تبدو الحياة السياسية في إسرائيل، بعد شهور قليلة من اغتيال رئيس الحكومة يتسحاق رابين، طبيعية تقريباً. وقد استأنفت الأمور جريانها المعتاد، مع بعض التغيرات الناجمة عن المناخ العام الذي ولده الاغتيال؛ فالحدث طُوِّق بسرعة، والطقوس والشعائر الجنائزية (الرسمية والعفوية) والتحركات السريعة للمؤسسة السياسية (بمختلف أطرافها، حكومة ومعارضة) امتصت الانفعال والمشاعر القوية التي ولدها الاغتيال، والحكومة الجديدة ألَّفها شمعون بيرس بيسر وبمساعدة من المعارضة، وأخذت هذه الحكومة تمارس مهماتها من دون أن تضطر إلى اتخاذ إجراءات استثنائية جذرية.
هل يعني ذلك أن الاغتيال كان حدثاً معزولاً واستثنائياً وعارضاً، وأن المجتمع الإسرائيلي ينبذ العنف، وبرهن، من خلال ردة فعله على الاغتيال وتعامله مع نتائجه السياسية، عن أنه يتمسك بالديمقراطية أسلوبَ حكم ويرفض العنف وسيلةً لحل الخلافات الأيديولوجية والسياسية العميقة في داخله؟ ثم ماذا بشأن سياسة رابين السلمية، أو "ميراثه"، وفقاً للتسمية التي أطلقها المحللون السياسيون في إسرائيل؟ هل يواصل بيرس سياسة رابين فيما يتعلق بالحل مع الفلسطينيين، ومع سورية، أم يختط لنفسه سياسة جديدة، ويطرح حلولاً مختلفة؟
إن في المختارات من الصحافة الإسرائيلية العبرية، التي نخصص لها ملف هذا العدد من المجلة، ما يقدم إجابة جزئية عن هذين السؤالين الكبيرين، ويبقى باقي الإجابة طي الغيب وما ستتمخض الأيام عنه على أرض الواقع. وتتناول المختارات في القسم الأول حدث الاغتيال: وقْعه على المجتمع الإسرائيلي والمستوطنين في المناطق المحتلة؛ ردة الفعل العامة؛ تفسيره؛ أسئلته الكبرى؛ وما ينطوي الحدث عليه من معان ودلالات بالنسبة إلى حاضر الدولة والمجتمع والمستوطنين ومستقبلهم. أمّا في القسم الثاني، فتتناول المختارات سياسة الحكومة الجديدة برئاسة شمعون بيرس، وما يتوقعه (أو لاحظه) المحللون فيها من اختلاف عن سياسة سلفه، مع إطلالة سريعة على تفكير المستوطنين وموقفهم في هذا الشأن.
أولاً
حِداد الأبناء[1]
لا أحد يعرف على وجه اليقين كم كان عدد الإسرائيليين الذين مروا أمام نعش يتسحاق رابين. وإذا كان صحيحاً أن نحو خمسين ألفاً مروا كل ساعة، فيمكن أن يصل العدد إلى مليون شخص. وفي أية حال، لقد ودعته جماهير غفيرة [....] لقد حصل رابين في موته على ما لم يقدمه له كثيرون في حياته: الحب والندم [....]
منهم من جاء مدفوعاً بتقديره لسياسته، مثل الآلاف من البشر الذين جاؤوا إلى المهرجان الذي اغتيل [رابين] في نهايته. ومنهم من جاء لجزعه من الاغتيال، حتى لو لم يكن من مؤيدي سياسته. وكثيرون جاؤوا، ربما، بدافع من الإحساس بالذنب: عندما صرخوا "رابين قاتل" و"رابين خائن" - لم يكونوا يقصدون قتله. لقد رمز رابين إلى إسرائيل الأصلية، كما عرف كيف يرمز إلى إسرائيل الجديدة. لقد كان من مواليد البلد، بطل الحرب، طارد العرب، ومحتل المناطق. ورحبعام زئيفي كان أيضاً ذلك كله، لكن خلافاً لزئيفي - الذي ربما يمثل ما للدولة من نزعة سيئة ومتشائمة ومنغلقة على ذاتها - عرف رابين كيف يمثل تفاؤل الإسرائيليين وتوقهم إلى الخلاص من الضغوط التي حاصرتهم منذ إقامة الدولة، والتي قرنها كثير منهم بالعرب. لقد وعدهم رابين بالخلاص من العرب، وخلافاً لزئيفي، دلهم على كيفية فعل ذلك من دون أني خسروا صورتهم الذاتية أناساً محبين للسلام والديمقراطية. لقد أوقد رابين بموته ذبالة شعور جمعي قَبَلي، منسيّ تقريباً: الرصاصات التي أصابته كما لو أنها أصابت الإسرائيليين جميعاً.
والأمر الذي فاجأ الجميع هذا الأسبوع أكثر من أي شيء آخر هو استعداد الشبان لاتخاذ رابين بطلاً لهم. لقد جلسوا حول الشموع، وكتبوا كلمات أغانٍ على أوراق وحرقوا أطرافها ووضعوها أمامهم كما لو أنها تحتوي على كلام مقدس: "لم أغنِّ لك يا بلدي"؛ "أين نستطيع بعدُ أن نجد رجالاً كهذا الرجل." جلسوا على هذا النحو ساعات طويلة، كتلاً كتلاً من الشبان الصغار، صامتين، يحدقون في النار المشتعلة، وفي صفحات من جرائد حرقوا أيضاً أطرافها بعناية كما لو أنها هي أيضاً تحتوي على كتابة مقدسة. لقد كان هذا نوعاً من العبادة الدنيوية، التي لا جذور لها في التراث اليهودي [....]
يخيل إليَّ أن الصلة بين حِداد الأبناء وبين رابين مجرد صلة غير مباشرة. لكن ما الذي يعبّر هذا الحداد عنه بالتأكيد - لست أدري.
ربما، ومن يدري، شعر الأبناء أن رابين كان يعدهم بعالم جديد، لن يكونوا فيه مضطرين إلى الخدمة كجنود في غزة؛ أو ربما انجرفوا لأن التلفزة و"يديعوت أحرونوت"، والإذاعة و"معاريف" جرفتهم معها.
يخيل إليَّ أنني سمعت فيما قالته حفيدة رابين كلاماً سمعته فيما قالته ليئا رابين وشمعون شيفيس عنه: كان عملاقاً وبطلاً، وخلّف فراغاً. ومع احترامي لحزن عائلة رابين ومشاركتي لها في حدادها وحداد أصدقائه، فإنني أشك في أنه يوجد في قاعة البطولة الإسرائيلية مكان بعدُ لبطل عملاق آخر. لقد رمز رابين إلى إسرائيل الآخذة في النضج، التي بدأت تعيد النظر في الأساطير التي فرضها الآباء المؤسسون عليها. ولولا أن المجتمع الإسرائيلي بدأ يتحرر من عبادة البطولة والموت والكليشيهات التي فرضتها الدولة عليه في مطلع عمرها لكان من المشكوك فيه أن يسمح لرابين بصنع السلام مع الفلسطينيين. وسيكون مدعاة للسخرية أن يطلب من الشعب أن يتذكر رابين في حجم أكبر مما كان عليه في حياته [....]
اغتيال أب[2]
"كل اغتيال سياسي هو بيان مشترك. بيان تشارك القاتل والضحية في تأليفه. أحياناً تكون هذه شراكة نضجت ببطء، وأحياناً تكون مرتجلة تماماً. لكن كل اغتيال سياسي ليس فعلة شخص مفرد. وحتى لو كان القاتل مشوشاً نفسياً وقام بالعمل بمفرده، فإنه يمثل قوى تاريخية ونفسية تشده إلى ضحيته."
بهذه العبارات يصف المؤرخ الهندي أسيش نندي اللقاء المأساوي بين القاتل الهندي الأصولي ناتورام جيزه وبين ضحيته المهاتما غاندي في 30 كانون الثاني/يناير 1948، في أثناء صلاة المساء التي كان نبي اللاعنف يتلوها. وقد صرّح القاتل في قاعة المحكمة أن "أبا الأمة دفع حياته ثمناً لتمزيقه أرض الوطن الهندي المقدسة وتسليمه أجزاء منها إلى المسلمين."
إن القاتل والضحية (يغآل عمير ويتسحاق رابين) هما إبنان لهذا البلد، لكن [.... كل منهما] هو قطع من مشهد جيله، من تجربة حياته ونظرته إلى العالم. إن التناقض بين أبناء جيل "الصابرا" المنتمين إلى ثقافة سياسية علمانية وعقلانية وبراغماتية، وبين أولئك المنتمين إلى الثقافة القومية - الاندماجية والأصولية - الدينية، لهو تناقض عميق جداً ومرّ.
بيد أن هذا التناقض لا يكفي في حد ذاته لتفسير الاغتيال، لأن هذا لم يكن اغتيالاً سياسياً أو أيديولوجياً فحسب؛ لقد كان أيضاً فعل قتْل أب. لقد قتل الوارث أباه، لأنه كان في نظره يتآمر لحرمانه من ميراثه. وقد شعرت الجماهير بالمغزى المرعب لهذه الفعلة وحدّت على القتيل حِداد الأبناء على أب رحل عن العالم، حداداً حميماً غير مرتبط بالضرورة بالمواقف السياسية.
تصف كلماتُ التأبين يتسحاق رابين بأنه واحد من الآباء المؤسسين، أو بأنه آخرهم. لكن الزعيم الراحل لا ينتمي إلى الآباء المؤسسين، وإنما هو في الحقيقة ممثل لجيل الأبناء الذي واصل القيام بمهمة الآباء. إن أفراد جيل أبيه وأمه هم الذين صنعوا الثورة الصهيونية، وهم الذين صاغوا أهدافها السياسية والاجتماعية، وهم الذين حاكوا الأساطير التي ربّوا أولادهم عليها.
وقد أعد الآباء المؤسسون لجيل الأبناء، "الجيل الأول للانعتاق"، مهمة مستمدة من مخزون رسالتهم، حددوا هم وحدهم مضامينها وأهدافها، ونفذ الأبناء بإخلاص وصايا آبائهم الثوريين - "جاهزون دوماً لتنفيذ الأوامر" - من دون اعتراض على الأساطير الشافية التي حيكت من أجل حل التناقض بين نظام قيم إنسانية - اشتراكية وبين الواقع الذي فرض تحقيق الصهيونية بقوة السلاح. لقد تجندوا للعمل الطلائعي وأجادوا في تربية الدواجن من خلال الاعتقاد الذي زرعه آباؤهم في قلوبهم بأنهم لا يقاتلون ضد العرب، وإنما ضد الصحراء. وتحولوا هم بدورهم إلى أسطورة مقدسة من جملة تعابيرها: "قلة ضد كثرة"، "طهارة السلاح"، "سنابل وسيف" [....]
وقد كان رابين إبناً نموذجياً وأدى على امتداد عشرات الأعوام واجبه القومي بإنشاء مؤسسات عسكرية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية، مرتبطة بمفهوم "الأمن". وبفضل هذا الإخلاص علا شأنه، وعيّنه الآباء المؤسسون الذين كلت قواهم أول رئيس للحكومة من بين جيل الأبناء.
وظل شعور رابين بالولاء لميراث الآباء المؤسسين مستمراً حتى بعد أن رحل آخرهم عن هذا العالم. ومضى 18 عاماً منذ أن ولي قيادة الشعب إلى أن تجرأ على الاعتراض على مفهومين أساسيين وجّها خطى المشروع الصهيوني منذ اصطدامه بعداء العرب، أبناء البلد، "غير المتوقع": الأول، أنه توجد في أرض إسرائيل جماعة قومية شرعية وحيدة، وبالتالي فإن حق الشعب اليهودي في المطالبة بالوطن كله هو حق مطلق؛ والمفهوم الآخر هو أن العرب لا يفهمون سوى لغة القوة.
وفي اللحظة التي صافح رابين ياسر عرفات، كان بذلك يعيد تعريف المفاهيم الأساسية للصهيونية: يعلن عن انتصار الصهيونية، وينهي مهمته كإبن واصل مهمة الآباء. وبات يعتقد أنه يستطيع أن يكون أباً مؤسساً لإسرائيل جديدة، وموجهاً لأبناء جدد في بلورة الحقبة الجديدة.
لكن القدر شاء له نهاية مختلفة. قاتل "يمثل بجنونه قوى تاريخية ونفسية" لتعصب ظلامي وتشبث بالماضي الغارب [....]
آخر قتيل[3]
رابين هو آخر قتيل لحرب الأيام الستة. إن تلك الحرب الخاطفة لم تنته قط. رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، المحتل - المحرر، الممجد والمبجل، علق في الفخ الذي ساهم أكثر من غيره في صنعه. لقد نزعت في تلك الحرب سدادة القمقم الذي كان الجني - المشيح محبوساً فيه [....][.......]
ومرت الأعوام، واتضح أن الجني مخيف جداً. كم عاماً يمكن العيش مع تجاهل الاحتلال؟ كم من الوقت يستطيع المرء أن يبقى حساساً تجاه إهانة الآخرين على الحواجز، والتمييز العنصري المحلي الصنع؟ أضف إلى ذلك حفنة صغيرة من أتباع كهانا ومقداراً لا بأس فيه من الإرهاب والدم - والوصفة جاهزة - تم إفساد المجتمع الإسرائيلي. عذب عرب وقتلوا، ولم يفتح أحد فمه ليعترض. واستمر زعماء المستوطنين في إشاعة وهم التعايش: الرباط الدنس بين المركبة والحصان. وفي إسرائيل الهاربة من اللاسامية تغلغلت وتوطنت مفاهيم عنصرية بالمعنى الكامل للكلمة [....] ومن هذا المعسكر [اليميني] خرج التنظيم السري الإرهابي اليهودي الذي أباح دم العرب [في أوائل الثمانينات]. وتصبَّب النظام عرقاً برهة وجيزة، ثم وضع ملايين من الناس تواقيعهم على عريضة تطالب بالعفو عن المسجونين [من أعضاء التنظيم]، فوقّع رئيس دولة إسرائيل على كتاب الاستسلام وأطلقهم.
وفي ذروة أيام الانتفاضة، جرى الحديث عن عشرات من حالات القتل الغامضة، وعن الاعتداءات على العرب التي قام بها مرزيل وليفينغر، ولم يحرك أحد ساكناً [....] والآن قام القاتل الذي يمثل النموذج الكامل. ليس مجنوناً، بل هو عاقل وفي منتهى البرودة. لم يحرضه أحد، وإنما حركته تعاليم أسياده الحاخامين. ضغط بإصبعه على الزناد، وفجأة نحن جميعاً متهمون [....]
إلزموا الصمت - إنهم يقتلون[4]
ربما لم تحدث من قبل جريمة قتل سياسي شفافة وواضحة بهذا المقدار من حيث دوافعها، وأهدافها، وخلفيتها الفكرية، والمناخ الذي ولدها، والاستنتاجات الواجب استخلاصها منها - وأيضاً من حيث رمزية زمان ومكان ارتكابها - مثل اغتيال يتسحاق رابين على يد متطرف يميني في ذروة مهرجان من أجل السلام. لكن لو هبط عندنا رجل من كوكب المريخ بعد أسبوع فقط من الاغتيال لظن أنه رحل عن عالمنا عن عمر طويل رجل شهير حسن السلوك والتهذيب، قريب إجمالاً من الليكود - داعية من دعاة الإجماع، أوصى الشبيبة قبل رحيله بالغناء، وأوصى اليسار بالكف عن التحريض.
في المهرجان الجماهيري الذي أقيم إحياء لذكرى رابين - بالذات في الساحة نفسها التي رُدِّدت فيها كلمة السلام بنبرة صوت عالية - لم تلفظ كلمة "سلام" سوى مرة واحدة فقط. وفي جلسة الحداد الحزينة اختفت كلياً كلمة "قتل" [....] لقد شرع جهاز الطمس والكبح والتلطيف في العمل فوراً في إثر الاغتيال، واستمد التشجيع، من جهة، من النزعة المسالمة الهروبية لـ "اليسار" الذي اعتاد في مثل هذه الأيام على تخدير نفسه بالغناء الحزين وبالمجاملات "الخلاقة"، واستمد التشجيع، من جهة أُخرى، من ديماغوجية "التناظر" الفظيعة [فيما يتعلق بالمسؤولية عن الاغتيال] الصادرة عن اليمين والليكود.[.......]
[....] إن اليمين مستمر في الهجوم بشراسة، كما لو أن شيئاً لم يحدث، واليسار مكتف بارتداء سترة واقية من الرصاص، والكل فجأة يمتدح الشبيبة، كجزء من عمل جهاز الكبح الجبار، الذي ما فتئ منذ أكثر من ربع قرن يطمس الحقيقة المزعجة: تدور في إسرائيل حرب أهلية بين "أرض - إسرائيليين" وبين "إسرائيليين"، يطلق النار فيها بين فينة وأُخرى طرف واحد فقط.
لقد أدخل اغتيال رابين هذه الحرب إلى ردهة كل منزل، لكن لا أحد - ما خلا حفنة من المحمَسين - يرغب في خوض غمارها. وهكذا [....] تجد كل الأطراف نفسها تتعزى بتبادل الاندهاش من "هذه الشبيبة المدهشة والرائعة"، مضفية على الوضع مسحة طفولية.
لكن ما هو "المدهش" حقاً في كل هذا البكاء، والصمت، وإيقاد الشموع "الخلاق"؟ وما هو "الرائع" والمثير لأعمق الانفعالات في كتابة اسم رابين بالحصى؟ إن ما حدث ليس موتاً مؤسفاً لنجم غناء معبود، وإنما هو اغتيال زعيم لأشخاص بالغين في ذروة اندفاعه. وما خلفه رابين ليس صمتاً كئيباً ودعوة إلى المسالمة، بل صرخة عالية مشحونة بنتائج سياسية مصيرية.
[.......]
[....] يقال لنا إن هذا ليس هو الوقت الملائم لـ "تصفية الحسابات"؛ إنه ينبغي الآن البحث عما يوحِّد لا عما يفرِّق - سلامٌ أقل، وزفولون هامر [زعيم المفدال] أكثر؛ إن خسارة الحرب الأهلية أفضل من الاعتراف بوجودها وبأنها جارية فعلاً؛ إنه من أجل السلام الداخلي ينبغي أن يتقاسم هابيل وقبيل وصمة القتل. ويقال لنا أيضاً، حتى عندما يكون القتيل رئيس الحكومة: "إلزموا الصمت - إنهم يطلقون النار!". لكن صوت دم رابين صارخ بنا من البرية. في البداية قتلوا صورته، ومن ثم قتلوه. والآن يحاولون أن يقتلوا أيضاً مغزى قتله.n
الثورة الثانية[5]
كان مكان رابين في أسفار التاريخ مضموناً حتى قبل سقوطه في الساحة التي تحمل اسمه الآن: فتوقيعه اتفاق السلام مع الفلسطينيين وضعه في الصف الأول من القادة الذين عرفوا كيف يقومون خلال فترة وجيزة بوثبة جريئة إلى الأمام. وحولت نهايته المأساوية حياته إلى أسطورة [....]
لكن رابين لم يدفع حياته ثمناً لمصافحته عرفات فقط، وإنما كان أيضاً ضحية المقاومة العنيدة للموجة الثورية الثانية التي تجتاح الشعب اليهودي في تطلعه إلى حياة طبيعية وإلى الاندماج في التاريخ العالمي. ومن نواح معينة، فإن التغيرات الجارية في المجتمع الإسرائيلي حالياً تنطوي على تأثيرات أبعد مدى من تلك التي ولدت الموجة الثورية الأولى، مرحلة الثورة القومية. وبهذا المعنى، هناك مقدار كبير من الصحة في ادعاء اليمين أنه هو بالذات الحارس الأمين لجمرة الصهيونية التقليدية، الصهيونية ببساطتها الأولى [....]
وفي الحقيقة، كانت الصهيونية حتى الأعوام الأخيرة مصنوعة من قماش واحد. وكانت الفوارق بين التيار الديني والتيار العلماني، بين اليمين واليسار، بين "الاشتراكيين" والآخرين برمتهم، فوارق في الدرجة واللون لا في الجوهر. وكانوا جميعاً شركاء في النظرة الأساسية للصهيونية [....]
[.......]
وقد حال التقارب الفكري والروحي بين الحاخام [أبراهام] كوك [الزعيم الروحي للصهيونية الدينية القومية] وبين زعماء حركة العمل دون ضرورة ظهور قوى ظلامية من النوع الذي سيظهر لاحقاً في هيئة عدد من حاخامي الضفة الغربية وقطاع غزة، وتلاميذهم وأنصارهم الكثيرين؛ ولم يكن هناك وقتئذ من ينبغي أن تصدر ضده فتوى تحلل دمه، ولم يكن ثمة سبب لذلك. إن الطاقة الروحية لمفكري حركة العمل وزعمائها [....] كانت في صميم جوهرها شبيهة جداً بمثيلتها في الصهيونية الدينية. ومن ناحية الهوية الثقافية الأساسية، فإن إبني جيل "الصابرا" [موشيه] دايان و[يغآل] آلون كانا أقرب إلى جيل آبائهم [....] مما كانا إلى جيل أبنائهم وأحفادهم.
[....] وقد حارب التيار الديني والتيار العلماني بأجنحته الثلاثة (الصهيونية العمومية، والصهيونية التصحيحية، والحركة العمالية)، وبالشراسة ذاتها، اندماج اليهود في المجتمعات الأُخرى وخطر فقدان الهوية اليهودية التقليدية، وسعوا بالتصلب عينه للاستقلال ضمن أوسع حدود ممكنة. وقد اختلفوا على الوسائل لا على الأهداف. وعرفوا جميعاً الصهيونية بمصطلحات ثقافية وتاريخية ودينية أو صوفية، وطالبوا الشعب اليهودي، كقبيلة واحدة، بالتماثل مع الطليعة المكافحة من أجل أرض إسرائيل. ولذلك لم يكن الخلاف بعد حرب الأيام الستة بين أنصار حركة أرض إسرائيل الكاملة، بكتّابها وشعرائها، وبين أنصار "الحل الوسط الإقليمي" وأنصار "الحل الوظيفي" سوى خلاف تكتي فقط. ولم يشكك أي من المتجادلين في شرعية الاحتلال، التي أرسوها على حقوقنا التاريخية، ولم يكن لدى أي منهم شكوك فيما يتعلق بهويتنا القومية، وفكر قليلون فقط في أن للعربي الفلسطيني الحق نفسه الذي لنا في أرض إسرائيل.
[.......]
وبفضل هذا القاسم المشترك، كان في وسع المؤسسة الإسرائيلية، ما خلا حفنة خارجة على الإجماع، أن تحاول استغلال العدوانية العربية في حزيران/يونيو 1967 لإنهاء حرب الاستقلال بالاستيلاء على الضفة الغربية. وبهذا المعنى، يوجد أساس فعلي للادعاءات التي يدعيها أتباع غوش إيمونيم وأنصارهم العلمانيون؛ فمن ناحية الأهداف التي تتطلع غوش إيمونيم إليها، يظل الاستيطان أقرب إلى الصهيونية الأصلية من النزعة القومية الليبرالية الآخذة في التبلور في الأعوام الأخيرة في المجتمع العلماني. فالإسرائيلي العلماني، المنفتح على العالم الغربي ويستمد وحيه منه، بدأ يكتسب هوية ذاتية. وهذه الظاهرة هي بمثابة ثورة لا تستطيع الصهيونية الدينية الرسمية هضمها، بل حتى القومية الراديكالية، العلمانية في مظهرها فقط، تنفر منها [....]
مما لا شك فيه أن التحول إلى الليبرالية الذي نخبره حالياً هو بمثابة قفزة إلى المجهول. ومن هنا الخوف العميق الذي تشعر الأوساط القومية به حالياً. إن البعد الأحادي الجانب للصهيونية كان مصدر قوة وثقة بالنفس، وجعل إقامة إسرائيل وإرساء دعائمها أمراً ممكناً. وكان ذلك هو الأساس لِـ "الحلف التاريخي" الشهير بين حركة العمل والصهيونية الدينية [....]
إن إحساس المستوطنين وحلفائهم في أوساط اليمين بأن الاعتراف بالمطالب القومية الفلسطينية هو نهاية حقبة إحساس مبرر تماماً. إن إسرائيل آخذة في الاقتراب من تراث العالم الغربي المستنير، وفي تبني قيم كانت غريبة عن الصهيونية الأصلية. لقد كان كتسنلسون وغوردون وعغنون والترمان [من أبرز مفكري وكتّاب الحركة العمالية الصهيونية الأوائل] قريبين جداً من البيئة الثقافية التي انبثقت الصهيونية الدينية منها. أمّا الكتّاب والفنانون الشبان في أيامنا هذه، فهم بعيدون عن عالم الحاخامين بُعد الشرق عن الغرب. وبالمقدار نفسه تتسع الهوة بين أولئك الذين يريدون تعريف الهوية الإسرائيلية بمصطلحات سياسية وقانونية ويعتبرون العرب مواطنين متساوين في الحقوق، وبين أولئك الذين يريدون رؤية المجتمع الإسرائيلي قبيلة أقامت لنفسها دولة. إن القومية الراديكالية، "العلمانية" في ظاهرها فقط، والقومية الدينية، تخوضان الآن كتفاً إلى كتف معركة تراجعية. والفرصة الوحيدة لمنع تطور مسارات تنطوي، في نظر الأيديولوجيين من بين المستوطنين، على تهديد لقدرة إسرائيل على الاستمرار في البقاء في المدى البعيد هي في إبقاء حالتي الحرب والاحتلال. فمن أجل المحافظة على الهوية اليهودية، يتعين على إسرائيل أن تبقى معسكراً حصيناً.
[....] ومنذ فترة طويلة وعالم المستوطنين يستعد لكفاح حتى النهاية ضد "الاندماج في الحضارة الهيلينية". إنه لا ينوي احتلال تل أبيب، لأنه لا يستطيع ذلك، لكنه لن يتخلى عن خوض كفاح عنيف من أجل القاعدة الجغرافية التي أنشأها في المناطق [المحتلة]. وفي نظر اليمين الراديكالي، يبدو المستوطن، حامل السلام وخادم الرب، وكأنه "اليهودي الجديد" الحقيقي. إن الاستيطان في المناطق [المحتلة] هو ذروة الصهيونية، ومن يتنازل عن موقعه في رأس الجبل سينحدر بالضرورة إلى الهاوية.
وفي نظر هؤلاء الناس، كان رابين وبيرس عدوّين للأمة، وخائنين لتاريخ ممتد منذ ثلاثة آلاف عام. ومن جهتهم، دخلت المعركة بين الصهيونية وأعدائها مرحلة حاسمة مع توقيع اتفاق أوسلو الأول. لقد تورط في اغتيال رابين أفراد قليلون فقط [....] لكن التفكير في أن التمرد قد انتهى بذلك هو مجرد وهم. إن هؤلاء الناس يحسون بالغربة في إسرائيل الراهنة، وسيقاتلون دفاعاً عن مواقعهم في المناطق [المحتلة] بجميع الوسائل الممكنة. ومن يعتقد أن اغتيال رابين سيشل استعدادهم لمواصلة الكفاح، يستهين بتصميم اليمين الراديكالي وقوته الروحية [....] إن الاستيطان وتوابعه يهددان مستقبلنا. لكن مستعمرتنا هذه، شأنها شأن جميع المستعمرات السابقة لها، مصيرها إلى الزوال. وما ليس واضحاً بعد هو فقط الثمن الذي سندفعه ريثما يحدث ذلك.
وضع الأمور في نصابها الصحيح[6]
أحدث اغتيال رابين صدمة عميقة، لكن يبدو، مع مرور الوقت، أنه لم يغير شيئاً. فهذا ليس "بلداً آخر"، و"لم تنقلب الأمور رأساً على عقب"، ولم تحدث "هزة أرضية"، ولا أساس من الصحة لكليشيه الكليشيهات - "الدولة التي لن تكون كما كانت من قبل." كما أن الاغتيال لم يكشف عن وجود "شبيبة رائعة"، وإنما أكد فقط ما كان رابين قد قاله غير مرة في حلقات مغلقة عن الرخاوة، والتباكي، والقدرة المنخفضة على الصمود تحت الضغط. وقد يتضح بسرعة، عندما يحين أوان التنازلات الموجعة، أن هذه الشبيبة الرائعة ليست إلا دعامة واهية.
إن الاغتيال لن يجعل الناس يحبون فجأة شمعون بيرس أكثر ما أحبوه في الأعوام الخمسة والأربعين التي مضت منذ أن بدأ ممارسة نشاطه الرسمي السياسي، على الرغم من إنجازاته الكثيرة في كل منصب تقلده. كما أنه لن يجعل رابين أكبر قدراً مما كان عليه في حياته. وغداً سيقدم بيرس حكومته الجديدة [أمام الكنيست]، وستتصرف الدولة، ولا سيما محترفو السياسة، بحسب المبدأ: مات الملك - عاش الملك.
[.......]
لقد كانت الصدمة العامة عميقة وصادقة، وهي موضوع لتحليلات علماء النفس أكثر مما هي موضوع لقلم صحافي. وبروحية "اذكروا محاسن موتاكم" منح الناس رابين الإعجاب والحب اللذين ضنوا بهما عليه في حياته، وطوبوه قديساً للقديسين.
جعلوه "أعظم من بن - غوريون"، مؤسس الدولة، أو على الأقل تالياً له - كما لو أنه لم يكن هناك زعيم آخر في هذا البلد جلب السلام مع مصر في مقابل كل سيناء ومستوطناتها، والذي من دونه ما كان ممكناً بدء أي ترتيب مع ياسر عرفات. وجعلوه "صاحب الرؤية النبيلة"، بينما كان الجميع في حياته يعرفون أن الذي جلب أوسلو كان خصمه اللدود في معظم أيام حياته، شمعون بيرس، الذي كاد رابين ألا يُدخله في حكومته عندما ألَّفها.
[.......]
لقد كان رابين ملح الأرض، لكنه لم يكن شخصاً "لطيف المعشر"، كما قال أحدهم في وصفه في مناسبة لإحياء ذكراه - لقد حقد، وازدرى، وساهم في توليد مشاعر اليأس لدى الأغلبية الصامتة بين المستوطنين. وقد أخطأ غير مرة، وفعل أكثر من مرة عكس ما قاله. لكنه بعقله التحليلي عرف متى يتعين عليه أن يقدم على فعل ما ينبغي فعله، على الرغم من مخاوفه، وكفى بهذا كي يستحق المكانة التي اكتسبها [....]
إن ما صدم الجمهور ليس فقْد إنسان اكتشف الجميع فجأة أنهم كانوا يحبونه، وإنما انتهاك تحريم أن يقتل يهودي رئيس حكومة إسرائيل على خلفية خلاف سياسي. لقد كتبنا غير مرة عن خطر نشوب حرب أهلية، وعن خطر احتمال نشوء تنظيم سري وإرهابي يهودي، وعن خطر احتمال صدام عنيف عندما تأتي مرحلة إخلاء المستوطنات في المناطق. لا تصدقوا الشعار الجميل: "لن نرفع يداً ضد جنود الجيش الإسرائيلي"، الذي يتردد على ألسنة المتعصبين. إن أوساطاً قادرة على أن تولد من صلبها قاتلاً مثل قاتل رئيس الحكومة مستعدة لارتكاب كل فظاعة ممكنة. ولا توجد دولة [ديمقراطية] تقبل بأن تملي الأقلية فيها إرادتها على الأغلبية. وبالتالي، قد يأتي يوم تضطر الديمقراطية فيه إلى الدفاع عن نفسها بواسطة الجيش وبقوة السلاح. ومن هنا المنبع العميق للصدمة التي أصابت الجميع - الخوف مما يمكن أن يحدث في المستقبل.
ما أخشاه هو أن اغتيال رابين لم يغير شيئاً. وكل ما نسمعه عن وحدة الشعب والمصالحة الوطنية هراء في هراء. وبالنسبة إلى المدى البعيد، من المبكر القول إن اغتيال رابين قد قوى اليسار وأضعف اليمين، ليس فقط لأنه قد يتضح أن الاتهام الجماعي لممثلي نصف الشعب هو سيف ذو حدين، وإنما أيضاً لأن الجمهور ما زال منقسماً بشأن المناطق [المحتلة] كما كان سابقاً. وما زال قطاع عريض من الجمهور غير موافق على سياسة الحكومة. ومن الممكن في إثر عملية إرهابية أو اثنتين، أن يعود مناخ عدم الاستقرار، الذي اتسمت فترة حكم رابين به، إلى الظهور.
ثانياً
مؤشرات على سياسة بيرس[7]
[.......]
انحرف بيرس عن مقاربة رابين السياسية، إن لم يكن ناقضها تماماً، في الجبهتين الرئيسيتين: بات يسعى لحل دائم مع الفلسطينيين مرتكز إلى "حل وظيفي"؛ ومن أجل إحياء المفاوضات مع سورية، زود الإدارة الأميركية بالأوكسجين الذي كان رابين يرفض تقديمه.
لقد تحدث رابين عن فصل بين إسرائيل والفلسطينيين، وعملياً رسم الخريطة الدائمة التي كان يتطلع إليها: إزاحة الخط الأخضر باتجاه الشرق بحيث يُضمُّ إلى دولة إسرائيل قطاع يقع جنوبي القدس وشماليها، ويشتمل على غوش عتسيون ومعاليه أدوميم وغفعات زئيف والمستوطنات الواقعة إلى الشرق من كفار سابا. وأعد لغور الأردن دور منطقة أمنية. أمّا بيرس، فهو يعلن حلاًّ معاكساً: الإبقاء على الوضع الذي يعيش فيه إسرائيليون وفلسطينيون متداخلين في الضفة الغربية، وجَعْل الفصل بينهما "وظيفياً" لا جغرافياً. وهو متحمس لهذا الحل إلى درجة أنه أوضح أمس أن الحكومة لن تدفع تعويضاً لأي شخص من المستوطنين يطلب بمبادرة منه العودة إلى داخل الخط الأخضر. إن بيرس مستعد لأن يمنح قطاع غزة مكانة دولة فلسطينية مستقلة ترتبط بالضفة الغربية بطريق بري لم يوضح مكانته، لكنه ما زال مستمراً في طرح فكرة إطار سياسي مشترك بين الأردن والفلسطينيين و/أو إسرائيل.
وبالنسبة إلى القطاع السوري، حرر بيرس هذا الأسبوع المفاوضات من الأثقال التي وضعها رابين عليها: سمح للإدارة الأميركية بتقديم مقترحات للجسر بين مواقف الطرفين. ويبدو أنه قال الكلمات التي امتنع رابين من قولها (أو أنه قالها لكنه حظر إبلاغها إلى حافظ الأسد). أي، من الممكن أن يكون بيرس قد خول كلنتون أن يُبلغ إلى الأسد السيناريو الافتراضي: إلى أين ستكون إسرائيل مستعدة للانسحاب في مقابل سلام كامل عندما يعلن الأسد استعداده لتعريف السلام على نحو مرض لها.
وقد رافقت بروز هذين التوجهين السياسيين ضجة إعلامية وسياسية دلت بدورها على التحول عن الخط الذي اتبعه رابين: تناقلت وسائط الإعلام أخباراً مفادها أن بيرس فوجئ عندما عرف تفصيلات المفاوضات التي أجراها رابين مع السوريين. ولم يكن واضحاً ما إذا كان قد فوجئ بتعنّت رئيس الحكومة الراحل إزاء الأمور الإجرائية وصِيَغ النصوص، أو بالعكس - من المسافة التي قطعها رابين سرّاً في اتصالاته بالأسد.
وفي أية حال، فإن هذه الأخبار، حتى بعد نفي صحتها، بدت وكأن الغرض منها تهيئة الرأي العام للمرونة في الموقف التي أبداها رئيس الحكومة الجديد في محادثاته في البيت الأبيض.
زعيم الشرق الأوسط الجديد[8]
[.......]
اقترح بيرس [خلال زيارته الولايات المتحدة في أواسط كانون الأول/ديسمبر 1995] أساساً جديداً لبدء المفاوضات مع سورية. التخلي المطلق عن وضع شروط مسبقة. قال بيرس لكلنتون: تستطيع أن تقول للأسد إنني لم آت حاملاً شروطاً وإنذارات نهائية، وإنما أتيت حاملاً أفكاراً، وأنتظر من الأسد أفكاراً. "المفاوضات ليست سوقاً وينبغي عدم إدارتها في أجواء سوق." وقد أبدى رئيس الحكومة مرونة إسرائيلية مطلقة فيما يتعلق بأشكال المفاوضات: مفاوضات مباشرة؛ وساطة أميركية؛ مستوى رفيع أو متدن؛ ضباط أو مدنيون؛ لقاءات سرية وعلنية، ولْيختر [الأسد] ما يشاء. وقال بيرس إن الوسيلة الأفضل هي البدء بلقاء مباشر بينه وبين الأسد، لكن هذا أيضاً ليس شرطاً. وأوضح أنه سيستقبل بترحاب حتى مقترحات توفيقية أميركية، وهذا ما كان في نظر سلفه أمراً محرّماً بصورة مطلقة.
[....] لقد وضعت إسرائيل في الأعوام الأربعة الماضية شروطاً متصلبة في المحادثات مع سورية، سواء فيما يختص بالأمور الجوهرية أو بالأمور الإجرائية. وجُمّدت المفاوضات منذ حزيران/يونيو الماضي بسبب إصرار رابين على إجرائها في الإطار الذي تقرر سابقاً، وإصراره على استئناف المحادثات بين الضباط. وهنا أبدى بيرس انفتاحاً إسرائيلياً، الهدف منه إخراج الأسد من قشرته، مرة وعلى الدوام - أو أن يظهر كمسؤول عن إفشال المفاوضات.
[.......]
لقد أكثر بيرس من الحديث عن الخريطة الجديدة التي ستنشأ في الشرق الأوسط، لكنه عندما سئل عن الثمن الذي ستدفعه إسرائيل في مقابلها، وضع حدوداً لانفتاحه. إذ قال: "لقد قال يتسحاق رابين إن عمق الانسحاب سيكون كعمق السلام. ولا يوجد قول أوضح من هذا، وليس من الضروري معرفة علم الحساب من أجل فهم المقصود بذلك." إذاً، لماذا لا توضع المعطيات كلها في المعادلة الآن؟ "لم يحن أوان ذلك." وقال بيرس لكلنتون إنه سيعلن الثمن من على منبر الكنيست عندما يعرف المقابل الذي سيعرضه الأسد. "قلت للرئيس - ووافقني على ذلك مئة في المئة - إنني أفضل التحدث [عن ذلك] في موطني في القدس، كي لا يقال إن ذلك هو نتيجة لما سمعته في الولايات المتحدة." وقال بيرس للمراسلين الصحافيين إن لديه صيغة للانسحاب مختلفة عن صيغة رابين، لكنه سيحتفظ بها في سره. وفي أحاديث أُخرى قال بيرس إن أغلبية الجمهور في إسرائيل تعرف ما هو ثمن السلام مع سورية، بعد أن قام مستوطنو الجولان بمجهود ناجح لشرحه.
وقد امتنع بيرس من إبداء مواقف واضحة إزاء الموضوعات مدار الخلاف، مثل مدة الانسحاب ووسائل ضمان الأمن التي ستطلبها إسرائيل. فهذه سيتم البحث فيها في المفاوضات التفصيلية. لكنه حدد في محادثاته مع كلنتون المجالات التي توجد فيها مشكلات بالنسبة إلى الحل مع سورية، وفي رأسها مشكلة المياه. وعرض أفكاراً أولية لترتيب السيطرة على مياه الجولان ومصادر نهر الأردن.
[.......]
لقد أراد بيرس أن يظهر في الولايات المتحدة زعيماً للشرق الأوسط الجديد. وكان الهدف من سلسلة لقاءاته مع القادة العرب، قبل الزيارة وبعدها، إظهار أنه يستطيع ترتيب أمور لهم في واشنطن. جلب للملك حسين هدية (عدة طائرات من طراز "ف - 16")، واهتم بأمر حصول ياسر عرفات على معونات. ونوّه بالاثنين في خطابه أمام الكونغرس، بالإضافة إلى مبارك. وشدد في محادثاته مع كلنتون على أهمية بلد صديق آخر، هو تركيا، في نظام القوى في الشرق الأوسط.
وأعادت زيارة بيرس للمغرب، المحطة الأخيرة في رحلته، البسمة إلى وجهه الذي بدا مكتئباً في واشنطن. وقد ناقش بيرس مع الملك الحسن، صديقه القديم، إيجاد صلات مع السعودية، التي ما زالت حتى الآن تتصرف ببرودة تجاه إسرائيل. إن الملك الحسن صديق حميم للملك فهد، الذي يمتلك قصراً في المغرب. "سيحاول أن يرتب لقاءات، وهناك أفكار كثيرة"، قال رئيس الحكومة، الذي طلب من الملك أن يبلغ إلى الأميركيين تأييده لأفكاره.
يرسي بيرس استراتيجيته للسلام الشامل على ثلاثة ملوك - الحسين والحسن وفهد - والأمر ليس عرضياً: فالثلاثة، في تقديره، ليسوا متحمسين لرؤية الأماكن المقدسة في القدس تحت سلطة عرفات، ولذلك فإنهم سيؤيدون حلاًّ دينياً ما، يحول دون تقسيم المدينة. لكن في الطريق إلى القدس، سيضطر بيرس إلى النزول من على هضبة الجولان، "جبلنا الأخير"، بحسب تعبيره، وما زال يجهل ما إذا كان الأسد سيتجاوب مع مساعيه.
بيرس ورؤية أرض إسرائيل الكاملة[9]
[.......]
[....] لمّح يوسي بيلين في لقائه الأخير [....] مع زعماء حركة السلام الآن، إلى أنهم إذا كانوا معنيين، مثله، بالتوصل إلى الحل الدائم مع الفلسطينيين الآن، فينبغي لهم ممارسة ضغوط في هذا الاتجاه على "أصحاب القرار". وفهم زعماء حركة السلام الآن من ذلك أن ضغوط بيلين على بيرس ليست كافية. إن بيرس يعتقد أنه يجب تفادي الضغط على الواقع الجاري تشكّله في الضفة الغربية الآن، وأن صورة الحل الدائم ستتبلور بالتدريج من خلال الاتفاقات المرحلية. وإذا كان لا بد من الانتظار، فإنه سينتظر بصبر، خلافاً لموقفه من المفاوضات مع سورية، التي يعمل على تسريعها.
قال يوسي سريد في هذا الأسبوع إنه لا يريد أن يقارن بين رابين وبيرس، لكنه في المناسبة نفسها قارن بين نظرتيهما المختلفتين إلى الأمور. "في بداية دورة الكنيست الشتوية، قدم رابين عرضاً سياسياً لنظرته الجغرافية ورسم خريطته. وأيدتُ هذا العرض من حيث الأساس لأنني مع الحل الجغرافي، لا من دعاة الحل الوظيفي. إن الحل الوظيفي يعني استمرار الوضع الراهن، واستمرار الاحتكاكات المتواصلة بيننا وبين الفلسطينيين، وبقاء جميع بؤر المواجهة وجميع النقاط المثيرة للخلاف، واستمرار الحقبة السيئة التي اتسمت بالإيمان بتكامل البلد، مع تغيير بسيط يأخذ في الاعتبار الأوضاع الراهنة. إنه حل يفترض بقاء المستوطنات والمستوطنين، وبقاء التشابك في الضفة الغربية، وبقاء عيشنا وسطهم وعيشهم وسطنا، ويعني استحالة وصولنا ووصول الفلسطينيين إلى الراحة، واستحالة حصولنا وحصولهم، كل على ميراثه. وهذا موقف عارضته دائماً، ولا أرى أي منطق في تبنيه الآن. بل بالعكس، لقد قطعنا نصف الطريق مع توقيع اتفاق أوسلو، وفجأة نتجه للسير في طريق جديد كلّياً."
هل يؤمن بيرس حقاً بإبقاء الوضع الراهن على حاله في الضفة؟ يجيب سريد: "لا أستطيع القول إن بيرس قال لي ذلك بنفسه، لكن لا أستطيع القول أيضاً إنه لا يتراءى لي شيء يشبه في صورته وجوهره الحل الوظيفي."
ويقول وزراء في الحكومة كلاماً مشابهاً، لكنهم يفضلون عدم إعلانه. وفي صفوف المعارضة الداخلية لما يبدو أنه رغبة لدى بيرس في إبقاء صورة مستقبل الضفة الغربية ضبابية وغامضة، وترك الأمور تتطور على نحو بطيء وغير واضح، يوجد الوزير إفرايم سنيه، الذي يُنظر إليه باعتباره أكثر صقرية [من سريد] في آرائه. إن سنيه، مثل سريد، يشعر بأنه أبعد، منذ اغتيال رابين، عن مصادر معرفة ما يجري في عملية السلام. وهو غير مستعد للتحدث الآن عن رأيه في الحل الوظيفي في الضفة الغربية الذي يتطلع إليه بيرس (إنه يعارضه لأنه هو أيضاً، مثل رابين وسريد، يؤيد حلاًّ جغرافياً وفصلاً واضحاً [بين الشعبين] وتقاسماً لـ [الأرض])، لكنه مستعد لإعلان معارضته لما يعتقد أنه "تقدم متسرع" في القناة السورية. وينطوي هذا، بحسب اعتقاده، على هدف مقترن به: عدم التقدم في القناة الفلسطينية، وتحويل أوسلو (ب) إلى حل دائم [....]
يقول سنيه: "لديّ ثلاثة خطوط حمر فيما يتعلق بالمفاوضات مع سورية: الأول، حدود يمكن الدفاع عنها من ناحية عسكرية؛ الثاني، تطبيع كامل للعلاقات أبعد مدى من العلاقات الدبلوماسية، أي تطبيع على غرار ما هو قائم اليوم بيننا وبين الأردن؛ الثالث، المحافظة على مصادر المياه في يد إسرائيل. وإذا كان ذلك غير واقعي، فإنه لن يتم اتفاق." ويضيف: "آمل أن تكون هذه هي وجهة بيرس. وإذا كان رابين قد اغتيل فإن ذلك لا يجعل مطالبنا الأمنية أقل أهمية. وأعتقد أن ثمة في الحكومة أشخاصاً يفكرون مثلي، لكني لست متأكداً من أنهم يقولون لبيرس ما يفكرون فيه." (يقصد سنيه، إيهود براك) [....] وفي اللقاء نفسه بين يوسي سريد وزعماء حركة السلام الآن في هذا الأسبوع، عرض بيلين رؤيته شخصياً للحل الدائم. قال إنه ستكون هناك ضرورة لأن تحتفظ إسرائيل بـ "أغلبية المستوطنين وقلة من المستوطنات"، ورسم بخطوط عريضة خريطة الكتل الاستيطانية [التي يرى أن من الضروري الاحتفاظ بها]، وهي تشتمل على القدس الكبرى، وغربي السامرة، وأريئيل، وكرني شومرون، وإمكان وجود عسكري في غور الأردن. وبالنسبة إلى مستقبل المستوطنات خارج هذه الخريطة، قال بيلين إن سكانها سيخيَّرون بين إمكانين: إمّا العيش تحت السيادة الفلسطينية، وإمّا حزم متاعهم وتلقي تعويضات والعودة إلى داخل الخط الأخضر. وهو يفترض أن المستوطنين سيفضلون، في معظمهم، الخيار الثاني.
لم يسأل أحد بيلين عما يفكر بيرس فيه بشأن خريطته هو، لكن تكوّن لدى المشاركين في اللقاء انطباع بأن الخلافات في الرأي بين الاثنين فيما يتعلق بالحل الدائم ليست تقنية فقط.
وفي منزل الحاخام يوئيل بن نون في [مستوطنة] عوفرا، الحصين والمحروس جيداً، أبدى الحاخام، مثل ما أبدى يوسي سريد، أسفه لاحتمال موت الخيار الجغرافي الذي آمن يتسحاق رابين به، لكنه، خلافاً لسريد، يعتقد أن الحل الوظيفي الذي يتطلع بيرس إليه قد يعرض للخطر استمرار السيادة الإسرائيلية في الضفة، حتى أكثر من الحل الذي سعى رابين له. وقال إنه يمكن وصف بيرس بكلمة واحدة: "إذاً" - لا أحد يعرف ما إذا كان سيقرر السير في هذا الاتجاه أو ذاك!
لقد تحدث بن نون غير مرة منذ اغتيال رابين. إنه يؤكد أن الحل الوظيفي هو ما يوجه حالياً خطى رئيس الحكومة الجديد، لكنه لا يستطيع الجزم بما سيفعله بيرس في نهاية المطاف. "بحسب ما أفهمه، فإن بيرس مستعد لسيادة فلسطينية كاملة في غزة، لكن لا في يهودا والسامرة، حيث هو مستعد لسيطرة وظيفية مشتركة، لخطوة لا تستلزم اقتلاع مستوطنات. وخلافاً لرابين سيكون بيرس أكثر حذراً من الناحية الجغرافية. إن فكرة الكتل الاستيطانية غير قائمة في ذهنه. إنه يتحدث عن عناقيد مستوطنات لا عن كتل. وإذا كانت هناك أراض ذات ملكية خاصة بين المستوطنات في الضفة فلن يحاول تجزئتها.
"لقد كان رابين بحسب فهمي للأمور، آخر المؤمنين بمشروع ألون، وبناء على ذلك رسم خريطة الحل الانتقالي. وكان بينه وبين رؤساء مجلس مستوطنات الضفة والقطاع تفاهم غير موقع مفاده أنه سيكون في الإمكان ضم كل ما يمكن ضمه من طرق التفافية وطرق واصلة بين المستوطنات إلى هيكل المستوطنات، الذي كنت أسميه السلّم، لأن للسلّم عارضة شرقية وعارضة غربية ودرجات واصلة بينهما. إن رابين، في الحقيقة، لم يتعهد قط، حتى بينه وبين نفسه، بشأن ما يمكن أن يفعله أو لا يفعله، ولكنه كان مستعداً لأن تكون شبكة المحاور والطرق بمثابة بنية تحتية لخيارات جديدة، لا مجرد شبكة هامشية. ويؤسفني جداً أن أولئك الأشخاص من زعماء يهودا والسامرة، الذين كانوا جزءاً من ذلك التفاهم غير المكتوب، لم يمتلكوا الجرأة لتأييده علناً [....]"
لماذا يخشى بن نون [حل] بيرس؟ [....] "التفاهمات التي كانت لنا مع رابين لا يوجد مثيل لها مع بيرس، لأن لدى بيرس أفكاراً أُخرى"، قال: "ربما كان ذلك أمراً حسناً بالنسبة إلى المستوطنات المفردة. لكن فيما يتعلق بالكتل الاستيطانية ومستقبل غور الأردن وصحراء يهودا كجزء من إسرائيل - لا كمناطق عسكرية عازلة - فإن لدينا بالتأكيد مشكلة مع بيرس، لأن نظرته لا تتجه في هذا الاتجاه. إن بيرس يعتقد، بصورة عامة، أن ضم صحراء يهودا وغور الأردن إلى دولة إسرائيل لن يُبقي سوى مجال ضيق للتفاوض. وكان ذلك مصدر خلاف كبير بينه وبين رابين، الذي قلّص منطقة أريحا إلى جيب صغير."
ويعتقد بن نون أن حل رابين الكتلوي والجغرافي كان يشكل "ضمانة إلى حد ما لقدرة المستوطنات على البقاء والاستمرار"، بينما الحل الوظيفي الذي يتطلع بيرس إليه يغلف "كل شيء بالضباب". إن الواقع الجاري تشكُّله حالياً في الضفة الغربية سيتبلور "بفعل القوى الموجودة في الساحة" (المستوطنون في مقابل الفلسطينيين). "وما أخشاه هو أن تبقى المستوطنات في التقسيم الوظيفي جيوباً، مثل جزر في عرض البحر. إن كل شيء سيكون معتمداً عندئذ على قدرة المستوطنين والفلسطينيين على التعاون فيما بينهم، ويبدو لي ذلك أمراً صعباً جداً من الناحية العملية، إلاّ إذا تبنى بيرس جزءاً من الحل القائم على الكتل الاستيطانية، الذي بلوره الجيش بوحي من رابين." [.......]
إن قيادة المستوطنين تقضم اليوم أظفارها غيظاً، وسط الضباب، شأنها في ذلك شأن يوسي سريد وإفرايم سنيه. يقول بن نون: "أعتقد أنه لا يوجد أمامنا إمكان سوى الاندماج في العملية، ومحاولة التوصل إلى تفاهم مع بيرس بصفته رئيساً للحكومة. إذ يوجد لدى بيرس ما لم يكن موجوداً لدى رابين: تأييد أغلبية الشعب. وهذا التأييد وفره له القاتل [....]"
[1] "هآرتس"، 8/11/1995.
[2]"هآرتس"، 9/11/1995.
[3] "هآرتس"، 11/12/1995.
[4] "هآرتس"، 17/11/1995.
[5] "هآرتس"، 17/11/1995.
[6] "هآرتس"، 21/11/1995.
[7] "هآرتس"، 15/12/1995.
[8] "هآرتس"، 15/12/1995.
[9]"هآرتس"، 15/12/1995.