لماذا تركتَ الحصان وحيداً
محمود درويش
لندن: رياض الريس للكتب والنشر، 1995. 168 صفحة.
"أسجل ما يشبه السيرة،
وأعيد تأليف ماضيّ."[1]
يعيد محمود درويش في مجموعته الشعرية الأخيرة "لماذا تركت الحصان وحيداً" تأثيث قصيدته بالعناصر الأولى، مستخدماً ذاكرة الطفل فيه ليطل على الفضاء الزماني - المكاني الذي شهد صرخة الراوية في القصيدة. وهو يستخدم ضمير المتكلم لتدشين المشهد في هذا العمل الشعري المركّب، الذي يتشابك فيه السرد والغناء والدراما والحوار والتعليق، ليوحي بهيمنة نوع السيرة على أفق هذا العمل الشعري. وعنوان النص الافتتاحي في هذا العمل يشدد على عنصر الولادة منظوراً بعين الذات في فضاء زماني آتٍ "أرى شبحي قادماً من بعيد." ويضيء العنوان المأخوذ من سياق النص ذاته المشروع الشعري ويكشف عن استراتيجياته وغاياته المتمثلة في إعادة ترتيب سيرة الذات والجماعة من منظور الزمان الحاضر، في ضوء التجربة التراجيدية التي سجلها الشاعر في عمله الشعري بدءاً بـ "أوراق الزيتون" وصولاً إلى "أحد عشر كوكباً"، الذي يمثل قمة تطور تجربة درويش الشعرية، ويضع شعره في مصاف أهم التجارب الشعرية العالمية خلال القرن العشرين. وتبدو السيرة الشعرية من هذا المنظور إعادةَ تركيب لكِسر المكان في الذاكرة، ونوعاً من إعادة ترتيب السياق لماضٍ تصدع وملأته الشروخ أكثر من مرة. ويكشف لنا صوت الراوي - الشاعر عن بُعد الرغبة الذاتية في مشروعه؛ عن النزعة الإرادوية التي تعيد ترتيب المكان والزمان الغائمين من منظور الواقع الراهن، وقدرته على تشكيل الماضي وإعادة ترتيب عناصره.
أطل كشرفة بيت، على ما أريدْ
أطل على أصدقائي وهم يحملون بريدْ
المساء: نبيذاً وخبزاً،
وبعض الروايات والأسطواناتْ...
(ص 11)
واللافت في هذا المقطع الافتتاحي أن الشاعر يستخدم فيه تشبيهاً يوحي بالثبات والإطلالة على المكان المحيط (كشرفة بيت). إن العالم منكشف هكذا، وبصورة سافرة، أمام العين التي تشاهد، لكن هذا العالم المراقَب سرعان ما يتحول إلى مشهد تنظره العين الداخلية للراوي - الشاعر. إن الاستعارة المكانية تعمل الآن، من خلال عملية تحويل غير منظورة، عبر اختفاء العنصر الثاني من عناصر التشبيه (شرفة البيت) من المقطع التالي (أطل على نورس، وعلى شاحنات جنودْ/تغير أشجار هذا المكان، ص 11)، على الانتقال بالقارئ إلى زمان ومكان ماضيين للإطلال على ما تصوره العين الداخلية، وما تعيد ذاكرة الطفولة تأثيثه بالأشجار وشاحنات الجنود والنوارس والأنبياء القدامى والسلالم الحجرية والمناديل التي تخفق في الريح. لكن ما ينبغي أن نلاحظه في هذا المشهد الافتتاحي لهذا العمل الشعري المركّب هو أن الحاضر يظل يخترق الماضي على الدوام. إنه يعيد تشكيله في كل لحظة، وينوء بثقله عليه ويمنعه من أن يظل ماضياً. وإذا كان الشيء المألوف أن يقوم الماضي بتشكيل الحاضر ومنعه من الاحتفاظ براهنيته، فإننا في هذا العمل الشعري نستطيع أن نلمس إلى أي مدى يضغط الحاضر على الماضي ويقطع سيرورته. إن الراوي - الشاعر يفتح المشهد ليرى شبحه قادماً من بعيد، في إشارة إلى رحلة الذاكرة في ماضي الذات واستعادة تفصيلات المكان والزمان الغائبين، لكن هذا المشهد الذي يطل القارئ عليه ليس ماضياً خالصاً بل هو معجون بعناصر الحاضر وشروطه، بجروحه وتمزقاته. ومن هنا تبدو الحركة السريعة بين أشياء الماضي والتاريخ والحاضر والمستقبل. إن العين المراقبة للراوي - الشاعر تتحول ما بين سطر وآخر إلى عين داخلية، ثم إنها سرعان ما ترتد إلى المشهد الخارجي لتعيد التقاط التفصيلات اليومية البسيطة (أطل على كلب جاري المهاجر/من كندا، منذ عام ونصف... ص 12)، في محاولة للبقاء قريباً من اللحم الحي للواقع، من المشهد الذي تستطيع العين المراقبة التشديد على واقعيته. لكن هذا الواقع القريب من الأصابع؛ الواقع الذي تستطيع حدقة العين أن تحيط به وتسبل الجفون عليه، يمتزج في المشهد الشعري بإلماعات تاريخية بعيدة وقريبة، إلى الفُرس والروم والسومريين، وصور شعرية مستعادة، حصان أبي الطيب المتنبي المسافر إلى مصر وعِقد إحدى فقيرات طاغور. إن الماضي يصبح أكثر حضوراً وقرباً من الأصابع من الحاضر نفسه في تمهيد واضح ليغمض الراوي - الشاعر عينيه ويعيد ترتيب لحظات الماضي.
أطل كشرفة بيت، على ما أريدْ
أطل على شبحي
قادماً
من بعيدْ... (ص 15)
ينقسم هذا العمل الشعري من ثم إلى ستة مشاهد أو ست حركات، هي بمثابة فصول السيرة الذاتية للشاعر. الحركة الأولى المعنونة بـ "أيقونات من بلور المكان" وصف شعري لولادة الراوي - الشاعر ورحيله عن قريته بعد اشتعال الحرب سنة 1948. لكن بدلاً من أن يبدأ الراوي - الشاعر بوصف الولادة فإنه يؤثث المشهد بما يوحي بالاستعداد للحرب أو للرحيل أو لكليهما معاً.
أسرَجوا الخيل،
لا يعرفون لماذا،
ولكنهم أسرجوا الخيل في ا لسهل
(ص 19)
إن السطور الشعرية السابقة تبدو بمثابة نبوءة، إرهاصاً بما سيحدث بعد قليل من رحيل وعودة. لكن حدث ولادة الراوي - الشاعر يقطع النبوءة، ويفتح المشهد على المكان الذي تنبئ عناصر الخصب والتفتح فيه، ونوّار اللوز والخبيزة التي يولمها شهر آذار/مارس لفِناء الكنيسة، بأنه يستعد لاستقبال طفل جديد ستندس صرخته في شقوق المكان. ثمة منظر رعوي وهيمنة لعناصر الخصب في لحظة الولادة، لكن هذا المنظر مهدد بالصورة الافتتاحية، التي أوردناها قبل قليل، وهي تضفي نوعاً من الالتباس والريبة وتشيع الإحساس والخوف وترقب المجهول. ويتواصل هذا الإحساس بالريبة والخوف من خلال وصف صرخة الطفل بأن فيها حذراً لا يلائم طيش النباتات. ومن الواضح أن درويش أراد بخلق هذا الجو من الترقب أن يمهد لحركة الرحيل التي ألمحت إليها صورة الخيول المسرجة التي أفضت إلى مجيء شاحناتهم من البحر، ثم صعود الراوي - الشاعر وأهله إلى الشاحنات أيضاً للرحيل عن المكان. في هذا الموضع من الحكاية نلاحظ كيف يجدل الشاعر ببراعة بين ماضي الذات وماضي الآخر، كيف تتعاكس الرحلتان على الرغم من أن وسيلة النقل هي نفسها (الشاحنات). ثمة ندم وتبكيت للضمير، واتهام لجيل الآباء بارتكاب معصية الرحيل، وحوار بين الأب وابنه يكشف عن الرواية الجماعية لجنود جيش الإنقاذ الذين حاربوا ببنادق مكسورة، والسكان الذين ابتعدوا وتركوا الحصان وحيداً يؤنس وحشة المكان.
ههنا حاضر
لا مكان له،
ربما أتدبر أمري، وأصرخ في
ليلة البوم: هل كان ذاك الشقي
أبي، كي يحملني عبء تاريخه؟
ربما أتغير في اسمي، وأختار
ألفاظ أمي مثلما ينبغي
أن تكون... (ص 30)
في الحركة الثانية المعنونة بـ "فضاء هابيل" تعويض عن الحاضر المكسور (شظايا يركبها/الآخرون مرايا لصورتهم بعدنا... ص 30) بالغناء. عود إسماعيل، الذي يُرجّع اسمه صدى اسم جد العرب إسماعيل بن إبراهيم، يعيد الزمان إلى أوله، إلى الخطوة الأولى والتكوين الأول. ويتقاطع في سياق إعادة الخلق والتكوين حدث القتل الأسطوري - الرمزي الأول في الخليقة (قتل قابيل هابيل) مع حدث قتل قابيل اليهودي المعاصر هابيل الفلسطيني. إن درويش يذوب شخصاً وشاعراً في إسماعيل المنشد وعازف الناي ليعيد تشكيل ملامح الحاضر بالغناء أو بالشعر. ولهذا السبب تصعد السخرية من كلمات الأب الذي روى للابن أن القلاع الصليبية (قضمتها حشائش نيسان بعد/رحيل الجنود... ص 35)
... كانت الحرب انتهت
ورماد قريتنا اختفى بسحابة سوداء لم
يولد عليها طائر الفينيق بعد، كما
توقعنا، ولم تنشف دماء الليل في
قمصان موتانا. ولم تطلع نباتات، كما
يتوقع النسيان في خوذ الجنود
(ص 46)
وتسعفنا هذه المقابلة الساخرة بين حدثين تاريخيين، هما الغزو الصليبي والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، بتحديد المعنى الضمني لفضاء هذا المشهد. إن الشاعر يسمي هذا القاسم من عمله الشعري "فضاء هابيل"، ويؤثثه بعناصر حدث القتل جميعها، قابيل وهابيل والغراب، حتى أنه يضمن الآية القرآنية التي تروي حكاية الغراب مع قابيل. ثم إنه يورد مقابلات ضمنية بين الحدث الكوني - الأسطوري للقتل الأول وبين تعاقب الغزاة على جسد الأرض الفلسطينية عبر التاريخ. إن درويش لا يقدم تأويلاً تاريخياً لما حدث، لكنه يؤسطر هذا الحدث، ويشكل من مادة اليومي والملموس تصويراً مجرداً للتراجيديا الشخصية والجماعية، بحيث يصبح النشيد وسيلة لإعادة الفردوس المفقود والاستعاضة عن الواقع الخشن الفظ بالحلم، بالفن والشع.
... يعبرون جميعهم تحت
القصيدة. يعبر الماضي المعاصر مثل تيمورلنك
يعبر تحتها. والأنبياء هناك أيضاً يعبرون
وينصتون لصوت إسماعيل ينشد: يا غريب،
أنا الغريب، وأنت مثلي يا غريب الدار،
عد... يا عود بالمفقود، واذبحني عليك
من الوريد إلى الوريد
هللويا
هللويا،
كل شيء سوف يبدأ من جديد (ص 48) ويمكن القول إن قصيدة القطار تعمل بصورة تامة على إحلال صوت الراوي - الشاعر محل صوت المنشد (إسماعيل). إننا هنا بإزاء عملية إبدال للأصوات، حيث تظهر شخصية الشاعر التي كانت مختفية وذائبة في الشخصية المروي عنها، وهي تقوم بدءاً من هذه القصيدة بتلوين العالم برؤيا الغريب المنفي الحالم بفضاء آخر. عند هذا المفصل من هذا العمل الشعري المركّب، تصبح تراجيديا الذات والمجموع واليأس والإحباط من التجربة الجماعية التاريخية هي الموضوعة المهيمنة في "لماذا تركت الحصان وحيداً". مشهد انتظار متواصل يذكر بشخصيات صمويل بيكيت، بفلاديمير واستراغون في مسرحية "في انتظار غودو". وما هو لافت في هذه التجربة العبثية، التي يحاول الراوي - الشاعر التغلب عليها بالغناء، أنها تعجن التجربتين الذاتية والجماعية في مشهد الانتظار والقلق.
مر القطار سريعاً،
كنت أنتظر
على الرصيف قطاراً مرّ،
وانصرف المسافرون إلى
أيامهم... وأنا
ما زلت أ نتظر (ص 62)
وهكذا تعود السطور الثلاثة الأخيرة من القصيدة لترجع الصدى نفسه، صدى الانتظار الطويل الطويل والكمنجات الباكية عن بعد. والحركة الثالثة في العمل "فوضى على باب القيامة" تنسج لحظاتها من مادة الانتظار. إنها تقوم بإزاحة الفواصل الزمنية بين العصور فتستدعي الإلهة الكنعانية أنات، وجلجامش الطامح إلى الخلود وقهر الموت، وذات الشاعر الجوال بين الأزمنة في فترة الغزو الصليبي لمصر، وذكريات الطفولة، وحواراً يديره الشاعر مع جده وأمه. لكن ما يتحكم في عناصر المشهد هو "صورة.. الحاضر المكسور" (ص 70)، التي تدفع الشاعر إلى صنع "تراجيديا مكررة" (ص 84)، وما يظل من هذه التوليفة التاريخية الأسطورية اليومية هو صورة العنقاء المذبوحة ومشهد الانتظار اليائس الطويل.
كان شيء يشبه العنقاء
يبكي دامياً،
قبل أن يسقط في الماء،
على مقربة من خيمة الصياد...
ما نفع انتظاري وانتظارك؟ (ص 94)
يقود هذا التساؤل إلى حركة رابعة تثيرها ذكرى السجن الذي يتحول إلى "غرفة للكلام مع النفس"، واتخاذ تدابير شعرية تمنع اليأس من بسط نفوذه. هنا، في هذه الحركة، يصرح درويش بخطته لتحويل الهزيمة إلى نصر باستخدام القصيدة والاعتصام باللغة. ومن الواضح، استناداً إلى شعر درويش وما يكتبه من نثر وما يدلي به من أحاديث صحافية، أن القصيدة بالنسبة إليه، والثقافة بالنسبة إلى الفلسطينيين عامة، هما حصن الدفاع الأخير أمام هزيمة الحاضر المدوية. من هنا، يبدو الشعر وسيلةً لاستعادة الوطن (القصيدة... /في وسعها أن تعيد،/بصرخة غادرينيا، وطنا!)، وسبباً في انقسام النفس على ذاتها والسقوط في شرك الاغتراب عن الذات وعدم التعرف على الهوية.
القصيدة بين يدي، وفي وسعها
أن تدير شؤون الأساطير،
بالعمل اليدوي، ولكنني
مذ وجدت القصيدة شردت نفسي
وساءلتها:
من أنا
من أنا؟ (ص 102)
إن درويش يشدد في هذه الحركة على اتخاذ اللغة وطناً بديلاً من المكان الغائب الذي لا يعود. وهو، انطلاقاً من القدرة الأسطورية للقصيدة على إعادة وطن ضائع، يردد على الدوام أن لغته هي وطنه، في إشارة واضحة إلى سكنى الشاعر لغته ليعيد تأكيد روايته لتاريخ شعبه.
... فلتنتصر
لغتي على الدهر العدو، على سلالاتي،
عليّ، على أبي، وعلى زوال لا يزول
هذه لغتي ومعجزتي، عصا سحري،
حدائق بابلي ومسلتي، وهويتي الأولى (ص 118)
تبدو اللغة في هذا المفصل من مفاصل الحكاية الشعرية، التي بدأت برغبة الشاعر في الإطلال على ما يريد، رحماً وملاذاً للراوي - الشاعر الذي يريد أن يكتب حكايته ليرث أرض الكلام ويملك المعنى تماماً. وتفضي بنا رغبة الشاعر هذه إلى الحركة الخامسة من حركات القصيدة، التي يرتدي فيها الراوي - الشاعر قناع طرواديٍّ يحاور هيلين معاصرة تنفي اشتعال حرب طروادة، فتقول له: /حرب طروادة لم تكن/لم تكن أبداً (ص 128)، في إشارة بليغة إلى حرمانه حتى من تصور ذاته طروادياً معاصراً مهزوماً يمكنه أن يتكلم بلسان الطرواديين، ويعيد رواية الحكاية باسمهم واسمه. ونحن نعلم أن درويش يعود في شعره الأخير إلى إنطاق المحرومين من الكلام والممنوعين من رواية حكاياتهم عبر إعادة صوغ رواية الهنود الحمر أو رواية تاريخ الأندلسيين الخارجين من الأندلس، في محاولة لخلق تعبير مواز غير مباشر عن التجربة الفلسطينية. ومن الواضح أن هذه المشاغل الشعرية التي تعود إلى أرض الحكايات التاريخية، المعجونة بملامح الأسطورة في الكثير من فصولها، نابعةٌ من أرض الراهن، والشاعر يقوم بعملية تصعيد لهذا الراهن من خلال اللجوء إلى حكاية الطفولة والتاريخ والأساطير ليحفظ شعره من هجوم التفصيلات اليومية، التي تفرغ القصيدة من لهبها الدائم المشتعل، وليحشد الحكاية اليومية بأقصى جرعة ممكنة من المعنى؛ وتلك في الحقيقة طريقة صنع الأساطير، التي هي مهمة الشاعر الملحمي الذي يطمح محمود درويش أن يكونه في زمن تضاءلت فيه قامة هذا النوع الشعري وتوزعت عناصره على الأشكال الشعرية المختلفة. ومن الواضح في "لماذا تركت الحصان وحيداً" أن درويش ينتهك البنية الملحمية التي تتبدى في ثنايا هذا العمل في الحركة السادسة والأخيرة بإغلاقه المشهد على حوار الذات مع الآخر، وهو حوار يخبئه السعال السريع (ص 168)، في إشارة دالة إلى غياب الحوار وانعدام شروط الوصول إلى تفاهم مشترك يحفظ لكل طرف حقه في رواية حكايته. ويمثل الشاعر لغياب أرضية الحوار بمشهد مثول برتولت بريخت أمام محكمة عسكرية إسرائيلية يقوم فيها القاضي بتحويل الشهادة إلى محاكمة، ويتحول القاتل إلى ضحية ويغتصب رواية الضحية وأسماءها.
مضت الحرب. وضباطك عادوا سالمين
والكروم انتشرت في لغتي، يا سيدي
القاضي - وهذا شأني الشخصي - إن
ضاقت بي الزنزانة امتدت بي الأرض،
ولكن رعاياك يجسون كلامي غاضبين
ويصيحون بآخاب وإيزابيل: قوما، ورثا
بستان نابوت الثمين!
ويقولون: لنا الله
وأرض الله
لا للآخرين!
ما الذي تطلبه، يا سيدي القاضي،
من العابر بين العابرين؟
في بلاد يطلب الجلاد فيها
من ضحاياه مديح الأوسمة!
آن لي أن أصرخ الآن
وأن أسقط قناع الكلمة:
هذه زنزانة يا سيدي، لا محكمة
وأنا الشاهد والقاضي. وأنت الهيئة المتهمة
فاترك المقعد، واذهب: أنت حر أنت حر،
أيها القاضي السجين (ص 158)
إن درويش يصل بإغلاقه المشهد على سكانه ذروة السخرية، عندما تحرر الضحية جلادها من ذنبه تجاهها، ويتبادل الضحية والقاتل المواقع في نص شعري، أظن أنه من أفضل النصوص الشعرية، التي كتبت خلال العقد الأخير، عن اللحظة الملتبسة للراهن الفلسطيني الذي تختلط فيه التراجيديا بالكوميديا السوداء، وتضرب المفارقة بجذورها في أرضه.
[1] من حوار أجراه الشاعر اللبناني عباس بيضون مع الشاعر محمود درويش في مجلة "الوسط" (لندن)، 1995.