Intellectuals Evaluate the Agreement: The Palestinian Dream, a Delivery! or a Defeat and a Debacle?
Keywords: 
الأردن
اتفاق أوسلو 1993
الهوية العربية
الاستعمار
النزاع بين الشرق والغرب
التطبيع
Full text: 

من يجرؤ على الحلم الآن؟ ومن يجرؤ - في المقابل على قتل الحلم؟ من يجرؤ على الجزم بأن "الاتفاق" بوابة إلى "الوطن"، لا بوابة إلى الوطن العربي في صورته التي يريدها الصهاينة والأميركيون؟ ثمة، طبعاً، من يرون حلمهم بوطن وهوية قد أخذ منذ "الاعتراف" و"الاتفاق" ينهض على الأرض.. لكن ثمة من يرون أن هذا الحلم قد اصطدم بصخرة الواقع وتفتت، وبات على أصحابه أن يجمعوا شظاياه من بين الصخور والأشواك! ثمة فريق ثالث لا يزال يرى أنه سيظل يحرس ولو وحيداً حلمه القديم المتجدد، وثمة...

في الحوارات الصاخبة، في البيوت والمقاهي والندوات، يحاول كلٌ أن يجد، من خلال صراخه وأسئلته، ما يؤسس فهماً أو اقتناعاً جديداً! لقد اتفق الجميع، الرافضون والتابعون والوسط، على أن ما حدث "ليس هو ما نريد." ثم عادوا إلى خلافاتهم في التفصيلات.

وعليه، فقد كان الحوار حول هذه القضية صعباً. وكانت وجهات النظر المقدمة هنا مجرد اجتهادات هي حصاد بعض الأسئلة المطروحة هنا، أجاب كل بطريقته:

في ضوء ما جرى، كيف يرى كُتّابنا خريطة الصراع المقبل؟ وإلى أين تمضي مقولة الصراع العربي الصهيوني وما ترتب عليها من مقولات ومفاهيم؟ وماذا عن الهوية العربية وصراعنا الحضاري مع الغرب الاستعماري القادم على ظهر الفكرة الصهيونية التي أخذت تتحقق في صورة "إسرائيل الكبرى"؟ وكيف نواجه آثار الهجمة ومخاطرها، من التطبيع والنفسي إلى احتمالات التذويب؟

ثمة أسئلة كثيرة، وما من سؤال تكفي الإجابة عنه لمواجهة المرحلة. فما الذي يراه كتّابنا ومثقفونا؟ 

وليد سيف: النموذج العربي الإسلامي

في حديث مع الشاعر الدكتور وليد سيف، أكد ما جاء في كتابه الذي أصدرته في عمّان لجنة الدفاع عن الثقافة العربية في فلسطين، قبل شهور، وهو بعنوان "التطبيع القائم والقادم: التحدي والاستجابة". وكان د. سيف قد بدأه بالفصل بين السياسي المباشر اليومي، وبين الثقافي في مستوياته، معلناً ضرورة الفصل بين تأييد المفاوضات السياسية الجارية (وبالتالي الاتفاق الجديد أيضاً) عند المؤيدين، أو رفضها (ورفض الاتفاق أيضاً) عند الرافضين، وبين موضوع التطبيع، فرأى أن على الطرفين رفض التطبيع ومواجهته لأسباب تتعلق بطبيعة التسوية الجارية، كونها مفروضة بموازين القوى المختلة لمصلحة العدو، أولاً، وكونها – ثانياً – لن تلغي العقيدة الصهيونية للكيان ولا وظيفته في المنطقة، خصوصاً وظيفته تجاه مشروع النهوض العربي، ولأنها – ثالثا – لن تنهي الصراع التاريخي الحضاري السياسي مع القوى الاستعمارية. كما أنها – رابعاً – تحمل اشتراطات تتضمن إلغاء مفهوم الجغرافيا الثقافية والحضارية والتاريخية للمنطقة العربية، أي إسقاط الهوية الحضارية العربية الإسلامية وتأسيس "مبدأ الجغرافيا السياسية الاقتصادية للشرق الأوسطية"، التي تحتل "إسرائيل" فيها موقع المركز بوصفها "الأنموذج التنموي النمطي المتجانس والمتكامل..". ولأن التسوية – خامساً – تجري في أوضاع لا يمكن التسليم بأنها نهاية التاريخ. ولأن التطبيع الثقافي أيضاً لا ينحصر في المفهوم النخبوي للثقافة والمثقفين، بل يستوعب المعنى الأنثروبولوجي الاجتماعي للثقافة والهوية الثقافية العربية. ومن هنا، فإن على المثقفين القيام بـ"دورهم في رعاية جذور المستقبل ومنع اقتلاعها من روح الأمة،... والتمسك بالتاريخي الاستراتيجي الثابت للحيلولة دون تحول المرحلي إلى نهائي ومطلق.."

ويركز د. سيف على ضرورة رؤية التطبيع الثقافي مع العدو الصهيوني بوصفه امتداداً لعملية الغزو الثقافي، والهيمنة، والإخضاع التي يمارسها الغرب الاستعماري. ومن هنا فإنه يرى التطبيع قائماً فعلاً، لكن ثمة تطبيعاً آخر مقبل، ومن مظاهر التطبيع القائم يذكر د. سيف: تردد البعض في استعمال مصطلحات مثل "العدو الصهيوني" و"الوحدة العربية"، و"التحرر من الهيمنة الاستعمارية الغربية"... إلخ، خشية الاتهام بالرومانسية واللاواقعية والانفصال عن العصر. ومن مظاهر التطبيع القائم، كما يوردها د. سيف: عمليات التغريب الثقافي، عبر جلد الذات حيناً، والاغتراب في حاضر الآخر حيناً، واختزال التاريخ العربي في الصراعات الدموية حيناً ثالثاً، الأمر الذي يدفعنا إلى رؤية ذاتنا العربية بعين الآخر – الغرب الاستعماري غالباً.. وهنا يدفع د. سيف بالتساؤل المرير: "كيف نرضع من الثدي نفسه الذي ترضع منه إسرائيل من دون أن تتطور بيننا مشاعر الأخوة في الرضاعة؟"

أما عن التطبيع المقبل، والذي مهدت له مظاهر التطبيع المذكورة أعلاه، فهو سيكون – بحسب استقراء د. سيف – أشد تدميراً؛ إذ يرجح د. سيف أن ينصب جزء كبير من جهد التطبيع "الإسرائيلي" في محاولة تحطيم المناعة العربية والإسلامية للجسم الثقافي الفلسطيني أولاً، وفي تهميش المكوّنات العربية الإسلامية للهوية الثقافية الفلسطينية، بدعوى الخصوصية الوطنية، معوّلاً على تيار التغريب الذي سيجد نفسه أقرب، في تكوينه الذهني ومزاجه الثقافي المستغرب، إلى النسخة "الإسرائيلية" من الأنموذج الثقافي الغربي الجذاب والمهيمن بحكم وحدة المرجع الذي يصدر الطرفان عنه. كما سيقوم هذا التيار باستثمار الشعور الفلسطيني المتراكم بفعل المرارة من الخذلان العربي والتضييق والحصار العربيين، ويستخدم أسلوب النفخ النرجسي في الذات الوطنية الفلسطينية التي برزت وقويت على خلفية صراعها وتناقضها مع المشروع الصهيوني، وتستخدم شعارات بناء مجتمع فلسطيني تحديثي يقوم على العلم والتكنولوجيا (صدى الشعارات الصهيونية نفسها التي يستخدمها الصهاينة في كل مرة يستفردون ببلد عربي، في مصر أطلقوها وجاء صداها من كثيرين – على رأسهم توفيق الحكيم – يدعون إلى "التقاء الفئتين المتحضرين" أو "التحرر من التبعية العربية" و"حياد مصر"..). وعلى الرغم من كل ذلك، كل الانهيارات والتراجعات، يعتقد د. سيف أن تيار التغريب الذي سيقود التطبيع، سيصطدم بجدار سميك من المناعة الفلسطينية أولاً، والعربية الشعبية ثانياً، لأنه يصطدم بالتاريخ وبالوجدان الشعبي العربي الفلسطيني.

وهنا يؤكد د. سيف ضرورة أن يجري إحياء مفهوم "مركزية القضية الفلسطينية"، وأن يرتبط أي كيان فلسطيني منتظر ببُعده العربي (ويمكن العودة إلى مشروع الهلال الخصيب ابتداء). وعلى المثقفين التصدي لما يمكن أن ينتج من مشاعر المرارة أو النفخ النرجسي في الذات الفلسطينية. ويدعو – أخيراً – إلى جبهة ثقافية عربية في إطار مؤسسة من مهماتها الحفاظ على الوحدة والهوية في مواجهة التجزئة، والتركيز على بناء مؤسسات وطنية للتنمية العربية البديلة في الحقول كافة، بما فيها إمكان إنتاج معرفة عربية قادرة على محاورة المعرفة الإنسانية، وذلك كله بهدف التخلص من الاستلاب للنماذج الغربية الجاهزة المستوردة. 

مؤنس الرزاز: العروبة والعقلانية والديمقراطية

الروائي والكاتب مؤنس الرزاز أقل حدّة في مواجهة "الاتفاق" ورؤية آثاره السلبية، والمخاوف والمخاطر التي يثيرها. ولعل أكثر ما يثير المخاوف – كما يرى مؤنس، وغير بعيد عما يرى الدكتور سيف – هو المشروع المقبل تحت عنوان "الشرق الأوسطية"، الذي يخشى أن يحل محل المفهوم القومي العربي الذي مزقته اتفاقات وكيانات سايكس – بيكو، هذه الكيانات التي يبدو أنها ستشهد "ازدهاراً" للقطرية وانسحاباً للمفاهيم القومية، الأمر الذي سينعكس على طبيعة الصراع الثقافي مع "إسرائيل"، وهو صراع يحتاج إلى ركيزتين: الأولى هي بعث التيار العقلاني في التراث العربي والإسلامي وربطه بالتيار العقلاني الغربي. والركيزة الثانية تتمثل في التطور التكنولوجي الذي يتضح أن العدو الصهيوني متقدم فيه إلى درجة أننا لا نستطيع مجاراته، لا سيما في مجال الإعلام ووسائله المتطورة (صحافة، سينما، تلفزة..). ومن هنا فإن صراعنا الثقافي مع هذا العدو يكاد يكون محسوماً لمصلحته ما لم تتم العودة إلى المفاهيم القومية ذات البعد العقلاني والديمقراطي. فنحن – ثقافياً – لا واجه "إسرائيل"، بل نواجه الثقافة الإمبريالية التي تتحكم وسائل الإعلام الصهيونية فيها. بل إننا لا نواجه الثقافة الغربية بالإطلاق؛ ففي هذه الثقافة الكثير من القيم الإنسانية التي نلتقي معها. ومن هنا أدعو (يقول الرزاز) إلى هذا اللقاء بين رموز الثقافة العقلانية العربية ورموز الثقافة العقلانية الغربية. أدعو إلى جبهة بين ابن رشد وهمنغواي، مثلاً، أو بين ابن خلدون وماركس المستنير.

ومن ناحية أُخرى، فإن العروبة، بالمعنى الحضاري، لا السياسي، للكملة هي المخرج من أزماتنا كلها. إذ إن جميع دعوات القطرية وثقافاتها ما هي إلا وسائل تمزيق وتفتيت، تدفع إلى "ازدهار" الكيانية البغيضة. 

ناجي علوش: جبهة شعبية قومية ديمقراطية

الشاعر والمفكر ناجي علوش، بعد رفضه القاطع والحاد لـ"الاتفاق"، يعتقد أن ليس له – للاتفاق – حظ في العيش. فهو ليس مقبولاً شعبياً، لأنه لا يحقق أدنى ما تطمح إليه الجماهير التي ناضلت الأعوام تلك كلها ودفعت ثمناً أكبر كثيراً مما يحمله الاتفاق. وإذا كانت المرحلة مختلطة ومربكة، فإن قوى جديدة ستولد قريباً لتفجر الأرض تحت من وقّعوه من الطرفين. فالصراع العربي – الصهيوني لا يمكن أن يُختزل في صراع حضاري أو ثقافي. والمعارضة الثقافية لا يمكن أن تمارسها إلا نُخب معزولة. أما الصراع الحضاري فهو على الصعيد التكنولوجي سيكون محسوماً في مصلحة الصهيونية والإمبريالية. ولذا فليس هناك سوى مواصلة الكفاح المسلح.

ويدعو علوش إلى تطوير اتجاه شعبي ديمقراطي – على الصعيد القومي – من خلال جبهة عربية واسعة يكون من مهماتها مواجهة "الاتفاق" ومخاطره وآثاره السلبية المدمرة في الواقع الفلسطيني والعربي.  

خليل السواحري: محظورات ومقاومة

الكاتب والقاس خليل السواحري، أحد أعضاء لجنة الدفاع عن الثقافة العربية في فلسطين، يرى أن من ملامح مرحلة ما بعد "الاتفاق" عنصراً إعلامياً – ثقافياً يتمثل في التحول ليجد الإعلام العربي نفسه "أمام مصطلحات جديدة مفروضة عليه، وسيجد الوجدان الفلسطيني العربي الإسلامي نفسه محاصراً ومقطوعاً عن امتداداته التاريخية."

أما المحظورات التي سيجد المثقف العربي نفسه أمامها فهي "عدو فلسطيني"؛ "فلسطين المحتلة"؛ "عداء تاريخي بين اليهود الذين احتلوا الأرض وأقاموا فيها دولتهم وبين الوجدان العربي الإسلامي."

ويحذر السواحري من أننا "سنجد أنفسنا أمام طغيان التفاهة والتسطيح وثقافة الجنس والاستهلاك والعدمية القومية والدينية" للوصول إلى "الشرق الأوسطية".. و"سيجد الناشئة أنفسهم أمام مناهج دراسية جديدة تبتعد عن مشاعر الانتماء القومي والحس الحضاري التاريخي..." ومع ذلك، فهو لا يعتقد "أن الأمور ستمر ببساطة، لأن وجدان الأمة لا يمكن أن يموت. والوجدان الفلسطيني قاوم الاحتلال ومحاولات التذويب العرقي والحضاري أعواماً طويلة. والاستسلام لعصا النظام الدولي الجديد والهيمنة الصهيونية لن يكون مخلداً." 

محمود الريماوي: مناهج التعليم ووسائل الإعلام

قدم القاص والكاتب محمود الريماوي مساهمته مكتوبة، ونقدمها كما جاءت:

يبدو لي أن السؤال يتعلق بالاعتراف المتبادل وتبعاته الفكرية والثقافية أكثر من اتصاله بما سمي "اتفاق غزة – أريحا أولاً". ففي نصوص الاعتراف ثمة إقرار بـ"حق إسرائيل في الوجود بسلام وأمن"، وإبطال الفقرات في الميثاق، تتعلق بوحدة فلسطين الانتدابية وعروبتها.

وأول ما يخطر لي هو التساؤل عن مناهج التعليم التي سيتلقاها التلاميذ بدءاً من منتصف هذا العقد؛ إذ ستنشأ صعوبات كبرى في تحديد الهوية الوطنية ونسبتها إلى الأرض، حيث الجزء الأكبر منها بات يعرف بـ"إسرائيل". وسيكون من الصعب تدوين تاريخ القضية الفلسطينية وإدراجه في البرامج التعليمية. أفكر بأمور كهذه، وعلى هذا المستوى. ويدور في ذهني أنه سيتم اللجوء إلى تجزئة التاريخ والحقائق بالحديث عن نضال الفلسطيني لاستعادة الضفة الغربية وقطاع غزة، والتركيز على وحدة الشعب أكثر من التركيز على الوحدة الجغرافية للأرض. بل قد تنشأ صعوبة في تأهيل معلمين لتدريس مثل هذه المناهج، التي سيغيب عنها تاريخ القضية قبل سنة 1965، ونشوء الحركة الفدائية.

أفكر بأمور كهذه أكثر من التفكير في التطبيع الذي سيكون تحصيل حاصل، وهو سيتعدى مسألة التقاء مثقفين على الجانبين، أو تداول وترجمة مؤلفات أدبية، إلى الانخراط في هيئات وأقنية مشتركة، وتكريس فكرة التعايش والقبول المتبادل. هناك حواجز سيكولوجية قد تذوب أو تتحول شيئاً فشيئاً، وقد تنشأ الأجيال الجديدة بحواجز ضعيفة أمام الطرف الآخر. والفيصل ليس قبول فكرة التعايش أو نبذها بإطلاقيتها، بل في الثقافة العامة والمنطلقات الأيديولوجية التي ستتبناها السلطة الفلسطينية وتعمل على ترويجها في وسائل التعليم والإعلام. فإذا ما التزمت هذه المنطلقات التمسك بنبذ العنصرية وأشكال التمييز كلها، وإذا ما حافظت على مناوأتها للصهيونية كعقيدة مغلقة واستعلائية ونابذة لكل ما هو غير يهودي، واستلهمت مبادئ حقوق الإنسان وتقرير المصير، فإنه يمكن عندئذ الحد من أخطار التطبيع. ولعل السلطة الفلسطينية إذا قامت أن تتنبه لواجب الصمود أمام التدخلات "الإسرائيلية" في مناهج التعليم؛ إذ إن إجازة مثل هذه التدخلات ينبغي أن تقترن بتدخل مماثل في المناهج "الإسرائيلية". وقد يمتد التدخل إلى الأعمال الأدبية والنفية والسينمائية، وسواها. والمسألة برمتها لا تحتاج إلى إدارة وطنية فحسب، بل أيضاً إلى كفاءات وخبرات ثقافية وتربوية وعلمية. وفي أوضاع أسوأ، كأوضاع العرب الفلسطينيين الذين بقوا في أرضهم، ويُعرفون بـ"عرب إسرائيل"، أثبت هؤلاء تعلّقهم بثقافتهم الخاصة، وذاتهم الوطنية والقومية، ويفترض أن تكون المسألة أسهل مع نشوء سلطة فلسطينية محدودة.

في اقتناعي إن نضالاً ثقافياً وفكرياً وسياسياً يجب أن يخاض في ظل التطبيع الواقعي، للتأثير في الجمهور "الإسرائيلي"، انطلاقاً من الواقع الناشئ، الذي جرى فيه اعتراف "إسرائيلي" بالشعب الفلسطيني. إن هذا الاعتراف يستتبع اعترافاً بحقوق هذا الشعب وارتباطه بأرضه وحقه في تقرير مصيره واستعادة وحدته من الشتات، وتنمية حياته الثقافية دونما تهديدات وتبشير بالحروب والتوسع أو الاحتكام إلى التفوق العسكري والتكنولوجي.

لقد رأينا أن معسكر السلام يتسع، وإذا كنا نحن قد تغيرنا، فقد بدأوا هم يتغيرون أيضاً، وهذه مسألة مهمة ينبغي أن تؤخذ في الحسبان، وببناء الجسور وفتح أقنية الاتصال بالجمهور الواسع من الليبراليين والديمقراطيين وبكتل يهودية من أصل عربي، وبالإفادة من خبرات الوجود العربي منذ سنة 1948، فإن التطبيع يمكن أن يفيد الفلسطيني أكثر كثيراً مما سيفيد منه غلاة الصهاينة، بما في ذلك، وخصوصاً، على الصعيدين الفكري والثقافي. ولنا أن نستذكر أن ما نحن في صدده هو مخاطر تاريخية، بحسب التوصيف الدقيق لمحمود درويش. وهي تستحق أن نعبرها بقلب واثق وعقل يقظ، فئن غابت صورة فلسطين الكبرى، فإن واقع "إسرائيل الكبرى" يوشك بدوره أن ينكسر. وأن يولد الجنين ضعيفاً معتلاً خير من أن يقيم في بطن أمه إلى ما لا نهاية. وقد رأينا كيف أن المخاض العسير خارج الرحم (خارج الأرض) كاد يودي بالأم والجنين معاً. وإذ شهد عصرنا ويشهد اختفاء دول وكيانات كالاتحاد السوفياتي وألمانيا الديمقراطية (الشرقية) وهونغ – كونغ، فلنا أن نأمل ببعض الخير في ولادة أول كيان فلسطيني على أرض الوطن، من دون أن نغفل عن المصاعب والمخاطر، ومنها ما هو ماثل على المستوى الفكري والثقافي، وبناء الشخصية الوطنية. إذ إن الصراع سيستمر في أوضاع أقل سوءاً، وأكثر مواتاة، إذ سينتقل إلى بيئته الطبيعية ومجاله الموضوعي. على أرض الوطن. 

فخري صالح: سقطت مسلّمات... والتطبيع في حقل غير الثقافة 

لا أستطيع أن أقول إن لديّ تصوراً واضحاً لانعكاسات هذا التحول التاريخي في خريطة الصراع في المنطقة، على البعد الثقافي الحضاري؛ في الثقافتين العربية والغربية – اليهودية، لكن لا شك في أن هناك مسلّمات أساسية سقطت، وتلاشت الأسباب المادية وحتى الثقافية لوجودها، وهذه المسلّمات التي كانت تشكل مكوّناً أساسياً من مكونات ثقافتنا المعاصرة، أصبحت بحاجة إلى إعادة النظر والتفحص لمعرفة كيف يواجه المثقف العربي المرحلة الراهنة بتصور جديد لدوره ضمن خريطة التحولات النوعية، على الصعيدين العالمي والإقليمي. أنت تعرف أن للكلمات قوة دافعة تاريخية، حتى أنها لتشكل حدود الاقتناع والتصورات، بل لتتحول أحياناً إلى قوى فاعلة على صعيد تاريخ الصراعات البشرية على الأرض، والموارد، وأشكال الهيمنة. ولعل الكلمات التي كنا نستعملها صيغاً مفتاحية للتعبير عن صراعنا مع الصهيونية قد فقدت بريقها خلال العقد الماضي، وأصبح بعضها يثير شبح الابتسامات وربما السخرية أحياناً، لأن ما كان يوماً من الأيام يغذي هذه الصيغ المفتاحية، قد مر الواقع عليه وحوّله إلى هباء.

انطلاقاً من هذا التصوّر أعتقد أن المثقف العربي بحاجة إلى لغة جديدة للتعبير عن واقع الصراع الذي يظنه البعض ثقافياً حضارياً في المرحلة المقبلة، مع أن المواجهة الحضارية بين العرب و"إسرائيل" تجري على جبهة أُخرى هي جبهة الصدام الحضاري مع الغرب، إذ ليست "إسرائيل" سوى قطعة من الغرب وثقافته. وهي، باستثناء تلك الثقافة المتصلبة التي يتبناها المتدينون اليهود، تتبنى علمانية الغرب وصيغه الديمقراطية ورؤى التعددية السائدة فيه.

إذاً، وإذا كان التخوف نابعاً مماً قد يحدث من تقارب بين العالم العربي و"إسرائيل" فإن المثقفين اليهود غير قادرين على التأثير في بيئاتنا الثقافية، لأنهم لا يملكون شيئاً لا يملكه الغرب ثقافياً، وهم مجرد أصداء له. والمثقفون اليهود المؤثرون في العالم موجودون في الغرب، لا في "إسرائيل"، ونحن نقرأ نتاجاتهم ونترجم بعضها من دون أن نشعر بأية علاقة صراعية مع نصوصهم. وسأضرب أمثلة لذلك من فرويد، وكلودليفي – شتراوس، وجاك ديريدا، وهارولد بلوم، وجيفري هارتمان، وفي الفلسفة والنقد الأدبي والأنثروبولوجيا، فنحن نقرأ هؤلاء جميعاً من دون أن يلفت انتباهنا أنهم يهود، ونتعامل معهم كجزء أساسي من تطور الفكر الغربي، حتى لو كان بعضهم يهودياً يمينياً ومتشدداً يعد نفسه أقرب إلى حزب حيروت (مثل هارولد بلوم).

في رأيي إن التحول يكمن في حقل التطبيع النفسي، أي تقبُّل الآخر اليهودي جزءاً من كيان المنطقة ومن تشكيلتها الديموغرافية، ولربما الحضارية في مرحلة لاحقة. وأنت تجد هذا التحول البطيء جداً، لا على صعيد رجل السياسة فقط، بل على صعيد رجل الشارع أيضاً. وهناك قوى ضاغطة، تاريخية وجيوسياسية، نابعة من إعادة ترتيب البيت العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية وهزيمة العراق، كلها دفعت إلى هذا التحول في تقبُّل "إسرائيل" وجوداً قهرياً لا سبيل إلى مدافعته في المرحلة التاريخية الراهنة على الأقل. ولا أظن أن المثقف بأقنيته الفاعلة القليلة أو المعدومة، يستطيع أن يقف في وجه ما تحفره حقائق السياسة والاقتصاد وتخطه على جسد المنطقة. إن التطبيع النفسي الذي قد يحدث ستقره أجهزة التعليم لا أجهزة الثقافة، لأن المثقف يتفلت غالباً من قيود السياسي والأيديولوجي. ولهذا السبب قد يتأخر كثيراً حدوث تطبيع ثقافي بين الثقافة العربية والمثقفين "الإسرائيليين" ولا أقول الثقافة "الإسرائيلية" لأنها ليست جسماً متماسكاً موجوداً في مقابل الثقافة العربية. ولا يزال المثال المصري، على الرغم من اختلاف المرحلة، في الذهن، حيث بقي بعض المثقفين المصريين، الذين حاولوا مدَّ خيوط التطبيع الثقافي مع "إسرائيل"، معزولين عن التيار الدافق العام في الثقافة المصرية.

لا أعتقد – إذاً – أن الخوف يكمن في التطبيع الثقافي، فالمشكلة أساساً اقتصادية وسياسية. وأورد هنا مثلاً من الحاضر: لقد قاوم المثقفون الفلسطينيون في "إسرائيل" طوال ما يزيد عن أربعة عقود من الزمن، ولم يصبحوا جزءاً من الثقافة في "إسرائيل". وطلع من بينهم روائيون وشعراء وقصاصون، كانوا جذراً أساسياً لما سمي في حينه ثقافة المقاومة الفلسطينية. وعندما سئل سميح القاسم في التلفزة "الإسرائيلية"، يوم توقيع الاتفاق، عن ردة فعله قال إنه مع الاتفاق ضمن الأوضاع الدولية الراهنة. لكنه، وكأي فلسطيني، لا يستطيع أن يدفن حلمه التاريخي بدولة فلسطينية على كامل التراب الفلسطيني. وهذا يعني أن المثقف غير ملزم في إبداعه بما تجيء به الحلول السياسية التي تفرضها أوضاع تاريخية قاهرة. ولهذا السبب فإن على المثقف الفلسطيني والمثقف العربي أن يلزما نفسيهما بمحاربة المشروع الصهيوني مهما يحدث من تطبيع اقتصادي وسياسي ونفسي. 

الشاعر محمد القيسي: الاتفاق كفضاء لبواشق مسؤولة 

إذا جاز لي أن أقرأ الاتفاق، مركّزاً على النقاط الأكثر حداثة والمتصلة أساساً بوجودنا كشعب فلسطيني، فسأرى أولاً إلى ما يضمن هذا الوجود ويؤكده، بعد تاريخ طويل من النفي، ومحاولات الإلغاء، بل إن الطرف النافي، وهو إسرائيل، يتعامل مع هذا الوجود أمام العالم، ويعترف به أول مرة. كما سأرى في الاتفاق أيضاً تقويضاً تاماً لفكرة إسرائيل التوراتية، كأسطورة تراثية سلفية، وأسمع دويّ سقوط المقولات والنظريات والبرامج التي شكلّت ثوابت أساسية لدى الأحزاب، والحركات، والجماعات والتيارات الإسرائيلية، منذ قيام الدولة، من سياسية وثقافية، مثل عريضة المثقفين الإسرائيليين الأولى سنة 1970، لإقامة إسرائيل الكبرى، الرافضة لأي تنازل أو انسحاب من الأرض المحتلة، أو مقولات حركة غوش إيمونيم وحركة كاخ، هذه الحركات التي ترى إلى الاحتلال مبدأ وطنياً صهيونياً، إضافة إلى شعاراتها الداعية إلى الحفاظ على الطابع اليهودي للدولة، والمتضمنة طرد العرب من البلد، والدعوة علناً إلى إبادة الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، عبر حروب متتابعة، وانتهاج سياسة عنيفة قاصمة.

أرى ذلك وغيره، لكني في مقابل ذلك لا أغمض عيني عن حجم التنازلات الفلسطينية، وهذه هي المفاوضات. إنها الحياة الممكنة التي توفر لنا انتزاعها عبر نضالاتنا الطويلة، لأننا آثرنا ألاّ نذوب، وألاّ نضيع من جديد، في شتات مختلف هذه المرة، وهو شتات المحو، في ظل انهيار الركائز العربية، والإفضاء الموحش إلى خلاء عربي، طافح بالنكسات والغياب.

لقد ولدت قبل هزيمة سنة 1948، قريباً من مدينة يافا المحتلة، في قرية هي كفر عانة، لم أنسها حتى الآن، فقد طُردت منها طفلاً. نشأت ووعيت في المخيم، وطفت أراضي عربية كثيرة؛ انتميت شاعراً ووجوداً إلى روح المقاومة في الحياة، انتشيت، وحزنت، وانطوت الروح في كهفها، لكني لم أمتْ، بدليل أني أتهيأ للعودة إلى مخيم الجلزون، مدركاً أن الطريق إليه تمرّ من أريحا والقدس حتماً، وصولاً إلى رام الله، فبيتي، غير مدفوع بنظريات سياسية، إنما مسكوناً بالبيت، الذي يأخذ عندي مرتبة القداسة، وأُوضح أن هذه المرتبة ليست نتاجاً لحياة الشتات والمنفى، أو أنها ابنة الحنين فقط – مع أني لا أقلّل الأثر الباهظ والتدميري لحياة المنفى – وإنما لأنها هي كذلك، والبيت هو الوطن. غير معنيّ بالصراخ الذي ينطلق ورائي، أذهب، أو ملتفت إلى أية دعوة من شأنها أن تعطّل هذه الدعوة، فلدي ناس هناك، وأهل، لدي أرض تنتظر أن أجوسها وأشم ترابها، لأرى أين تذهب بي، كابن طال غيابه، وإنها لساعة الامتحان، والمحك الحقيقي لنا، وللكلمة والفكرة، والجسد. إن البيت لا يعني الإقامة فقط، إنما الوجود الذي يوفر لي حالة الحضور المادي المقبل بوعي، على تشابك مع الآخر، وخضّه ليراني ويعرفني، فلا تعود شاعرة مثل أنانجرينو تكتب:

قالت لي أمي بأني

ابنة شعب غنيّ بالأسفار

والأغيار جهلة...

إن علينا أنت نتحرك، متفهمين طبيعة الجوار الجديد المتوزع بين مساحتين إسرائيليتين، بين من ينادي بما هو أبعد من الحدود التاريخية لأرض إسرائيل، وبين من يقول إن إسرائيل دولة عنصرية امبريالية، وبين المساحتين ألوان كثيرة، نتحرك كما لو أن ذلك هو قدر طريقنا التي نمشي. إن فرس الرهان هو نحن، بقدر ما ننجح في امتلاك ذاتنا وقولنا. نعم، أتهيأ، لأعيش بين شعبنا، كمواطن وكشاعر يحس بضخامة المسؤولية الملقاة عليه، ضمن هذه الأوضاع الجديدة، مستعيداً تجربة الكاتب الروائي المسرحي الجزائري كاتب ياسين، الذي عاد إلى وطنه نابذاً الكتابة باللغة الفرنسية، التي قال إنها منفاه، وأسس مسرحه الجزائري باللغة المحكية، طائفاً بفكرته وفرقته أنحاء الوطن، موظفاً إبداعه ووعيه لخدمة شعبه الذي يحتاج إليه. وأرى أن على كل مبدع ومثقف فلسطيني واجب تمثّل هذه التجربة، وكذا المبدع العربي، لأن شعبنا بأمس الحاجة إلى مبدعيه ومثقفيه من فلسطينيين وعرب، فهو الذي يواجه الآن تحدياً عميقاً يفوق مجمل التحديات السابقة، لإقرار وجوده وحقه المصيري والإنساني والثقافي وإقامة دولته الحلم.

إن مسؤولية البناء مسؤولية الجميع، مسؤولية المثقف كما هي مسؤولية السياسي، ولا ينبغي أن يغيب عن بال أحد حجم العقبات والمعوّقات التي ستواجهنا في هذه التجربة، أو محاولات إفشالها من لدن الجهات التي تتعارض مصالحها مع مصلحة شعبنا، وليس ببعيد أن تقوم إسرائيل نفسها بهذه الأدوار كلها. من هنا، فإن وعينا، ووحدتنا الوطنية التي أرجو أن تتأسس على وضوح كامل من الأفكار والرؤى المنسجمة مع طموحات شعبنا وقواه السياسية والفكرية، وإشاعة روح الديمقراطية الحقة على أرض الواقع، إن ذلك كله هو درعنا المكين، والسلاح الذي نهزم به كل محاولة شيطانية.

إن ثقتي وإيماني بثقافة هذا الشعب ووعيه يجعلاني أقرب إلى الاطمئنان إلى أن الأصابع كلها ستشكل القبضة الواحدة، وأن عهداً جديداً ينبثق، عنوانه حرية الموقف والقول للجميع، بما يفوّت على أعداء هذا الشعب رؤيته مفتَّتاً في معارك جانبية. والحقيقة أن لا وقت لدينا لنضيّعه، ويُخيل لي أن أحد المعاني المهمة لهذا الاتفاق هو النافذة، أو الفضاء الممكن لبواشق مسؤولة، فعلينا إذاً بالأجنحة. 

فاروق وادي: تشاؤم العقل.. وتفاؤل الإرادة 

كتب القاص والروائي فاروق وادي:

يقتضيني الصدق أن أعترف بأنني ما زلت حتى الآن موزعاً بين تشاؤم العقل وتفاؤل الإرداة!

لا أجد في هذه اللحظة الراهنة مدعاة إلى الفرح الغبي، فالكثير مما أراه وأقرأه يثير فيّ المخاوف والهواجس والأسئلة. لكنني في الوقت نفسه، لا أجد مدعاة إلى التأسي والبكاء في ساحات الندب والمراثي التي تقصينا عن حقيقة الفعل، فكأننا عدنا بلا ماض ولا مستقبل. ولا وقت لنا الآن لبعض الأمنيات، وإن كانت تلح عليّ أمنية فاتها قطار الوقت وغافلها الزمن، وهي ألا نكون – نحن الفلسطينيين – أول الموقعين، وأول من يفتح بوابات الأمة على الاعتراف، لنعطي "الآخرين" صكوك الغفران على ما تقدم من ذنوبهم وما سيتأخر! لكن ما حدث الآن قد حدث، برضانا أو على الرغم منا، فدعونا نتجاوز التعبيرات المبتذلة التي تصوّر الأمر أنه "انتصار تاريخي"! أو أنه في المقابل "خيانة عظمى"!

أعتقد أنه ليس في الأمر أي انتصار، وليس في الأمر أية خيانة. فكل ما هنالك – في اعتقادي – "رهان" قدّم فيه السياسي الفلسطيني، الأعزل والمحاصر، الكثير من التنازلات، وأقرّ، مرغماً ومختنقاً، بالظلم التاريخي الذي حلَّ به. وكل ذلك في مقابل قليل آني، ورهان على شعب ومستقبل. وما دام أن الظلم (في حقي) ما زال واقعاً، فإن الصراع لا يمكن أن ينتهي على الرغم من التوقيع والاعتراف، وإنْ كان هذا الصراع سيتخذ أشكالاً أُخرى سيبتعد عنها – بالتأكيد، وإلى زمن قد يطول – الحسم العسكري.

وارى أن مسألتين سيتركز فيهما الصراع مستقبلاً، هما: الاقتصاد والثقافة، من دون أن ينتفي الجانب السياسي بالتأكيد، وإن كنت لا أراهن – الآن – كثيراً على الصراع الاقتصادي، في ظل اختلال ميزان القوة الاقتصادية الفلسطينية – الإسرائيلية لمصلحة إسرائيل، وفي ظل غياب أمة موحدة سياسياً واقتصادياً، مع أنها تمتلك في الأساس من المقومات الاقتصادية ما كان يمكن أن يجعل منها قوة لا يستهان بها، فإن الرهان المتبقي هو الرهان الثقافي. فمهمة المثقف العربي في المرحلة المقبلة تبدو لي صعبة، وتزداد الصعوبة وتتضاعف إذا كان مثقفاً فلسطينياً، كونه ينتمي إلى بؤرة مشتعلة، عليه ألاّ يغفل لحظة ليحافظ على وهج جمرتها، وكون الظلم ما زال حاضراً على الرغم من التوقيع والاعتراف اللذين قد أفهم – أحياناً – (وكسياسي) ظروفهما الصعبة وملابساتهما الفلسطينية والعربية والدولية، من دون أن يلزمني بمحتواه (كمثقف) وأعجز مطلقاً عن الترويج له (كمبدع). وأتساءل: هل كان القائد العسكري الفرنسي كليمنصو يمزح عندما قال إن الحرب مسألة أكثر جدية من أن نتركها للعسكريين. وأنا لا أفرح عندما أقول إن السلام مسألة أكثر جدية من أن نتركه للسياسيين (فقط). فنحن – المثقفين – لنا دور، سواء كان يتلاءم مع رغباتنا أو لا. فمن منا ضد مبدأ السلام؟ لكن أي سلام ننشد؟ إننا ننشد سلام الحرية والحق والعدل؛ السلام الذي نطلقه من عاصمة الروح، فهل تحقق هذا؟

الإجابة بالتأكيد: لا، طويلة وممتدة وصارخة. غير أن أصدقائي ورفاقي السياسيين الذين حملوا أقلامهم ونزفوا عرقهم قبل أن يوقعوا، كي يوقعوا، ما كان أمامهم إلا الاتكاء على عليّ بن أبي طالب الذي قال: "آه من قلة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق؟"!

ثم بعد ذلك، ها نحن نطرح على أنفسنا – كمثقفين – السؤال الصعب المنوط بنا في المرحلة المقبلة. وإنْ كنت أعتذر آنياً عن التطرق لدور المثقف العربي، لأنني ببساطة لا أحمل مشروعاً لجبهة ثقافية عربية مناهضة للمشروع النقيض، إذ إنه في اعتقادي مشروع جماعي، فإنني سأركز على ما أراه من ثوابت ثقافية أعتقد أن على المثقف الفلسطيني التزامها مهما يكن موقفه السياسي، مع التأكيد مسبقاً خشيتي من التبعية الاقتصادية تعادلها ثقة مطلقة بأننا ما زلنا محصنين، بتراثنا الثقافي، من التبعية والذوبان في ثقافة الآخر، إنْ نحن أحسنّا استخدام الثقافة أداة من أدوات الصراع الاستراتيجية، ولعل من أبرز عناوين هذه الثوابت: لا تراجع عن الحلم، لأن أحلام المبدع لا تحدها موازين القوى، ولا توقظها الحقائق السياسية. ففلسطين في الذاكرة والحلم هي فلسطين التي نعرفها بمداها المطل على البحر، وهي المكان والزمان معاً.. ولا تنازل، مهما يكن الموقف السياسي – ومهما يكن شكل الكيان الآتي ومحتواه – عن شرط الحرية والإبداع، وعن شرط الحرية في الإبداع. ولنظل حراساً للنبع الذي تستقي الروح منه، وليكن تراثنا الثقافي، الذي راكمناه على مدى عقود من المواجهة اليومية، جدارنا الذي نتكىء عليه، فهو جزء من تجربتنا، ويجب أن يحتل موقعه في المناهج الدراسية لأولادنا، وفي حياتنا الثقافية. ولنفتح عيوننا أكثر على ثقافة الآخر – النقيض، فالتواقيع لا تلغي قوانين الصراع، والآخر ما زال نقيضاً، وثقافته لا تزال شوفينية عنصرية، على الرغم من القرارات المتناقضة أو المتراجعة للهيئة الدولية!

وفي هذه اللحظة التي يقف المثقف الفلسطيني العضوي مشتتاً على مفترق الطرق، وأياً تكن الطريق السياسية التي سيسلكها، فإن عليه مهمة طويلة وشاقة تختزلها كلمة "الإبداع". وليكن هاجسه الأساسي البحث عن "دور" في العملية التاريخية، لا عن "موقع"، من خلاله ينفِّذ أو يتنفَّذ!  وليوحِّد – ما استطاع – بين تشاؤم العقل و.. تفاؤل الإرادة! 

عمر شبانه: الثورة أو.. الطوفان 

ربما كان بديهياً الاعتقاد – الآن – أن "الاعتراف" و"الاتفاق" لن يكونا، بالنسبة إلى من اعترف ووقّع وإلى من يروج ومن يوافق عليهما، آخر التنازلات. كما أنهما لن يكونا، بالنسبة إلى الرافض نهاية التاريخ والحاجز الذي سيوقف الصراع. فلا يزال الاتفاق حبراً على ورق، وليس ترويجه بهذه "الزفَّة" الإعلامية العالمية دليل نجاحه، بل دليل حاجته إلى كل هذه الزفة ليمرّ ويبدأ مشواره. ولعل الذي يرون فيه الآن بداية "طيبة" يكتشفون – عند تنفيذه، إذا قيّض له أن ينفذ على الأرض – كم كانوا واهمين! فقد انخدع قبلهم نفر من المثقفين والناس العاديين في مصر باتفاق كامب ديفيد وانتظروا أن تنزل عليهم الثروات وأن يرتاحوا من الحروب، فماذا جرى؟ لقد ازداد بؤس البؤساء، وتكاثرت القطط السمان، وبدلاً من الحرب مع إسرائيل ها هي الحروب الداخلية.. إلخ. ألا يعتقد البعض أن كل هذه التطورات جاءت بعد كامب ديفيد والانفتاح؟ وإذا كانت دولة في حجم مصر وتاريخها وعمقها الثقافي.. قد ناخت تحت أعباء "الصلح" وتبعاته، فما الذي ننتظره من "دويلة" هي شريط حدودي في حماية العدو الصهيوني؟ وعلى الذين ينتظرون هبوط المليارات من الدولارات أن يفيقوا من أحلامهم – كوابيسهم وينظروا إلى أعظم دولة تنهار وتتفتت تحت الضربات الأميركية والوعود الكاذبة بالمليارات.

أما الذين يعتقدون أن إنهاء الصراع العسكري ودخول مرحلة الصراع الثقافي مع العدو سيكونان في مصلحتنا، فعليهم أن يروا أن الصراع الثقافي ليس مبارزة شعرية بين المتنبي أو محمود درويش من جهة، وبين شاعر يهودي صهيوني من جهة أُخرى، كما أنه ليس صراعاً في اللغة والمفاهيم والمصطلحات والنظريات. إنه – بالأحرى – هجوم ثقافة غربية استهلاكية محمولة على إمكانات تكنولوجية لا سبيل إلى مجابهتها بالجسم الثقافي العربي المهشم بالقمع والتخلف وألوان السلفية. ولعل الذين يقولون بإمكان انفصام المثقف والمبدع بين إبداعه وموقفه السياسي ينسون أن الإبداع لا يقاوم وحده. فما الذي يفعله الشاعر مثلاً حين يكتب قصيدة رافضة ثم يدخل سوق السياسة ليروّج ما رفضه؟ وقبل ذلك، كيف يستطيع مثقف أن يكون تابعاً للسياسي ومروّجاً لقراراته أو مبرراً لها، في حين أن المثقف – كما أفهمه – هو دور نقدي رافض لكل ما يجري في الواقع سعياً لتغييره؟

ولا أدري كيف نكون "حراس الحلم" إذا كنا نوافق – مجرد موافقة، عدا الترويج على "اتفاق" أول ما يفعله هو تهشيم الحلم. فحراسة الحلم تتطلب ابتداء مقاومة أي فعل من شأنه تكسير هذا الحلم.

إنني على الرغم من محاولاتي كلها، لم أجد مبرراً واحداً يجعلني أقف مع "الاتفاق". بل وجدت – على العكس – جميع المبررات الكافية لرفضه والدعوة إلى ضرورة مواجهة ومقاومة آثاره السلبية المدمرة، من البداية، وقبل أن يجف حبر التوقيع. كيف، ولماذا؟ ببساطة، لأنني لا اريد أن أتعلق بوهم جديد من الأوهام التي تفرض علينا. ولأنني لا أقبل أن يتم تعليقي في الفراغ بعد تجريدي من أهم قناعاتي ومكوّنات وعيي، ولأنني أرفض أن أشطب محتويات ذاكرتي وأن ألغي تاريخي،.. أرفض أن أستسلم لما يملى عليَّ من أدوات النظام العالمي الذي يريد لي الذوبان في بوتقته! وسأرفض حتى لو (!) أعادوا فلسطين كلها بهذه الطريقة! لأنني لا اريد أن أجنَّ. ولأنني لا أريد "وطناً" يبنيه "الآخر – العدو" على المقاس الذي يراه ملائماً لطولي وعرضي ولون عيني وبشرتي.. ما دام من حقي – بحسب كل الشرائع – أن يكون لي وطن وطن. وطن أبنيه وأرفع كل لبنة فيه، في جدرانه وسقفه.. سقفه العالي، وحجراته الشاسعة. وماذا سأفعل؟ بسيطة. هم يقولون إن معركة "السلام" أصعب كثيراً من معركة "الحرب". أنا أريد الأسهل. لا أريد "سلامهم"، وأبشرهم بأن من لم يأخذ حقه كاملاً لا ترهبه قوات القمع المقبلة، كما لم ترهبه من قبل – وحتى الآن – قوات الاحتلال الهمجية.

وهنا يبز دور "حراس الحلم" في خلق مصطلحات جديدة، لكن للمقاومة لا للمساومة أو للتعايش. فعلى المبدع أن يبدع الآن لغة تجدد العنف ضد العدو، لا لغة تلائم مهرجانات "السلام".

ومن المؤسف أن نتحدث عن الجزء الخانع من الواقع ولا نرى وجهه الآخر، على الرغم من أن الشهداء لم يتوقفوا عن تفجير أرواحهم ليستفزوا أرواحنا. إننا نتحدث عن جزء من الواقع بوصفه مبرراً للاستسلام، فلماذا لا نتحدث عن الجزء الآخر بوصفه أداة تغيير. وأكثر من ذلك أننا بتنا الآن، وقبل أن يأخذ من سيأخذون أي شيء، بتنا – نحن المثقفين نتحدث بلغة عبرية فصحى، مطالبين بإسكات الأصوات الرافضة وتأديب المشاغبين واعتقال الشهداء، تمهيداً لمرور موكب "السلطة" الآتية!

الشهداء وحدهم – في اعتقادي – هم حراس الحلم الحقيقيون، وربما مشاريع الشهداء – أي المؤجَّلون – أيضاً. أما نحن فنزوِّر الحلم، نزيّفه، نصغِّره، نعيد تفعيله بالحجم المطلوب، ونزوّقه بمكياجات العالم الجديد الذي يتغير كله بحسب الطلب. وعلى الرغم من محاولاتي كلها أيضاً، لم أستطع التخلص من إلحاح بيت شعر محمود درويش: "يا أحمد العربي قاوم"، وأبياته "ما أوسع الثورة/ ما أضيق الرحلة/ ما أكبر الفكرة/ ما أصغر الدولة".

نعم، إن الرحلة قصيرة جداً، وثمن الحرية أطول كثيراً. والذين يزعمون أن الشعب قد تعب، نتركهم للشعب يرد عليهم بتضحياته، ليفهموا أنهم هم الذين تعبوا. فالناس لا يقبلون "شقفة" من الحرية، ومسمومة أيضاً، وعواقبها عبودية أعمق وأشمل.

لكن، لا بأس، إن كان الصهاينة قادمين إلى الوطنب العربي، فثمة إذاً أمل بأن يغدو الصراع العربي – الصهيوني حقيقة على الأرض، لا شعاراً مرفوعاً للمزايدة والمتاجرة. فإما نهوض عربي شامل، وإما سيادة للمشروع الصهيوني – الاستعماري ذي المخالب الناعمة – لكن المسمومة – السامة. متشائم؟ ربما. ومتفائل أيضاً. لكنني لست واهماً ولا مضلَّلاً؛ فصراعات التاريخ على الوجود لا تنهيها اتفاقات على هذه الشاكلة. وصراعنا مع الصهيونية، لا مع اليهود، صراع وجود، لا صراع على "شقفة أرض".

 

Author biography: 

عمر شبانه: شاعر وكاتب.