A Comprehensive Dialogue with 'Allama Sayyid Muhammad Fadlallah on His Ideological Formation and His Attitudes Toward the Prominent Issues that Occupy the Arab Homeland and the Islamic World
Keywords: 
مقابلات
اليسار
القومية
العالم الإسلامي
علاقات خارجية
العالم العربي
الحوار بين الأديان
حزب الله
إيران
لبنان
القضية الفلسطينية
Full text: 

أفردت "مجلة الدراسات الفلسطينية" صفحات ملف هذا العدد لحوار شامل مع العلاّمة السيد محمد حسين فضل الله، الزعيم الروحي الإسلامي البارز، وأحد المجتهدين المعاصرين الكبار في الفكر الإسلامي. ويتحدث العلاّمة فضل الله في هذه المقابلة عن أيام دراسته في النجف الأشرف، والمؤثرات الفكرية والسياسية في رؤيته الشاملة، ويبدي رأيه في كثير من القضايا الفكرية والسياسية التي تشغل اللبنانيين والعرب والمسلمين كافة، في الوقت الحاضر. ويشرح موقفه من الحوار مع التيارات الفكرية والسياسية القومية واليسارية العربية، ورؤيته لموقف الغرب مما يجري في الوطن العربي والعالم الإسلامي وسياساته تجاههما، ورأيه في أسس العلاقة السليمة مع الغرب، والحوار بين الأديان السماوية الثلاثة. كما يوضح السيد فضل الله علاقته بحزب الله وإيران، ونظرته إلى حاضر لبنان ومستقبله والعلاقات بين الطوائف فيه، وصلته الروحية والسياسية بالقضية الفلسطينية، وموقفه من المفاوضات السلمية مع إسرائيل وما يمكن أن تسفر عنه من حلول.

أيام الدراسة: في النجف الأشرف كنا نتنفس الشعر ونحاور القوميين والماركسيين

هل لسماحتكم أن تعطونا فكرة عن نشأتكم الدراسية الدينية، على من درستم وبمن تأثرتم أكثر ما تأثرتم في اتجاهاتكم الفكرية؟

ولدت في النجف الأشرف في العراق لأن والدي كان أستاذاً في الحوزة العلمية الدينية في النجف. وبدأتُ دراستي داخل الحوزة - المصطلح للجامعة الدينية هناك - مبكراً؛ فبدأتُ الدراسة في العلوم العربية في سن الحادية عشرة، وكان أستاذي الأول والدي السيد عبد الرؤوف فضل الله، وكان أكثر تتلمذي عليه فيما يسمى هناك مرحلة المقدمات، وهي مقدمات العلوم والسطوح في الفقه والأصول في الكتب العالية المقررة. ثم بدأت أحضر دروس العلماء الكبار، أمثال السيد أبو القاسم الخوئي ثم السيد محسن الحكيم وآخرين من العلماء الكبار؛ ودرست الفلسفة عند أستاذ الفلسفة هناك، الشيخ صدرا الباركوبي. وهكذا، عشت داخل هذا الجو العلمي المكثف الذي يعتمد أسلوبه على تدريب الطالب على مناقشة أستاذه منذ بداية دراسته بحيث لا تتمثل الدراسة في استظهار الطالب ما درس بل في وعيه له.

كانت الدراسة النجفية تنطلق من أساس أن يكون الإنسان هناك تلميذاً ومدرِّساً: تلميذاً في المرحلة التي يدرس فيها، ومدرِّساً في المرحلة التي تجاوزها، يدرِّس الآخرين. ليس هناك صفوف منظمة يختص مدرس معين بها، بل إنك تدخل المساجد، وهذه هي الأماكن التي يدرس الطلاب فيها عادة، فتجد هناك حلقات قد تتسع وقد تضيق تبعاً للثقة بهذا الأستاذ، أو طلاب هذا الأستاذ، أو تبعاً لكمية الطلاب الذين يتذاكرون فيما بينهم. ومن هنا، فإن الطالب الحوزوي النجفي الذي يمارس الدراسة بجدية، ينشأ وهو يعيش هذا الأفق الفكري المنفتح. ولعل هذا هو السر في أن خريجي هذه المعاهد يملكون إمكانات جدلية في مواجهة أي فكر يقدم إليهم حتى لو لم يطلعوا عليه سابقاً.

والنجف الأشرف، بالإضافة إلى أنها حوزة علمية متقدمة ترقى إلى أكثر من ألف سنة، ويأتي إليها طلاب العلوم من سائر أقطار العالم الشيعي في العالم، فهي مدينة أدبية شاعرة، ونحن نعرف أن هناك كثيراً من الشعراء الكبار قدمتهم النجف، كالشاعر محمد سعيد حبوبي والشاعر الجواهري وعلي الشرقي وأمثالهم. حتى إن الشعراء المحدثين، كبدر شاكر السياب، تأثروا بالنجف بصورة أو بأُخرى، ولا أظن أن هناك شاعراً عراقياً لم يتأثر بالنجف. وهكذا كنا نتنفس الشعر، ولهذا تأثرت أنا بهذا الجو ولم أعرف نفسي إلاّ شاعراً؛ فقد نظمت الشعر وأنا في سن العاشرة وسن الحادية عشرة، وأذكر أنني في سنة 1947 - 1948، وكنت في الثانية عشرة من عمري آنذاك، نظمت قصيدة لا أحفظ منها إلاّ أبياتاً في فلسطين، فأنا أقول:

دافعوا عن حقنا المغتصب            في فلسطين بحدّ القضُبِ

واذكروا عهد صلاح حينما           هب فيها طارداً للأجنبي

وكنت منذ ذلك الوقت مشاركاً في الندوات الأدبية والحفلات العامة في هذا المجال. وكنت إلى جانب ذلك منفتحاً؛ كنت خلال بدايات الشباب ونهايات سن الصبا أقرأ المجلات المصرية: مجلة "الكتاب" لعادل الغضبان، ومجلة "الكاتب المصري" لطه حسين، ومجلة "الرسالة" لأحمد حسن الزيات، ومجلة "الثقافة". وكنا نتابع النتاج المصري آنذاك - وكنت أقرأ بعض الترجمات لبعض الأدباء الغربيين مثل أناتول فرانس ولامارتين. وهكذا، كنت منفتحاً على الجو المعاصر من خلال هذه الترجمات.

وكنا نعيش الواقع السياسي. لم يكن هناك وعي كامل، لكن كان هناك إحساس بأن علينا أن نواجه الظروف، وكان العراق في أواخر الأربعينات يضج بالنشاط السياسي. كان هناك اتجاهات سياسية معارضة للحكم تتمثل في القوميين والديمقراطيين والماركسيين أيام العهد الملكي. وعشنا أجواء التظاهرات وأجواء الجو السياسي، والتقينا الإسلام الحركي (من الحركة الواقعية). الحركية السياسية أملت علينا أن نفكر في إسلام حركي، وبدأنا منذ بداية الخمسينات نفكر بهذه الطريقة.

كنا نفكر بالإسلام الحركي بطريقة نظرية، ولم ننتم إلى حزب معين من التيارات آنذاك، كحزب الإخوان المسلمين أو حزب التحرير الإسلامي. لكن كنا نعيش حالة التوتر، وعشنا كجيل منفتح على الواقع السياسي وعلى الواقع الإسلامي، وكنا نفكر أن الإسلام يمكن أن يكون حلاًّ لمشكلات الإنسان في الحياة، وكنا نبحث كيف نؤكد هذا التطلع في ثقافتنا. وكنا نشعر بأن علينا أن نتجاوز الوضع التقليدي الذي كانت النجف تعيشه في النظر إلى السياسة والأوضاع الجديدة، وكنا ننفعل بالأحداث السياسية؛ انفعلنا بثورة مصر على الرغم من أنها ثورة قومية، وكنا نعيش القضية الفلسطينية منذ بداياتها على نحو مسؤول، وبشكل متحرك، حتى إنني أذكر أنني كتبت مقالاً في ذلك الوقت في افتتاحية إحدى المجلات الإسلامية قلت فيه إن القضية الفلسطينية قد تُطرح فلسطينية تارة، وقد تطرح قومية تارة أُخرى، وقد تُطرح إسلامية تارة ثالثة، لكن علينا ألاّ ندخل هذا الجدل، ولينطلق الفلسطينيون في خطهم الفلسطيني ليجاهدوا، وينطلق القوميون في خطهم القومي ليناضلوا، وينطلق الإسلاميون في خطهم الإسلامي ليجاهدوا، لتتكامل هذه الخطوط كلها، وعندما نصل إلى فلسطين في الداخل، عندئذٍ يمكن أن نفكر كيف يكون المجتمع الفلسطيني، لأن الجدل سيدخلنا في متاهات تخرجنا عن الخط الصحيح الذي يمكن أن يؤدي إلى كسب القضية. وكنا نلتقي السيد محمد باقر الصدر، ومن خلال ذلك عشنا الحركة الإسلامية في العراق، التي كانت أول حركة إسلامية في العراق من هذا الجيل، جيلنا وجيل السيد محمد باقر الصدر وآخرين. ولعل الواقع الإسلامي الشيعي لم يختزن حركة إسلامية سواه، لأن الحركة الإسلامية الموجودة آنذاك كانت، بحسب التمييز المذهبي، حركة سنية، ولذلك انطلقت بطريقة وحدوية منفتحة على الإخوان المسلمين وعلى حزب التحرير، وتحركت الأحداث بعد ذلك. ومن هنا، فإنني لا أعتبر نفسي، جواباً عن هذا السؤال، أنني تأثرت بشخص معين. لقد كانت قراءاتي متنوعة، وكانت تجربتي متنوعة، وكانت هذه التجربة تتحرك بين لبنان والعراق، لأنني كنت أزور لبنان بين وقت وآخر. وكنت أعيش منذ ذلك الوقت الحوار مع الماركسيين ومع القوميين في العراق، حيث كانت لي صداقات مع ماركسيين، وكانت الحركة الماركسية حركة واسعة في العراق آنذاك، ومع القوميين العرب وآخرين. ولذلك، أنا أعتقد أن نشأتي الفكرية الإسلامية انطلقت من عدة عناصر؛ فهناك العنصر الذي يمثل الجو العام الديني في النجف، وهناك العنصر المتمثل في القراءات المتنوعة الحديثة، بالإضافة إلى القراءات الإسلامية الحديثة، وهناك الواقع السياسي الذي عشناه في العراق، وكنا نشارك فيه تارة، ونتعاطف معه أُخرى، بالإضافة إلى متابعة المتغيرات التي حدثت منذ ولادة إسرائيل في فلسطين، ومنذ الثورة المصرية والانقلابات التي حدثت في العراق والعالم العربي وما إلى ذلك. وكثير من أساتذتنا وأصدقائنا اعتقد أن هذه هي التي ساهمت في تكويني الفكري، ولذلك، إذا كنتم تلاحظون، فإنني عشت الانفتاح منذ بداية حياتي الفكرية، فأنا لم أحس ولا أحس حتى الآن بوجود أي حاجز بيني وبين أي إنسان آخر مهما يكن فكره ومهما تكن اتجاهاته. إنني أشعر بأن الفكر في علاقته بالإنسان هو إنساني؛ قد يكون الفكر دينياً لكنه إنساني من خلال تمثُّل الإنسان له. لذلك أنا أعتقد أن الإنسان الذي يحترم نفسه ويحترم الإنسان الآخر ويحترم حركة الحياة، لا بد له من أن يكون الإنسان الحواري الذي يحترم أفكار الآخرين حتى لو اتخذ موقفاً منها. ولذلك، فإنني أجتمع في الدائرة الدينية مع السني ومع الدرزي ومع أي شخص آخر يفكر بأي اتجاه في الدائرة الإسلامية؛ أو مع الشيوعي، ومع القومي، ومع الديمقراطي والاشتراكي؛ ومع المسيحي وحتى اليهودي بعيداً عن الخط الإسرائيلي في اليهودية، فإنني لا أشعر بوجود أي حرج، لأنني عشت التنوع منذ البداية. لم أكن منغلقاً في ثقافتي منذ البداية، ولذلك أنا أعتبر أن الإنسان الذي يملك شجاعة أن يؤكد فكرةً عليه أن يملك الشجاعة ليواجه الفكر الآخر. ولذلك كان شعاري، ولا يزال، في الندوات التي أعقدها: ليس هناك سؤال تافه وليس هناك سؤال محرج، الحقيقة تكمن في الحوار.

هل لا تزال النجف الأشرف محافظة على هذا التراث من الحيوية الفكرية والنقاش؟

أعتقد أن الحكم الذي يعيش الآن في العراق استطاع أن يصادر النجف. فقد هجّر أغلب طلابها، وقد واجهت ضغطاً فوق العادة، ولم تقتصر المسألة على النجف، ذلك بأن أغلب شعراء العراق، كالبياتي والجواهري وأمثالهما، هاجروا من العراق من خلال رفض السلطة لهم. لذلك أعتقد أن الحكم المعاصر في العراق قد جمّد العراق والنجف، فأنت لا تجد عندما تذهب إلى هناك أي حركة ثقافية أو سياسية يمكن لك أن تشعر فيها بأنك تمثل امتداداً لذلك التاريخ.

الله أعطاني عقلاً حرّاً والعدل أساس الديانات

لديكم الكثير من الدراسات والمؤلفات، فأي منها تعتبرونه أكثر تعبيراً عن صلب تفكيركم، وما هي الخطوط العريضة لاتجاهاتكم الفكرية والروحية؟

لدي مؤلفات كثيرة وأغلبها، أو كلها، إسلامية. إنني أضع في واجهة المؤلفات التي تمثل اعتزازي عدة مؤلفات، منها كتابي الأول "أسلوب الدعوة في القرآن". فقد اكتشفت فيه الأسلوب الموضوعي المنفتح في مسألة الحوار في القرآن. وهناك كتاب "الحوار في القرآن"، ولعله من أفضل الكتب الموجودة في المكتبة الإسلامية بشأن هذا الموضوع. ثم "الإسلام ومنطق القوة،" ثم "خطوات على طريق الإسلام،" ثم كتاب "الحركة الإسلامية: هموم وقضايا". وهناك تفسير قرآني حركي في 25 جزءاً صدر ونفد في الأسواق، ونحن نُعِد لطبعته الثانية؛ وأعتقد أن هذا التفسير فريد في بابه؛ فهو تفسير حديث منفتح على الحياة، يحاول أن يستوحي القرآن في الجانب الحركي الإسلامي في الواقع. أعتقد أنه من الكتب المهمة جداً في هذا المجال. وهناك دواوين شعرية ثلاثة: "قصائد للإسلام والحياة،" و"يا ظلال الإسلام - رباعيات،" و"على شاطئ الوجدان". إنني أعتز بكتبي كلها، فالكتب بالنسبة إلى الإنسان كأولاده. أمّا الخطوط الفكرية التي أنطلق فيها، فتتمحور حول الإسلام؛ فأنا أؤمن بأن الإسلام في خطوطه العامة وفي كثير من تجاربه التشريعية، من خلال اجتهادات المجتهدين مع تنوعاتهم، يُمثل خطاً صالحاً لحل مشكلات الإنسان في الحياة، لأن المسألة ليست مسألة نصوص ثابتة ليقال إن النص ثابت والحياة متغيرة، فكيف يمكن أن يكون النص صالحاً لمعالجة الحياة؟

في الواقع، إن ثبات النص إنما هو في الكلمة، أمّا في المعنى، فإن المعنى متحرك، لأن المعنى قد ينفتح على قاعدة عامة تشمل الحياة كلها. وهكذا، عندما تطلق كلمة العدل، فنحن نقرأ أن العدل هو أساس الرسالات. كما جاء في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ...﴾ (سورة الحديد، الآية 25)؛ فالعدل مفهوم لا يختص بموقع دون آخر. لكن أعتقد أن القيم التي ركزها الإسلام في خطابه الإنساني العام للناس، والتجارب التي قام بها الفقهاء والمفكرون الذين حاولوا أن يستوحوا هذه الخطوط العامة في مفردات الحياة بحسب تجربتهم، يمكن أن تحقق الكثير للحياة. إننا نلاحظ مثلاً أن الحديث عن العلمانية في الواقع المعاصر باعتبارها الحل لمشكلة الإنسان هو حديث غير دقيق، لأنك عندما تُطلق العلمانية، فإن العلمانية ليست شيئاً معلقاً في الهواء، إنها تجربتي وتجربتك في المفهوم الذي أرتئيه أنا والمفهوم الذي ترتئيه أنت، ومن خلال التجارب التي أعيشها والتجارب التي تعيشها، فإذاً، نحن عندما أطلقنا العلمانية في مواجهة الدين، فإننا لم نأتِ بحلّ سحري للإنسان يمكن أن يحقق له السعادة المطلقة والجنة الموعودة على الأرض.

وعندما أتحدث مع أصدقائنا العلمانيين الذين يعيشون الفكر العلماني، أجد أنهم أخذوا من الدين فكرة المطلق. فكما أن المتدينين يعتبرون الدين هو الفكر المطلق، أصبح العلمانيون يعتبرون أن العلمانية هي الفكر المطلق، أو أن الماركسية هي الفكر المطلق. لذلك أعتقد أن العلمانيين أصبحوا في هذا التوتر الفكري والتوتر النفسي أو السياسي يعيشون ذهنية دينية هي ذات خلفية دينية وإن لم يعترفوا بالدين. لذلك، أنا أعتقد أن هذا الحوار، وخصوصاً في العالم العربي والإسلامي، بشأن الإسلام، يمكن أن يؤدي بنا إلى نتائج كبيرة، لأنك عندما تضم المفكرين والمثقفين الذين أخذوا بأسباب الثقافة الحديثة إلى المفكرين والمثقفين الذين أخذوا بأسباب الثقافة الإسلامية، فإنهم عندما يلتقون ويجتمعون ويتحاورون يستطيع كل واحد منهم أن يضيف إلى الآخر شيئاً جديداً من فكره. لكن هذه القطيعة، القائمة على معطيات ذاتية مختلفة وعلى أوضاع سياسية معينة، هي التي جعلت هذا البعد الشاسع بين العلمانيين والإسلاميين. أنا أؤمن بالحوار كأساس للانتماء الفكري وأساس للرفض الفكري، ولذلك حاولت أن أكون إنسان الحوار مع الناس كافة في هذا المجال. وهكذا، أؤمن بأن الإسلام لا بد له من أن ينفتح على الحياة، فإذا عرفنا أن الأساس في الديانات هو أن يقوم الناس بالقسط، فعلينا إذاً أن نجعل قضية العدل قضيتنا في حياتنا كلها، لأنني أؤمن بأن مجتمعاً لا يعيش العدل في علاقاته الخاصة لا يستطيع أن يمارس العدل في علاقاته العامة، وهذا هو ما يُفسره الحديث المأثور: "كما تكونون يُولّى عليكم." وأنا لا أطالب بالعدل للمسلمين فقط، وإنما أطالب بالعدل للناس أجمعين، لأن قضية العدل لا تتجزأ. ونحن نروي في أحاديثنا أن الله أوحى إلى نبي في مملكة جبار من الجبارين أن اذهب إليه وقل له إنما استعملتك، أي أبقيتك في ملكك، لتكف عني أصوات المظلومين، فإني لن أدع ظلامتهم وإن كانوا من الكفار. فنحن مع العدل للكافر ضد المسلم، لأن قضية العدل ليس فيها كفر وإسلام، بل قضية العدل هي قضية الإنسان. وهكذا نحن نؤمن بالعدل للناس كافة، ونقف مع جميع قضايا الإنسان في العالم، حتى الناس الذين لا يدينون بدين. وهكذا، أنا مع حرية الإنسان. الإسلام يؤمن بأن الإنسان حر أمام العالم؛ فنحن نقرأ في حديث الإمام علي: لا تكن عبد غيرك، وقد خلقك الله حُرّاً. وأنا إنسان حر، لأن الله أعطاني عقلاً حرّاً يمكنني أن أفكر به حتى فيما يتصل بالخالق، وأعطاني إرادة حرة يمكنني أن أتحرك بها، سواء بصورة سلبية أو بصورة إيجابية، في الخط الديني، وما إلى ذلك. وقد أراد الله لي أن أتحمل مسؤوليتي تجاه نفسي: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ...﴾ (سورة الكهف، الآية 29)؛ ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ...﴾ (سورة البقرة، الآية 256)؛ ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (سورة الزلزلة، الآيتان 7 و8). فالإنسان هو الذي يتحمل مسؤوليته، ونعتبر أن المسؤولية تنطلق من الحرية، وهكذا نجد أن الحرية ليست شيئاً يأتي للإنسان من الخارج، بل هي شيء يعيشه الإنسان من الداخل.

هذا السياق الفكري الذي تعبّرون عنه بالمنطق وبالانفتاح، يبدو لي أن من نتائجه مثلاً في مجتمع مثل المجتمع اللبناني أن يصل إلى الاعتراف بإمكان تنظيم المجتمع على أساس قانون اختياري للأحوال الشخصية إلى جانب القوانين الدينية.

هذه المسألة تفصيلية. هناك نقطة في هذا المجال، وهي أن هناك فارقاً بين أن تنطلق الدولة اللبنانية لتشرّع مثل هذا على أساس أن هناك ناساً لا يريدون أن يلتزموا الأحكام الشرعية الإسلامية أو المسيحية في مسألة الزواج والطلاق وما إلى ذلك، والمسألة آنذاك تخص الدولة اللبنانية، وبين أن تأتي أنت الذي تلتزم فكراً معيناً لتقول إني أوافق على هذا. هذا أمر ليس منطقياً، تماماً كأن يُقال للفلسطيني أو العربي الذي يرفض السلام مع إسرائيل أن عليه أن يقبل. هناك فارق بين أن ينطلق الآخرون وأنا أعترض على ذلك، لكني لا أواجه القضية بالقمع والقوة. أنا عندما أؤمن بفكر أعتقد أن هذا الفكر هو للناس، فمن حقي أن أعمل من أجل تأكيده وتعطيل جميع المبادرات الأُخرى بالطرق والوسائل الإنسانية الحضارية. لكن أن يطلب مني أن أوافق على ذلك، فأنا أعتقد أنه طلب غير عادل لأنك لا تستطيع أن تطلب من صاحب فكرٍ ملتزم معين أن يتنازل عن فكره لمصلحة شيء آخر. إن الدولة اللبنانية كدولة تملك الفرصة لذلك، لكني أملك أيضاً الفرصة كمواطن لبناني أن أعترض على ذلك بالوسائل الممكنة.

الحديث الشريف الذي ذكرتم "كما تكونون يولى عليكم" كأنه يرسي قاعدة الانتخاب الحر، أي على المواطن أن ينتخب وأن يكون انتخابه للمسؤولين حراً.

إنني أتصور أن الحديث يتجه اتجاهاً آخر، إنه يريد أن يقول للمواطن، إذا كنت تريد الحاكم العادل فكن عادلاً مع مواطنيك، وإذا كنت تريد الحاكم الصادق فكن صادقاً مع الناس الذين تعيش معهم. إنه لا يتحدث عن ماذا ينتخب، بل يتحدث عن ماذا تكون أنت. حتى إذا انطلقت أنت مع الآخرين في خط العدل في علاقاتكم العامة والخاصة، فإن الإنسان العادل سيكون نتيجة طبيعية لكم لأنكم عندما تتحركون فإنكم تفاضلون بين عادل وعادل ولا تفاضلون بين ظالم وظالم. عندما يكون مجتمعكم مجتمع الظلم فلا خيار لكم إلاّ أن تفاضلوا بين الأسوأ وبين الأقل سوءاً. أمّا عندما يكون مجتمعاً عادلاً، فإن القضية أن تفاضلوا بين عادل وعادل. أظن أن الحديث يتجه بهذا الاتجاه.

ما هي السمات الرئيسية التي تتصف حال المسلمين بها اليوم عامة في العالم؟

إن أفضل تعبير ربما هو أن المسلمين يعيشون الآن حالة من حالات الولادة الصعبة، العسيرة لما يتطلعون إليه من وجودهم الإسلامي في العالم. إن انتماء المسلم لإسلامه ينطلق، كأي انتماء آخر، في عمق الوجدان الانتمائي من أجل أن يجسد هذا الانتماء فكراً وحركة وموقفاً ووجوداً. ومن هنا، فإن هناك شيئاً ما داخل المسلمين بعد التجارب، وأتكلم بصورة عامة، والقاعدة تفرض استثناءات. أتصور أنهم يريدون شيئاً ما اسمه الوجود الإسلامي في مواقعهم ومواقفهم، ولا سيما السياسي منها. إننا نلاحظ أن هناك عمقاً إسلامياً يتحسس إسلاميته حتى عند العلمانيين، باعتبار أن هناك حالة لاشعورية. وهكذا، لا نزال نعيش القضية الفلسطينية التي تمثل جرحاً عميقاً في حياتنا. إنني أعتقد أن هذه الحالة الإسلامية التي تتحرك لاشعورياً تارة وشعورياً تارة أُخرى هي التي تمثل وحدة المسلمين الشعورية. وربما نجد أن العبادات الإسلامية، كالصلاة والصوم والحج، التي يشعر المسلمون من خلال الممارسات اليومية بتوحدهم فيها، ولا سيما الحج، يقوي هذا الواقع. والتحديات التي توجَّه إلى المسلمين، سواء مما بدأ يتحرك في الخطاب الأميركي أو في الخطاب الأطلسي من تصريح هنا وتصريح هناك، أصبحت تستثير الشعور الإسلامي، حتى إنني أزعم أن ليس هناك في الخط العام مسلم يتحسس المسألة الفلسطينية بأنها مسألة عربية - صهيونية بل بأنها مسألة يهودية. حتى العروبة عندما كانت تتحرك في هذا المجال، نجد أن مضمونها كان إسلامياً. إن عبد الناصر الذي انطلق بالقومية العربية جعل النشيد المصري يتحدث بكلمة الله أكبر. والإنسان المسلم الفلسطيني عندما يتحرك في الانتفاضة فإن كلمة الله أكبر هي التي تتحرك فيه. حتى إن المسيحيين الذين يعيشون في العالم الإسلامي يفكرون إسلامياً على نحو لاشعوري، لأنهم إذا كانوا يفقدون الانتماء الإسلامي فإنهم يعيشون الحضارة الإسلامية كما يتنفس الإنسان الهواء، كما يتنفس الإنسان العطر من الورد. لذلك، أنا أعتقد أن هذه الحالة الشعورية الإسلامية أصبحت أقوى أمام التحديات التي يواجهها الواقع الإسلامي، ولا سيما أمام الظلم الواضح والصريح الذي تمارسه الولايات المتحدة الأميركية على نحو أقوى، ومعها أوروبا على نحو أضعف، نتيجة مصالحها الاقتصادية، وما إلى ذلك. هناك مشكلات موجودة في العالم الإسلامي، مثل فقدان الرؤية الواضحة الموضوعية للواقع الإسلامي والفكر الإسلامي والخطوط الإسلامية، ولحركة التطبيق للقيم الإسلامية في الواقع، وهذا ما نلاحظه في تنوع الحركات الإسلامية وتخلف بعضها وفوضوية البعض الآخر، فترى أن بعض الحركات الإسلامية يفكر كما لو أننا نعيش قبل 500 أو 600 سنة، هذا في مفرداتها وفي تعابيرها مثلاً، وقد تجد حركات إسلامية تلتزم العنف تحت عنوان الجهاد في الوقت الذي كان هناك مجال للرفق، وما إلى ذلك. هناك فوضى إسلامية في الجو الإسلامي الحركي، ولذلك، فإننا لا نستطيع أن نضع الحركات الإسلامية في العالم في دائرة واحدة وفي حكم واحد، فهناك حركات إسلامية عقلانية موضوعية تدرس الواقع وتتحرك فيه، سواء كان عنفاً أو رفقاً، من خلال طبيعة الظروف الموضوعية التي تحيط بها. وهناك حركات إسلامية تحدق في اتجاه واحد، وليست مستعدة لأن تنظر إلى هذا الجانب أو ذاك، ولذلك، فإنها تعيش مشكلة هذا التخلف والابتزاز في الداخل. إن هذا النوع من الفوضى في المفاهيم والفوضى في التطبيق وفي الأساليب خلق مشكلة صعبة للحركات الإسلامية بحيث أصبح الإنسان المسلم الذي يتعاطف معها من الناحية السياسية يشعر بالحرج من تأييدها أو تأييد بعض الأساليب التي لا يرضاها الإسلام، كقتل الأجانب أو تعطيل الدراسة في المدارس بصورة أو بأُخرى، أو ما إلى ذلك مما يُنسب إلى الإسلاميين، حقاً كان أو باطلاً. هناك أيضاً نقطة نرصدها في الواقع الإسلامي. فالواقع الإسلامي في هذه المرحلة بالذات يعيش حالة انعدام الوزن السياسي في أغلب مواقعه؛ فنحن نجد أن العالم الإسلامي، ممثلاً بالمؤتمر الإسلامي، لا يستطيع أن يبتعد عن السياسة الأميركية؛ فهو يحاول دائماً أن ينسجم مع السياسة الأميركية، وإذا كان يعارض فهو يعارض معارضة كلامية، لكنه لا يتخذ مواقف صلبة أمام الخط الأميركي السياسي. أمّا العالم الإسلامي من الناحية السياسية، فإن الشعوب الإسلامية أو الأمة الإسلامية مصادرة من خلال حكامها، فنحن نعتبر أن الاستكبار العالمي، وفي مقدمه الولايات المتحدة من خلال وكالة الاستخبارات المركزية وأمثالها، وظفت ملوكاً ورؤساء وأمراء ليكونوا حراساً لسياستها ومصالحها في العالم الإسلامي، فأصبح المسلمون يُضرَبون بيد إسلامية. وهناك أيضاً مشكلة تنوُّع المذهبية الإسلامية في دائرة العصبية المذهبية بين السنّة والشيعة؛ فهناك أجهزة الاستخبارات الدولية والاستخبارات المحلية في كل بلد إسلامي تعمل من أجل اتساع الهوة بين السنّة والشيعة، وتمنع كل تجربة للحوار والوحدة، حتى في القضايا الإسلامية العامة في هذا المجال. وأعتقد أن هذه تمثل مشكلة من أصعب المشكلات التي يعيشها الإنسان المسلم في العالم. وإلى جانب المشكلة السياسية والمشكلة الثقافية والفكرية، من الطبيعي أن تكون المشكلات الاقتصادية نتيجة ذلك كله. فالعالم الإسلامي عالم يختزن في داخله ثروات واسعة وكبيرة من سائر المعادن وغيرها، لكن هذه الثروات ليست له إنما هي للآخرين، ونجد أن النفط أصبح لعنة على المسلمين بدلاً من أن يكون رحمة لهم. إن وجود النفط في أرضنا جعل الآخرين يتقاتلون علينا ويرسمون سياستهم على اعتبار أن النفط يمثل مصدر رخائهم، وهذا هو الذي جعل العالم الإسلامي يعيش تحت رحمة النفط في هذا القرن كله من دون أن يحصل من النفط على شيء.

وسط هذه الحال التي وصفتموها، ما هو رأيكم فيما يسمى اليوم الأصولية الإسلامية؟

ÿ أنا أعتقد أن ليس هناك أصولية إسلامية بالمعنى المصطلح للأصولية في المفهوم الغربي، لأن الأصولية تتمظهر في نقطتين: النقطة الأولى هي اعتبار العنف الوسيلة الوحيدة للتغيير، والنقطة الأُخرى هي إلغاء الآخر، والإسلاميون لا يقفون عند كِلا النقطتين. فالإسلاميون لا يعتبرون العنف الوسيلة الوحيدة. فنحن نقرأ في القرآن: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (سورة فُصِّلت، الآية 34). فالحسنة أسلوب السلم، الرفق، والسيئة أسلوب العنف. إننا نعتبر حركة العنف وسيلة دفاعية لمن يفرض عليك العنف، أو وسيلة وقائية لمن يهددك بالعنف، لا وسيلة استراتيجية في الخط. والله عندما طرح علينا مسألة الحرب، طرح علينا أن نقاتل في سبيل المستضعفين ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ...﴾ (سورة البقرة، الآية 193)، بمعنى أن تقاتلوهم بأن تأخذوا حريتكم في ألاّ يضغط الآخرون عليكم في دينكم لتتركوه، قاتلوا في سبيل المستضعفين، قاتلوا الذين يقاتلونكم. وإننا لو درسنا جميع آيات القتال في القرآن، فإننا لا نجد آية تقول: قاتلوهم من دون مناسبة، قاتلوهم لتسقطوا إنسانيتهم، قاتلوهم لتكونوا الأعلى. بالعكس، إن الله سبحانه وتعالى لا يريد للناس أن يعيشوا روح الاستعلاء على الإنسان الآخر. لذلك، فنحن لا نعتبر الدعوة إلى الجهاد دعوةً إلى العنف كخيار وحيد، بل نعتبر الدعوة إلى الجهاد دعوةً لحفظ القضايا المصيرية الأساسية الإنسانية في دائرة الناس الذين يعتدون عليك. إن الذي يوجه إليَّ صاروخاً لا أستطيع أن أقدّم له وردة، ونحن نشبّه العنف في الإسلام بالعملية الجراحية التي لا ترجع إليها إلاّ بعد أن تعدم كل وسيلة أُخرى. أمّا النقطة الأُخرى وهي إلغاء الآخر، فنحن نقرأ في كتاب الله: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ...﴾ (سورة آل عمران، الآية 64). إن هذه الآية تعطينا فكرة أن نلتقي الآخرين على الكلمة السواء، وذلك في الخطوط العامة. إنه من الممكن أن نلتقي الماركسيين في الكلمة السواء في مواجهة الاستكبار العالمي، ونلتقي القوميين، حتى القوميين العلمانيين، في كلمة سواء من خلال القضايا العربية التي هي قضايا إسلامية. نحن نعتبر أن الإسلام يعترف بالآخر، وقد كان مظهر الآخر في عهد الإسلام الأول مظهراً دينياً، وهو أهل الكتاب، فمعناه أن الإسلام لا يلغي الآخر بل يدعو الآخر إلى الحوار ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (سورة العنكبوت، الآية 46). إذاً، نحن الإسلاميين لسنا أصوليين بالمعنى الغربي للأصولية، ونحن نرفض تسميتنا أصوليين. نحن حركيون إسلاميون. الأصولية بالمعنى اللغوي، وهي أن ترجع إلى جذورك وأصولك، فهذا شيء طبيعي. لكن جذورنا القرآن لا المرحلة التي عاشها النبي أو المراحل التي جاءت بعده، لكن جذورنا القرآن وجذورنا السُنة الثابتة الصحيحة من خلال النبي. أمّا واقع المجتمع آنذاك، فهو تجربتهم، والله أكد هذا المعنى فلم يعتبر تجربة الآخرين السلبية أو الإيجابية مسؤوليتنا ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (سورة البقرة، الآية 141). إذاً نحن أصوليون، بمعنى أننا ننطلق من قاعدة فكرية يمثل خزانها الفكري القرآن والسُنة، ونحاول أن نستهدي تجارب المسلمين الأولين في حربهم وسلمهم وثقافتهم لنفكر فيها تفكيراً مستقلاً. كما أن القرآن الكريم عندما عالج واقعة بدر وواقعة أُحد والأحزاب، أشار إلى نقاط الضعف التي عاشها المسلمون آنذاك. ولذلك، فإن التاريخ عندنا ليس مقدساً في شخصياته وإنما نعطي كل شخصية حقها من خلال طبيعة التعاليم والقيم التي نؤمن بها. وهكذا، فنحن لسنا أصوليين بمعنى أننا نريد أن نعيد الناس إلى المرحلة الأولى كما كان الناس في عهد النبي أو في عهد الخلفاء الراشدين أو في عهد الأمويين، لأن لنا تجربتنا التي تنطلق من الخطوط العامة كما كانت تجربتهم، وقلنا إن القرآن الكريم يؤكد هذا المعنى ويعتبر أننا لسنا مسؤولين عن تجربة الماضي وإنما نحن مسؤولون عن تجربة الحاضر والمستقبل لأنها قضيتنا التي نعيشها. قد نلاحظ، كما لمّحنا في حديث سابق، أن الإسلاميين الذين يسمَّون أصوليين، يعيش بعضهم تخلّفاً في بعض المفاهيم وانحرافاً في بعض الأساليب، وقد يعيش مشكلات ونقاط ضعف، لكننا نقول: إن نقاط الضعف هذه ليست كلها منطلقة منهم، بل ربما تُفرض عليهم نقاط ضعف. قد تُحاصرك الضغوط فتفرض عليك أن تخطئ. عندما ندرس مثلاً عملية الخطف، خطف الأجانب، التي حدثت في لبنان، علينا ألاّ ننظر هنا على نحو تجريدي مطلق، بل علينا أن ندرس ما هي طبيعة الضغط الذي كان الأميركيون والأوروبيون يمارسونه على الإنسان اللبناني؛ علينا أن ندرس طبيعة الظروف الموضوعية التي كان اللبناني يعيشها عندما كان اللبنانيون يخطفون بعضهم بعضاً، مثلاً، فهو أسلوب يعيشه اللبنانيون كما عاشه الأوروبيون في بعض تجاربهم، كخطف طائرة أحمد بن بلة، وخطف المهدي بن بركة الزعيم المغربي المعارض، وما إلى ذلك. إن علينا ألاّ نتحدث عن القيم بالمطلق، إن القيم ليست شيئاً معلقاً في الهواء، لكن القيم تمثل حركة في الواقع. إنني لا أريد أن أدعي أن عملية الخطف أو غيرها من العمليات التي أثيرت في الجو الإعلامي إيجابية بالمطلق أو سلبية بالمطلق، لكني أقول إن العالم المستكبر يحاول أن يقيدنا بقيمنا ليستفيد من قيمنا فيما يتعلق بقضاياه، لكنه يهدم قيمنا، وحتى قيمه، عندما يتعلق بقضايانا. هو يتحدث عن حقوق الإنسان الأميركي والأوروبي لكنه يهدر حقوق الإنسان، إنسان العالم الثالث مثلاً. إننا نجد في الخطاب الأميركي الآن مثلاً أن إيران تُتهم بمساندتها للإرهاب، ويتحدثون في مفردات هذا الإرهاب عن مشاركتها لـحزب الله وهو يقاوم في جنوب لبنان، وعن حركة "حماس" وعن حركة الجهاد الإسلامي، إنهم يحاولون أن يعطوا حركة الإنسان الفلسطيني ضد الاحتلال عنواناً إرهابياً، ويحاولون أن يعطوا حركة حزب الله في سبيل تحرير جنوب لبنان عنواناً إرهابياً، أو يعطوا أيضاً الواقع العربي الذي يريد أن يحرر فلسطين عنواناً إرهابياً. إننا لا نستطيع أن نسكت أمام هذا القاموس السياسي الذي يحاول أن يجعل من حركة الحرية عندنا حركة إرهاب. لذلك، نحن نقول إن علينا، عندما نستمع إلى الحملة الإعلامية الثقافية الغربية التي تجاوب معها بعض المسؤولين العرب أو المسلمين، بل بعض المثقفين العرب أيضاً، أننا لا نستطيع إلاّ أن نواجهها بالكثير من الموضوعية، حتى لا نقع في السذاجة والبساطة اللتين تجعلاننا نسقط أمام بعض العناوين التي يطرحها الغرب لإسقاط حركتنا الجهادية وحركتنا الاعتراضية تحت تأثير بعض الكلمات الفضفاضة التي لا تعني شيئاً. إنهم يعتبرون أن كل حركة تواجه السياسة الغربية والسياسة الصهيونية حركة إرهاب، بينما لو حدث مثل هذه الحركة في موقع يتماشى مع مصالح الاستكبار العالمي فعندها تكون جهاداً. إن لقب المجاهدين الأفغان هو لقب انطلق من خلال الاستخبارات المركزية الأميركية، بينما نرى أنهم يتحدثون عن الفلسطينيين بأنهم إرهابيون وعن اللبنانيين بأنهم إرهابيون، وما إلى ذلك.

لكن هناك قاموساً إنسانياً طالما تحدثتم عنه، واعتبرتم أنه أحد المنطلقات الأساسية في الفقه الإسلامي. حتى لو كان الغرب يمارس عملية تفجير طائرة مدنية أو خطف طائرة مدنية فيها أطفال ونساء وشيوخ، حتى لو مارس هذه الأشكال كلها، هل يمكن أن نجد تبريراً، حتى لو أحاطت ظروف صعبة بنضالنا كشعوب تناضل من أجل حريتها، هل يمكن أن نجد تبريراً لخطف طائرة مدنية أو تفجير طائرة مدنية أو حجز حرية مواطن لمجرد كونه أميركياً أو غربياً؟ هذا موقف أساسي.

نحن عندما تحدثنا في هذا الجو لم يكن حديثنا محاولة لتبرير كل ما يحدث، نحن نعتبر أن علينا أن نمارس قيمنا مع الآخرين كما نمارس قيمنا مع أنفسنا في الخط المستقيم لهذه القيم، بعيداً عن ردات الفعل السلبية أو الإيجابية لحركتنا في هذه القيم. وإذا قلنا نحن ضد أن يُظْلَم الكافر حتى لو كان الظالم مسلماً وكان المظلوم كافراً، فنحن لا نعتبر قصة العدل، سواء في الجانب الفردي أو الاجتماعي أو السياسي، قصة يمكن لك أن تفاضل فيها بين مسلم وكافر. لم نكن في هذا الاتجاه، لكنني كنت أريد أن أقول إن علينا ألاّ نصدر حكماً مطلقاً في جميع المفردات، بل علينا أن ندرس بعض المفردات؛ فقد نجد ظروفاً تخفيفية، وقد لا نجد ظروفاً تخفيفية. أمّا مسألة خطف الطائرات، فقد أعلنا منذ البداية في كل عملية خطف طائرة أو سفينة أو سيارة، أصدرنا فتوى أن هذا محرم في جميع المواقع، عندما تتصل المسألة بالمدنيين، باعتبار أن وسائل النقل هي وسائل إنسانية.

ما هي نظرتكم إلى علاقة الإسلام بالديانتين اليهودية والمسيحية؟

إن الإسلام كان واضحاً في نظرته إلى الديانات التي سبقته. فهو يعتبر أن جميع الديانات التي سبقته تقف تحت عنوان كبير هو الإسلام. الإسلام الذي بدأه إبراهيم، وهو أب الديانات التوحيدية ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (سورة البقرة، الآية 131). الإسلام الشامل الذي يعني أن تسلم أمرك لله سبحانه وتعالى من خلال انسجامك مع رسالته. وفي ضوء هذا، فإن الإسلام الذي جاء به النبي محمدﷺ  يعترف بإسلام موسى لله، ويعترف بأن التوراة كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. كما أنه يؤمن بعيسى عليه السلام، إنه عبد الله ورسوله، وبأن الإنجيل هو كتاب الله، وقد كان عنوان دعوة النبي أو دعوة القرآن أنه مصدق للذي بين يديه. لم يأت لإلغاء الرسالات ولم يأت للتنكر لها، بل جاء من أجل التصديق بها وإكمالها. ولذلك نجد أن القرآن الكريم يقول: ﴿... لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ...﴾ [سورة البقرة، الآية 285]. فالرسل جميعاً هم رُسُل الله، وإذاً فهم الذين نؤمن برسالتهم في النهاية. وعلى هذا الأساس، فالمسلم لا يعيش أي عقدة من الديانات الأُخرى. فهو لا يستطيع أن يسيء إلى التوراة ولا يستطيع أن يسيء إلى موسى وهارون. والمسلم لا يستطيع أن يسيء إلى الإنجيل ولا يستطيع أن يسيء إلى عيسى وأمه العذراء مريم، لأن هذه كلها من مقدسات المسلمين التي تحدث القرآن عنها بكل إجلال وبكل احترام وبكل إيمان وقداسة.

وهكذا نجد أن الإسلام أكد التعايش في مجتمعه مع اليهود والنصارى، فالمجتمع الإسلامي ليس المجتمع الصافي النقي الذي لا يعيش فيه إلاّ المسلمون، بل يعيش فيه اليهود والنصارى أيضاً. ونحن نعتقد - من خلال التجربة - أن اليهود والنصارى الذين لم يدخلوا الإسلام، عاشوا مع المسلمين مدى 14 قرناً ويزيد، من دون أن يفقدوا حريتهم في عباداتهم ومن دون أن يفقدوا مراكزهم الدينية. وقد أعطاهم الإسلام الحرية ليعيشوا ويكونوا جزءاً من الواقع الاقتصادي والتربوي والاجتماعي، وربما اقترب بعضهم من الواقع السياسي لولا أن الواقع السياسي لا بد من أن يتحرك في الخط الذي يؤمن به الذين يعيشون في موقع القيادة. فإذا كانت الدولة إسلاميةً تنطلق من الإسلام، فليس من الطبيعي أن يكون في مراكز القيادة من لا يؤمنون بالإسلام. وهكذا نرى أن الإسلام احتفظ بالوجود اليهودي والنصراني في جميع المناطق التي عاش المسلمون فيها، بينما نجد أن النصارى في الأندلس لم يتحملوا الوجود اليهودي ولا الوجود الإسلامي. أمّا في الواقع العملي، وفي الواقع الشعوري، فإننا نجد أن الإسلام يتحدث عن اليهود والنصارى بطريقة مختلفة ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا...﴾ [سورة المائدة، الآية 82]. إنه لا يتحدث عن يهوديتهم كعنوان ديني، بل عن سلوكهم العدواني ضد المسلمين؛ إنه يتحدث عن سلوكهم التاريخي بأنهم يقتلون النبيين بغير حق، وأنهم ﴿َ...كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ...﴾ [سورة البقرة، الآية 100]، وأنهم ﴿... قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِيِّينَ سَبِيلٌ...﴾ [سورة آل عمران، الآية 75]، وما إلى ذلك. إن الإسلام عندما اتخذ موقفاً سلبياً ضد اليهود من ناحية شعورية، فإنه اتخذه من خلال سلوكهم العدواني ولم يتخذه من خلال انتمائهم الديني كأي فئة تنتمي إلى دين معين. وعندما تحدث عن النصارى أيضاً، تحدث عن سلوكهم: ﴿... وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [سورة المائدة، الآية 82]. فهو قد انطلق في تقويمه لواقع النصارى في الحياة الإسلامية من موقع قيمهم الروحية وتواضعهم وانفتاحهم على الجو الروحي الإسلامي. ونحن عندما نعيش الآن في الواقع الإنساني العام، فإننا ندعو إلى حوار بين الديانات الثلاث، وندعو إلى تعاون من جديد على أساس العنوانين الكبيرين اللذين وضعهما القرآن في علاقة المسلمين بأهل الكتاب على سبيل السواء، وهي أن ننطلق جميعاً في العالم لنعمل على أساس انتماء الناس إلى توحيد الله، وإلى أن ينطلق الناس في وحدة الإنسانية، فلا يكون الإنسان رباً لإنسان، ولذلك، فإن علينا كمسلمين ومسيحيين ويهود أن نقف ضد المسلمين الذين يريدون أن يجعلوا من أنفسهم أرباباً للشعوب المستضعفة، أو المسيحيين الذين يريدون أن يجعلوا من أنفسهم أرباباً للناس، أو اليهود الذين يريدون أن يسيطروا ويستعلوا ويستكبروا على الناس. ومن هنا، فإن هذا الحوار اليهودي - الإسلامي - المسيحي لا بد من أن يضع في أول عناوينه خروج اليهود الطارئين على فلسطين من فلسطين، وعودة الفلسطينيين إلى بلادهم، وبقاء اليهود الذين كانوا فلسطينيين إلى جانب المسيحيين والمسلمين ليعرفوا كيف يديرون التعايش معهم. نحن نؤكد مسألة التعايش، ونحن في لبنان ندعو إلى تعايش إسلامي - مسيحي يؤكد الواقع اللبناني الموحد، وندعو إلى تعاون بين المسيحيين والمسلمين في القضايا المشتركة، ونحن نقول إننا ما دمنا في بلد واحد، فإن علينا أن نحافظ على بعضنا البعض لأننا محكومون بهذا الوجود، ولأننا نعتبر أن المسلمين، حتى الحركيين منهم، هم أقرب إلى المسيحيين إذا عاشوا المسيحية فكراً وروحاً وحركة من غيرهم من الناس. نحن دعاة حوار إسلامي - مسيحي ودعاة تعايش إسلامي - مسيحي ودعاة علاقات إنسانية بين الناس كلهم.

هل يمكن للحوار الإسلامي - المسيحي - اليهودي، هل يمكن أن يكون له نصيب من النجاح في ظل طغيان أو حدة الصراع مع إسرائيل الصهيونية ومع الغرب الاستعماري؟

من الطبيعي أن الواقع الاستكباري، سواء تمثل بالاستكبار الغربي الأميركي أو بالأوروبي أو بالاستكبار الصهيوني، من الصعب أن يُفسح في المجال لهذا الحوار الثلاثي الذي يريد أن يعيد المعنى الديني في نفوس المتدينين إلى القاعدة الإنسانية التي يتطلع فيها الناس إلى الواقع الإنساني من نافذة الحرية والعدالة، وأن الجميع خلق الله وأنه لا يجوز لإنسان أن يطرد إنساناً من بلده أو يسيطر عليه بطريقة الظلم والبغي والعدوان أو ما إلى ذلك، لأن قيم اليهودية في منابعها الصافية لا في المستحدث، والمسيحية في ينابيعها الصافية، والإسلام في جذوره العميقة، إن هذه الأديان في عمقها الإنساني وفي الينابيع الصافية التي انطلقت منها أفكارها وشرائعها تقف ضد الاستكبار العالمي وضد أي موقع من مواقع وأي مصلحة من مصالحه وأي لون من ألوان ظلمه.

ومن هنا، فإنني أعتقد أن الحوار المسيحي - اليهودي أُطلق من خلال بعض الجهات في العالم من أجل إيجاد نافذة من الانفتاح الإسلامي - المسيحي على الواقع اليهودي الذي يطل على إسرائيل. فالمطلوب كان إزالة هذه الحواجز بين اليهودية في شخصيتها الصهيونية الإسرائيلية وبين المسلمين والمسيحيين. ولم تكن دعوة بريئة من هذا الهدف السياسي، ولهذا نحن كنا متحفظين من الحوار اليهودي - المسيحي - الإسلامي في الوقت الذي أعطينا كل الانفتاح للحوار الإسلامي - المسيحي، لأن هناك أكثر من إيجابية، ولأننا نشعر بأن من الممكن جداً أن ينطلق (الحوار) من إرادة صافية لا يشوهها بعض التحفظات هنا وهناك.

ما هي نظرة الإسلام الصحيحة إلى المرأة؟

المرأة في الإسلام إنسان كما هو الرجل إنسان ﴿... الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا...﴾ (سورة النساء، الآية 1)؛ فالرجل والمرأة هما مظهر الإنسان في الكون. والله سبحانه وتعالى لم يعتبر الذكورة قيمة تُفضل على الأنوثة من ناحية إنسانية، فالله يقول: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى...﴾ (سورة آل عمران، الآية 195]. ولذلك، فإنه يعتبر أن المسؤولية واحدة في الخط الإيجابي والخط السلبي، فالله يتحدث عن السارق والسارقة، ويتحدث عن الزانية والزاني، كما يتحدث عن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، وإلى آخر ما هنالك. والله يتحدث عن المرأة الصالحة كنموذج إيجابي للرجال والنساء معاً، كما يتحدث عن المرأة غير الصالحة كنموذج سلبي للرجال والنساء معاً، فالله عندما يقول: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامَرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾ (سورة التحريم، الآية 10].

وعندما تحدث الإسلام عن بعض نقاط الضعف عند المرأة اعتبرها منطلقة من التنشئة ﴿أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾ (سورة الزخرف، الآية 18). إنه يعتبر أن ضعف المرأة إنما ينطَلق من خلال التربية والتنشئة اللتين تجعلانها في دائرة الضعف. لهذا نستطيع أن نخلص من خلال ذلك كله أن الإسلام يعتبر المرأة إنساناً مسؤولاً في مستوى مسؤولية الرجل من حيث طاقاتها العقلية والجسدية، وما إلى ذلك. لكن طبيعة التنوع في المرأة والرجل، من حيث خصائص الذكورة وخصائص الأنوثة، تفرض وجود تنوع في حركة إنتاج الجسد أيضاً، فجعلت هناك تنوعاً في بعض الوظائف. ولذلك، فإن قِوامة الرجل على المرأة ليست قِوامة مطلقة في القول ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ...﴾، بل هي قِوامة في دائرة الحياة الزوجية، باعتبار أن الحياة الزوجية مؤسسة، فلا بد لها من مدير يملك أمر الإنفاق ويملك أمر الإدارة، ولذلك قال الله ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ...﴾ (سورة النساء، الآية 34). فالقضية، إنما هي أن الرجل يتحمل مسؤولية البيت الزوجي، والمرأة لا تستطيع أن تتحمل مسؤولية البيت الزوجي بصورة مطلقة، لأن ظروفها، من حيث الحمل والإرضاع وما إلى ذلك، قد لا تساعدها في أن تتحمل بنفسها مسؤولية الحياة الزوجية. لذلك، فالقِوامة، إنما هي في دائرة البيت الزوجي.

لكن هذا تغير الآن، ويتغير أكثر فأكثر بعد مشاركة المرأة في العمل وفي الإنفاق.

هناك فارق بين أن يتغير الواقع الذي تضغط فيه على المرأة أنت كنظام وبين واقعٍ في اتساع دور المرأة في حركة الحياة. إن الإسلام يتحدث عن ذلك - في دائرة النظام - لا من خلال الواقع، فقد كان هناك واقع تعيش المرأة فيه بعض الأعمال، كانت المرأة فلاحة وكانت المرأة خياطة... كان هناك دور للمرأة، لكن الإسلام أراد أن تعيش المرأة من دون أن تتحمل مسؤولية الحياة الزوجية، لم يمنعها من العمل، لكنه اعتبرها إنسانة لا تتحمل مسؤولية الإنفاق، لكن لها أن تنفق ولها أن تتوافق مع زوجها. وعندما يكون التوافق فيما بينهما فليس هناك مشكلة، لكن تبقى المسألة أنه لا بد هناك من شخص يدير البيت، وليس من الطبيعي أن تكون الإدارة ذات رأسين في هذا المجال.

مشكلتنا مع الغرب أنه يعتبر ثروات الشرق حقاً طبيعياً له

كيف يجب أن تكون علاقة الدول الإسلامية بالغرب أو العكس بالعكس؟

نحن ليست عندنا عقدة من الناس في الغرب، ليست عندنا عقدة "غرب وشرق" على طريقة الكلمة المشهورة الغرب غرب والشرق شرق ولن يلتقيا. فنحن نعتبر أن الغرب يمثل حالة إنسانية معينة لها ظروفها التاريخية وظروفها المعاصرة التي ساهمت فيها عدة عناصر داخلية وخارجية، إنْ من خلال الخط الفكري أو من خلال الخطوط السياسية أو من خلال المناهج الاقتصادية والثقافية والأمنية، وما إلى ذلك. كما نعتبر أن الشرق يمثل حالة تاريخية ومعاصرة من خلال كل العناصر التي قد يدخل فيها التخلف والتقدم، وقد تتشابك فيها الخيوط المختلفة في جميع مجالات الحياة. ونحن نعتبر أن حركة الشعوب تتحرك وتنطلق من خلال التعارف: ﴿... وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا...﴾ (سورة الحجرات، الآية 13). والتعارف يمثل حركة الإنسان من أجل مواجهة الخبرات المتنوعة الموجودة عند هذا الشعب وذاك الشعب.

لكن المشكلة هي أن الغرب تحول إلى قوة كبرى استكبارية تضطهد المستضعفين في العالم. ومن بين هؤلاء المستضعفين شعوب العالم الإسلامي. ومن هنا وُجدت العقدة، فأصبحت شعوب العالم الثالث أو الشعوب المستضعفة، وفي مقدمها الشعوب الإسلامية، تنظر إلى الغرب نظرتها إلى قوة تريد أن تقهر قوتها، وأن تصادر ثرواتها، وأن تمنعها من تقرير مصيرها، وأن تعطل حركتها من أجل الاكتفاء الذاتي والاستقلال السياسي والأمني والاقتصادي، وما إلى ذلك. ومن الطبيعي أن هذا بدأ يصنع الكثير من حالات القلق والخوف والحذر، وأصبحت الممارسات الغربية المستمرة تعمّق هذا الإحساس بالرفض للغرب لدى الشعوب المستضعفة، حتى الشعوب غير الإسلامية. ولذلك، فإن مطلب الشعوب الإسلامية والشعوب الشرقية من الغرب أن يتوازن في نظرته إلى إنسان العالم الثالث، وأن ينظر إليه من موقعه الإنساني في حاجاته وتطلعاته وقضاياه الحيوية، بحيث تكون العلاقة بينهما علاقة إنسان بإنسان وعلاقة مصالح متبادلة واحترام متبادل. وهذا مما لا يرضى الغرب به لأنه لا يزال يعتبر أن ثروات الشرق هي حق طبيعي له، وأن المواقع الاستراتيجية الموجودة في هذا العالم الثالث هي مواقعه، وأن هذه الدول أو هذه الشعوب أو سياستها هي على هامش سياسته، لأنه يعتبر أنه هو الأصل والآخرون يمثلون الهوامش. أمّا إذا ابتعدنا عن هذا الجانب السياسي - الأمني - الاقتصادي، ودخلنا مضمون الحياة الغربية، فإننا كمسلمين نختلف مع الغرب في كثير من مفردات حياتهم المرتكزة على قاعدة مادية لا ترى فيه الجوانب الروحية أي معنى. ومن الطبيعي أن تختلف حضارتنا الإسلامية عن الحضارة الغربية في العمق الفكري والروحي للحضارتين. أمّا عندما ننظر إلى الغرب كقوة علمية، تكنولوجية، متطورة، فنشعر بحاجتنا إليه، ولذلك، فنحن نعمل بكل ما عندنا من طاقة من أجل أن نرسل أولادنا إلى مواطن الغرب ليتعلموا ولينقلوا تجربة الغرب إلى بلادهم. كما أننا نحاول نقل هذه التجربة إلى بلادنا من خلال علاقات علمية وثقافية، وما إلى ذلك. فنحن لا نتنكر للغرب ولا نتنكر لشعوب الغرب، نحن عندما نعلن معارضة الغرب، إنما نعارض الغرب السياسي ونعارض الغرب الاقتصادي المنطلِق من الشركات الاحتكارية، ولا نعارض الغرب الإنساني.

يقال أنكم الأب الروحي لحزب الله، فما هو تعليقكم على ذلك؟

أنا لا أفهم أن هناك أباً روحياً وأباً مادياً. فنحن في الإسلام "مدرحيون"، نعتبر أن الإنسان هو قبضةٌ من الطين ونفخة من روح الله. لذلك فليس هناك شخص روحي بالمطلق، وليس هناك شخص مادي بالمطلق. لكنني أتصور أنني من آباء الحركة الإسلامية في الواقع العربي على الأقل، وفي الواقع الإسلامي الشيعي بصورة خاصة. فقد انطلقتُ إسلامياً منذ أوائل الخمسينات قبل أن يكون هناك حزب الله وقبل أن تكون هناك أحزاب كثيرة. لذلك، فإنني أعتز بأن أغلبية هذا الجيل تربّت على يدي أو كان لي بعض الدور في تنشئتها الفكرية. لكن الارتباط السياسي، بالمعنى العضوي، لا يتحرك في حياتي مع أي حزب آخر، وإنما هناك أوضاع سياسية داخلية وخارجية قد تحكم العلاقات في هذه الحركة الإسلامية أو تلك. لست مرشداً روحياً لحزب الله بالمعنى التنظيمي لهذه الكلمة، لكنني أمارس وأعيش مرجعية دينية إسلامية تنفتح على مواقع أوسع من مواقع حزب الله. فأنا أملك امتداداً واسعاً حتى في الوسط الإسلامي السنّي. لكن هذا لقب منحني إياه الغرب من أجل أن يحمّلني مسؤوليات كثيرة، وقد رفضت ذلك لأنني لا أعترف بهذه الدائرة الضيقة، وأعتقد أنني أملك من خلال تاريخي الشجاعة لأن أعلن ما أنا فيه في كل موقع من المواقع، فلست جباناً أخاف من أحد.

ما هو رأيكم في مقولة فصل الدين عن الدولة؟

إن فصل الدين عن الدولة هو تماماً كما تقول أن تفصل الإنسان عن ذاته. إن هذه المقولة انطلقت من تجربة الدين في الواقع الغربي، فهي كلمة مستوردة ونحن لسنا معقدين من استيراد الكلمات، لأننا لا نعتبر أن الفكر يخضع لوزارة الاقتصاد في عالم الاستيراد والتصدير. ليس للفكر وطنٌ معيّنٌ، ولهذا كنا ضد مصطلحات الاستخبارات المركزية الأميركية عندما كانت تعبّر عن المبادئ الماركسية بأنها المبادئ المستوردة، لكننا نقول إننا حتى عندما نأخذ من الأمم الأُخرى بعض الكلمات وبعض المصطلحات، فإن علينا أن ندرسها في عمقها. المفهوم الديني عند الغرب، أو هكذا قُدمت المسيحية، هو أنه علاقة بين الإنسان وربه، ويقولون عن لسان السيد المسيح: مملكتي ليست في هذا العالم، اعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر. أمّا في الإسلام، فإنه يتحرك من خلال أن الله ليس منفصلاً عن العالم وعن الإنسان، بل هو الله الرحمن الرحيم الذي يرزق ويعطي ويحيي ويميت بحيث أنك ترى الله سبحانه وتعالى في كل شيء يتحرك في حياتك. فالله ليس شيئاً تجريدياً بعيداً عن عالمك، يجلس في مكان معين ويحلّق في عالم الغيب الذي لا تستطيع أن تبلغه، بل إنك تراه في عقلك وفي قلبك وفي حياتك وفي كل وجودك المرتبط بالله. وعندما نأتي إلى الدين، فإننا نقرأ قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ...﴾ (سورة الحديد، الآية 25). معنى ذلك أن الأديان كلها حركة عدل. وهل يمكن أن يكون هناك عدل بلا دولة؟ إن الدولة تمثل وسيلة الإنسان من خلال تحريك العدل وتحويله إلى واقع. العدل لا بد فيه من حاكم عادل ومن شريعة عادلة ومن مواطن عادل، وهكذا. لذلك، فإننا نعتبر أن الدين إذا كان ينطلق من قاعدة العدل، ومن الطبيعي أن العدل ليس شيئاً معلقاً في الهواء، وإنما هو قيمة واقعية، فلا بد له من وسائل. فإذا أبعدنا الدولة عن الدين، فمعنى ذلك أننا أبعدنا الوسيلة عن الحياة. هذا من جهة، ومن جهة أُخرى، من ناحية واقعية، إننا عندما ندرس الفقه الإسلامي منذ اختلاف الفقهاء المسلمين في زمن الخلفاء الراشدين حتى يومنا هذا، فإننا نجد أن الفقهاء المسلمين عالجوا كل ما كان الإنسان المسلم يعيشه من مفردات حياته. فقد عاش المسلمون في مدى ما يقارب الألف سنة في نظام خلافة الأمويين والعباسيين وما إلى ذلك، ولم يكن هناك دستور مثل اليوم. كان الفقه الإسلامي هو الذي يدير حياة الخليفة وحياة الحرب والسلم والعلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والعلاقات السياسية للناس. لذلك، إن الفقه الإسلامي يمثل ثورة تشريعية شاملة، ولا يزال يتحرك في مواجهتها. عندما نريد أن نفصل الإسلام عن الدولة، فماذا نصنع بهذا الفقه، هل نطرحه في الهواء، ولماذا نطرحه، لماذا لا ندرسه، لماذا لا نحاكمه، لماذا لا نقارن بين المفاهيم التي طرحها في حل مشكلات الإنسان الجزئية أو العامة بما يطرحه الآخرون. إن الإنسان المسلم يشعر بأن عليه أن يعيش الشريعة حتى في غياب الدولة الإسلامية. ومن هنا، فإن الذين يدعون إلى الدولة الإسلامية وإلى تطبيق الشريعة، يريدون أن يخرجوا الإنسان المسلم من هذا التمزق بين ما هو القانون وما هي الشريعة. ولذلك، فنحن نرفض فصل الدين عن الدولة، كما نرفض فصل الإنسان عن ذاته، أنه أشبه شيء بذلك.

ما هو رأيكم في قيادات العالم العربي الحالية؟

إنني أحمل مصباح "ديوجين" لأجد هناك قائداً، ولا أبصر ذلك حتى في النهار. إن القائد هو الذي يعيش مسؤولية القيادة بحيث يذوب في أمته، ومشكلتنا أن العالم العربي وقيادات العالم العربي تريد للأمة أن تنمو في الشخص. وهذه هي المسألة بين أن يكون الإنسان قائداً وبين أن يكون فرعوناً.

هل يمكن التوفيق بين الإسلام والقومية العربية، وما السبيل إلى ذلك؟

إن علينا أن نحدد مفهومنا للقومية العربية. هناك نظرة للقومية العربية أنها حالة إنسانية يعيش فيها الإنسان العربي إحساسه بعروبته التي تنفتح على الإنسان العربي الآخر انفتاحاً شعورياً وعملياً من خلال ارتباطه به في عاداته وتقاليده ولغته وتاريخه، ومن خلال ارتباط قضاياه بقضاياه ومصيره بمصيره، ليعمل على أساس أن يوحد هؤلاء الناس الذين يعيشون حال الارتباط الإنساني بخصوصية إنسانية معينة والارتباط المصيري في الواقع السياسي والاقتصادي والأمني، وما إلى ذلك. عندما نعيش عروبة بهذا الشكل، فإن العروبة لا تنافي الإسلام، لأن الإسلام يمثل حالة إنسانية شاملة تعترف بخصوصيات الإنسان وتنوعاته ﴿... وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ...﴾. فالإسلام لا يرفض أن تتحسس عروبتك كخصوصية إنسانية لها عناصر معينة لتكون نافذة تطل على قومية أُخرى، وعلى إنسان آخر، والإسلام يقول لك: إنني أقدم برنامجي للحياة على مستوى العقيدة والفكر والواقع لكل الناس ومنهم العرب. لذلك لا أجد أي نوع من أنواع التضاد بين القومية وبين الإسلام. إن القوميين يتحدثون عن وجود مسيحي يمنعهم من أن يطرحوا الإسلام، لكننا نتصور أن العرب كانوا موحدين في التاريخ على أساس الإسلام مع وجود الأقليات المسيحية واليهودية. لم يعِش العرب وحدة في واقعهم كما عاشوا الوحدة في تاريخهم. لقد كانت الخلافة هي الإطار الذي وحّد العرب في دائرتهم، كما وحّد غيرهم معهم. إني أعتبر أن القومية إطار والإسلام مضمون هذا الإطار.

جمهورية إسلامية في لبنان شعار غير واقعي

يُذكر أنكم تقودون الرأي إلى "لبننة" الإسلام في لبنان. فما هو مغزى هذا التوجه، وما هي مقوماته؟

الواقع أنه عندما يُطلق هذا التعبير فليس المقصود به إيجاد حالة إسلامية لبنانية تتمحور حول لبنان وتختنق داخله، لأنه لا معنى أن يكون لدينا إسلام لبناني وسوري وعراقي أو عربي أو فارسي، باعتبار أن الإسلام هو رسالة الله للبشرية جمعاء. لكنني عندما كنت أتحدث عن "لبننة" الحركة الإسلامية في لبنان، كنت أقصد أن تدرس الحركة الإسلامية الواقع اللبناني لتراعي الظروف الموضوعية الموجودة في لبنان حتى تضع خطتها في الأسلوب وفي المنهج وفي العلاقات، على أساس مراعاة هذه الظروف التي منها الحساسيات الطائفية والمذهبية والنظرة اللبنانية إلى محيطها كي تدرس كيفية معالجة المشكلات اللبنانية من خلال الواقع اللبناني. كنت أقصد من هذه الكلمة ألاّ يتحرك المسلمون في لبنان في المطلق بحيث يمارسون أساليب الدعوة، وأساليب الحركة، وأساليب الخط السياسي والعلاقات، على الطريقة التي يمارسونها في بلد إسلامي آخر تختلف ظروفه وحساسياته ومشكلاته عن الظروف والمشكلات والحساسيات اللبنانية. هناك تعبير مماثل موجود في الجزائر، وهو حركة "الجزأرة" الإسلامية. ويتحدث عن إسلام جزائري لا شُغل له في الإسلام خارج الجزائر ولا علاقة له بحركة المسلمين خارج الجزائر، إذا صح أنهم يفكرون بهذه الطريقة. نحن لا نفكر في هذا، نحن ندعو إلى أن ينطلق المسلمون اللبنانيون، بل اللبنانيون بأجمعهم، ليتوافقوا، لينفتحوا على محيطهم وليتفاعلوا مع محيطهم بطريقة وبأُخرى، لأننا ضد انعزال أي إقليم إسلامي عن إقليم آخر. ولذلك، فإن مسألة "اللبننة" هي مراعاة ظروف لبنان في حركة العمل لا اختناق العمل داخل لبنان.

هل يمكن الإشارة إلى مقومات أساسية علمية في هذا التوجه؟

إننا عندما ندرس الواقع في لبنان، فإننا نجد واقعاً مسيحياً معقداً قد يختلف عن الواقع المسيحي في أي بلد إسلامي آخر أو أي بلد عربي آخر. فمثلاً شعار الجمهورية الإسلامية في لبنان، قد يكون شعاراً ثقافياً فكرياً، يشير إلى أن الإسلام يمثل حالة سياسية دولية، لكن من الصعب جداً أن تفكر أن له فرصة في أن يطبق في لبنان لا من خلال الوضع الداخلي في لبنان، لأن من الممكن أن يتحدث متحدث عن أكثرية إسلامية تطغى على أقلية مسيحية، لكن من خلال طبيعة المعادلة الدولية الحديدية التي تمنع ذلك، كما تمنع أي تغيير شامل في لبنان لأي جهة ماركسية أو قومية أو مسيحية أو إسلامية. من الطبيعي أن على الإسلاميين أن يستفيدوا من الواقع في لبنان، لا ليفكروا في أن يتحول لبنان إلى جمهورية إسلامية، لأن هذا ليس واقعياً، لكن ليطلقوا أفكارهم في لبنان، باعتبار أن لبنان يمثل النافذة التي تطل على الغرب والتي يمكن للغرب أن يطل منها على الشرق. ومن هنا، فإنها تمثل الساحة التي تعيش إمكانات التفاعل مع جميع الساحات الأُخرى كما تملك إمكان إطلاق آرائها في الساحات الأُخرى، باعتبار لبنان منبراً من منابر الدعوة، كما أنه منبر من منابر الحركة السياسية. إنني أقصد بـ "اللبننة" أن يكون المسلمون الإسلاميون اللبنانيون واعين للخصائص اللبنانية كافة ليصوغوا أسلوبهم ووسائلهم وخططهم بصورة تتوافق مع الواقع اللبناني، على أساس أن الله يريدنا أن ندعو إلى سبيل ربنا بالحكمة؛ والحكمة هي وضع الشيء في موضعه. وقد قرأنا في البلاغة أن البلاغة في الكلام مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومقتضيات الأحوال هي الظروف والحساسيات والأوضاع والمتغيرات، وما إلى ذلك.

ما هو رأيكم في اشتراك حزب الله في البرلمان اللبناني؟ وكيف ترون مستقبل هذا الحزب على الساحة اللبنانية؟

في تصوري أن اشتراكه ينطلق من شرعية إسلامية ترى أن من الضروري جداً أن يشارك الإسلاميون في البرلمان لا نتيجة اعترافهم بالبرلمان كصيغة من ناحية فكرية، لكن من جهة أن البرلمان يمثل الساحة التي يمكن لهم فيها أن يعبروا عن آرائهم وعن أفكارهم، ويحشدوا الآخرين للأخذ بها أو للانسجام معها. كما أنهم يستطيعون أن يُحدثوا بعض التغيير ولو من خلال بعض المفردات ويملكوا مواقع سياسية متقدمة تستطيع أن تحقق لهم بعض الأهداف المرحلية. وأعتقد أن حزب الله يعيش رشداً سياسياً معقولاً، وأصبح يمثل خبرة عسكرية وأمنية وثقافية وسياسية، الأمر الذي يجعل فرص امتداده في لبنان فرصاً كبيرة على الرغم من التحديات التي تواجهه من خلال هذه الهجمة العالمية الأميركية والإسرائيلية المضادة. لكنني أتصور أن من الصعب جداً إنهاء دور هذا الحزب، لأنه دور متجذر في الواقع الشعبي من جهة، وينطلق، من جهة أُخرى، من خلال عناصر قوية في تركيبته وفي أسلوبه وفي طريقته في التفكير وفي العمل السياسي. ربما ينال الآخرون منه، ربما يُضعفون بعض مواقعه، لكنني أعتقد أنهم لا يملكون إلغاءه.

كيف ترون الحل لوضع الجنوب اللبناني المحتل؟

أنا لا أعتقد أن هناك حلاً جنوبياً لأن المسألة متصلة بالقضية الفلسطينية في إطارها العربي العام. ومن هنا، فليس هناك حل جنوبي خاص، كما ليس هناك حل لبناني للمسألة اللبنانية، لأن القضية لا تزال تدور في دائرة ما يسمى التسوية.

ما هو موقفكم من قوات الأمم المتحدة في الجنوب اللبناني؟

إننا لسنا ضد وجود قوات الأمم المتحدة، إنها قد تنفع في إيجاد بعض حالات التوازن في بعض المناطق في الجنوب، والتي قد تمنع الاجتياح الإسرائيلي، لكنها قد تمارس دوراً سلبياً عندما تقف عقبة في طريق المقاومة. ونحن نتصور أن وجودها يمثل شاهد زور، باعتبار أن لا دور لها سوى تقديم التقارير عن عدد القتلى وعن عدد القذائف الإسرائيلية وعن عدد عمليات المقاومة، من دون أن تملك أي تأثير في هذا المجال، لأن قوات الأمم المتحدة إنما دُعيت من أجل أن تحمي الإنسان اللبناني من إسرائيل. وقد أصبحت لا تستطيع حماية نفسها من إسرائيل ولا حماية حركاتها.

كيف ترون سياسة الولايات المتحدة بالنسبة إلى لبنان عموماً وإلى الجنوب خصوصاً، وما هو رأيكم في التصنيف الأخير للولايات المتحدة لكم ولحزب الله؟

إننا نعتبر أن الولايات المتحدة الأميركية لا تملك سياسة أميركية تنبع من المصالح الأميركية الحقيقية، بل إن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط عامة، وفي الواقع العربي والواقع اللبناني خاصة، سياسة إسرائيلية. فالذي يحكم السياسة الأميركية في الشرق الأوسط وفي الواقع العربي هم اليهود من خلال اللوبي اليهودي من جهة ومن خلال الإدارات الأميركية، ولا سيما الإدارة الحالية التي يسيطر اليهود على أكثر أفرادها. نحن لا نعتقد أن هناك سياسة أميركية في المنطقة، وفي ضوء هذا، فقد عملت أميركا على محاصرة لبنان اقتصادياً، ومنعت كل من تملك أن تضغط عليه من مساعدة لبنان، سواء على مستوى الهبات أو القروض؛ ولولا أن الاتحاد الأوروبي يعمل على أساس أن تكون له مواقع مستقلة أو يعمل على أن يحمي نفسه من الضغوط الأميركية التي تريد أن تطرده من الشرق الأوسط، لولا هذا، لكان الاتحاد الأوروبي واقعاً تحت الضغط الأميركي في عدم مساعدة لبنان. كما أن أميركا تعمل بكل ما عندها من طاقة في سبيل تأليب العالم ضد المجاهدين في الجنوب اللبناني، ولا سيما المقاومة الإسلامية التي يمثلها حزب الله أو المقاومة الفلسطينية في فصائلها التي لا تزال تقاتل إسرائيل عبر الجنوب. إن الأميركيين يحاولون أن يضغطوا بكل ما عندهم من وسائل ضغط ضد هذه المقاومة، لأنهم لا يريدون أي قوة عربية أن تقف في مواجهة إسرائيل، وأن تُنزل بها الخسائر، وأن تُربك خططها في الضغط على هذا البلد العربي أو ذاك البلد العربي باحتلال جزء من أراضيه، لتستعمل ذلك ورقة في المفاوضات أو لتحصل على مكاسب جديدة من خلال هذا البلد أو ذاك البلد. ولهذا، فإننا نتصور أن أميركا في سياستها بالنسبة إلى مسألة المقاومة في الجنوب هي سياسة إسرائيلية.

أمّا مسألة التصنيف بأننا إرهابيون أو بأننا نحرك الإرهاب أو ما شابه ذلك، فإننا نعتبر أنه وسام شرف، لأنه عندما يَسمُكَ الآخرون بهذه الوسمة، ونحن نعرف أن مفهوم الإرهاب عند الأميركيين يتمثل في حركة الحرية وحركة رفض الاحتلال، ونحن نعتبر أن كلمة الإرهابي في القاموس الأميركي هي كلمة تشرف أصحابها بدلاً من أن تسيء إلى صدقيتهم.

نحن لسنا إرهابيين. نحن نحترم الناس جميعاً، من أميركيين ومن أوروبيين ومن يابانيين ومن العالم كله، لأننا نحب للناس السلام، لكننا نحترم أنفسنا ونحترم أرضنا ونحترم أمتنا ولا نقبل لأحد أن يفرض عليها ما لا تريد، ولا نقبل أن يصادر أحد اقتصادها أو حرياتها أو استقلالها أو ما إلى ذلك.

ما هي أنشطتكم الاجتماعية والخيرية في لبنان؟

إنني عملت، على أساس الواقع اللبناني، على القيام بعدة أنشطة اجتماعية؛ فقد أسست عدة مبرات في لبنان، في البقاع، في الهرمل، وفي الجنوب، وفي بيروت، مبرات للأيتام. وتضم هذه المبرات ما يقارب الألفي يتيم. كما أننا قمنا بإنشاء معهد للمكفوفين ومعهد للصم. وهكذا أنشأنا عدة مدارس نموذجية في المناطق المحرومة، سواء كان في الجنوب أو في الهرمل أو في رياق في البقاع الأوسط، وفي الضاحية وفي أكثر من منطقة في بيروت، وغيرها. وأنشأنا مراكز ثقافية. ونحن الآن في صدد إنشاء مستشفى كبير في الضاحية ومركز إسلامي ثقافي. كما أن لدينا مكتباً للخدمات الاجتماعية يلاحق قضايا العائلات المحرومة في كل لبنان ليقدم لها مساعدات نقدية أو عينية أو خدماتية في هذا المجال. وتبلغ ميزانية هذا المكتب سنوياً ما يقارب الثمانية أو العشرة مليارات ليرة لبنانية. كما نقوم بإيجاد مؤسسات فقهية ومؤسسات شرعية من أجل تدريس الفقه في مستوى الدراسات العالية، وما إلى ذلك. نحن نشعر بأن طاقة الإنسان ليست ملكاً له وإنما هي ملك الناس، ولذلك نشعر بالحاجة إلى أن نبذل طاقاتنا للناس الذين يحتاجون إليها، وأن ننمي طاقاتنا. وأحب أن أؤكد أن مشاريعي بأجمعها ليس لأي دولة، سواء كانت إيران أو غيرها، أي دور فيها، وإنما هي من تبرعات المحسنين ومن الحقوق الشرعية من الخُمس والزكاة التي تأتي من المؤمنين عموماً.

هل يمكن أن نتوسع قليلاً في مصادر تمويل هذه المشاريع والمؤسسات؟

هناك واقع موجود في الساحة الإسلامية الشيعية، وهو واقع ارتباط الناس بعلماء الدين الفاعلين الذين يملكون موقعاً مرجعياً في الأمة. فالناس يقدمون إليهم خُمس أموالهم المفروضة عليهم، لأن المذهب الشيعي يعتقد أن الخُمس، وهو فريضة على المسلمين بأن يُخرج كل إنسان في آخر سنته ما يفضل عن مصاريفه السنوية، بأن يُخرج خُمس أرباحه. ولذلك، فإن هذه الأخماس، بالإضافة إلى التبرعات التي تُقدم، بالإضافة إلى النذورات والصدقات، تمثل رصيداً دائماً متحركاً يغني علماء الدين، بحسب مواقعهم المتقدمة، عن أن يحتاجوا إلى السلطة. كما أنه يمول هذه المشاريع دوماً. ولذلك، فإنني أعتبر أنني أقود مشاريع كلّفت ملايين من الدولارات ولم أحتج إلى أي دولة من الدول العربية، أو إلى دولة إيران بالذات. الدولة الإيرانية لم تشارك في جميع مشاريعي. هناك أشخاص محسنون من الكويت ومن غير الكويت، كويتيون مؤمنون يثقون بي وبأعمالي ويقومون ببذل أموال طائلة في إنشاء هذه المشاريع، ونحن نصدر كل سنة بياناً بهذه المشاريع وبأسماء هؤلاء الأشخاص. كما أن هناك إمداداً دائماً للحقوق الشرعية التي تأتينا من سائر بلاد العالم الإسلامي لتمويل هذه المشاريع وغيرها.

كيف ترون علاقات الشيعة في لبنان بإيران تاريخياً؟

إن الواقع الشيعي التاريخي كان واقعاً منفتحاً ومتفاعلاً مع الشعب الإيراني، لأن كثيراً من علماء الشيعة الكبار، ويذكر في مقدمهم الشيخ البهائي وعلماء آخرون، ذهبوا إلى إيران، وأصبح لهم مراكز كبرى في إيران. ولذلك، فإن الهجرة اللبنانية العلمائية إلى إيران كانت هجرة قديمة نتيجة هذا الاتفاق في المذهب وهذا التعاطف الذي يقدمه الشيعة تجاه العلماء الشيعة في لبنان، الذين كانوا مميزين في العصور السابقة. كما أن هناك مقامات دينية تتمثل في مزارات بعض أئمة أهل البيت الذين يحترمهم الشيعة ويعتقدون بإمامتهم في إيران، وفي مشهد بالذات. ولذلك، كانت العلاقات اللبنانية الشيعية الإسلامية بإيران تنطلق من هذه الحاجة إلى زيارة هذه المشاهد. ثم تطورت العلاقات بعد محاصرة النجف من قِبل النظام العراقي، وأصبح طلاب العلوم الدينية يهاجرون إلى مدينة قُم للتخصص الفقهي فيها، وبذلك اشتدت العلاقات في هذا المجال. كما أن ولادة الجمهورية الإسلامية والأجواء التي صنعها الإمام الخميني، بالإضافة إلى الأجواء السياسية التي تفاعلت معها سياسة الجمهورية الإسلامية التي أوجدت حالة تشبه الارتباط العضوي في المعنى السياسي أو الجهادي. كُل ذلك أثر تأثيراً إيجابياً في علاقة الشيعة بإيران.

ما هي طبيعة علاقتكم شخصياً بإيران؟

إنني أعتبر أن إيران تمثل قاعدة للحركة الإسلامية الفاعلة التي التزم بها. ومن هنا، فإن هناك علاقات عميقة جداً بيني وبين قادة الجمهورية الإسلامية، ولا سيما آية الله السيد علي الخامنئي الذي ترقى علاقتي به إلى ما يقارب الثلاثين سنة. وهناك علاقات عميقة وعلاقات احترام متبادل فيما بيني وبين القيادات الإيرانية والعلماء الإيرانيين والشعب الإيراني، لكن ليس معنى ذلك أنني أفقد استقلالي الفكري أمام إيران.

إسرائيل ستبقى وجوداً غير شرعي والقضية الفلسطينية لم تسقط في ساحة الشعوب

إلى أين ستؤدي التسوية الجارية بحسب رأيكم؟ هل ستؤدي إلى تسوية شاملة للقضية الفلسطينية والصراع في المنطقة؟ إلى حل مرحلي مفتوح على أي أفق؟ إلى هدنة؟

إنني أتصور أن الوضع الدولي كله والوضع العربي كله يتجهان إلى تحجيم القضية الفلسطينية، ومحاصرتها، ومحاولة الإجهاز على جميع مواقع القوة داخلها، ولا سيما مواقع الرفض، سواء كان رفضاً إسلامياً أو قومياً أو وطنياً. لكنني أتصور أن القوى الساعية في هذا الاتجاه لن تنجح من ناحية عملية واقعية، وإن كان يمكن أن تنجح من ناحية رسمية، لأن إسرائيل، التي أصبحت تتحسس ضخامة دورها وموقعها وقوتها، ستعيد العلاقات العربية - اليهودية إلى نقطة الصفر بما تقوم به من خطط متعسفة عدوانية ضارة لكل الواقع العربي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي والأمني، وهو ما يعيد المسألة في المستقبل إلى نصابها الطبيعي. إن المسألة التي يجب أن نحدق إليها، هي أن المسألة الفلسطينية سقطت في دائرة الأنظمة ولم تسقط في دائرة وساحة الشعوب العربية والإسلامية. لهذا، فإنني أتصور أنه حتى لو تمت التسوية، فقد يأتي وقت جديد لا بد لنا فيه من أن ندرس، ولا بد لنا من أن نملأه بالعمل الجاد، ولا بد لنا من أن نبقي مواقع الرفض حية في عملية التعبئة الذهنية والروحية بالحق الفلسطيني العربي الإسلامي. إنني أتصور أن تجربة اليهود في فلسطين يمكن أن تكون تجربة الفلسطينيين العرب المسلمين في فلسطين من جديد. لذلك أنا أدعو إلى أن تبقى لنا مواقع الرفض المتطرف بحسب حسابات الواقع، لأنك عندما تكون معتدلاً في البداية، فإنك ستتحول إلى عنصر مائع بفعل المتغيرات والمواقف، لكن عندما تكون متطرفاً في البداية، فإن الضغوط لن تأخذ لحمك وعظمك، لكنها تأخذ بعض شحمك. مشكلة الذين يتحدثون عن واقعية سياسية وعن اعتدال سياسي أنهم يريدون للأمة أن تخسر من لحمها وعظمها فلا يبقى هناك شيء. ونحن نقول إذا كان لنا ما نريد أن نخسره أو ما نفسح في المجال للمتغيرات أن تخسره، فليكن الشحم أو بعض اللحم لكن أن يبقى هناك عظم مغطّى بكثير من اللحم.

لكن، في حال قيام صلح مقبول لدمشق وبيروت والقيادات الفلسطينية، وانسحاب إسرائيل من الجولان والجنوب اللبناني، فماذا يكون موقفكم من إسرائيل والقضية الفلسطينية؟

إننا سنظل نقول إن إسرائيل وجود غير شرعي، لأن إسرائيل هي دولة غاصبة لكل إنسان فلسطيني طردته من بيته وأقامت مقامه يهودياً. إننا لا نعتقد أن السلطة الفلسطينية تملك حق توقيع أي صلح يعطي اليهود الحق في مصادرة أرض الفلسطينيين وبيوتهم، بمن فيهم فلسطينيو الـ 48. نحن نعتقد أن الغصب حرام كما هو الخمر حرام. ولن يأتي وقت يكون فيه الغصب حلالاً. إن مسألة اليهود هي أنهم غصبوا الأرض وغصبوا السلطة، ونحن لن نعترف بشرعيتهم إلاّ إذا أرجعوا الأرض وأرجعوا السلطة واتفق جميع الفلسطينيين، يهوداً ومسيحيين ومسلمين، على النظام الذي يريدونه، عند ذلك يكون لكل حادث حديث.

ما هو رأيكم في دولة فلسطينية تقوم ضمن حدود 67، وتكون عاصمتها القدس الشرقية؟

أن تكون هذه الدولة اعترافاً بإسرائيل أمر مرفوض، أمّا أن يحصل الفلسطينيون على أي قطعة من الأرض، بقطع النظر عن لوازمها من الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على باقي فلسطين، فهذا لا نرفضه. إننا نتبنى الجانب الإيجابي في المسألة ونرفض الجانب السلبي فيها.

ما هو وضع الفلسطينيين في لبنان اليوم كما ترونه؟

من الطبيعي أن الوضع الفلسطيني هو وضع مأساوي، ونحن نعمل بما عندنا من جهد في سبيل تخفيف هذه المأساة.

ما هو مستقبل الفلسطينيين في لبنان في حال استحالة عودتهم جميعاً إلى الدولة الفلسطينية؟

إن المسألة خاضعة، بحسب الخطة الدولية، للمشاريع الدولية في هذا المجال، فهناك مشاريع دولية تعمل على توزيع الفلسطينيين في العالم في مجاهل أُستراليا والبرازيل وكندا وما إلى ذلك. وهناك مشاريع تحاول أن توزعهم على بعض البلاد العربية، كالعراق وأمثاله. هناك فكرة التوطين في لبنان التي هي في دائرة الخطة الاستكبارية الأميركية والصهيونية، وتحاول الجهات الدولية النافذة أن تضغط من أجل تأكيده في الواقع اللبناني وفي الواقع العربي بصورة عامة.

 

* أجرى الحوار محمود سويد بتاريخ 16 و17 أيار/مايو 1995.