعاليته النسبية. وعلى الرغم من وقوع بعض المناورات لاحتلال مراكز قوة، فإن أية دولة من الدول الرئيسية لم تستطع أن تضمن لنفسها دوراً مهيمناً. كما أن هذا التوازن العام كان يخدم مصلحة أمن الدول الأصغر. واختل التوازن بسبب الثورة في إيران، التي تحدت هذا النظام بأسره. والواقع أن الحرب التي تلت تلك الثورة شهدت بروز نظام جديد، أي انقسام إيراني/ عربي كان يُنظر إلى إيران الثورة (الإسلامية) من خلاله بأنها التهديد المشترك، وإلى العراق بأنه "البوابة الشرقية" للدفاع عن العالم العربي. وعلى الرغم من ذلك، كان التدخل والعون الخارجيان ضروريين لإنهاء الحرب. وفي تلك الآونة، أنشأت السعودية مجلس التعاون الخليجي.
والإمكان الجديد الذي فتحه المجلس كان بمثابة توازن ثلاثي الزوايا، تتوازن فيه إيران والعراق ودول المجلس، كلاً مع الأُخريين. ومثل هذا النظام لا يعمل بفعالية إلاً إذا عمل المجلس بفعالية أيضاً وإذا بقيت سياسة المنطقة مرنة وغير أيديولوجية. إلى هذا الحد، من الممكن أن يكون النظام نتاج نظام ناضج ومعتدل من العلاقات، لا سبباً أو وسيلة لإنشاء مثل هذا النظام.
وجاء إعلان دمشق في نيسان/ أبريل 1991 ليقدم اقتراحاً بشأن نمط مختلف من توازن القوى. وكان هذا التصور على شكل ترتيب "6 زائد 2"، حيث يمكن لدول المجلس أن تستدعي دولتين إقليميتين، هما مصر وسورية، لتعزيز الميزان المحلي في الخليج، والتعويض عن مواطن الضعف. وثمة مشكلات تحف بصدقية مثل هذا النظام، ليس أقلها المشكلات على المستوى العسكري.
- الأمن الجماعي
هذا النظام هو، من نواح عدة، النظام الأمثل أو النموذجي. ويُنظر إليه بأنه النتاج المنطقي لعملية تطور من نظام الميزان الفجّ للقوة (والذي، كما أشرنا أعلاه، يُراد به الحفاظ على الاستقرار، لا على استقلال جميع الدول) نحو نظام أكثر دقة يهدف إلى ضمان أمن الجميع.
يمكن للأمن الجماعي نظرياً أن يتخذ أحد شكلين: إمّا شكلاً مؤسساتياً ذا بُنية شديدة التعقيد، وإمّا ترتيباً أقل إحكاماً لدول كتل منفردة وفي كلنا الحالين،يفترض هذا الأمن رداً مشتركاً على أي عدوان، أيّاً يكن مصدره، وذلك بالاستناد إلى مصلحة مشتركة في الحفاظ على النظام القائم. أمّا في حالة النظام الأقل إحكاماً، فإن الحوافز للرد على أي عدوان تنبع من اعتبارات ميزان القوة التي يشارك الجميع فيها. وفي النموذج الأكثر تعقيداً، يكون قد جرى سلفاً تفعيل وتطوير القواعد العامة والنظام السلوكي على شكل مؤسساتي، وهذا يصبح أشبه بالمجموعة الأمنية التي بحثنا فيها في بداية دراستنا هذه. وفي مثل هذه الحالة، فإن الاتفاق بشأن الأمن يكون قد تواكب وتكامل مع نمو تعاون عملاني بين الأطراف، وهو ما يوفر البرهان الجلي عن وجود مصالح مشتركة ومقدرة على التعاون. وهذان النموذجان يستندان إلى موافقة أكبر اللاعبين في الساحة الإقليمية، بل إلى موافقتهم جميعاً. ومهما تكن حسنات هذين النظامين، فإن كليهما يبقى بعيد المنال في الخليج في وقتنا الحاضر.
ج) موازن خارجي
هذا هو النموذج الراهن والتاريخي.فقد كانت الهيمنة البريطانية في الخليج تفضّل الدول التي لها شواطئ. وقد أبقت على نظام إقليمي يخدم المصلحة البريطانية، غير أنها في حقيقة الأمر جمّدت إمكان حدوث تغيير سياسي. والأهم من ذلك أن الوجود البريطاني منع، من خلال ممارسة دور "الحامي"، قيام أي تفاعل دبلوماسي بين دول الخليج حتى العقود المتأخرة من الزمن.
وفي سعيها للحفاظ على النظام الإقليمي الراهن، اكتسبت الولايات المتحدة دور الموازن الإقليمي. وهذا الدور ليس دورها المفضّل، غير أنه يعكس الاستنتاج القائل إنه ليس هناك إمكان لتحقيق أي توازن للقوة ينظم ذاته بذاته في المستقبل المنظور. وهذا الدور مهيّأ وموجَّه للتعامل مع هجوم تشنه دولة معادية على دول المجلس. كما أنه يسعى لزيادة قوة دول المجلس العسكرية، وضبط قوة إيران والعراق، والعمل بمثابة رادع لأي عدوان محلي من خلال وجوده (الدفاع المتقدم). لذلك، فهو يعمل بمثابة مصدر للاطمئنان عند دول المجلس. وهو يفترض المقدرة على الإبقاء على وجوده ما دامت الحاجة إلى ذلك قائمة. وقد نفترض أن ذلك يتم حين تتغير الأنظمة أو السياسات في إيران والعراق نحو الأحسن. وهو يستند إلى التدخل العسكري في الوقت الملائم وحين تدعو الحاجة. ويأمل هذا الدور بالحصول على دعم دبلوماسي من الحلفاء، وإنْ كان دعماً لا يعتمد عليه.
تبدو هذه السياسة في ظاهرها حكيمة وقصيرة المدى.فنهاية الحرب الباردة قلصت مجال الضغط لدى الدول الإقليمية، لكن من دون أن تخفض الديناميات الإقليمية للصراعات المحلية. وبروز الولايات المتحدة، بوصفها الدولة العالمية المهيمنة، اعترفت دول المجلس به جزئياً (على درجات متفاوتة) من خلال رغبتها المتعاظمة في الارتباط العلني بواشنطن. ومن خلال التركيز على الخطر الوارد من العراق وإيران، فإن الولايات المتحدة (في رأيها هي) لا تستهدف مصادر إزعاج إقليمية، بل دولاً تشكل نموذجاً للتهديدات العالمية الجديدة، ولها دوافع أيديولوجية، ومتورطة في انتشار الأسلحة، وتدعم الإرهاب، وتعادي السلام. ومع ذلك، فإن السياسة الأميركية تعاني نواقص عدة:
- فمن خلال بناء نظام يعتمد على تدخلها النشيط، لربما تبالغ الولايات المتحدة في قدرتها على الصمود. فإلى متى يمكن أن تبقى في المنطقة لتدعم بعثة الأمم المتحدة الخاصة بشأن العراق (UNCSCOM)؟ كم مرة يمكن للولايات المتحدة أن تكرر تدخلها وعقوباتها ضد العراق (ومن الذي سيدفع الثمن)؟ وعلى مر الزمن، ما هو إمكان بقاء حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين متّحدين؟ [4]
- إن هذه السياسة موجهة ضد واحد من سيناريوات متعددة. وهي ليست مهيّأة لسيناريوات مختلفة، مثل تغيير يحدث في العراق بعد ذهاب صدام، ولربما بسبب ضغوط أميركية.
- في احتوائها العراق وإيران، واستثناء هاتين الدولتين من التفاعل الطبيعي مع جيرانهما، فإن الولايات المتحدة إنما تزيد العلاقات في الخليج تشويهاً. فهي توسّع الهوة مع دول الخليج، وتجعل من إقامة علاقات طبيعية في المستقبل أمراً أكثر صعوبة.
- إن النزاع الأميركي مع إيران والعراق يتعدى في نطاقه الدور الخليجي لهاتين الدولتين. وعلى سبيل المثال، فإن النظرة الأميركية إلى المشكلة مع إيران أكثر عاطفية، وتشمل التاريخ الحديث، والنظر إلى هذه الدولة/ النظام بأنها تشكل خطراً عالمياً. ويبدو من المشكوك فيه أن تذهب دول المجلس إلى هذا الحد فيما لو تُركت وشأنها. ومن خلال إشراك دول المجلس في أولوياتها العالمية وجدول أعمالها الاستراتيجي ومنافساتها، ثمة خطر في أن هذه العلاقة مع الولايات المتحدة قد تزيد العلاقات بين دول المجلس وجيرانها تأزماً وعلى نحو لا ضرورة له. ومن خلال ذلك، فإنها تزيد في الأخطار على هذه الدول الأصغر، إذ إن إيران والعراق، ومن جراء السخط على السياسة الأميركية، قد يجدان من الأسهل أن يسددا ضربة (مصدرها الإحباط؟) ضد جيرانهما التابعين لأميركا.
- من وجهة نظر السياسة الأميركية في الخليج في المدى القصير، تحتاج الولايات المتحدة إلى تركيز اهتمامها على الخطر المتمثل في إيران والعراق. غير أنه، من وجهة نظر سياسة منع انتشار الأسلحة النووية، ثمة حاجة إلى تركيز مختلف للاهتمام. إذ عليها أن تدرس ما إذا كان خطر استخدام الأسلحة النووية أكثر إمكاناً خلال أزمة طارئة تتورط فيها إيران والعراق مع دول المجلس، أم أن تؤججه شكوك في أن الطرف الآخر يسعى للحصول على "مزية أحادية الجانب" في سباق التسلح في مضمار أسلحة الدمار الشامل. وقد يدعو مثل هذا السيناريو إلى إيجاد دبلوماسية وقائية تجذب الجانبين، وتشجع الحوار بينهما، وتعمل كوسيط على مثل هذه الأسلحة، وباختصار، تعالج مشكلة شعورهما بانعدام الأمن. إن السياسة الراهنة لا تفعل أيّاً من هذه الأمور.
الخاتمة
على الرغم من وقوع حربين مؤخراً، فإن حدوث نزاعات في المستقبل أمر ممكن فالحربان العراقية – الإيرانية والعراقية – الكويتية انتهتا بصورة غامضة وبنتائج بعيدة عن كونها حاسمة ومحددة؛ ففي كلتا الحالتين، تورطت تحالفات خارجية وأطراف ثالثة، الأمر الذي أدى تأجيل تصفية الحساب الإقليمي ذلك، فإن هاتين الحربين لم تقدما أية عبَر واضحة المغزى فبالنسبة إلى العراق، قد تكون العبرة أن يعمل بسرعة أكبر في المرة المقبلة بقدر ما قد تكون أن يتفادى استعداء القوى الخارجية وبالنسبة إلى إيران، قد تكون العبرة في التركيز على الجهوزية العسكرية بما يجعلها تتفادى المفاجأة الاستراتيجي فلا العراق ولا إيران يتقبلان النظام الإقليمي الراهن بنته الولايات المتحدة لخدمة مصالحها وتقوية حلفائها على حسابهما وكلتا الدولتين تتملكها مشاعر السخط، ولربما الثأر أيضاً
إن الحربين الأخيرتين لم تنجحا في تحقيق الاتفاق بشأن توزيع القوة، ولم توضحا تراتبية القوة ولا المكانة النسبية لدول الخليج الكبيرة الثلاث إن غياب الوضوح أو المكانة الثابتة يشجع "الاختبار". لذا، فإن مستقبل الخليج سيكون على الأرجح المزيد من الاختبار لميزان القوى وما يتبع ذلك من الأزمات مع تفادي الحروب الشاملة.
إن الفوارق الجغرافية – السياسية بين دول الخليج الثلاث تجعل التعاون أمراً صعباً في أفضل الأحوال. غير أن هذه الفوارق توججها اختلافات عقائدية. وفي الوقت ذاته، فإن ما بقي من مطالب للالتفاف حول راية "القومية العربية" الممزقة يوسع رقعة النزاعات الثنائية (كالتي بين إيران ودولة الإمارات بشأن الجزر)، فيضفي عليها صفة رمزية، ويوسع النزاع ليصبح نزاعاً عربياً – إيرانياً فيجعل تسويته معقدة.
إن دول الخليج ما زالت حديثة في ميدان الممارسة الدبلوماسية، وما تتطلبه هذه الممارسة من المساواة والأخذ والعطاء والتحالفات المتغيرة باستمرار، والحاجة إلى التفاوض والمرونة. ولم تبن هذه الدول بعدُ منبراً للتفاعل يضم جميع الدول المطلة على الشاطئ. إن الحذر المفرط قد عرقل إنشاء مؤسسة تتفاعل فيها دول الخليج كافة، وتقيم فيما بينها حواراً سياسياً على الأقل.
إن دول المجلس بحاجة إلى عدو مشترك لتبقى موحدة. والواقع أن جميع الأنظمة في الخليج تستفيد من وجود قلاقل وشكوك إقليمية فيما يتعلق بسيطرتها السياسية على الداخل.
إن الاعتماد على قوة خارجية لتوفير الأمن لا يمكن له أن يكون إلا قصير المدى في أفضل الأحوال. ولهذا الاعتماد ثمن ليس بالزهيد فيما يختص بأهداف الوصي. وقد تتنامى الأخطار الكامنة في الاعتماد المفرط على قوة خارجية فيما يختص بالأصداء السياسية الداخلية لهذا الاعتماد. والحماية التي تُوفَّر قد لا تغطي الحالات الطارئة الأكثر احتمالاً.
إن التوقعات للمستقبل هي حدوث المزيد من الأزمات، لكن ليس الحروب بالضرورة. فالدول الكبيرة الثلاث لا تتفق فيما بينها بشأن الوضع الراهن على الأرض ولا بشأن ميزان القوى الإقليمي. ولهذه الدول تصورات متضاربة بشأن النظام الإقليمي. وتفترض أية قاعدة للتصرف الاتفاق بشأن المكانة النسبية لكل دولة من هذه الدول الكبرى، والاهتمام بالإبقاء على الوضع الراهن.
هل عبثية الحرب تجعل الحرب أقل احتمالاً؟ نعم، إذا كان هذا الأمر مُقْنعاً. هل تجعل هذه العبثية الوضع الراهن أمراً مقبولاً؟ نعم، إذا كانت البدائل أسوأ كثيراً. هذا ما حدث مع مرور الزمن في النزاع العربي – الإسرائيلي، وهو لا ينطبق حتى الآن على الخليج، الذي يبقى لذلك في مرحلة سابقة لمرحلة الحد من التسلح.
[1] أنظر:
GhassanSalame, “Assessing Alternative Future Arrangements for Regional Security,” Chapter 3 in Geoffrey Kemp and Janice Stein (eds.), Powderkeg in the Middle East: The Struggle for Gulf Security (Lanham, Md.: Rouman and Littlefield, 1995), pp. 65-86.
وقد اقتبست بتصرف من هذه الدراسة بقلم غسان سلامة، وها أنا أقر بما أدينه لها.
[2] أنظر:
Charles Tripp and ShahramChubin, “Domestic Politics and Territorial Disputes in the Persian Gulf and the Arabian Peninsula,” Survival, Winter 1993/94, Vol. 35, No. 4, pp. 3-27.
[3] هذه الأرقام مستقاة من:
.The Military Balance (London: IISS) annual, 1981-1995
[4] إن الدعم الفرنسي (والروسي والصيني) للإبقاء على العقوبات ضد العراق قد برهن عن عدم ثباته على امتداد سنة 1995. كما أن ألمانيا هي الأُخرى تتردد في الاستمرار في توفير المال لبعثة الأمم المتحدة الخاصة بشأن العراق.