هناك صنف أدبي يتنامى اليوم بقلم الفلسطينيين وعنهم، موضوعه عودة الفلسطينيين إلى فلسطين بعد طول منفى. في البدء، كان هناك فيلم من إنتاج هولندي عن الفنان كمال بُلاطة وعودته إلى القدس (1985)، ومن ثم برنامج في محطة "بي. بي. سي" (B.B.C.) البريطانية عن عودة هشام شرابي إلى يافا (1993). وسطّر إدوارد سعيد مقالاً في مجلة Harper’s (1992) عن رحلته إلى القدس وغيرها من الأماكن في حزيران/يونيو 1992. هذا هو بعض أبرز الأمثلة باللغة الإنكليزية. وقد صدر أيضاً بالعربية بعض الشهادات منذ توقيع "إعلان المبادئ". وكتاب فواز تركي ينتمي إلى هذا الصنف.
سبق لتركي أن وضع كتابين من الذكريات تحت عنوان The Disinherited (المحرومون من إرثهم) سنة 1972 وA Soul in Exile: Lives of a Palestinian Revolutionary (نَفْس في المنفى: حيوات ثائر فلسطيني) سنة 1988. كما أنه كتب ديوانين شعريين. وفي أعماله السابقة كافة، كان تركي يعرّف عن ذاته بوضوح بأنه فلسطيني ويسعى لكسب الدعم الغربي لبحث الفلسطينيين عن العدالة والدولة. وكتاباه النثريان يصفان هروب عائلته من حيفا في إبّان الحرب العربية - الإسرائيلية سنة 1948، عندما كان هو في الثامنة من العمر، ويصف حياتهم القاسية في مخيم للاجئين في لبنان، ومن ثم تجواله في أوستراليا (التي هاجر إليها سنة 1959) وفرنسا والهند، والولايات المتحدة (حيث يعيش حالياً منذ أكثر من عشرين عاماً). وكتابه "عودة المنفي"، وهو أيضاً على شكل مذكرات، يعود ليزور بعض الأمكنة الواردة في نصوصه السابقة، على الرغم من اختلاف المقاربة. كما أن هنالك بعض الفقرات المستلّة حرفاً حرفاً من كتابه السابق "نَفْس في المنفى". غير أن لبّ الكتاب سجلٌ لعودة تركي إلى حيفا ولزيارة دامت نحو ستة أسابيع قام بها إلى الضفة الغربية وغزة في كانون الثاني/يناير 1992.
قصة العودة النموذجية بعد طول منفى هي طبعاً قصة أوديسيوس الإغريقي. وكي يسترجع أوديسيوس جزيرته، إثاكا، كان هناك شروط ثلاثة لا بد من استيفائها. الشرط الأول هو أن إثاكا، أي الوطن ذاته، لم يتغير (فلو قبلت زوجته بنيلوبي، مثلاً، عروض الخطّاب لكان مصير أوديسيوس مختلفاً). الشرط الثاني هو أن أوديسيوس نفسه لم يتغير (فمن دون حلمه ودهائه ومثابرته وتصميمه على العودة إلى وطنه ما كان في وسعه أن يتغلب على صعوبات الرحلة أو على إغراءات السيرانات والحوريات ونوسيكا وأَكَلَة اللوتس، وغيرها من الإغراءات). الشرط الثالث كان تدخل القوى الإلهية لمصلحته (وفي حالة أوديسيوس، كان ذلك يتمثل في الإلهة أثينا التي رعته وتلاعبت بالأقدار لمصلحته).
هذه الشروط الثلاثة لم تُستوفَ في كتاب "عودة المنفي". فإثاكا، بالنسبة إلى تركي تغيرت: حيفا الآن مدينة يهودية في الغالب، والبيت الذي ترعرع فيه تملكه عائلة يهودية. والضفة وغزة تحت الاحتلال، والفلسطينيون هناك يتكلمون لغة تختلف عن لغته. وبالإضافة إلى ذلك، فإن تركي الذي نلمحه في "عودة المنفي" ليس من أوديسيوس في شيء؛ فالحِلم وضبط النفس ليسا من صفاته البارزة. ومقارنةً بأعماله السابقة، فهو يكشف هنا، وبلا رادع، عن إدمانه على المخدرات والكحول ومغامراته الجنسية (وكلها موضوعات يبدو أنها لم تكن ملائمة عندما كان ينظر إلى دورِهِ نظرة مختلفة). وأخيراً، فهو يهيم وحيداً (أو متوحداً) من دون أن تمد الإلهة أثينا إليه يد المساعدة الخفية. لذا، فقد نقرأ هذا الكتاب على أنه بمثابة معارضة لرحلة الأوديسّة.
في كتابه هذا، يصرف تركي النظر عن فكرة العودة إلى الوطن (أو "أرض المسكن" كما يسميه). وفي حين أنه وصف في أعماله السابقة أميركا بأنها مكان المنفى المغرِّب، نجده يقبل بها وطناً له: "لا داعيَ يدعوني إلى أن أعيش في نابلس أو أريحا أو غزة... لا داعيَ يدعوني إلى أن أموت في حيفا أو صفد أو يافا. واشنطن تفي بالغرض." هذا تغيير راديكالي بالنسبة إلى إنسان كان ينظر إلى ذاته بأنه "ثائر فلسطيني". وأسباب هذا التغيير تشكّل الموضوعات الرئيسية للكتاب. أحدها هو قرفه المتنامي عبر السنين حيال الثقافة الفلسطينية (والعربية) والسياسة التي أدت إلى موت الحلم الفلسطيني وخيانته. والسبب الآخر هو تعريف هويته بأنها تتطابق مع "الثقافة المضادة" في الستينات والتي اكتشفها في شبابه في أوستراليا وفي مجمّع للهيبّيين الغربيين في الهند، وهي تشكّل قواعد للسلوك لا يقدر أن يمارسها في العالم العربي.
لكن قد يكون ثمة سبب وجودي لهذا التغيير. إذ يبدو أن تركي إنسان قلق بطبعه، ولا يستطيع أن يحافظ على التزام تجاه العائلة (فقد هجر، وبسرعة، امرأتين أنجبتا منه ذكراً وأنثى) أو الوطن أو العقيدة. وهو رجل يهيم على وجهه باستمرار، ويرنو بنظره، كما يرد في تشبيهاته ذاتها، إلى ما وراء الجبل التالي. ولعل في شعر ريلكه التصدير الملائم لهذا الكتاب: "من الذي حرّفنا على هذا الشكل بحيث نجد أننا، مهما نفعل، في مقام من يغادر بعيداً؟"
مخيم اللاجئين
بلغ تركي سن الرشد في عالم مخيمات اللاجئين في لبنان، العالم القاسي والمذلّ والشديد الفقر، حيث عانى الفلسطينيون أكثر مما عانوه في أي بلد "مضيف" آخر. ويصف هذه التجربة وصفاً عاطفياً بليغاً يجب أن يقرأه كل من يود أن يفهم ذاك الفصل الرئيسي من التاريخ الفلسطيني بعد سنة 1948. ونادراً ما فُهمت هذه التجربة حتى من جانب معظم الفلسطينيين. فالعيش في مخيم للاجئين كان دوماً أمراً يجب إنكاره أو إخفاؤه. وقد شعرت أنا بهذا الأمر أكثر من مرة عند زملائي في الضفة الغربية الذين ترددوا قبل "الاعتراف" بأنهم عاشوا في هذه المخيمات، غير أنهم سرعان ما شعروا بالارتياح عندما أخبرتهم أنني أنا أيضاً ترعرعت في أحد المخيمات. وعلى الرغم من الجروح التي لا توصف، والتي تحمّلها سكان المخيمات على مذبح "القضية"، فإنهم لم يُكافأوا على ما قدموه من تضحيات. ففي وزارة السلطة الفلسطينية لا نجد فرداً واحداً من سكان المخيمات في الماضي أو الحاضر، على الرغم من أن تكون هذه الوزارة قد جرى تبريره بأنه يعكس توازناً دقيقاً بين المناطق والفئات والعشائر، وما إلى ذلك.
إن الولاء الذي يبديه تركي للمخيم وتعاطفه المستمر مع سكانه يشهدان على أصالةٍ تكاد تغفر له ذاك السيل من الشتائم غير المسؤولة التي يكيلها لأفراد فلسطينيين وللثقافة الفلسطينية. أمّا تركيزه على المخيمات في لبنان فهو في صلب الأحداث الجارية اليوم، ويذكّرنا بالمعاناة التي يعانيها الفلسطينيون في هذه المخيمات الآن والتي يدور حولها ما يشبه مؤامرة من الصمت.
الكبت الجنسي والحب المتنقل
ثمة في حياة تركي في المخيم حادثة واحدة ذات أهمية مركزية هي مقتل أخته الصغيرة ياسمين على يد أخيه الأكبر المتجبر لأنها ضاجعت صبياً من الجيران. هذه الأخت الصغيرة هي التي أعطت كتاب "عودة المنفي" التشبيه الوجودي الرئيسي فيه، أي الذهاب إلى بلاد العجائب الواقعة خلف الجبل التالي، إذ كانا كطفلين قد تخيّلا أن تلك البلاد تقع خلف جبل الشوف القريب من بيروت. ولدى موتها، أصبحت أخته رمزاً للكبت الجنسي في المجتمع العربي الذي استطاع تركي الإفلات منه والذي ينوي تدميره.
لكن ما يدعو إلى الاستغراب هو أن "أخته الصغيرة ياسمين" تزوجت من مهندس في الكويت، كما جاء في كتابه السابق "نَفْس في المنفى"، وهذا الأمر يثير بدوره مشكلة الصدقية. فإذا حدث القتل فعلاً، فربما نسأل لماذا عمد كاتب يعرّف نفسه بأنه ثائر فلسطيني في كتابه السابق ويؤمن إيماناً عميقاً بحرية المرأة، إلى التزام الصمت حيال تلك الجريمة، بل جعل للضحية زوجاً. وإذا لم تقع جريمة القتل، فلعل تركي يدافع عن نفسه باللجوء إلى أنه "يحق للشاعر ما لا يحق لغيره"، فجرائم "الشرف"، ويا للأسف، لم تختف من المجتمعات العربية، وقد كان في الإمكان أن تقع أخته ضحية مثل تلك الجريمة حتى لو لم تكن قد حدثت فعلاً. ومهما يكن الأمر، فالشكوك تلقي ظلالها على حقيقة أجزاء أُخرى من روايته وعلى الأشرار الذين نلتقيهم. ولكاتب الذكريات الحق في تغيير رأيه ومعتقداته، غير أنه لا يملك الحق في تغيير الحقائق على هذا الشكل المفضوح، حتى ولو كان في الأمر خدمة لتشبيهاته ومجازه.
وقد يظن المرء أن مقتل أخته الحقيقي أو المجازي كان من شأنه أن يجعل تركي شديد الحساسية حيال معاناة النساء اللواتي ينتهكن أعراف المجتمع. غير أن هذا الأمر لم يحدث على ما يبدو. وعلى سبيل المثال، وخلال زيارة له إلى بيروت، حيث كان يَهِمُّ بامرأة فلسطينية من المخيمات كان على علاقة بها، فإذا بها تصرخ في وجهه على الرغم من رغبتها في مطارحته الغرام "أرجوك، إذا فعلت ذلك، فسوف يقتلوني." ولعلنا نطلب من تركي ما هو فوق طاقته البشرية لو طلبنا منه أن يمتنع من ممارسة الجنس، غير أننا قد نطلب منه على الأقل أن يعيد النظر في الأمر ولو للحظة واحدة. وبدلاً من ذلك، فإنه يشيد بتلك المرأة كما وبأخته كشهيدتين في سبيل حرية النساء العربيات: "يا أختي الصغيرة الجميلة، إني أراك في صهيل كل حصان في لوحة (غيرنكا). إنني أستخرج معنى قاسياً جداً وغنياً جداً مما فعلتماه - من طقوسكما في التحدي ومن التزامكما الحرية."
وعلى ما يبدو، فإنه يعني بـ "التزام الحرية" نمطه الخاص به من الحرية، أي حرية التجوال إلى ما وراء الجبل التالي، كما فعل مرتين عندما وصلت إليه أخبار تفيد عن قرب وصوله إلى وضع الأبوة. وفي كلتا الحالتين، يصف الفراق بأنه كان سهلاً للغاية وخالياً من أي عراك أو عتاب. ولو كانت الزوجتان قد أُصيبتا بالإحباط أو التعاسة، فإن تركي لم يلاحظ، كما يبدو، هذا الأمر. هذا هو مدى التزامه الدفاع عن حرية المرأة.
أقارب أشرار
لدى قراءة كتاب "عودة المنفي" نجد أن أكثر ما جاء فيه يذكرنا بأدبيات "الاعتراف" الأميركية التي ارتبطت في بداياتها في الستينات بأسماء شعراء مثل روبرت لاول وآن سكستن. غير أن هذه الأدبيات سرعان ما انتشرت كالفطر لتصبح صنفاً أدبياً وتلفازياً متكاملاً. وأدب الاعتراف يعالج في شكله النموذجي موضوعات الاغتراب والألم والعنف النفسي والجسدي، وأعوام الحياة الأُولى ضمن العائلات المضطربة، والمخدرات والاعتداء الجنسي. واعترافات تركي تعالج موضوعات متشابهة، غير أنها تتجاوز نطاق العائلة الضيقة لتصل إلى ما قد نسميه "ما بعد العائلة" الفلسطينية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن كتّاب الاعتراف الأميركيين، وعلى الرغم من معاناتهم المنفى الداخلي، لا يعانون العذاب الذي يأتي من ازدواج الشعور والهوية لدى المهاجر، ولا صدمات التكيّف (وخصوصاً مع ثقافة جديدة)، ولا الشعور بالذنب لدى مهاجري العالم الثالث لتركهم بلادهم من دون أن يؤدوا واجبهم نحوها ولتركهم غيرهم من الناس يتحملون ضربات الدهر.
أمّا مشكلة أدبيات الاعتراف فهي أنها، كما قال الشاعر روبرت بلاي، تحتاج إلى اختلاق الكثير من الأقارب الأشرار. وكتاب "عودة المنفي" يكتظّ بالأقارب الأشرار، أي بالأقارب في الدم وبأفراد "ما بعد العائلة": الأخ القاتل، طبعاً، ومن ثم أحد أصحاب المهن من ذوي الآراء العنصرية في الضفة الغربية؛ "زير نساء وقح" يعمل في منظمة التحرير؛ بعض المنظّرين المُملّين في رام الله؛ "صبي مدلل غبي" ذو بطن كبير في القدس؛ مهرّج يصدق كل ما يسمع ويعمل سفيراً لدولة عربية في واشنطن، وإلى ما هنالك. ويبدو أن تركي لا يحب إلا الذين يروون له الفظائع عن المجتمع الفلسطيني وعن منظمة التحرير. ومن سخريات الأقدار أن الفلسطينيين الذين نقابلهم في رواية "الهواء الأصفر"، للكاتب الإسرائيلي دافيد غروسمان، هم أقرب إلى الإنسانية الحقّة وأكثر نزاهةً من أي فلسطيني نقابله على صفحات "عودة المنفي". وقد اشتدت رغبتي في العثور على طرف من الإنسانية عند الرجال العرب في كتاب تركي، على الرغم من أنني لم أجد أية صعوبة في العثور على الإنسانية في الحياة الفعلية، إنْ في العالم العربي أو في سواه. والكتّاب حذرون، وبحق، من التحريف الممكن الذي قد يرد في كتب سِيَرهم، الأمر الذي يجب أن يجعلهم أكثر دقة وحساسية فيما يختص بسِيَر الآخرين، ولا سيما أن الكلمة الأخيرة هي لهم. والواضح أن تركي، بالإضافة إلى كيله الشتائم أو استعلائه حيال موضوعاته، لا يخفي خِسّته هو بالذات. فهو يصوّر ذاته بأنه رجل فحل عديم المسؤولية؛ صعلوك؛ منحط. غير أن هذه الصفات، ومهما يجدها البعض مقيتة، صفات يتمرّس بها الكثير من الكتّاب المعاصرين، وكثيراً ما يُكافَأون بسببها. وبالإضافة إلى ذلك، نجد أن تركي يكيل المديح لنفسه على الدوام حين يتصل الأمر بصفاته ككاتب، وهو الأمر الذي يعنيه فوق كل شيء.
غير أن الهدف الحقيقي الذي يصب تركي عليه جام غضبه هو الثقافة الفلسطينية والعربية. ليس في العالم العربي أدب ولا فن ولا موسيقى، كما يجزم تركي. أمّا الضيافة والطعام والطقوس التي تواكب تقديمه فكلها تنال نصيبها من السخرية. والعربية الفصحى هي أيضاً موضع سخرية، فهي عنده مفخّمة لا أمل فيها "ولا تلائم التفكير المنطقي"، وهي المسؤولة عن التخلّف في العالم العربي.
ويرى تركي أن "نقده الجارح للثقافة الشعبية الفلسطينية ومعتقداتها البالية" من شأنه أن يصدم الفلسطينيين. وهذا رأي مغلوط فيه؛ إذ يوجد تراث عربي طويل من النقد الجارح للثقافة العربية. ومن بين معاصرينا، نجد الشاعر السوري نزار قباني الذي جعل النقد رسالةً له، كما فعل أيضاً علماء من أمثال محمد عابد الجابري (من المغرب)، وصادق جلال العظم (من سورية) وهشام شرابي (من فلسطين)، وهؤلاء أشهرهم فقط.
والمشكلة ليست النقد في حد ذاته، غير أن النقد، في حالة تركي، يُقدَّم على شكل أقوال جازمة بلا حجة ولا برهان. أمّا تحليله النقدي للثقافات الشعبية والسياسية، فهو يجري من خلال أحادث وأسئلة وأجوبة طويلة إلى درجة الملل، ليس الهدف منها الكشف عن الحقيقة بقدر ما هو إعطاء الأمثلة لاستنتاجات مسبقة. ولا نجد أية محاولة لسبر أغوار من يلتقيهم كما قد يفعل روائي جيد من شخصيات رواياته، ولا أية محاولة للبحث في كيفية تأكّل القِيم الإنسانية في الثقافات التقليدية على يد الحداثة.
وإذا ما خطّأنا هجمات تركي السطحية، فهذا لا يعني أننا نُخطّئ حقه المطلق في إطلاق الأحكام النقدية وفي حقه في أن يتغيّر. ولا يعني أيضاً أننا ننفي وجود الأشرار، وخصوصاً في عالم السياسة، أو وجود الكبت الجنسي والاجتماعي والفساد الرسمي وغير الرسمي ونظام الحماية المفضي إلى الشلل، وغيرها من العلل التي تفتك بالمجتمعات الفلسطينية والعربية. فهي كلها موجودة، وبجرعات لا يمكن للكثير منا أن يبتلعها. غير أن وظيفة النقد الاجتماعي ليس الاستخفاف بالأمور؛ فهي تقتضي أيضاً إيجاد رؤى بديلة وأنماط تغيير في المجتمع. التغيير في المجتمع، في رأي تركي، يكمن في انتظار جيل جديد. وما هي رؤيته للمجتمع الجديد؟ هل هي تلك البلاد الواقعة وراء الجبال "حيث الصبيان والبنات هم الذين يديرون الحكم... حيث يذهب الناس إلى أي مكان يشاؤون، حيث لا أب ولا أم ولا وظائف ولا أنظمة"؟ إننا نرتجف فزعاً من فكرة العيش في مثل هذا المجتمع المثالي.
والخلاصة هي أن هذا السيل من النقد الجارح والسجل الضخم من الأقارب الأشرار يطعن في جودة ما هو في الواقع شهادة شخصية شاعرية أحياناً، مسبوكة سبكاً فنياً وواضحاً ومحكماً. غير أن الشاعر العربي الحديث عالج موضوع سخطه الشديد على مجتمعه بطريقة مختلفة، إذ قال:
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة
وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرام
النبذ والعودة الرمزية في حيفا
عندما يعود الفلسطينيون إلى فلسطين يجدون بدلاً منها الضفة الغربية وغزة وإسرائيل. وخلال إقامته الوجيزة في الضفة وغزة، وجد تركي أن الأمر الأهم ليس اكتشافه أن جواز سفره الأميركي قليل الفائدة حالما يعلم الجندي الإسرائيلي أنه فلسطيني الأصل بقدر ما هو اكتشاف غياب أية لغة مشتركة بينه وبين أقرانه الفلسطينيين.
"لست، أو على الأقل لم أعد، جزءاً من العالم الفلسطيني. المنفى وأرض المسكن يتخاطبان بلغة غير مفهومة."
هل من شأن إقامة أطول من جانب المنفيين العائدين أن تتخطى هذا الغور الثقافي؟ في قصيدة الشاعر اليوناني الحديث سيفيرس بعنوان "عودة المنفي" يخاطب الشيخُ الذي بقي في وطنه صديقَه العائد على الشكل التالي: "عمَّ تبحث؟/بعد سنوات من الغربة ها قد عدت/ ومعك تصورات غذّيتها/تحت سماوات غريبة." أمّا العائد، وقد أصابه الذهول بعد أن وجد أن منزله القديم، كل ذلك ليس كما تركه، فإنه ينتحب إزاء هذه التغييرات بينما يكرر الشيخ الذي بقي في الوطن التأكيد له: "ستعتاد هذه الأمور شيئاً فشيئاً." غير أن الكثيرين من الفلسطينيين العائدين لا يقيمون في الوطن مدة تكفي للكشف عما إذا كان في وسعهم أن "يعتادوا" الأمر.
في حيفا، أراد تركي أن يحقق رغبة لازمته طوال حياته وهي الرغبة في زيارة البيت الذي ترعرع فيه فتياً وغادره سنة 1948. غير أن الإسرائيلي الذي يقطن المنزل طرده كما طُرد من قبْل كثير من الفلسطينيين الذين حاولوا الأمر ذاته. غير أن التقارب الحقيقي بين الشعبين يستدعي اعتراف الإسرائيليين لأنفسهم، وللفلسطينيين أيضاً، بأنهم استولوا على مدنهم وقراهم، وبأن البعض منهم (أي الإسرائيليين) يعيش اليوم في بيروت عربية. هذا هو الموقف الذي توضّح في الأعوام الأخيرة في كتابات بعض من يسمّونهم "التصحيحيين" أو "المؤرخين الجدد"، أمثال بني موريس.
في مسقط رأسه، يقول تركي، "لم أشعر بشيء." ومع ذلك، فإن الرغبة في العودة، ولو بشكل ما، لا تزال تعتريه. وفي ختام الكتاب، يذهب إلى حيفا مرة أُخرى ويمشي على الشاطئ في ساعات الصباح الأُولى. وهناك يمثّل عودة رمزية فيستدعي "البابا" (والده) من خلال صيحة كأنها في صحراء، ويقول له إن الأب أيضاً قد عاد إلى حيفا من خلال الابن. وهذا مشهد مؤثر، بالنسبة إلى فلسطيني آخر، وحزين، وهو يكشف عن مدى عمق الرغبة في العودة. غير أن هذا التمثيل الرمزي للعودة يساهم في تكيّف الكاتب مع الفكرة المتمثلة في أن حيفا لم تعد المواطن، بل الموطن هو واشنطن.
أي نوع من البيوت ذاك الذي يسكنه تركي في واشنطن؟ إذا كان ثمة من بيت، فهو في الضواحي. هذا لأن رؤيته لأميركا باتجاهها السائد، والتي عبّر عنها في قصيدة تخيّل فيها "ماهية (الأميركاني) الفاضل"، والتي يكررها في النص الحالي، هي رؤية موحشة: "يوم الأحد الماضي كان يوماً جيداً لأكون فيه (أميركانياً) فاضلاً. دهنتُ طاولة المطبخ/ وتحادثتُ وجاري من الباب للباب/بينما كان هو يغسل سيارته/وبين هذا الأمر وذاك، نهرتُ ابني لأنه كان يلعب/بعضوه التناسلي، وأكلت بطاطا مقلية إلخ..." ولا يؤمن تركي بالأمم: "رأيي أن فكرة الأمة تبقى فكرة مغلوطاً فيها إلى درجة العبث." ومن دون العون من العائلة أو الإيمان أو المجموعة الأصلية، وهذه أشياء يرتكز البشر عليها اتقاءَ السقوط، يبقى تركي في خضم العذاب، مدمناً على المخدرات والكحول، يبحث بلا طائل عن المعنى (وهي لفظة يرددها مرات كثيرة، وفي بعض الأحيان من دون حاجة)، وعن شيء يؤمن به، وعن "الشعور بالانتماء إلى منزل ينزل فيه."
غير أن تركي نفسه كتب مرة يقول "ينبغي للعمل الشعري ألاّ يعكس آمال المجتمع الذي يعيش الشاعر فيه فحسب، بل عليه أن يسعى ليكون نافذة" على حياة ما، ويطمح إلى أن يضفي على مناظر المجتمع المحطمة شيئاً من الكرامة. لذا، فالشاعر ينفي كونَ العنف واليأس والموت حكراً على روحه. فلنأمل بأن يكون في عودة تركي الرمزية إلى حيفا، والمصالحة مع النفس بشأن هويته، واقتراب خريف عمره ما يمنحه الهدوء الكافي لاستعادة مثل تلك الرؤية.