لا يمكن التحدث عن الأرض وحقوق ملكيتها بمعزل عن الأحداث السياسية العاتية التي أخذت تجتاح هذه المنطقة منذ أن برزت الحركة الصهيونية وبدأت تخطط لإقامة دولية ليهود العالم على أرض فلسطين. وفي الحقيقة فإن مسألة الأرض في فلسطين تحكي القضية الفلسطينية كلها؛ وأية دراسة لهذه المسألة لا بد من أن تعكس بصورة أو بأُخرى تاريخ الصراع الدامي، الذي دار ويدور في هذه المنطقة. فمنذ البداية كانت الأرض هي المستهدفة، وكانت هي جوهر هذا الصراع ولبه. ومنذ البداية كان الاستيطان وانتزاع الأرض بشتى الطرق هما الرد الصهيوني على حركة التحرر الفلسطينية. وفي الوقت الذي كان زعماء تلك الحركة يطلقون الشعارات، ويدججون الخطب والبيانات، ويلهبون عواطف الجماهير، كانت الحركة الصهيونية تضع برامجها موضع التطبيق العملي على الأرض، وكانت الكيبوتسات والموشافات الزراعة الوسيلة العملية لزرع المهاجرين اليهود في الأرض ومد جذور لهم، وهم الذين لم تكن لهم فيها أية جذور. بينما كان الفلاح الفلسطيني، الذي عاش في ظلام الحكم التركي أربعة قرون وخرج من الحرب العالمية الأولى منهوك القوى، يقف وحيداً في وجه الرياح العاتية التي أخذت تعصف بالمنطقة، ويجابه بمفرده الأوضاع الاقتصادية القاسية التي وضع فيها، ويصارع من أجل البقاء المؤامرات التي كانت تحاك والبرامج التي كانت توضع لتجريده من أرضه وقطع جذوره الراسخة فيها. ولم تلتفت الحركة الوطنية الفلسطينية في ذلك الوقع إلى هذا الفلاح وإلى ما كان يعانيه، فلم تضع، أو لم تحاول أن تضع أي برنامج عملي يعمق جذوره في أرضه ويبقي على ارتباطه بها.
ولم تكن قوانين الأراضي العثمانية القديمة، التي طُبقت ولا تزال مطبقة في هذا البلد، لتهتم كثيراً أو قليلاً بحماية هذا الفلاح أو حماية حقوقه في أرضه التي عاش عليها منذ آلاف الأعوام. فقانون الأراضي العثماني الذي وضِع سنة 1858، وما زال ساري المفعول على الرغم من اندثار الدولة العثمانية، لم يكن له إلا هدف واحد هو ضمان جباية الضريبة المفروضة على الأرض، والتي كانت تُسمى ضريبة العُشْر. ولم تكن الأرض أصلاً في نظر الدولة العثمانية سوى وسيلة لجباية تلك الضريبة وإثراء خزانة السلطة في إستانبول، وعلى هذا الأساس تم تصنيف الأرض بناء على موقع الأرض وقابليتها لفرض الضريبة. ويهمني أن أشير هنا إلى أهم هذه الأصناف: الصنف الذي سُمي الأراضي الأميرية، نظراً إلى الجدل القائم في الوقت الحاضر بشأن مفهومه، ولأن الأراضي الأميرية في حقيقة الأمر تشكل القسم الأعظم من أراضي البلد. والأراضي الأميرية، باختصار، هي الأراضي الزراعية الواقعة خارج حدود المدن والقرى. وباعتبارها أراضي زراعية، فقد كانت الصنف الوحيد من دون سائر أصناف الأراضي الذي كان خاضعاً لضريبة العشر التي تحصلها الدولة. وضريبة العشر لا تُجبى إلا على أساس نسبة من نتاج الأرض، ولم يكن ممكناً جبايتها إلا من الأراضي الزراعية. ولذلك استحوذت الأراضي الأميرية على معظم نصوص القانون المذكور. أما الأراضي التي لم تكن تدر أي محصول زراعي يخضع لضريبة العشر، كالأراضي الواقعة ضمن حدود المدن والقرى والتجمعات السكنية، والمخصصة للسكن، فقد استثنيت من أحكام ذلك القانون.
وقبل أن أعرض مفهوم الأراضي الأميرية وحقوق ملكيتها، لا بد من نظرة سريعة إلى تاريخ هذه الأرض. فالوجود الفلسطيني عليها وملكية شعبنا لها وحق ولايته عليها، كل ذلك لم يكن حدثاً جديداً بدأ مع بداية العهد العثماني أو غيره من العهود التي تلته. إنه وجود يمتد بجذوره إلى فجر التاريخ، إلى عهود أجدادنا العرب ومن قبلهم أجدادنا الكنعانيين، الذين ملكوا هذه الأرض وعاشوا عليها وعمروها، وأنبتوا فيها الكرمة والزيتون، وبنوا قدسهم وأقدس أقداسهم عليها، وأقاموا القرى والمدن الكثيرة المنتشرة في طول البلد وعرضه، والتي ما زال معظمها يحتفظ باسمه الكنعاني حتى اليوم. ويجمع المؤرخون وشرّاح قوانين الأراضي في هذا البلد[1] على أن العرب الذين فتحوا بلاد الشام لم يعتدوا على أية أرض لها صاحب، ولم يجردوا مالكاً من حقوق ملكيته، ولم يفرقوا في ذلك بين مسلم وغير مسلم. وظلت أراضي بلاد الشام بأسرها، ومنها أراضي فلسطين، ملكاً خاصاً بأصحابها، يزرعونها ويعمرونها ويقيمون مدنهم وقراهم عليها ويتوارثونها أباً عن جد. وقد اكتفت الدولة في ذلك الوقت بفرض الضريبة على هذه الأرض للإنفاق على الجيوش وسد الثغور. وكانت هذه الضريبة نوعين: العشر والخراج؛ ولذلك صُنفت الأراضي في ذلك الوقت إما إلى أراض عشرية وإما إلى أراض خراجية. غير أن هذه الأراضي، بنوعيها العشري والخراجي، ظلت ملكاً صرفاً بيد أصحابها، ولم يكن للدولة في هذه الأراضي أية حقوق من أي نوع.
وظل وضع أراضي بلاد الشام على هذه الحال إلى أن تولى الأتراك العثمانيون حكم هذا البلد. ولم تكن الدولة العثمانية تنظر إلى الأرض نظرة الدولة الحديثة إليها هذه الأيام. ولم تكن لتهتم بحياة الفلاح وأرضه بقدر ما كانت تهتم بتحصيل الضريبة عن هذه الأرض. وكانت حاجة الدولة إلى الضريبة تزداد مع ازدياد الحاجة إلى تمويل الجيوش والحروب. وكانت ضريبة العشر غير ثابتة وغير مضمونة، لأنها كانت تتوقف على مقدار ما تدره الأرض من محصول. كما لم يكن لدى الدولة سجلات بالأراضي وأسماء أصحابها، ولذلك لم يكن تحصيل الضريبة أمراً سهلاً. وطبيعي القول إن أصحاب هذه الأراضي الذين لم تكن الدولة تعني بالنسبة إليهم أكثر مما يعنيه جابي الضريبة، كانوا يتهربون من دفع الضريبة بشتى الطرق، ولا سيما في الأقاليم الواقعة على أطراف الإمبراطورية العثمانية الشاسعة، ومنهم من كان ينكر أنه صاحب أرض، ومنهم من كان ينكر زراعتها. ولذلك عهدت الدولة إلى بعض الأشخاص المقربين من السلطة، وبعض أفراد الخاصة السلطانية، وأمراء الجيوش بتحصيل هذه الضريبة ضمن إقطاعات تقطعها لكل منهم. وكانت الإقطاعات تتفاوت في المساحة والأهمية بحسب نفوذ كل من أولئك ودرجة قربه من السلطة، وأصبح هؤلاء يتصرفون كأمراء الإقطاع تماماً. وكان عليهم أن يقدموا للدولة كل عام مبلغاً مقطوعاً من المال، أو عدداً معيناً من العساكر. وسمي هؤلاء الأمراء أصحاب التيمار والزعامة.[2] وفي ظل ذلك الوضع أصبح الفلاح وأرضه تحت سيطرة هؤلاء الأمراء، الذين كانوا هم الذين يقررون من يزرع الأرض ومن هو صاحبها ومن هو مكلف بدفع الضريبة عنها. غير أن اضمحلال تحصيل الضريبة بسبب فساد أصحاب التيمار والزعامة، وبسبب تهرب الفلاحين من دفعها، دفع الدولة العثمانية إلى الاستعانة بالملتزمين والمحصلين. وكان هَمُّ هؤلاء الوحيد جباية أكبر قدر من الضرائب لدفع ما التزموا دفعه للدولة والاحتفاظ بالفارق لأنفسهم. ولذلك عاثوا في الأرض فساداً، وأنهكوا أصحاب الأرض بالضرائب العشوائية التي كانوا يحصلونها، وكانوا أشد وبالاً على الفلاح وعلى أرضه من سابقيهم أصحاب التيمار والزعامة.
وفي محاولة إصلاح ذلك الوضع، ولغايات إحكام تحصيل الضريبة من أصحاب الأرض، وضعت الدولة العثمانية سنة 1858 قانون الأراضي العثماني. وفي ظل هذا القانون انتهى دور المحصلين والملتزمين ودور أصحاب الزعامة والتيمار في السيطرة على الأرض الأميرية وجباية الضريبة من أصحابها، وتم إنشاء دوائر خاصة لتسجيل الأراضي وتسجيل أسماء أصحابها في سجلات سميت السجلات الخاقانية. غير أن عمليات تسجيل الأرض كانت بدائية، وكان يتم تحديد قطع الأراضي على أساس حدودها الطبيعية من دون أي اعتبار لمساحتها الحقيقية، كما كان التسجيل يتم في أغلب الحالات بناء على شهادات المخاتير والأعيان. وقد أدرك الفلاحون بفطرتهم الغاية من وضع هذا القانون، وهي إحكام تحصيل الضريبة منهم، فتهربوا من تسجيل أراضيهم في سجلات الدولة، وإذا ما سجلوها فقد كانوا يسجلونها بمساحات تقل كثيراً عن مساحتها الحقيقية. وظلت صورة الأرض وتسجيلها مقترنين في ذهن الفلاح آنذاك بالضريبة وبالتعسف في تحصيلها. وكان يدفعها من دون أي مقابل ومن دون أن تقدم الدولة له أية خدمة أو تبذل أية عناية به أو بأرضه. وكانت الضريبة قاسية جداً، وخصوصاً إذا عرفنا أن الزراعة كانت بدائية، وكانت في أغلب الأحيان تعتمد على مواسم المطر، وأنها قليلاً ما كانت تسد رمق الفلاح. وعندما بدأ العمل بتسجيل الأراضي في سجلات الطابو، عمل تجار المدن والمرابون والمتنفذون على تحويل هذه العملية لمصلحتهم؛ فأشاعوا أن الغاية من تسجيل الأرض هي تجنيد الفلاحين في الجيش وزيادة الضريبة. فسارع كثير من الفلاحين الذين كانوا يخشون هذين الأمرين إلى التهرب من تسجيل أراضيهم، أو إلى التخلص منها، أو إلى تسجيلها بأسماء أصحاب النفوذ الذين لا تطالهم أحكام القانون. وكانت هذه الفئة من الأغنياء وأصحاب النفوذ، ومنهم من كان يقيم خارج البلد، هي التي حققت الأرباح الطائلة من عمليات بيع الأراضي التي تمت فيما بعد.[3] يضاف إلى ذلك أنه في أواخر عهد الدولة العثمانية ساد الفساد في معظم الأقاليم، ولا سيما تلك البعيدة عن مركز السلطة، وظهرت فئة المتنفذين والمقربين، وأصبح موظفو الأراضي تحت سيطرتهم ونفوذهم. وكان في مقدور هؤلاء أن يحصلوا على شهادات تسجيل بأراض لم تطأها أقدامهم على الإطلاق، مستغلين الأوضاع المذكورة. وهكذا، وبهذه الطريقة، تمكنت عائلات كثيرة غريبة، أمثال سرسق وكركبي وتويني، من تسجيل أراض واسعة بأسمائها وبيعها فيما بعد من الحركات الاستيطانية، كما هو معروف. ووجد الفلاح الفلسطيني نفسه مطروداً من أرضه في مرج ابن عامر ووادي الحوارث وسهل بيسان وغيرها، ليأخذها المستوطنون.
وقد يسأل سائل: لماذا سُميت تلك الأرض أميرية؟ ألا يدل ذلك على أنها تابعة للدولة؟ والإجابة عن هذا السؤال هو قطعاً بالنفي. فليس هناك ما هو أبعد عن الحقيقة من القول إن الأراضي الأميرية هي أراض تملكها الدولة. فعندما وضعت الدولة العثمانية قانون الأراضي سنة 1858 لم تسجل قط الأراضي التي سميت أميرية باسم الدولة، بل سجلت أصحابها الذين كانوا يتصرفون فيها ويزرعونها ويدفعون ضريبتها. ونظرة واحدة إلى سجلات الأراضي التركية التي ما زالت محفوظة في دوائر الأراضي في فلسطين تظهر هذه الحقيقة التي لا مراء فيها. وقبل وضع قانون الأراضي العثماني، لم تكن كلمة أميرية معروفة. وكانت الأراضي التي سميت الأراضي الأميرية هي نفسها الأراضي الخراجية والعشرية التي كانت ملكاً صرفاً لأصحابها. وسبق أن ذُكر أن العرب الذين فتحوا بلاد الشام لم ينزعوا أرضاً من يد صاحبها، ولم يعتدوا على حقوق الملكية بأية صورة من الصور، خلافاً لأعراف الحرب التي كانت تقضي في ذلك الوقت بأن تكون الأرض المفتوحة وخيراتها نهباً للفاتحين. وقد سُميت هذه الأراضي الزراعية أراضي أميرية لأنها وحدها من دون سائر الأصناف كانت خاضعة لضريبة العشر. وقد أضفت ضريبة الدولة عليها هذا الاسم تمييزاً لها من الأراضي الأُخرى التي لم تكن الدولة تتقاضى عنها أية ضريبة. وكما كان واضعو قانون الأراضي العثماني حريصين على تمكين الدولة من تحصيل ضريبة الأرض الأميرية، فقد كانوا أيضاً حريصين على عدم تمكين صاحب تلك الأرض من التهرب من دفع ضريبتها عن طريق إهمال زراعتها. ولذلك حرصوا على أن تحقق نصوص القانون هذا الهدف؛ فنصت المادة رقم 68 من القانون المذكور[4] على أن كل أرض أميرية يهمل صاحبها زراعتها مدة ثلاثة أعوام متتالية تؤخذ منه وتعطى ببدل المثل لمن يطلبها ويقوم بزراعتها. وفي المقابل، نصت المادة رقم 78 من ذلك القانون[5] على أن كل من تصرف في أرض أميرية مدة عشرة أعوام يصبح مالكاً لها، وتسجَّل باسمه في دوائر الطابو مجاناً. ولتبرير ذلك قانوناً، فرّق واضعو القانون المذكور بين ملكية رقبة الأرض وملكية حق التصرف فيها، فقالوا إن ملكية الرقبة تعود إلى الدولة، بينما تعود ملكية حق التصرف إلى الأفراد، وملكية الرقبة ملكية رمزية لا قيمة عملية لها على الإطلاق، ولا معنى لها إذا انفصلت عن مليكة حق التصرف. وملكية حق التصرف بموجب ذلك القانون هي ملكية دائمة غير محددة بأي وقت، ولذلك سميت حق القرار، أي حق البقاء الدائم في الأرض، وهي تخول صاحبها حق زراعة الأرض، والبناء عليها، وبيعها، وتأجيرها، ورهنها وتوارثها... إلخ. وحق التصرف هذا هو في حقيقته كل ما تعنيه حقوق الملكية عملياً.
غير أنه بعد إلغاء ضريبة العشر واستبدالها بضريبة الويركو، وهي ضريبة ثابتة تستحق على الأرض، سواء أنتجت محصولاً أو لم تنتج، وسواء قام مالكها بزراعتها أو لم يقم، لم يعد هناك من مجال لتطبيق نص المادة رقم 68 المشار إليها، لأن الغاية من تلك المادة كانت ضمان استيفاء ضريبة الدولة، وانتفت تلك الغاية بعد أن أصبحت تلك الضريبة مضمونة بفعل ضريبة الويركو. وعلى هذا الأساس أصدر مجلس شورى الدولة التركي القرار رقم 1472 تاريخ 1304 هـ/ 20 شباط (فبراير) 1887م. وقد جاء فيه أنه بالنظر إلى أن المادة رقم 68 وضعت قبل نظام استيفاء الويركو، فإنه لم يعد جائزاً تطبيقها بعد وضع ذلك النظام.[6] ومنذ ذلك الوقت، لم يعد ممكناً قانوناً أخذ أية أرض أميرية من مالكها، سواء أهمل زراعتها أو لم يهملها. وإذا ما رجعنا إلى قيود الأراضي التركية الصادرة بعد ذلك التاريخ، فإننا لن نجد فيها إطلاقاً ما يشير إلى أن الدولة استولت على أية أرض أميرية بحجة أن صاحبها أهمل زراعتها مدة ثلاثة أعوام أو أكثر. كما لم يطبَّق هذا الإجراء قط طوال العهد الانتدابي على فلسطين، ولم يطبَّق خلال العهد الأردني أيضاً، ولم تقم حكومة الانتداب، ولا الحكومة الأردنية، بمصادرة أية أرض أميرية استناداً إلى تلك الحجة؛ سلطات الاحتلال الإسرائيلية وحدها هي التي قامت بذلك، كما سيبيَّن بعد قليل.
لقد أخذ موضوع الأرض الأميرية يطفو على السطح، وأصبح مثاراً للجدل والنقاش بعد القرار الذي أصدرته المحكمة الإسرائيلية العليا في قضية مستوطنة إيلون موريه، قضاء نابلس سنة 1979. قبل ذلك القرار كانت سلطات الاحتلال الإسرائيلية تصادر الأراضي الأميرية وتقيم عليها المستوطنات بحجة أن هذه المستوطنات جزء من النظام الأمني للجيش الإسرائيلي. وكانت المحكمة المذكورة تجاري سلطات الاحتلال في ذلك، وتبرر الاستيطان بدواعي الأمن، وأشاحت النظر عن نص المادة رقم 55 من أنظمة لاهاي لسنة 1907، التي تمنع السلطة المحتلة من التعرض للأملاك الخاصة أو مصادرتها، أو التصرف في الأملاك العامة العائدة إلى الدولة التي احتُلت أرضها بطريق تؤدي إلى تغيير معالم هذه الأملاك أو نقل ملكيتها. كما أشاحت النظر عن نص المادة رقم 46 من معاهدة جنيف الرابعة لسنة 1949، التي تمنع السلطة المحتلة من التعرض للأملاك الخاصة بعد وقف العمليات الحربية. غير أنه في قضية مستوطنة إيلون موريه كشف المستوطنون عن نياتهم الحقيقية، وصرحوا أمام المحكمة بأنهم أقاموا هذه المستوطنة استناداً إلى حقهم التوراتي في أرض إسرائيل. لكن المحكمة لم تستطع أن تجاري هذا المنطق، ولم تكن مستعدة لاستبدال منطق الأمن بمنطق الحق التوراتي المذكور. وكان ذلك أكثر مما تستطيع المحكمة أن تدافع عنه، ولا سيما أن منطق الأمن الذي بررت الاستيطان بموجبه أثار الاستنكار والاحتجاج في معظم أرجاء العالم، ودفع الأمم المتحدة إلى إصدار عدة قرارات تشجب إقامة المستوطنات في المناطق المحتلة، وتطلب من إسرائيل التوقف عن إقامتها. ولذلك لم يكن في وسع المحكمة العليا إلا أن تصدر قرارها بعدم قانونية إقامة تلك المستوطنة، وضرورة تفكيكها.
غير أنه في الوقت الذي كان يتم تنفيذ قرار المحكمة المذكور، كانت سلطات الاحتلال تقيم مستوطنة أُخرى بالاسم نفسه، وعلى مقربة من المستوطنة الأولى، وادعت أن الأرض التي أُقيمت المستوطنة الجديدة عليها هي أرض أميرية تعود إلى الدولة وتعتبر أرضاً حكومية، وأنها بذلك لم تصادر أية أملاك خاصة ولم تعتد على أي حق لأي شخص، وأن إقامة المستوطنات على أراضي الدولة لا يحتاج إلى مبررات أمنية ولا توراتية.
وبدأت سلطات الاحتلال تضع يدها على مساحات واسعة من الأراضي المحتلة بحجة أنها أراضٍ أميرية انقطع أصحابها عن التصرف فيها، وأصبحت بالتالي ملكاً للدولة، وقامت بعد ذلك بتسجيلها في سجلات الأراضي بأنها أراض حكومية. وبلغت الأراضي التي أعلنتها تلك السلطات أراضي حكومية ما تقارب نسبته 40% من مجموع أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة. وتجدر الإشارة هنا إلى ما ذكره الباحث كنيث ستاين [7] (Kenneth Stein) بشأن أراضي الدولة أو الأراضي الحكومية. ففي سنة 1972 بدأ الباحث دراسة وتحليل ملفات وسجلات الأراضي في فلسطين العائدة إلى فترة 1917 – 1939. وذكر أنه في بداية الانتداب كانت الأراضي الحكومية تشكل ما نسبته 4% فقط من أراضي فلسطين كلها. وتقدم هذه النسبة الصغيرة صورة واضحة عن مدى التحريف والتشويه والبطلان في الإجراءات التي قامت سلطات الاحتلال بها لنزع ملكية الأراضي الأميرية من أصحابها تحت ستار أنها أراض حكومية.
وفي سبيل تحويل الأراضي الأميرية إلى أراض حكومية، ونزع ملكية أصحابها من دون حاجة إلى الاستملاك أو وضع اليد بدواعي المحافظة على أمن الجيش، أصدرت تلك السلطات الأمر العسكري رقم 364، الذي لم يعرف البلد مثيلاً له طوال تاريخه الطويل. فمجرد صدور إعلان بسيط من السلطة، استناداً إلى ذلك الأمر، من أن أرضاً ما هي حكومية، فإنها تُعتبر كذلك وتُسجل في سجلات الأراضي على هذا الأساس، ما لم يعترض أصحاب الأرض ويثبتوا عكس ما جاء في هذا الإعلان. وبمعنى آخر، فإن الأمر العسكري المذكور افترض أن الأرض الأميرية تعتبر ملكاً للدولة ما لم يثبت صاحبها،ـ وواضع اليد عليها، والمتصرف فيها، العكس. وكل من له إلمام بسيط بمبادىء القانون يعرف أن واضع اليد على الأرض يقف فيه وقف المدعى عليه في حال وقوع أي خلاف بشأن ملكيتها. وأن المدعي لا المدعى عليه هو المكلف بالإثبات. غير أن الأمر العسكري المذكور قلب هذه القاعدة القانونية رأساً على عقب، وألقى على الفلاح الذي يتصرف بالأرض ويضع يده عليها ويتوارثها أباً عن جد منذ أعوام طويلة، عبء إثبات أنه مالك لهذه الأرض وأنه يتصرف فيها؛ أي أصبح كل مالك أرض ملزماً أن يثبت للسلطة المحتلة ملكيته لأرضه وإلا فإنها تصبح أرضاً حكومية. ومن جهة أُخرى لم يكن أمام هذا الفلاح إلا تقديم اعتراضه إلى لجان الاعتراض المؤلفة من أفراد من القوات الإسرائيلية المسلحة، أو من العاملين مع هذه القوات، ولم يكن أمراً صعباً التنبؤ سلفاً بما تقرره هذه اللجان.
كما أصدرت سلطات الاحتلال الأمر العسكري رقم 1015، وبموجبه أصبح ممنوعاً على صاحب أية أرض أن يزرع شجرة مثمرة في أرضه من دون الحصول على تصريح خطي من السلطة، تحت طائلة الحبس عاماً واحداً أو دفع غرامة قدرها 15,000 شيكل، أو تحت طائلة العقوبتين معاً. ومثل هذا التقييد لحق التصرف لم يقصد منه إلا منع أصحاب الأرض من التصرف فيها حتى يسهل على السلطة اعتبارها أرضاً حكومية.
وكانت السلطات قبل ذلك قد أصدرت الأمر العسكري رقم 291، وبموجبه أوقفت العمل بقانون تسوية وتسجيل الأراضي الأردني لسنة 1952، وبذلك حالت بين أصحاب الأراضي وبين تسجيل أراضيهم في سجلات الأراضي، استناداً إلى أحكام القانون المذكور، وظل معظم الأراضي في مناطق القدس والخليل وبيت لحم ونابلس وطولكرم، التي لم تتم فيها عمليات التسوية، من دون تسجيل، الأمر الذي حرم أصحاب هذه الأراضي الحصول على وثائق رسمية تؤيد وتؤكد حقوق ملكيتهم للأراضي التي يتصرفون فيها.
إن عمليات نزع الأرض من يد أصحابها الشرعيين بشتى الطرق والوسائل لم تتوقف منذ أن بدأت الحركة الصهيونية برنامجها الاستيطاني في أوائل هذا القرن حتى اليوم. فبعد قرار التقسيم الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1947، وحصلت إسرائيل بموجبه على ما يقارب من 55% من أخصب الأراضي في فلسطين كلها، استمرت في توسيع رقعتها باستمرار وبقوة السلام حتى بلغت عشية حرب 1967 ما نسبته 83% من مجموع أراضي فلسطين. ونتيجة للحرب المذكورة وقعت البقية الباقية تحت الاحتلال، وهي بجميع مدنها وقراها، وبقدسها الشرقية، وبأراضيها الأميرية وغير الأميرية، وحتى بالمستوطنات التي أُقيمت فيها، لا تشكل أكثر من 17% من مجموع الأراضي الفلسطينية. وخلال ربع قرن من الاحتلال، تمكنت إسرائيل من إقامة الكثير من المستوطنات المنتشرة في كل بقعة من بقاع الأراضي المحتلة، واستولت من أجل ذلك على مساحات واسعة من الأراضي، تارة تحت ستار الأمن، وتارة أُخرى تحت ستار أنها أراض حكومية. وفي المفاوضات التي جرت في واشنطن بين الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي، لم تخف إسرائيل عزمها على الاحتفاظ بالمستوطنات تحت ولايتها. كما رفضت أن تكون القدس الشرقية موضوعاً قابلاً للنقاش، وطالبت بأن تكون الولاية على الأراضي الأميرية التي اعتبرتها أراضي حكومية، مشتركة بينها وبين السلطة الفلسطينية الانتقالية العتيدة. وبدا واضحاً أنه كما كانت المستوطنات التي أقيمت قبل سنة 1948 نواة لإقامة الدولة اليهودية، فإن إسرائيل تريد اليوم أن تكون المستوطنات التي أقامتها على البقية الباقية من أرض فلسطين نواة لضم هذه البقية وإخضاعها للسيادة الإسرائيلية. ويتساءل المرء إزاء هذا الموقف: كيف يمكن لهذا البلد أن يرى السلام في يوم من الأيام، وكيف يمكن تطبيق قراري مجلس الأمن رقم 242 ورقم 338، مع إصرار إسرائيل على الاحتفاظ بالمستوطنات وبالقدس الشرقية، وفرض سيادتها عليها؟
المصادر:
[1] Frederic Goadby and Moses Doukhan, The Land Law Of Palestine, (Tel-Aviv: Shoshany’s Printing Co., 1935), p. 2.
[2] دعيبس المر، "أحكام الأراضي المتبعة في البلاد العربية المنفصلة عن السلطنة العثمانية" (القدس: مطبعة بيت القدس، 1923)، ص 12، 13.
[3] Kenneth Stein, The Land Question In Palestine, 1917-1939 (The University of North Carolina, 1985), p. 21.
[4] نصت المادة رقم 68 من قانون الأراضي العثماني على ما يلي:
إذا كان أحد متصرفي المزارع لا يزرع حقله ولا يزرع من طرف عارية أو إجارة وعطله ثلاث سنوات متتالية بدون أن يتحقق له عذر من الأعذار الصحيحة مثل ترك الأرض سنة أو سنتين بحسب درجة قابليتها أو أكثر بحالات استثنائية حسب الموقع لأجل مجرد استراحتها أو أن تكون عليها المياه مدة ثم بعد ذلك نضبت فتركها خالية بينما تكسب قوة أن أنه كان أسيراً حربياً فتكون تلك المزرعة مستحقة الطابو. فإذا طلب متصرفها السابق أن يتفوض بها فتفوض له مجدداً ببدل المثل وإن لم يطلبها تجري عليها المزايدة وتحال لطالبيها.
[5] نصت المادة رقم 78 من القانون المذكور على:
إذا كان إنسان يزرع أرضاً أميرية ويتصرف بها عشر سنين بدون منازع يكون حق القرار ثابتاً له سواء وجد بيده سند معمول به أو لم يوجد، ولا ينظر إلى تلك الأرض بنظر المحلول بل يلزم أن يعطى ليده سند طابو مجاناً.
[6] أنظر: المر، مصدر سبق ذكره، ص 201.
[7] Stein, op.cit., p. 12.