"المستقبل الفلسطيني": قراءة في مداخلات
Keywords: 
السياسة الأميركية تجاه فلسطين
السياسة الأميركية في الشرق الأوسط
عملية السلام
عملية صنع القرار السياسي
Full text: 

في عددها الصادر هذا الصيف (تموز/يوليو - آب/أغسطس 1994)، تضمنت المجلة الفصلية الأميركية Foreign Affairs ثلاث مداخلات تتعلق بالمستقبل الفلسطيني. ففي ضوء التحسب والاستعداد لدخول اتفاق "إعلان المبادىء" الفلسطيني - الإسرائيلي مرحلة التنفيذ الفعلي في تموز/يوليو 1994، يبدو أن محرر هذه الدورية، التي تعنى بقضايا السياسة الخارجية الأميركية وترتبط بالدوائر السياسية المحافظة، وفي محورها الحزب الجمهوري، كان طلب مسبقاً من المساهمين الثلاثة تقديم تصورات بشأن المستقبل الفلسطيني في ضوء هذا التطبيق. وطبعاً فإن الهدف الأساسي لمحرر مثل هذا النوع من الدوريات، التي تشكل "منابر ضاغطة"، أن يرافق - إنْ لم نقل أن يستبق - الحدث بتحليلات سياسية لتؤثر في مجرى صناعة القرار السياسي الأميركي تجاهه. وبما أن إسرائيل ومنطقة الشرق الأوسط حيويتان أميركياً، ونظراً إلى كون "العملية السلمية" الدائرة في المنطقة تشكل هدفاً استراتيجياً أميركياً، فإن التأثير في الإدارة الأميركية فيما يتعلق بسياستها تجاه المنطقة يصبح أمراً أساسياً ومركزياً للأطراف السياسية المعنية داخل الولايات المتحدة بالموضوع والمنطقة.

تتضمن المداخلات بشأن "المستقبل الفلسطيني" تصورات كل من ولْيَم كوانت (William Quandt) ، وعاموس بيرلميوتر (Amos Perlmutter)، وشلومو أفنيري (Shlomo Avineri). وقد جاءت مداخلة كوانت تحت عنوان "التوق إلى الديمقراطية"*  (The Urge for Democracy). وكوانت من كبار الزملاء في برنامج دراسات السياسة الخارجية في معهد بروكنغز في واشنطن العاصمة، وهو خبير متمرس في شؤون الأوسط ومقرب من الأوساط الليبرالية الأميركية والحزب الديمقراطي، ولا سيما منذ عمل في مجلس الأمن القومي خلال إدارة الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر. أما بيرلميوتر، وهو أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في واشنطن العاصمة ومحرر مجلة Journal of Strategic Studies، فجاءت مداخلته تحت عنوان "دولة عرفات البوليسية" (Arafat’s Police State). وأخيراً، كتب أفنيري، وهو أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية حالياً ومدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية سابقاً، مداخلته تحت عنوان "تخطي التبعية" (Sidestepping Dependency). ويلاحظ أن المداخلات الثلاث تنطلق جميعاً من الإقرار بأن عملية بناء الدولة الفلسطينية ابتدأت فعلاً منذ عُقد الاتفاق الفلسطيني - الإسرائيلي، وأن تنفيذ مرحلة "غزة - أريحا" ما هو إلا بداية مرحلة التأسيس. لكن يلاحظ أيضاً غياب التوازن في عرض وجهات النظر؛ ففي حين يمثل كل من بيرلميوتر وأفنيري وجهة النظر الإسرائيلية، ويعرضانها من زاويتين مختلفتين، لكن متكاملتين، فإن وجهة النظر الفلسطينية في شأن "المستقبل الفلسطيني" بقيت غائبة تماماً. ويبدو أن انتقاء ليبرالي أميركي مثل كوانت جاء من قِبل الدورية المحافظة بديلاً من "الفلسطيني الغائب" عن "المستقبل الفلسطيني"، وكأن في ذلك تعويضاً يفي بمقتضيات "الموضوعة العلمية" لدورية فصلية تخفي بين غلافيها توجهاً سياسياً ضاغطاً. وفي أية حال، يجدر التعرف إلى الوارد في هذه المداخلات؛ إذ يدلنا ذلك، أولاً، على سياق التفكير "الأكاديمي" الضاغط في عملية صناعة القرار السياسي الأميركي المتعلق بمستقبلنا الفلسطيني. ويعطينا هذا التعرف، ثانياً، القدرة على صوغ سياساتنا بما يمكّن من مواجهة المؤثرات الخارجية وما يُرسم بناء عليها من سياسات تحدد لنا المصير. والمعرفة تبقى البوابة الرئيسية للنجاح في أية مواجهة.

في محاولة منه لتوجيه السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط، وللتأثير في إدارة الرئيس بيل كلنتون في هذا المجال، ينطلق كوانت في مداخلته من التساؤل عن إمكان تحقق الديمقراطية في الدولة الفلسطينية المقبلة. ومع استغرابه عدم الاهتمام الإسرائيلي بمثل هذه المسألة الحيوية، والتي يعزوها جزئياً إلى رغبة إسرائيل الدائمة في التعامل مع ديكتاتوريين عرب لا يخضعون في تحديد سياساتهم للرأي العام العربي المناهض عموماً لإسرائيل، فإنه يشير في المقابل إلى تزايد الاهتمام الفلسطيني بتحقق مستقبل ديمقراطي. ومع الإشارة إلى استطلاعات الرأي العام (الصادرة عن مركز البحوث والدراسات الفلسطينية) التي تؤكد وجود أغلبية عريضة (نحو 75%) تطالب بإجراء انتخابات فلسطينية في مقابل أقلية ضئيلة (نحو 10%) تقبل بالتعيينات من قِبل منظمة التحرير الفلسطينية، يُفنّد باختصار الأسباب الكامنة وراء هذه النتائج، ويلخصها بخمسة أسباب أساسية. أولاً، خبرة الفلسطينيين الطويلة في الأرض المحتلة بالسلطات العربية المختلفة وممارساتها اللاديمقراطية، وخصوصاً اتجاه الفلسطينيين.  ويؤكد كوانت أن هذه الخبرة تقف وراء المطالبات الفلسطينية بضرورة إيجاد نظام سياسي فلسطيني ديمقراطي يختلف عن هذه النظم. وثانياً، إن هؤلاء الفلسطينيين تأثروا إيجابياً بجارتيهم، إسرائيل والأردن. ففي الأولى، وفقاً لرأيه، نظام ديمقراطي يشاهد فيه عرب يجلسون في مقاعد الكنيست. وفي الأُخرى تجربة ديمقراطية جديدة، لكن مثيرة. وعلى هذا الأساس، فإن الفلسطينيين يطمحون إلى عدم التخلف عن هذا الركب. وثالثاً، إن الكثير من الفلسطينيين اضطر إلى العيش في الغرب وتعوّد على الطرق الديمقراطية وأصبح يُؤْثرها. ورابعاً، إن الحركة الوطنية الفلسطينية كانت متسامحة لا سلطوية في تراثها السياسي؛ فمنظمة التحرير بقيت دائماً مظلة تضم فئات عديدة، وتُتخذ فيها القرارات بصورة توافقية، وأخيراً، إن الانتفاضة قلّصت من النزعات السلطوية داخل المجتمع الفلسطيني، إذ زعزع "الشباب" تركيبات السلطة التقليدية، وبدأوا يحتلون مواقع المشاركة السياسية.

مع أن الأسباب التي يوردها كوانت لتفسير نزوع فلسطينيي الأرض المحتلة نحو الديمقراطية مفيدة، فإنها تبقى ناقصة من جهة، وميكانيكية في مناحي تفسيرها من جهة أُخرى. فالتوجه الفلسطيني إلى تحقيق نظام سياسي ديمقراطي متأصل نتيجة تجربة النكبة المريرة في فقدان الوطن، ثم التعرض للتشتت في بقاع الأرض والتحول من مجتمع إلى تجمعات عانت في الكثير من المواقع وضع الأقلية، وبعد ذلك التعرض لاحتلال إسرائيلي جديد، يغفله كوانت تماماً، للبقية المتبقية من فلسطين سنة 1967. فهذا الاحتلال الكولونيالي الإحلالي بممارساته التعسفية القهرية ضد الفلسطينيين في الضفة والقطاع، ولمدة فاقت الربع قرن حتى الآن، ولّد لديهم الحاجة والمطلب، ليس فقط لتحقيق الاستقلال، بل للتأكد أيضاً من ضمان تحقق مشاركتهم الفعالية في تقرير شؤون حياتهم ومصائرهم. وهكذا، فإن الأثر الإسرائيلي الأساسي في مسألة النزوع الفلسطيني نحو الديمقراطية، وعلى عكس ما يذكر كوانت، ليس إيجابياً خالصاً يتمثل في المحاكاة الفلسطينية لتجربة "الجيران"، بل هو أيضاً سلبي - ويجب تثبيت ذلك بدلاً من الالتفاف حول السبب الأساسي - ويتلخص بالرغبة الفلسطينية الجامحة في التخلص من نير احتلال مقيت سلبهم قدرة السيطرة على مجمل شؤون وقضايا حياتهم ومستقبلهم. وكان الأجدر بكوانت، وهو يسوق في تعليلاته التجربة الفلسطينية مع نظم عربية لاديمقراطية في الخمسينات والستينات، ألاّ يتخطى جزافاً تجربتهم المريرة مع الاحتلال الإسرائيلي منذ سنة 1967.

كما تجدر الإشارة إلى أن غياب سلطة وطنية فلسطينية منذ سنة 1967، ووجود سلطة احتلالية تُعتبر في نظر الفلسطينيين سلبية لا يتم التعامل معها سوى بالمقاومة المشروعة لقلع الاحتلال، أدى بالفلسطينيين في الأرض المحتلة إلى التغييب الاضطراري للسلطة وعدم توفر إمكان اللجوء إليها لتنظيم شؤون الوضع الداخلي لحل الخلافات الداخلية. وبالضرورة، أخذ الفلسطينيون على عاتقهم هذه المهمات، وصاغوا تحت الاحتلال - وفي أحيان عبر تجارب اتسمت بالخشونة والقساوة، وكان بعضها مريراً - تراثاً يستند أساساً إلى الاعتراف بالتعددية والاختلاف، وتنظيم شؤون الحياة وصعوباتها من خلال عقد الاتفاقات والاحتكام إلى التسويات التي تستند إلى التوازنات المجتمعية المتعددة وتقوم على مبدأ التنازلات المتبادلة. ونتيجة للممارسة نمت بين الفلسطينيين، مع مرور الوقت وامتداد زمن الاحتلال، أعراف وتقاليد يمكن الاعتماد عليها كأساس داعم للتوجه الديمقراطي داخل المجتمع. لكن يجب ألاّ يغيب عن الأذهان أن غياب السلطة الوطنية، التي تتكفل عادة بشؤون تنظيم حياة المجتمع إيجابياً وتضبط في داخله السلبيات، أدى إلى بروز نزعات اعتباطية فوضوية أخذت أحياناً تعيث فساداً داخل المجتمع.

وفي هذا السياق يجب توخي الدقة عند تحليل أثر الانتفاضة في المجتمع الفلسطيني. فمع أن كوانت مُحقّ جزئياً في تفسيره دور الانتفاضة الداعم لتطور الممارسة الديمقراطية داخل المجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال، فإن المبالغة في ذلك تُخرِج التحليل من دائرة الموضوعية وتحصره في زاوية الرغبة الذاتية. ويبدو أن عند الكثير من الليبراليين الغربيين المتعاطفين مع الشعب الفلسطيني، والذين يقدّمون عادة تحليلات تعميمية "من الخارج"، نزعة إلى تمجيد الانتفاضة والتركيز على إبراز جوانبها الإيجابية في مقابل درء السلبيات.

إن تحليلاً فاحصاً ومتمحصاً في ثنايا الانتفاضة يجد بذوراً للسلطوية زُرعت جنباَ إلى جنب مع البذور الداعمة للديمقراطية. فمع أن "الشباب" ضمّنوا انتفاضتهم على الاحتلال "انتفاضة" داخلية على الأنماط التقليدية التي حكمت المجتمع، فإن "الشباب" أنفسهم أصبحوا، بعد أن ذوت الانتفاضة وتحولت إلى مرحلة الانكفاء على الذات، قوة ذات نزعات سلطوية داخل المجتمع. ولغياب السلطة، وفي مرحلة الفوضى التي تعقب الثورة، وجدت هذه النزعات لها منافذ في ترسخ عصبويات ذات مستويات متعددة. وأدت هذه العصبويات بطغيانها إلى حدوث نكوص وتراجعات في الممارسة الديمقراطية داخل المجتمع. وعلى هذا الأساس يمكن استخلاص أن نزعتين - دعم التوجه الديمقراطي أو دعم التوجه السلطوي - متوفرتان ومتصارعتان حالياً داخل المجتمع. وسيعتمد انتصار إحداهما في النهاية على توجه وتصرف السلطة الوطنية الفلسطينية خلال المرحلة المقبلة. ومن المعقول الاستشراف، في ضوء ما اتضح حتى الآن من ممارسات وتصرفات السلطة، وأهمها ظاهرة العسكرة التي يشير بيرلميوتر إليها في مداخلته، أن الشعب الفلسطيني سيواجه في مسألة تحديد طبيعة النظام السياسي الفلسطيني تحديات جساماً.

وعلى الرغم من أن كوانت لا يخفي تفاؤله تجاه الوعي الديمقراطي الفلسطيني الذاتي، فإنه يشير مجدداً إلى إمكان تعثر مسار الديمقراطية الفلسطينية مستقبلاً. فمصلحة منظمة التحرير التي ستتولى السلطة، وعدم الاكتراث الإسرائيلي للمستقبل الفلسطيني، والنكوص الغربي عن تقديم المساعدة الضرورية للفلسطينيين في مجال تعزيز الديمقراطية، كل ذلك قد يتلاقى ليحول دون تحقيق الاختراق الديمقراطي فلسطينياً. وفي ذلك، كما يرى كوانت، نكسة كبرى لتحقيق السلام في منطقة الشرق الأوسط برمتها، وهو الهدف الاستراتيجي أميركياً.

وكي يتحقق هذا الهدف، يعارض كوانت رأي المعارضين والمتشككين - من أمثال بيرلميوتر - بشأن إمكان قيام نظام ديمقراطي فلسطيني. وخلافاً لهؤلاء، يؤكد كوانت، وهو محق في ذلك، أن الثقافة السياسية الإسلامية لا تشكل بالضرورة عائقاً أمام تطور الديمقراطية، وأن المتطلبات الضرورية لانطلاقها متوفرة فلسطينياً. ومن هذا الباب ينطلق الكاتب ليقدم اقتراحين محدودين: الأول خاص بالجانب الفلسطيني، وينطوي على ضرورة تغيير الوضع الفلسطيني الراهن بشأن القضايا المالية، وبالتحديد معالجة عدم وجود آلية محاسبة مالية فعالة داخل منظمة التحرير الفلسطينية؛ فمن دون وجود نظام مراقبة ومحاسبة فعال، ولا سيما في الشؤون المالية والعامة، لا يوجد إمكان لبروز نظام سياسي ديمقراطي، كما يؤكد كوانت. لكن مع ذلك يبدي كوانت تفاؤلاً بقوله إن الحاجة الفلسطينية الماسة إلى المساعدات الاقتصادية الخارجية، وخصوصاً الغربية منها، ستملي على الفلسطينيين أن يلتزموا إنشاء مؤسسات تلتزم الخضوع للمراقبة والمحاسبة الدقيقتين. وفي هذا السياق يركز كوانت على ضرورة إجراء الانتخابات كأوالية ديمقراطية تفسح في المجال أمام الشعب لاختيار قيادته وتغييرها، وخصوصاً إذا كانت هذه القيادة سيئة وفاسدة. فالانتخابات، وفقاً لرأيه، وهو رأي سليم، تشكل أوالية المحاسبة الأهم في النظام السياسي الديمقراطي.

على الرغم من اتفاقي المبدئي مع الموقف العام الذي يطرحه كوانت بشأن المراقبة والمحاسبة العامة، وعلى الرغم من تأييدي ضرورة إجراء انتخابات فلسطينية عامة، وحرة، ومباشرة، فإنني أقف على الجانب الآخر تجاه مسألة المراقبة والمحاسبة عندما يتم ربطها بأطراف خارجية، وذلك لكونها عديمة الجدوى بالنسبة إلى الشعب، ولا تخدم سوى أهداف الآخرين. فالمساعدات الاقتصادية التي وعدت "الدول المانحة" بأن تقدمها إلى الجانب الفلسطيني لن يؤدي ربطها بالمكاشفة وإنشاء المؤسسات التي تخضع لمراقبة ومحاسبة البنك الدولي والحكومات والمؤسسات التمويلية الغربية إلى ازدهار الديمقراطية الفلسطينية، بل سيؤدي إلى ضمان ترسيخ تبعية لن تكون تبعية اقتصادية فحسب، بل سياسية أيضاً. والديمقراطية لا يمكن تأسيسها وجعلها تزدهر سوى بعملية سياسية تتم داخل المجتمع وبفعله الذاتي، وتنتهي بفرض الشعب سيادته على سلطته الحاكمة. وذلك، فإن الحذر الفلسطيني في مسألة المراقبة والمحاسبة الخارجية ضروري وواجب، وذلك لكون الإلحاق المغلف بشعار الديمقراطية الطنان يحمل في طياته مخاطر حقيقية.

أما الاقتراح الثاني الذي تتضمنه مداخلة كوانت فيشكل الهدف الرئيسي من المداخلة؛ إذ يرمي إلى توجيه السياسة الخارجية الأميركية المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط. فكوانت ينهي مداخلته بالطلب من إدارة كلنتون أن تأخذ موقفاً ريادياً فاعلاً في دعم الديمقراطية الفلسطينية، وذلك تحقيقاً لأهداف الاستراتيجية الأميركية في المنطقة. ومن منطلق التسليم بأن الدولة الفلسطينية آتية مستقبلاً، يقترح كوانت أن تستعيد الولايات المتحدة زمام سيطرتها السياسية على المنطقة (والتي يعتبر أنها فقدتها منذ توقيع اتفاق أوسلو من دون رعايتها الحقيقية) بأن تربط منذ الآن، وعلناً، اعترافها المستقبلي بالدولة الفلسطينية بتحقق الديمقراطية الفلسطينية وتحقيق السلام في المنطقة بكاملها. وبهذا تكون الإدارة الأميركية قد وضعت العربة الأميركية أمام الحصان الفلسطيني/العربي، فتصبح شروطها، وفقاً لاقتراح كوانت، أساساً لقيام دولة هي أصلاً في طريقها إلى القيام. ومن دون خسارة تذكر، تستطيع الإدارة الأميركية، بحسب هذا الاقتراح الميكيافيلي، أن تضمن نشر سلامها في المنطقة، وإيجاد جارة أفضل لكل من إسرائيل والأردن، وتوفير مساهمة فلسطينية أفضل في الترتيبات الإقليمية، وتحسين إمكان نيل الشرعية من الشعب الفلسطيني لأي اتفاق يبرم مع إسرائيل، وبالتحديد الاتفاقات المتعلقة بالتسوية النهائية. وحقاً، إن اقتراح كوانت البراغماتي يعطينا مثالاً يمكن اعتباره كلاسيكياً لكيفية توجيه صناعة السياسة الخارجية.

بعكس براغماتية كوانت، تأتي مداخلة عاموس بيرلميوتر، مع أهمية ما تتضمنه من ومضات استشرافية، لتعبّر في ثناياها عن موقف أيديولوجي صهيوني ثابت مناوئ للمستقبل الفلسطيني. وما يحدو هذا الاستنتاج أن بيرلميوتر يُضمّن مداخلته جميع ما يتعلق بهذا المستقبل من سلبيات فلسطينية مقبلة، لكنه يفشل في أن يقدم أي اقتراح إيجابي يمكّن الفلسطينيين من مواجهتها.

مع إقراره بأن اتفاق "إعلان المبادئ" يشكل بداية طريق إقامة الدولة الفلسطينية، يتوقع بيرلميوتر أن تكون هذه الدولة سلطوية، تسيطر أجهزة الأمن والاستخبارات عليها. وباستخدام تعبير وصفي يستقيه من عالِم السياسية المعروف صاموئيل هنَتنغتون (Samuel Huntington)، يشدد بيرلميوتر في مداخلته على أن فلسطين ستكون دولة بريتورية (نسبة إلى الحرس الإمبراطوري الروماني (Praetorian Guard). والدولة البريتورية، كما شرح هنتنغتون مواصفاتها، تتسم بمستوى متدن من المأسسة السياسية، وبعدم استقرار المناخ السياسي، وتشرذم البنية السياسية، إضافة إلى ضمور الطبقة الوسطى. وبفعل هذه المواصفات، يسيطر العسكر على مقدّرات هذه الدولة، وتتكثف السلطة في قمة الهرم السياسي. وبالتالي، تصبح الديمقراطية، وحتى التعددية، في مثل هذا النوع من الدول، هدفاً صعب المنال.

يبني بيرلميوتر تصوراته بشأن المستقبل السياسي الفلسطيني على تقويمه السلبي لمنظمة التحرير الفلسطينية. فهي بالنسبة إليه لا تتعدى كونها جهازاً إرهابياً - فدائياً - إعلامياً محضاً، لا يستمر تماسكه الداخلي سوى لانصياع وولاء مختلف أطرافه ومراكز قواه المتعددة للقائد الأعلى المهيمن على جميع جوانب أنشطته. ويطاول التقويم السلبي، أيضاً، المجتمع الفلسطيني في الأرض المحتلة. فهو في نظر الكاتب، مجتمع من طبقات اجتماعية هلامية غير قادرة على أي فعل سياسي موحد سوى المقاومة والتمرد والعنف والإرهاب. ولذلك لم يتمكن هذا المجتمع - يوجه بيرلميوتر خطابه إلى صانعي السياسة الأميركية بانتقائية مؤثرة - أن ينتج سوى "حماس" كقوة متماسكة وحيدة في قطاع غزة والحزب الشيوعي الصغير (ويبدو أن بيرلميوتر لا يعلم حتى الآن بتحول هذا الحزب إلى "حزب الشعب") كحزب وحيد مُنظّم في الأرض المحتلة. وبين "اليمين المتطرف" و"اليسار المتطرف" يقود الكاتب القارىء إلى الاعتقاد أن ليس هناك طيف حزبي داخل الأرض المحتلة، التي ستصبح فلسطين، يتمكن من استيعاب المثقفين في أحزاب وسط مؤثرة في تحديد السياسة العامة للبلد (ويعتمد بيرلميوتر في استنتاجه هذا على أن مثقفين معتدلين، مثل سري نسيبه وحنان عشراوي المعروفين غربياً، تم تهميش دورهم السياسي، وأن تأثير السياسي الفلسطيني المعتدل فيصل الحسيني في اضمحلال!).

في غياب فاعلية سياسية مؤثرة للمثقفين (المعروفين غربياً)، وعدم توفر أحزاب وسط تحول دون تجذر الاستقطاب السياسي في فلسطين، يصل بيرلميوتر إلى استنتاج مؤداه أن القدرة السياسية الفاعلة على الساحة الفلسطينية ستتوزع بين ثلاثة مراكز هي، وفقاً لتعبيره، منظمة تونس، ورجالات الانتفاضة، و"حماس". وبما أن الصراع سيحتدم بين هذه القوى، فإن الكاتب يتوقع أن يتجه عرفات إلى الاعتماد المتصاعد على جهاز الاستخبارات ليضمن استمرار السلطة وتماسكها. وبهذا يوصل بيرلميوتر مداخلته إلى الاستنتاج المعد سلفاً، وهو أن فلسطين ستكون "دولة عرفات البوليسية". وكي يؤكد إحكام إيصاد الباب على وجود إمكان للتحول الإيجابي في فلسطين المستقبل، يتنبأ الكاتب لنا منذ الآن بأن إجراء انتخابات ديمقراطية في هذه الدولة المقبلة لن يؤدي سوى إلى نجاح "حماس" وإيصالها إلى السلطة.

إن هذه المداخلة "التخويفية" التي يقدمها بيرلميوتر لا تُعبّر فقط عن تحيزاته القيمية التقليدية، التي ما زال يحملها تجاه منظمة التحرير الفلسطينية والفلسطينيين، حتى بعد توقيع اتفاق "إعلان المبادئ"، الذي يعبِّر عن وجود تحول جذري في الاستراتيجية الفلسطينية، بل إنها تحمل أيضاً توجهاً واضحاً للمحافظة على عنصر "التخويف"، أساسياً في محاولات مؤيدي إسرائيل المستمرة للتأثير في مجرى تحديد السياسة الخارجية الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط عامة، وتجاه الفلسطينيين تحديداً. فالطابع والانطباع السلبيان اللذان يقدمهما الكاتب بشأن المستقبل الفلسطيني، ومن دون أن يترك أي بصيص لبارقة إيجابية، يستهدفان إيجاد وتعزيز المشاعر السلبية تجاه القيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني في الأوساط الأميركية المؤثرة سياسياً. وبتعزيز هذه المشاعر تبقى إسرائيل محتفظة بمكانتها التقليدية في الاعتبارات الأميركية، حتى بعد أن تتغير الظروف موضوعياً في منطقة الشرق الأوسط، ويتوصل الفلسطينيون والعرب إلى اتفاقات سلام مع الدولة العبرية.

وفي هذا السياق، يجب ألاّ يفوتنا إبراز الإجحاف الذي يلحقه كاتب المداخلة بحق العملية السياسية الدائرة حالياً في فلسطين. فهذه العملية ليست مشلولة من ناحية، ولا هي حكر على التنافس بين المراكز الثلاثة التي يذكرها، من ناحية أُخرى. بل هي عملية تتمتع بقسط وافر من الدينامية، بقي بعض عناصرها مبطناً أو كامناً حتى الآن. فالمجتمع الفلسطيني يحوي ديناميات وفعاليات وطاقات متعددة. كما يتوفر في الحياة السياسية الفلسطينية اعتراف بالتعددية ووجود أحزاب وفصائل وحركات سياسية مختلفة. ومن المبكر لبيرلميوتر، ولنا أيضاً، تقويم الكيفية التي ستتجلى فيها تجربة الحياة السياسية الفلسطينية خلال المرحلة الانتقالية التي يحكمها إعلان "اتفاق المبادئ". ومن الواضح أن إطلاق الأحكام النهائية والتوصل إلى استنتاجات قطعية منذ الآن لا يضمنان حكمة أكاديمية، وإنما ينطويان على مآرب أيديولوجية. وفي أية حال، فإن استطلاعات الرأي التي تجري شهرياً منذ أكثر من عام في الأرض الفلسطينية المحتلة تدل بوضوح تام على أن إجراء الانتخابات الفلسطينية العامة لن يؤدي إلى تسلّم "حماس" للسلطة في البلد؛ فوفقاً لهذه الاستطلاعات، فإن نسبة التأييد الانتخابي لـِ"حماس" تتأرجح خلال الفترة التي أعقبت توقيع اتفاق  "إعلان المبادئ" بين 13% و18%.

لكن على الرغم مما ذكر أعلاه، ومع الضرورة الدائمة للانتباه والتنويه بالهدف المبطن لمثل هذه المداخلات "المشحونة"، فإن ذلك يجب ألاّ يعفينا من إبداء الاهتمام بما تتضمنه مداخلة بيرلميوتر من ومضات استشرافية متبصرة. فمع أن المستقبل الفلسطيني ليس بالضرورة قاتماً، كما يحاول بيرلميوتر أن يشيع، فإنه ليس بالضرورة أيضاً وردياً مشرقاً، كما يحلو لآخرين التأكيد في المقابل. بل إن المستقبل الفلسطيني سجل سيبقى مفتوحاً للتسجيل إلى حين. ومع أن نتيجة التشكيل تعتمد، إلى حد كبير، على تراكم عوامل موضوعية تم تثبيتها بفعل الاتفاقات المتتالية مع إسرائيل، فإن العوامل الذاتية المتعلقة بمجمل جوانب الأداء الفلسطيني المتتالية مع إسرائيل، فإن العوامل الذاتية المتعلقة بمجمل جوانب الأداء الفلسطيني العام ستكون هي الحاسمة في تحديد الماهية المستقبلية لفلسطين. ويجب الاعتراف بأن الكثير من الأدلة والدلالات التي اتضحت حتى الآن منذ تسلُّم السلطة الوطنية الفلسطينية منطقة الحكم الفلسطينية لا يُبشِّر بمستقبل سياسي مضمون ديمقراطياً. فهناك مستويات متعددة من العصبويات التي برزتن والتنافسات التي طرأت، وكلها تضغط سلبياً على المجتمع وتهدده بالانقسام والتشرذم والتفتت. كما أن هناك في الممارسة الكثير من التجاوزات التي تتجه بالسلطة نحو السلطوية. ومن المؤسف حقاً، في ظل هذا الوضع، أن تكون مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني من الهشاشة التي تحجب عنها، في الفترة القصيرة المقبلة، إمكان أن يمارس على السلطة ضغط مفيد وفعال. ومع أن هذه المواصفات هي التي حملت بيرلميوتر إلى استنتاج أن الدولة الفلسطينية ستكون بوليسية، فإن ذلك ليس بقدر محتوم على فلسطين والفلسطينيين؛ وفي الانتخابات العامة مخرج ضروري من هذا الوضع، ومدخل أساسي لتثبيت ولاية الشعب ومنحه قوة الإرادة المجتمعية الجماعية الضرورية لإحداث نقلة التغيير. ومن الجدير بالتنويه أن وعي ضرورة إجراء الانتخابات الفلسطينية العامة كبير بين الفلسطينيين. فاستطلاعات الرأي المشار إليها أعلاه، والتي يعتمد كوانت عليها في مداخلته لإثبات التوجه الديمقراطي عند الفلسطينيين، تشير إلى وجود ثابت لأغلبية فلسطينية عريضة (نحو 75%) مؤيدة لإجراء الانتخابات. وفي هذا الوجود تتبلور قوة الدفع الفلسطيني الكامنة نحو التغيير، وتتخلخل استنتاجات بيرلميوتر بشأن مستقبل فلسطين.

أما المداخلة الثالثة، وهي لشلومو أفنيري، فيمكن تلخيصها بدقة بالقول إنها تنطوي على مغالطة كبيرة، لكنها تقدم سياقاً واستنتاجاً سليمين. فهو يبني مداخلته على الاعتراض على الفرضية القائلة بضرورة قيام تعاون اقتصادي إسرائيلي - فلسطيني، وذلك كأساس ضروري لحل مشكلات المنطقة وتوفير الاستقرار لها، وكمدخل لإحراز تعاون إقليمي أشمل يتمخض عن إيجاد سوق شرق أوسطية مشتركة. فمن وجهة نظره، وبعيداً عن الرؤى المثالية والطوباوية التي يضرب شمعون بيرس بها مثلاً صارخاً، فإن الدعوة إلى إيجاد تعاون وتكامل اقتصاديين بين طرفين غير متكافئين اقتصادياً، أولاً، ومن دون وجود ثقة لدى الطرف الأضعف اقتصادياً في نيات الطرف الأقوى، ثانياً، ستؤدي بالضرورة إلى حالة جديدة من التبعية الاقتصادية الفلسطينية لإسرائيل. كما ستثير هذه الدعوة شكوكاً ومخاوف حول النيات الاقتصادية الإسرائيلية لا ضرورة لها خلال هذه المرحلة الدقيقة سياسياً. وأفضل مسار لبناء الدولة الفلسطينية، التي يوافق أفنيري سابقيْه على حتمية قيامها، يتحقق بأدنى وجود أو بأدنى تدخل إسرائيلي. وتعبيراً عن الهاجس لدى حزب العمل الإسرائيلي بصورة خاصة، ولدى الإسرائيليين بصورة عامة، يطالب الكاتب إسرائيل بأن تقلص وجودها في المناطق الفلسطينية خلال المرحلة الانتقالية إلى أدنى حد ممكن أمنياً. فمقتضيات الأمن، لا الاقتصاد، هي التي يجب أن تحدد أولاً مستوى تفاعل إسرائيل مع فلسطين الآتية، والمقتضيات الأمنية، في رأي أفنيري، تستوجب خلال المرحلة المقبلة الفصل بين المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي سياسياً واقتصادياً، إلى أن يتم استتباب السلام وتتوطد جسور الثقة ويعم الأمان بينهما. فالأسوار المحكمة، وفقاً للكاتب، تنتج جيراناً جيدين. عندئذ، يمكن لتعاون اقتصادي مثمر أن ينشأ بين الطرفين، على أساس التكافؤ لا على أساس التبعية، فيدعم السلام ويفتح آفاق التعاون الإقليمي على مستوى دول المنطقة جمعاء.

تبدو أطروحة أفنيري سليمة منطقياً وحصيفة سياسياً. فإسرائيل لن تستطيع، في نهاية المطاف، فرض السلام المستتب على الجانب الفلسطيني وفقاً لرؤيتها وطبقاً لأجندتها. ومساعي الهيمنة الإسرائيلية بعد أن تم توقيع اتفاق "إعلان المبادىء"، إنْ كان في مجال تفسير أو خرق هذا الاتفاق من جهة، أو في مناحي الإلحاق الاقتصادي الذي تحاول إسرائيل فرضه على الفلسطينيين من جهة أُخرى، لن تؤدي سوى إلى عرقلة استقرار البلد والمنطقة بأسرها. وعلى هذا الأساس، يُشكّل الفصل بين الطرفين الآن المدخل السلمي والمضمون لتحقيق تعاون مستقبلي بينهما. فعلى الفلسطينيين أولاً، في رأيي، وقبل مطالبتهم من قِبل إسرائيل بالتطبيع في مختلفة المجالات، تحصيل استحقاقاتهم منها واستعادة أرضهم المحتلة وحقوقهم الشرعية المسلوبة. فالتطبيع المفروض بالهيمنة من أحد الطرفين على الآخر لا يصنع سلاماً، ولا يدعم استتباباً للأمن، ولا يفتح آفاقاً حقيقية للتعاون. بل إن الذي يحقق ذلك كله هو استحقاقات السلام، ونيل الطرف المغبون حقوقه، وضمان استقلاله عن هيمنة الآخرين وتدخلهم في شؤونه وتحكمهم في مصيره.

لكن على الرغم من سلامة منطق أفنيري وحصافة موقفه السياسي، فإنه يتضح من سياق مداخلته أن مطالبته إسرائيل باتباع منهج الفصل مع الفلسطينيين نابعة من دافع مغلوط فيه وهدف مغرض. فهو يريد، أولاً إعفاء إسرائيل من مسؤولياتها الضخمة كسلطة احتلالية تجاه الفلسطينيين، مع ضمان استمرار الحفاظ على مصالحها الأمنية الحيوية في فلسطين. فالاحتلال الإسرائيلي المديد للأرض الفلسطينية منذ سنة 1967 سبب دماراً كبيراً في مختلف مستويات الحياة الفلسطينية، وفرض أعباء عظيمة على الشعب الفلسطيني، وأفرز خسائر معنوية ومادية هائلة للمجتمع الفلسطيني. ومن المفروض في "عهد السلام"، وكي يحل السلام مع الفلسطينيين، أن يكون على إسرائيل التزامات واستحقاقات تجاه الجانب الفلسطيني جراء ما اقترفته في أثناء ممارستها الاحتلال. ومن المتوقع أن تفي الدولة العبرية بهذه الالتزامات والاستحقاقات من خلال برنامج متكامل للتعويض. لكن دعوة أفنيري الوجيهة إلى تحقيق الانفصال الإسرائيلي - الفلسطيني تأتي مدخلاً "إيجابياً" يهدف إلى إنقاذ إسرائيل من ضرورة تحمل مسؤولياتها في هذا المجال. فالمساعدات الضرورية لإعادة الإعمار وبناء الاقتصاد الفلسطيني المدمَّر يجب أن تأتي، وفقاً لأفنيري، من مصادر خارجية لا من إسرائيل.

وبالنسبة إلى هذه المصادر الخارجية، فإن أفنيري يريد من مداخلته، ثانياً، أن يعفي الدول الغربية من الالتزامات التي قطعتها بتقديم مساعدات اقتصادية كبيرة، عندما كان ذلك ضرورياً، لتشجيع الفلسطينيين على إبرام اتفاق مع إسرائيل. لكن بعد أن تم التوصل إلى هذا الاتفاق، وضمنت إسرائيل وحليفاتها الغربية دخول الجانب الفلسطيني مرحلة التطبيق والتنفيذ، بدأت التراجعات في الوعود المقدمة تطفو على السطح وتجد لنفسها تعبيرات عملية في تملص الدول المانحة من تقديم المساعدات المالية التي وعدت الفلسطينيين بها. ويجد أفنيري لنفسه منفذاً في هذا المناخ ليفتح فجوة تطالب بتحرير الغرب من الالتزام بالوعود والعهود المقطوعة، وإلغاء تبعية المسؤولية على الدول العربية. فالتطوير الفلسطيني، بحسب رأي أفنيري، يجب أن يكون مشروعاً عربياً مشتركاً، ليس لإسرائيل أو للدول الغربية أية علاقة به. فيما أن الفلسطينيين يحتاجون إلى سيولة نقدية، والدول الغربية محكومة بقوانين وإجراءات تحظر تقديم الأموال من دون قيود وإخضاع للمحاسبة، فإن على الدول العربية - ولا سيما الدول النفطية الغنية - التي دعمت "إرهاب" منظمة التحرير الفلسطينية خلال الفترة السابقة، أن تدعم جهود هذه المنظمة في "عهد السلام". وعلى هذه الدول أن تقدم أموالها الجاهزة لتقيم البنية التحتية والمؤسسية الفلسطينية، وتُطلق الاقتصاد الفلسطيني بقوة، وتكون مصدراً لتعويض اللاجئين. وهذا هو بيت القصيد عند أفنيري: أن يُحوّل كل ما قامت إسرائيل بهدمه فلسطينياً إلى مسؤولية بناء عربية، لا علاقة لإسرائيل به، ولا مسؤولية لها عنه إطلاقاً. وحتى قضية اللاجئين، تصبح مسألة توطين وتعويض عربية، لكأن العرب هم من اقتلع الفلسطينيين وقام بطردهم وتشريدهم من أرض الوطن!

كما هو متوقع، يقدم أفنيري هدفاً إيجابياً لدعوته إلى أن يصبح إعمار فلسطين قضية عربية محضة. فالتزام الدول العربية تقديم الأموال علناً، وبكميات كبيرة، لهذه الغاية، يعطي الجماهير العربية مؤشراً أإيجابياً على الالتزام العربي الرسمي بتحقيق السلام مع إسرائيل، ويمنحها حافزاً مهماً لتطبيع العلاقات بالإسرائيليين، وباختصار، يُفترض بالعرب، ليس فقط أن يقبلوا بالسلام الإسرائيلي، بل أن يدفعوا "فاتورته" أيضاً. فهذا هو السلام على "الطريقة الإسرائيلية"، حيث "تأكل إسرائيل الكعكة وتبيعها للعالم وتحتفظ بها لنفسها" في آن معاً.

إجمالاً، تقدم المداخلات الثلاث التي قدمنا قراءة فيها نموذجاً حيوياً للكيفية التي تعمل "الأجهزة الأكاديمية" من خلالها للتأثير في مجرى صناعة القرار السياسي الأميركي. كما تبين الكيفية التي تعمل بها مراكز الخبرة والأبحاث. وما يصدر عنها من منشورات ودوريات، كمنابر سياسية ضاغطة. وينبهنا ذلك إلى أن التشابك بين "الأكاديمي" و"السياسي" في عملية صناعة القرار السياسي مهم وضروري ومؤثر، وذلك إذا تم تقنين العلاقة على نحو يضمن أن التشابك لا يعني أبداً الخلط في المواقف. فالتأثير في صناعة القرار السياسي مسالة تبقى مختلفة عن صنع القرار ذاته. ومن يصنع القرار، حتى على مستوى الدول العظمى، يحتاج عادة إلى من يُؤثّر في عملية صناعته ويرشدها. ويجب التأكيد أن من يفهم ديناميات العملية السياسية المشاركة، ويكرس جهوداً واعية ومبرمجة للضغط السياسي، تكون أمامه الفرصة مُشرّعة للتأثير في صناعة القرارات السياسية. وتبقى الفرصة، بالتأكيد، مغلقة في هذا المجال أمام من يغلقها بذاته على ذاته.

 

. * أنظر هذه المداخلة مترجمة في "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 19، صيف 1994، ص 49 ـ 56.

 

Author biography: 

علي الجرباوي: أستاذ مشارك في العلوم السياسية في جامعة بير زيت.