The Campaign For the Normalization of Relations and its Resistance: The Intellectuals in Jordan ... Between Unrestricted Rejection and Over crowded Acceptance
Keywords: 
التطبيع
إسرائيل
الأردن
Full text: 

 I

يجسِّد موقف أحد مثقفينا من الاستحمام بصابونة "إسرائيلية" نموذجاً واضحاً من نماذج التعامل مع قضية التطبيع مع العدو الصهيوني. لقد وجد هذا المثقف نفسه أمام ثلاث قطع صابون: نابلسية، استبعدها فوراً لأنها شحيحة الرغوة، و"إسرائيلية" كان لديه نفور، بل نوع من حاجز نفسي يمنعه حتى من لمسها بلا تردد، وقطعة غربية ذات رائحة تفاحية، تناولها ومضى إلى الحمام، لكنّ "حزناً ما، شيئاً ما، إثارة ما" دفعته إلى استبعاد الصابونة الغربية، ليجد نفسه "في سورة مندفعة، أتغطة برغوة الصابونة الإسرائيلية وأنا أرتجف في انفعال متعدد الأبعاد، كمن ارتكب إثماً ما أو اخترق محرماً ما. لكنني أعترف أنه كان إحساساً لذيذاً.. إحساس من يتلصص على إحدى المحارم من ثقب الباب." ولا ينتهي الأمر هنا، ففي الشارع، بدأ "البطل" يشعر وسط الجموع السابلة بأنه "إنسان مختلف، إنسان فريد، إنسان يمتلك سراً لا يمتلكه أي من هؤلاء العابرين، لكنه أيضاً كان إحساساً مشوباً بالحزن والخوف وبشيء من الخيانة.. الأمر الذي جعلني أقرر أن أعود لأغسل نفسي مرة أُخرى بالماء الطازج النظيف لأزيل آثام الصابونة الشريرة عن جسدي الطاهر..."

في هذا النص الذي كتبه الشاعر والقصاص الرصيفي رسمي أبو علي ثمة نقاط تضيء جوانب من العلاقة بالعدو وكل ما يتعلق به أو ينبثق عنه من منتوجات. فإذا استثنينا الأسباب الحقيقية لاستبعاد الصابونتين النابلسية والغربية، واكتفينا بالسبب الدافع إلى اختيار الصابونة "الإسرائيلية"، وهو سبب متعلق – كما يقول النص – بالإثارة، الرغبة في خوض التجربة والكشف عما ينجم عنها من مشاعر وأحاسيس، وبصرف النظر عن كون التجربة من المحرمات الوطنية. فما هي المشاعر التي كشفت التجربة عنها؟ إنها مشاعر متناقضة، انفعال متعدد الأبعاد ناجم عن الإحساس بارتكاب الإثم، تلاه إحساس لذيذ، تبعه إحساس بالاختلاف والفرادة، وامتلاك سر لا يملكه "العابرون" (وهنا يمكن الإشارة إلى المقارنة بين من لم يستحموا بالصابون "الإسرائيلي" بمثابتهم أناساً عابرين بكل ما تعنيه الكلمة، وبين "البطل" المختلف، الفريد، مالك السر...)، وأخيراً الإحساس بالحزن المشوب بالخوف وبـ"شيء من الخيانة"، لا بالخيانة. ويكون الحل لهذه التناقضات بالعودة إلى الاغتسال بالماء الطازج، من دون أي صابون.

هذه محاكمة قد لا تعجب النقاد، لكنها محاولة لتشريح نمط من التفكير السائد حول التطبيع بوصفه كسراً لحواجز نفسية نشأت بيننا وبين العدو الصهيوني ولم يعد لها من مبرر. حتى ولو أن النص قد جعل "البطل" يتخلص من آثار "الصابونة الشريرة" (هنا نلاحظ لهجة ساخرة)، فإنه لم يدفعه إلى "المواجهة".

وإذا انتقلنا من هذا المستوى الذي يتمثل في نص إبداعي، إلى المستوى النظري المتمثل في الكتابات السياسية والفكرية، سنجد أن رسمي أبو علي نفسه قد كتب متعاطفاً مع "هؤلاء المثقفين الشرفاء الذين لا يزالون يمسكون بالجمر، ولكنهم مضطرون إلى المرونة وإلى الصمت وإلى أشياء أُخرى محاولين إيجاد المعادلة الصعبة بين القناعات وضرورات العيش..." وتابع بقوله: "كما أنه ليس مقبولاً من السياسي تقديم جميع التنازلات بعيداً عن الثوابت، فإنه ليس مطلوباً من المثقف أن يكون 'حمّال الأسية' الوحيد في هذه الأمة.."، ويعتقد أبو علي أن "المثقف هو أول من يدفع الثمن وخاصة إذا كان مثقفاً يحتفظ ببقية من ضمير وشرف.. لأن الجميع يعلم أنه ما أن يكون المثقف شريفاً حتى تغلق معظم أو كل الأبواب في وجهه، الأمر الذي يضعه وأسرته في مواقف حرجة مؤلمة، فكيف يحتفظ المثقف بثبات موقفه في هذه الحالة؟ وكيف هو غير مضطر إلى المرونة والمسايرة حتى يستمر في البقاء؟". لكن رسمي أبو علي لا يقول لنا ما هي الثوابت، ولا ما هي الحدود المسموح بها للمرونة والمسايرة، ولا ما هي التغيرات المطلوب من المثقف إجراؤها... إلخ.!

II

إن موقف أبو علي وفهمه للمتغيرات ودورها في تغيير وجهات النظر والاتجاهات، ليسا متفردين، لكن قد يكون الموقف الأشد وضوحاً وبساطة تعبير عما جرى لمثقف منظمة التحرير المرتبط بها معيشياً أو سياسياً.. أو كلا الارتباطين، وكذلك المثقف المرتبط بالسلطة السياسية الأردنية، الأمر الذي يجعلنا في حاجة إلى عرض نماذج لمواقف عدد من المثقفين تتباين مواقفهم بدءاً بالقبول الكامل بالتذيّل للموقف الذي يعبِّر القادة السياسيون عنه، مروراً بالموقف الوسط، الرمادي، الذي يخلط الحابل بالنابل فلا يستطيع أن يجسد تماسكاً أو انسجاماً، وبالرفض الخجول و"العقلاني"، وانتهاء بالرفض المطلق الحاسم لجميع مسارات العملية الاستسلامية وما ينجم عنها من عمليات تطبيعية.

* * *

كانت مشاركة الكاتبة الأردنية زليخة أبو ريشة في مؤتمر القمة النسائي الأول (27 – 29 أيار/ مايو 1994) في العاصمة المغربية؛ المنعقد تحت عنوان "المرأة والسلم"، والذي شاركت فيه وفود عربية وأوروبية إلى جانب وفد يمثل الكيان الصهيوني برئاسة وزيرة الثقافة والاتصالات، شولاميت ألوني، كانت هذه المشاركة لزليخة كفيلة بفتح ملف "التطبيع الثقافي" مع العدو، على الرغم من المناقشات والتحضيرات المسبقة للجان مقاومة التطبيع.

وفي إثر الحملة التي قادها الأمين العام لاتحاد الكتاب والأدباء العرب، فخري قعوار، وتمثلت في بيانات شجب تبعتها مقالات في الصحف المحلية ثم في الصحافة العربية، وبعد الإنذار الذي وجهته الهيئة الإدارية لرابطة الكتاب الأردنيين لها، نشرت زليخة مقالة مطوَّلة تبرر فيها وتوضح أسباب مشاركتها، حيث تساءلت فيها، بعد أن أبدت صدمتها من وجود الوفد "الإسرائيلي": "كيف يدخل الإسرائيليون إلى أرض عربية، وبدعوة كريمة، وبرضى العرب هذه المرة"، وكأن هذه هي المرة الأولى التي يدخل "الإسرائليون" إلى أرض المغرب العربي، وإلى أرض عربية! ثم تتساؤل "هل يجوز لي كمواطنة عربية أردنية أن أشارك في مؤتمر دولي تشارك فيه إسرائيل.. وإذا جازت المشاركة – كمبدأ – فهل يجوز أن تتم على أرض عربية؟ ألا يحمل ذلك ترحيباً ضمنياً متواطئاً بعدو محتل قمعي استيطاني توسعي يريد أن يغتالني كقيمة إنسانية ووجود ثقافي؟" وفكرت زليخة بعد هذه الأسئلة أن تاريخ النضال العربي الحديث ملخص على الأغلب في الانسحابات.. وأنه كلما انسحبنا من موقع احتله الآخر.. وأحسست بأن انسحابها لن يشعر أحد به ولن يؤثر في أحد.. ولما كان المؤتمر سيطرح قضايا تهمّها كمدافعة عن حقوق النساء.. وقد اقتنعت بأن المشاركة لا تعني الاعتراف بالعدو،.. ولأن المؤتمرات التي شارك فيها العرب، والأردن تحديداً، بوفود رسمية وشعبية لم تتعرض لإدانات واستنكارات.. إذا "لم يعد اللقاء مع العدو في هذه الملتقيات الدولية عاراً نخجل منه أو نخشاه، بل صار ضرورة للمواجهة، فالخائف والجبان وحده هو الذي يخشى المقارعة والإعلان عن وجوده..." ثم تقرر زليخة أن النسوية (فَمِنِسْت) مع السلام لا مع الحرب، وأن المرأة هي أول من يقاسي أهوال الحرب كظهير أول لسادة الحروب (معتدين أو معتدى عليهم)! على الرغم من اعترافها بأن "السلام شيء وتقديم التنازلات والاستسلام شيء آخر..." هذا كله يعبِّر عن عقلية تبريرية تبرز تبريريتها في انطوائها على تناقضات فاضحة تجعل خطابها غير منسجم مع نفسه.

إن معركة قوامها الاتهام المضاد نشبت وتنشب بين دعاة "السلام" ومن ثم "التطبيع" وبين رافضي "السلام" و"التطبيع". ولم تُجْدِ المحاولات كافة لفتح حوار واحد جدّي ومعمّق بين الطرفين. هذا وفي الوقت الذي يسعى الطرف الأول إلى اللقاء مع "العدو" بأي ثمن، فإنه يهرب من أي حوار ديمقراطي مع "الرافضين"، ويروح يتهم هؤلاء بأوصاف تبدأ بالعدمية والإرهاب ولا تنتهي بالقفز فوق الواقع والتخلف عن عجلة العصر. ففي اللقاء الذي دعت الهيئة الإدارية لرابطة الكتاب الأردنيين أعضاء الرابطة إلى حضوره من أجل الإجابة عن عدد من الأسئلة يقع في إطار عملية التطبيع، وجاء في ورقة رئيس الرابطة، مؤنس الرزاز: "فالهيئة الإدارية ملتزمة التزاماً مطلقاً بتراث الرابطة النضالي، وملتزمة بما وقّعته من مواثيق وعهود ملزمة، وبخاصة الميثاق الذي وقّعه الأدباء والكتّاب العرب في عمان ضد التطبيع الثقافي مع مؤسسات ورموز تؤمن بالصهيونية العنصرية وتنتمي إلى دولة لا تعترف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. كما أننا نعلن التزامنا الأكيد بالنظام الداخلي لاتحاد الكتاب والأدباء العرب.. والذي يقضي بعدم الاعتراف أو التواصل، على الصعيد الثقافي، مع رموز دولة لا تعترف بحقوقنا ووجودنا الإنساني، وتسعى إلى استعمارنا استعماراً استيطانياً مباشراً عبر القوة، واستعمار الجزء الآخر من وطننا استعماراً غير مباشر," ويتابع الرزاز في فقرة تالية: "إن عدم التأكيد على رفض التطبيع الثقافي من حيث المبدأ، قبل الدخول في أي حوار ديمقراطي، سوف يدفعنا إلى نتائج شديدة الخطورة." ومع أن اللقاء كان يمكن أن يتم في مناخ ديمقراطي، فإن بعض مؤيدي ودعاة "السلام" الذين أعلنوا صراحة عن ضرورة اللقاء مع العدو بعد أن انهارت الحواجز كلها، راح يطلق الاتهامات تيار الرفض. ولأن الاجتماع الأول لم يكن قانونياً بسبب عدم اكتمال النصاب، جرى تأجيله أسبوعين، فتغيب دعاة التسوية والتطبيع الذين شعروا بأنهم أقلية. وقد لاحظ الكثير من أعضاء الرابطة أن "المزاج العام في الرابطة وطني لا يقبل المساومة." وجرى في ذلك الاجتماع مناقشة عدد من الأوراق المقدمة من أعضاء الرابطة، والتصويت على قرارات مقاومة التطبيع الثقافي مع العدو بالإجماع، وبتحفظ عضو واحد (أسعد عبد الرحمن، ولأسباب تتعلق بموقعه في مؤسسات م. ت. ف.، وقد أعلن مناهضته للتطبيع أيضاً!). وكان من أبرز النقاط المتفق عليها في هذا الاجتماع:

  • رفض التقاء كل ذي حيثية ثقافية مع أي "إسرائيلي" في الأردن أو "إسرائيل" أو في الخارج؛
  • رفض المشاركة في أي مؤتمر عربي (أو دولي يعقد على أرض عربية) يحضره "إسرائيليون"؛
  • رفض المشاركة في أي مؤتمر دولي هدفه تطبيع العلاقات العربية مع "إسرائيل" أو مناقشة هذه العلاقات، أو الترويج للنظام الشرق الأوسطي؛
  • رفض المشاركة في أي نشاط ثقافي أو فني أو بحثي يشارك فيه "إسرائيليون" أو يعقد في "إسرائيل" أو في الأراضي العربية الخاضعة للاحتلال؛
  • رفض مشاركة أي "إسرائيلي" – وبغض النظر عن اتجاهه السياسي – في أي نشاط ثقافي أو فني أو بحثي يقام في الأردن، ومقاطعة أي نشاط كهذا؛
  • مقاطعة أي وسيلة إعلامية أردنية أو عربية تتبنى موقفاً مؤيداً للتطبيع الثقافي مع "إسرائيل" ومقاطعة أي مثقف أردني أو عربي يتبنى موقف التطبيع...؛
  • رفض ترجمة أو نشر أو توزيع أي كتاب أو عمل ثقافي "إسرائيلي" في الأردن ما لم تسبقه مقدمة معادية للصهيونية...؛
  • التصدي لمحاولات تغيير المناهج المدرسية لمصلحة الصهيونية، ورفض المشاركة في أي جهود تهدف إلى تغيير المناهج في هذا السياق؛
  • رفض التعامل، في أي صورة، مع وسائل الإعلام ودور النشر وجميع الهيئات الثقافية أو النفية "الإسرائيلية"؛
  • رفض القيام بأي زيارة ثقافية أو إعلامية أو سياسية إلى "إسرائيل" أو المناطق العربية المحتلة بدعوة رسمية من السلطات أو سلطة الحكم الذاتي؛
  • اعتبار كل ذي صفة ثقافية له منصب سياسي في سلطة عربية مسؤولاً عن سياسات التطبيع الثقافية التي تتخذها تلك السلطة ومعاملته على هذا الأساس؛
  • معاملة أي أردني أو عربي ذي صفة ثقافية يخرق هذه التوصيات معاملة "الإسرائيلي" فيما يتصل بالمقاطعة الثقافية.

وقدمت أوراق عدة تم اعتبارها من وثائق المؤتمر، ومن أبرزها ورقة قدّمها الكاتب والباحث خالد عايد "في نقد الخطاب التطبيعي الثقافي"، وهي تخص "الخطاب التطبيعي في عبده الثقافي حصراً، وفي الأردن تحديداً"، وفيها قراءة لتكامل الخطاب التطبيعي في أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية، ولكون هذا الخطاب يتخذ نبرات متفاوتة من بلد إلى آخر ومن فترة إلى أُخرى، ويتسم بالمنافقة والمراوغة.

وبعد تحديد مقولات هذا الخطاب، وأهمها "مفهوم الحوار مع الآخر"، وتحديد السمات الأساسية لخطاب التطبيع، وأهمها السمة المحورية (السلطوية/ القطرية)، يحاول خالد عايد تحديد محاور وموضوعات تصلح مادة للنقاش في صفوف المثقفين القوميين الديمقراطيين، وعلى طريق تجديد الخطاب المقاوم للتطبيع الثقافي، منها ضرورة مواصلة دراسة مقولات وسمات خطاب التطبيع، والدعوة إلى تجاوز شعار مقاومة التطبيع إلى الدعوة إلى النهضة والتجديد، والدعوة إلى نقد الثقافة العربية السائدة لمواجهة الهجمة الثقافية المستجدة (الامبريالية أصلاً، الصهيونية فرعاً)، وخصوصاً عناصر التبعية والردة والتحبيط والأوهام والتسويغ الأيديولوجي... إلخ.

ولا يستطيع المتابع لمعركة التطبيع الثقافي في الأردن بقطبيها، إلا أن يتوقف عند ما أثارته دعوة الشاعر أدونيس إلى المشاركة في مهرجان جرش من ردات فعل وردات مضادة، بناء على مشاركة أدونيس في مؤتمر غرناطة العام الماضي. فقد كتب الكثير من الكتاب داعين إدارة مهرجان جرش إلى سحب الدعوة الموجهة إلى أدونيس، وكتب البعض عن ضرورة الفصل بين أدونيس الشاعر الكبير وأدونيس صاحب الموقف السياسي، وصاحب وجهة النظر الجريئة في الدعوة إلى اللقاء مع مثقفين أو سياسيين "إسرائيليين". ولم تهدأ المعركة إلا باعتذار أدونيس عن المشاركة في جرش.

كما أن مشاركة صحافي "إسرائيلي" في رفع علم مهرجان جرش يوم الافتتاح، وقيامه ببث رسالة للتلفزة "الإسرائيلية" من موقع المهرجان، قد أثارا ضجة ونقاشاً كبيرين بين الشعراء والمثقفين العرب والأردنيين، وقاطع في إثرها الشاعر محمد لافي المهرجان ولم يشارك في القراءات الشعرية المقررة له.

وآخر ما جاء في باب مقاومة التطبيع الثقافي مع العدو الصهيوني، البيان الختامي الصادر عن اجتماع المكتب الدائم للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب في عمان من 29 إلى 30 تموز/ يوليو 1994، الذي جاء فيه أن المكتب "إذ يؤكد التزام الكتاب العرب بأهداف الاتحاد العام المعلنة، وبميثاق المثقفين العرب الذي أقره المؤتمر العام الثامن عشر، ويستشعر أهمية مقاومة التطبيع على كل الصعد والمستويات مع العدو الصهيوني، يعلن رفضه التام للاعتراف بالكيان الصهيوني ولكل أشكال تطبيع العلاقات معه في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما يعلن تمسكه بأن الصراع العربي مع العدو الصهيوني هو صراع وجود وليس نزاعاً على حدود يقبل التسوية على حساب الشعب العربي الفلسطيني المشرد من أرضه والمبعد عن وطنه.. والمكتب الدائم إذ يرى ويتابع أنواع الاختراق الغربي والصهيوني وأشكاله في جبهات ومجالات عربية عديدة، ويقف على حقيقة أن التطبيع مع العدو، بصورة عامة، يسبق الاعتراف، ويمهِّد له، ويجر إلى سلسلة ارتماءات عربية في أحضان العدو، وتنازلات عن كثير من الحقوق التي لا يملك أحد حق التنازل عنها أو التفريط بها، فإنه يهيب بالمثقفين العرب عموماً، وبالكتاب خصوصاً، أن يحصنوا الجبهة الثقافية العربية ضد أشكال الاختراق والتبعية للتنازلات السياسية، ويدعو إلى ترسيخ مقومات ثقافة المقاومة وقيمها لمواجهة ثقافة التطبيع ورموزه ودعاته، كما يدعو إلى مواجهة المقولات 'الشرق الأوسطية' التي ترمي إلى تغيير الهوية العربية للمنطقة، وتسهيل اعتبار الكيان الصهيوني الدخيل جزءاً من النسيج الجغرافي والسياسي والاقتصادي والثقافي والأمني لتكوينها، الأمر الذي يزري بكل حقائق التاريخ ويشوهها، وينهي عروبة فلسطين، ويذهب بحق الفلسطينيين الثابت في وطنهم، كل وطنهم فلسطين." 

III

وفي موضوع اللقاءات الدولية التي تضم مثقفين من الكيان الصهيوني، هنا في الأردن، أو في أي مكان من العالم، برزت مواقف تتراوح بين الرفض المطلق لمثل هذه اللقاءات وللمشاركة فيها بصرف النظر عن أهدافها والعناوين المرفوعة فوقها، وبين التساؤل عن ضرورة هذه اللقاءات وما يمكن أن يتحقق منها. وربط القبول والرفض بـ"الإنجازات" المتحققة.

ففي حين يعتبر نزيه أبو نضال أن "المؤتمرات الدولية والإقليمية"، سواء أقامتها اليونسكو كما حدث في غرناطة أو أية مجموعة متوسطية كما حدث في المغرب، هي مجرد واجهات لتمرير التطبيع مع العدو على الجبهات الثقافية والاجتماعية.. وما ينطبق على المؤتمرات ينطبق على الندوات أو اللقاءات الثقافية سواء في عمان أو غيرها، فإن ما يراد منها بالضبط، الآن وهنا.. هو تمرير التسويات والاتفاقات السياسية المهينة..." وفي حين يتساءل مؤنس الرزاز عن جدوى أي لقاء قائلاً: "لن أتعامل مع هذه الفعاليات ما دامت الأرض مغتصبة والصهيونية حية"، يرى الدكتور هاشم ياغي أن المعيار للقاء مع مثقفين "إسرائيليين"، في الأردن أو خارجه "يقوم على إدراك واضح لنوع هذه الفعالية، بمعنى أنها إذا كانت تريد أن تستحوذ على عقول المثقفين ليبرروا دوام الاحتلال، ودوام الغزو، ودوام إلغاء الهوية الوطنية والقومية والإنسانية، فإن المشاركة ضارة ولا تفيد المسيرة الحضارية لأمتنا، كما لا تفيد في دفع الغزو الحضاري. أما إذا كانت الفعالية التي يطلب المشاركة فيها فعالية تقوم على جمع الجهود المضيئة في سبيل إحقاق حق المستعمَر المضطهَد فإن هذا الأمر يحسن ألا يُرفض، لأن العدو ليس كتلة واحدة..."

وهكذا، نجد أننا أمام طروحات أخذ بعضها يتساءل، تاركاً مرحلة اليقين والثوابت إلى مرحلة البحث والتشكيك في تلك الثوابت.

وعلى الرغم مما يقال عن وطنية المزاج السائد في أوساط المثقفين والكتاب، فإنه مزاج لا يرقى إلى مستوى من الفاعلية على صعيد ممارسة المقاومة والمواجهة مع عمليات التطبيع الثقافي والسياسي الجارية في الأردن. ولا يعود تدني هذه الفاعلية إلى أسباب ذاتية، بقدر ما يعود إلى أسباب موضوعية تتعلق بحجم الحرية المتاحة أمام كل من خطاب التطبيع وخطاب مقاومة التطبيع، كما يعود إلى أوضاع الإحباط واليأس التي خلقتها مجريات العملية الاستسلامية. فمن جهة، تنفتح المنابر والمؤسسات الإعلامية الرسمية وشبه الرسمية (صحف، إذاعة، تلفزة، منتديات... إلخ)، وترحب بالمطبّلين والمبررين لـ"السلام" و"التطبيع" و"الإنجازات"، وفي المقابل، تنغلق انغلاقاً كاملاً أمام الصوت المعارض الذي لم يعد يجد أمامه سوى بعض صحف المعارضة ذات الحضور القليل والفاعلية الضئيلة.