تسير المفاوضات الراهنة قدماً من أجل تسوية موقتة بين إسرائيل والفلسطينيين. وقد أصبح الأردن طرفاً أساسياً ثالثاً في هذه العملية. وإذ يتقدم الثلاثة في مداولاتهم، فمن المؤكد أن المسائل الأمنية، مع ارتباطها الوثيق بالمشكلة الإقليمية، ستصبح أكثر بروزاً.
يعرض هذا المقال إطاراً للجوانب الأمنية لتسوية فلسطينية، ويقترح أبعاداً وخطوطاً عريضة لنظام أمني إسرائيلي ـ فلسطيني ـ أردني، وهو عنصر أساسي لمجمل عملية السلام العربي ـ الإسرائيلي. ويحدّد هذا المقال، بشكل خاص، نظاماً أمنياً للمنطقة المحورية في الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني: إسرائيل والضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية بقدر اندماجها في التسوية السياسية، والأردن. وينطلق المقال من الافتراض أن ترتيبات الأمن وُضعت كجزء من عملية السلام السياسية، وأنها مندمجة في طيف عريض من تدابير بناء الثقة التي تعزّز الأمن من جميع الجوانب وفي الوقت نفسه، فإن هذا الإطار ليس ذا مغزى سياسي. لقد قُصد منه أن يكون قابلاً للتطبيق مع ترتيبات سياسية موقتة كالإدارة الذاتية؛ وأن يؤدي إلى مجموعة مختلفة من التسويات النهائية الممكنة، مثل استقلال فلسطيني، وأشكال من "كوندومنيوم" وفدرالية وكونفدرالية.
يبدأ هذا المقال بتحديد تصور ثلاثة أطراف رئيسية للتهديد الذي تتعرض له. وهذه الأطراف هي إسرائيل والفلسطينيون والأردن. وبعد تقويم المكوّنات والصفات المطلوبة من نظام أمني يمكن أن يتناول هذه المفاهيم، يحدّد المقال، بعبارات جغرافية ووظيفية، متطلبات الأمن الملائمة من وجهة نظر كل طرف منها. ويقترح مقاربات مبتكرة لمجالين أمنيين أساسيين: إضفاء صفة رسمية على دور الأردن الناشئ حديثاً كعمق استراتيجي لإسرائيل شرقاً، وبالتالي تخفيف الضغوط الأمنية على الضفة الغربية؛ وتخطيط الترتيبات الانتقالية للأمن الداخلي في الضفة الغربية وقطاع غزة.(1)
تصورات التهديد
لكي يكون نظام أمني ما لتسوية الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني ناجحاً، يجب أن يتوجّه إلى الأخطار التي يتعرض لها كل من الفرقاء المشاركين. ويبدو، للأسف، أن التمييز بين تصورات التهديد لمختلف الفرقاء وبين حقيقة الحالة الموضوعية صعب جداً.
من المسلّم به عموماً، أن الخوف الإسرائيلي من الإرهاب عبر الحدود، مثلاً، يشكّل حجة رئيسية في رفض الانسحاب من الضفة الغربية وغزة. ومع ذلك فإن إرهاباً من هذا النوع لا يشكل تهديداً لوجود إسرائيل. فقد لاحظ زئيف شيف، بالفعل، أن إسرائيل خسرت في الحروب أناساً أكثر 15 مرّة مما خسرته في هجمات إرهابية: "المشكلة أن الإرهاب لا يمكن أن يحلّ بوسائل عسكرية تقليدية. ولذلك يضرب على الوتر الحسّاس للإسرائيليين".(2) أما المخاوف على الجبهتين الفلسطينية والأردنية من أن هجرة اليهود السوفيات إلى إسرائيل ستسبب اضطرابات سكّانية كبرى، فإنها تبدو، لعدد كبير من الإسرائيليين، تضخيماً لتأثير اليمين المتطرف في السياسة الإسرائيلية.
تستشعر هذه المجموعات الثلاث ـ الإسرائيليون والفلسطينيون والأردنيون ـ تهديدات لوجودها. فالإسرائيليون يعتقدون أن الكثير من العرب يرفض وجود إسرائيل المادي؛ وهذا ما تمثّل في الاستعدادات العسكرية (التي قام بها مثلاً صدّام حسين في الفترة الأخيرة)، وفي إحجام الرافضين الفلسطينيين عن تأييد وجود إسرائيل حتى ضمن حدود 1948، وفي الإشارات الغامضة إلى الحق الفلسطيني في العودة إلى إسرائيل ما قبل 1967.
وعلى مستوى أكثر تجريداً، فإن حوادث الاعتداء العسكري والعنف الإرهابي ضد الإسرائيليين واليهود تشحذ ذكريات "الهولوكوست" والمحاولات المبكرة (خلال 3000 سنة من التاريخ اليهودي) لإبادة الشعب اليهودي.
إذا كان الإسرائيليون يستشعرون تهديداً وجودياً لحياتهم كشعب وأفراد، فإن الفلسطينيين يشعرون حيال إسرائيل، وبدرجة أقل حيال الدول العربية أيضاً، بأن ثمة موقفاً لإنكار حقهم في الوجود كشعب يحق له التمتع بالسيادة بشكل عام، وإنكار حقهم التاريخي بأرضهم الأم بشكل خاص. ويشعر الفلسطينيون في الأراضي المحتلة، على صعيد فردي، بأنهم مهددون جسدياً ومُهَانون غالباً. ويخشى الفلسطينيون، في إطار تطلعهم إلى كيان سياسي ما في المستقبل، من أعمال توسعية (Irredentist) شبه عسكرية وإرهابية يقوم بها متطرفون إسرائيليون.
وتلاحظ المملكة الأردنية [....] أن الكثيرين في المنطقة ينظرون إليها ككيان مصطنع. وترى نفسها مهدّدة ككيان من متحمّسين في إسرائيل يعتبرون أن "الأردن هو فلسطين" [....].
[.......]
وعلى الرغم من أن دولاً شرق أوسطية أخرى (لبنان والكويت مثلاً) تشعر بتهديدات لوجودها، فإن الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني فريد في نوعه، لأن الفرقاء الثلاثة الرئيسيين يشتركون في مثل هذه المشاعر.
ويتضح أن الترتيبات الأمنية لمعالجة هذا المأزق محدودة، ويتطلب حله تضافراً بين الإرادة الطيّبة والوقت والاستقرار السياسي، وهي عوامل تبدو حاسمة بدرجات متساوية على الأقل. أما في حالة المملكة الهاشمية، فإن الترتيبات الأمنية لا يمكن أن تضمن استقرار النظام.
ما هي الأخطار التي يجب أن تسعى لتحييدها ترتيبات أمنية إسرائيلية ـ فلسطينية إذن؟ يبدو أن الهدف، من وجهة نظر إسرائيلية، هو الوصول إلى وضع مماثل للذي أنتجته تسوية السلام الإسرائيلي ـ المصري: هناك تعزز أمن الجانبين نتيجة لانسحاب إقليمي وترتيبات سلمية وأمنية وأن أي انتهاك للنظام الأمني في سيناء من أي جانب سيعطي الفريق الآخر أفضلية ديبلوماسية لمطلبه في تصحيحه، كما سيعطيه وقتاً كافياً لإنذار عسكري مبكر. هذا الرادع القوي هو الذي يجعل النظام الأمني المصري ـ الإسرائيلي جذّاباً للجانبين. وستبدو البنود التي لا تستجيب لهذه المتطلبات في مواجهة الفلسطينيين كأنها تعويض مشكوك في قيمته عن انسحاب جغرافي. لذلك فإن الترتيبات الأمنية، من وجهة النظر الإسرائيلية، يجب أن تقوم بأشياء كثيرة في إطار تسوية فلسطينية:
أولاً: يجب أن تزيل التهديد بأي هجوم عسكري من أية أراض تتخلى عنها إسرائيل في الضفة الغربية وغزة.
ثانياً: يجب أن تعزز [الترتيبات] ردع أي هجوم من الشرق، أو أن تؤمِّن إنذاراً مبكراً، وأن تعزز كذلك قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها ضد مثل هذا الهجوم.
ثالثاً: يجب أن تقلل تهديد الإرهاب ضد الإسرائيليين، وكذلك ضد اليهود المقيمين في الكيان الفلسطيني، أو في الشتات.
وهكذا فإن الترتيبات الأمنية يجب أن تساهم أيضاً في خفض كلي لإمكانية قيام حرب عربية - إسرائيلية، وفي تعزيز قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها إذا نشبت حرب كهذه.
سيريد الفلسطينيون ترتيبات أمنية وتسوية سياسية لتأمين نوع من الحقوق السياسية المستقلة، وخصوصاً نوع من الأمن القومي داخل فلسطين. وهذا يعني أمن الأفراد ضد الإرهاب والاستعمال التعسفي للقوة، وكذلك ضمانات بعدم التدخل في حياتهم الوطنية. ويجب أن يتمكن الفلسطينيون من أن يثقوا بأن أية قوات خارجية، إسرائيلية كانت أو عربية، لن تعيد احتلال بلدهم.
أما المملكة الهاشمية، فلكي تدخل نظاماً أمنياً يشتمل على حل فلسطيني، فإنها سترغب، افتراضاً، في الحصول على تأكيدات تتعلق بوحدتها الإقليمية ومناعتها إزاء جيرانها جميعهم: إسرائيل والفلسطينيون وكذلك سوريا والعراق والعربية السعودية. إنها تتوقع، بشكل خاص، أن تطوّر أمنها بوجه محاولات ـ فلسطينية أو إسرائيلية ـ لتأسيس نظام فلسطيني في عمّان، وبوجه هجرة الفلسطينيين غير المنضبطة إلى أراضيها نتيجة لتطورات سياسية معينة (حدد مسؤولون هاشميون ذلك بتعبير 'الأمن الديموغرافي').
كامب ديفيد
اعتباراً من خريف 1992، كان إطار كامب ديفيد للسلام في الشرق الأوسط، الذي وقعته في 17 أيلول/سبتمبر 1978 إسرائيل ومصر والولايات المتحدة، هو الإطار الرسمي الوحيد المتوافر لتطوير ترتيبات موقتة لتسوية فلسطينية. وقد تبنّته الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بما فيها تلك التي تمثل اليمين السياسي المعتدل، كنقطة انطلاق مقبولة. ومع ذلك فإن الفلسطينيين والأردن لم يتبنوا هذا الاتفاق، وذلك لأن صانعي اتفاق كامب ديفيد لم يستشيروهم، وكذلك لم يشاركوا في محادثات الإدارة الذاتية في بداية الثمانينات. ومع ذلك فإن الفلسطينيين الذين قبلوا الآن مبدأ اتفاقية موقتة هم أكثر انفتاحاً.
ونظراً إلى درجة القبول الواسعة [الإطار كامب ديفيد] في إسرائيل، فإن البنود الأمنية فيه جديرة بالتدقيق. يلحظ الإطار، أولاً، أنه على غرار الوضع بين إسرائيل ومصر، يمكن لشركاء إسرائيل الآخرين المحتملين في السلام أن يوافقوا، على أساس قاعدة التبادل، على إجراءات أمنية خاصة مثل مناطق منزوعة السلاح، ومناطق ذات تسلح محدود، ومحطات للإنذار المبكر، ووجود قوة دولية، وإجراءات متفق عليها للارتباط والمراقبة.(3) وتناط مسؤولية الأمن الخارجي للأراضي المحتلة، خلال الفترة الانتقالية، بإسرائيل والأردن: "تشارك قوات إسرائيلية وأردنية في دوريات مشتركة وفي تأمين العناصر اللازمة لمواقع المراقبة والتأكد من أمن الحدود".(4)
أمّا فيما يتعلق بالوضع الداخلي في الضفة الغربية وغزة، فيدعو الإطار إلى انسحاب القوات الإسرائيلية المسلحة و"إعادة انتشار القوات الإسرائيلية المتبقية في مواقع أمنية محّددة".
وفيما يتعلق بالأمن والنظام العام، "ستنشأ قوة أمن محلية قوية، يمكن أن تضم مواطنين أردنيين". وستتألف هذه القوة من سكان الضفة الغربية وغزة وستؤمن، لأغراض الأمن الداخلي، ارتباطاً مستمراً مع الضباط الإسرائيليين والأردنيين والمصريين المعنيين".(5)
لقد جرى، تكراراً، تأجيل مناقشة المسائل الأمنية خلال محادثات كامب ديفيد نفسها (بين مصر وإسرائيل، بوساطة أميركية بين 1979 ـ 1982)؛ على أمل أن يمهد اتفاق على مسائل أقل حساسية الطريق أمام حل الخلافات على المسائل الأمنية. وفضلاً عن ذلك، كانت مصر تعارض قيامها بتمثيل المصالح الفلسطينية في المسائل الأمنية المحلية. وفي العرض الإسرائيلي الوحيد المتعلق بالموضوع، طالبت إسرائيل بالاحتفاظ بالإشراف الحصري على المسائل الأمنية الخارجية والداخلية على السواء، ووافقت على إمكانية وجود لجنة تنسيق مشتركة مع سلطة الحكم الذاتي لمناقشة مسائل الأمن العام، على أن تبقى السلطة العليا على قوة الشرطة المحلية في عهدة إسرائيل، وتحتفظ قوات الأمن الإسرائيلية بمنفذ إلى الأراضي المحتلة، وتتعامل مع المسائل الأمنية كما تريد.
في ذلك الوقت، اعتمد بعض المخططين الإسرائيليين نظرة أكثر ليبرالية، متصورين استعداداً إسرائيلياً للسماح بقوة شرطة فلسطينية، بمساعدة مصرية وأردنية، وتشجيعها على أن تتولى، بالتدريج، درجات أكبر من المسؤولية عن الأمن المحلي، مع الاحتفاظ بحق التدخل في الحالات القصوى. ويمكن، وفقاً لهذا الرأي، المشاركة تدريجاً في المسؤولية عن المحاكم والسجون، على أن تبقى المستعمرات اليهودية في الأراضي المحتلة مناطق أمنية إسرائيلية.(6) وقد انعكست بعض هذه الأفكار، أيضاً، في مقترحات أميركية لم يجرِ التطرق إليها قط، وفي "نقاط للمحادثات" بعث بها الرئيس رونالد ريغان إلى رئيس الوزراء مناحم بيغن في أيلول/سبتمبر 1982.(7)
كما ورد أعلاه، بقيت إسرائيل ملتزمة رسمياً بنود كامب ديفيد حول الإدارة الذاتية الفلسطينية. ومع ذلك، لاحظ عدد من الناطقين باسم حكومة شمير خلال مسار الجولات الافتتاحية لمفاوضات السلام في عامي 1991 ـ 1992، أن الالتزام بسحب قوات الجيش الإسرائيلي إلى مواقع أمنية محددة صار غير ملائم، حيث أن انتشار حركة الاستيطان الإسرائيلي خلال العقد الماضي يستلزم بقاء قوات الجيش الإسرائيلي منتشرة في الأراضي المحتلة كلها.(8) وقد انعكست هذه المقاربة في الاقتراح الإسرائيلي الافتتاحي في المفاوضات، الذي نص أن "المسؤولية الوحيدة عن الأمن بكل جوانبه الخارجية والداخلية وعن النظام ستبقى في يد إسرائيل".(9)
جدّدت حكومة رابين، التي تسلمت الحكم في تموز/يوليو 1992، المفاوضات على قاعدة التزامات يُروّج لها وتدعو إلى إدارة ذاتية فلسطينية شاملة، مع بقاء مسائل الأمن والشؤون الخارجية فقط بإشراف إسرائيل. وفسّرت مصادر قريبة من يتسحاق رابين ذلك بقولها عن الفلسطينيين يمكن أن يُمنحوا سلطة أمنية في القانون والنظام والنشاطات الجرمية، غير أن الأمن الداخلي ستتولاه إسرائيل، ولن يكون هناك إعادة انتشار داخلية ملحوظة ولا انسحاب جزئياً لقوات الجيش الإسرائيلي من الأراضي المحتلة. وقد نُظر، مرة أخرى، إلى وجود أكثر من 1000 ألف مستوطن باعتباره المبرر لهذا الاتجاه المعدّل لبنود كامب ديفيد.(10)
بقدر ما يقدّم كامب ديفيد أفكاراً أمنية قابلة للتنفيذ، فإن أهميته تتمثل في الشرعية التي يمنحها لهذه الأفكار، على الرغم من بعض التحفظات الإسرائيلية، وغياب الاعتراف الرسمي الفلسطيني والأردني في تكوين نظام أمني فلسطيني وتقويته. وهذه العناصر أمنية حيوية شبه مؤكدة في أي نظام ناجح ينطوي على تسوية فلسطينية.
ولعل من المفيد الآن الانتقال إلى بحث طبيعة نظام أمني كهذا ـ نظام يواجه مشاعر التهديد والحاجات الأمنية للفرقاء المعنيين. فمن وجهة النظر الإسرائيلية، يمكن تحليل شؤون الأمن المعنية من خلال ثلاثة أبعاد مترابطة: التهديد الفلسطيني العسكري، والتهديد العسكري العربي، والأمن الداخلي اليومي.
تهديد عسكري فلسطيني محتمل
يطرح معارضو التسوية الإقليمية أحياناً، كسبب للامتناع عن أية انسحابات إقليمية، فكرة أن كياناً سياسياً فلسطينياً في الضفة الغربية وقطاع غزة يمكن أن يُنشىء جيشاً، ويحصل على مساعدة ودعم عسكريَّين من أجل أن يشكل تهديداً عسكرياً لإسرائيل.(11)
ويمكن الانتهاء من هذه المسألة بسهولة، إذ بإمكان إسرائيل، ومن واجبها، الإصرار على نزع السلاح الاستراتيجي الفاعل للأراضي التي تخليها قواتها. وما يجب السماح به هو شرطة فلسطينية ذات قدرات تكتيكية محدودة فقط. وهذا يحمي الأردن أيضاً من أي عدوان فلسطيني عسكري. ويمكن التحقق من الالتزام الفلسطيني، مبدئياً، بقوات برية إسرائيلية وأردنية، وربما أميركية أو دولية أخرى، وبواسطة دوريات بحرية إسرائيلية وأميركية خارج غزة، ومن خلال طلعات جوية.
لقد أعرب الكثير من الناطقين الفلسطينيين عن قبولهم هذه الشروط، مستشهدين، تكراراً، بحاجة الفلسطينيين إلى تكريس مواردهم كلها لإعادة التأهيل الاجتماعي ـ الاقتصادي. وفي الحقيقة، ربما يكون من الأفضل للفلسطينيين، من نواحٍ كثيرة، ألا يكون لديهم جيش من أن يكون لديهم جيش صغير؛ ذلك لأن هذا الأخير قد يستثير هجوماً ثأرياً مدمّراً من قوى مجاورة متفوّقة، في حين أن الأول سيعزز طلب الفلسطينيين ضمانات دولية أمنية.(12) وفي أية حال، فإن الأمن العسكري للكيان الفلسطيني ضد غارة غير مبررة، سيضمنه الجاران: إسرائيل والأردن، والمجموعة الدولية في إطار اتفاقات سلمية وأمنية أوسع.
تهديدات عسكرية عربية أخرى
من المقبول، عموماً، أنه بقدر ما تتخلى إسرائيل عن حكم كامل وحضور عسكري مكثّف على طول وادي نهر الأردن، وسلسلة الجبال الشمالية والجنوبية الممتدة على طول الضفة الغربية، وبقدر ما تسحب قواتها غرباً داخل الخط الأخضر، ستصبح أكثر عرضة لخطر الهجوم من الشرق. ذلك لأن القوات الأردنية والعربية الأخرى (عراقية وسعودية وسورية) المنتشرة في الضفة الشرقية، سيصبح في مقدورها، بسرعة، اجتياز نهر الأردن، واتخاذ مواقع هجومية على طول سلسلة الجبال مهدّدة بذلك عمق الأراضي الإسرائيلية الضيّقة، وذلك قبل تحريك جيش إسرائيل الاحتياطي. ويستشهد معارضو التسوية الإقليمية بهذا التهديد على أنه الاعتبار الأمني الأكثر خطراً الذي يقضي بعدم الانسحاب.(13)
يتمثل أحد الأجوبة عن هذه الذرائع في إعطاء إسرائيل حاجتها إلى الإنذار المبكر، وإلى الحد الأدنى من تدابير الدفاع في الضفة الغربية، حتى بعد تأسيس سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني. وهنا، أيضاً، يميل المتحدثون الفلسطينيون الرئيسيون، في مجالسهم الخاصة، إلى قبول هذه الحاجة. وثمة إجماع عريض يحبّذ منح إسرائيل [محطة] رادار للإنذار المبكر، ومحطات إلكترونية، ومراكز مراقبة على المشارف الشرقية لسلسلة الجبال التي تطل شرقاً في مواجهة تهديدات عسكرية ممكنة، وكذلك السماح لها بتركيز عدد من القوات الأرضية في مواقع مشرفة على جسور نهر الأردن ومخاضاته، وحتى منحها الحق في تحليق قوات جوية لأغراض استخبارية.(14) ويتركز النقاش بين الفلسطينيين، عموماً على مدة بقاء مثل هذه الترتيبات، وعلى [تحديد] الهوية الوطنية ـ إسرائيلية أم متعددة الجنسية ـ للإنذار المبكر والقوات الأخرى.
أما قطاع غزة فله، في أية حال، قصة مختلفة،(15) فأرضه ليست مرتفعة، ولا يقدم مزايا للقتال الحربي، وهو محاط بمنطقة عازلة منزوعة السلاح عرضها 200 كلم تفصل القوات الإسرائيلية عن المصرية، ولذلك فليس لإسرائيل متطلبات عسكرية و[أجهزة] إنذار مبكر في غزة. كما أن غزة مندمجة حالياً بشكل فعال بنظام أمني مع إسرائيل ومصر.
إن الصعوبة في ترتيبات [الأمن لـٍ] الضفة الغربية المحددة أعلاه، هي أنها لن تعيق تنفيذ السيناريوهات الأسوأ التي يجب أن يتوقعها الإسرائيليون: سيناريوهات يسمح فيها الأردن بدخول قوات عربية كبيرة إلى أراضيه من العراق ومن أي مكان آخر. وحتى لو استدعت إسرائيل احتياطها في الوقت المناسب، فقد تجد نفسها مضطرة إلى معاودة احتلالها الضفة الغربية أو حتى مهاجمة الضفة الشرقية ـ مع كل المخاطر السياسية والأمنية المعنيّةـ حتى من دون أن تكون قادرة على تبرير حقها في الاستيلاء المسبق وإثبات أن الغزو العربي كان وشيكاً. ومن ناحية بديلة، إذا بدأ الجانبان فترة انتظار الوقت المناسب للهجوم. وربما تطورت الأمور إلى حرب استنزاف شبيهة بتلك التي قامت على طول قناة السويس في عامي 1969 ـ 1970. ومن الواضح أن هذه الأوضاع لا يمكن أن تسمح بها إسرائيل.
إن هذا الأمر يشير إلى فروقات أساسية بين عازل سيناء، وعازل الضفة الغربية، فترتيبات سيناء سمحت لإسرائيل أن تسحب قواتها، مع العلم أنها تستطيع، في حال الضرورة، احتلال مواقع دفاعية بسرعة داخل صحراء سيناء الشاسعة وغير المأهولة نسبياً. وفي الوقت نفسه فإن الخطر على إسرائيل قد خُفّض بحدّة بوجود دولة عربية منفردة ومستقرة، وفي سلام مع إسرائيل، على الجانب الأقصى من العازل. ولا ينطبق أي من هذه الشروط على الضفة الغربية. لذلك فإن الاهتمام يجب أن يُعطى لترتيبات إضافية يمكن أن تحسّن أمن إسرائيل في حال انسحابها من الضفة الغربية.
هنا يجب أن ينظر المرء ثانية، إلى الأردن. فلم يكن ثمة قوات أجنبية على الأرض الأردنية منذ العام 1970. وقد أصبح من المسلّم به تقريباً، للمسؤولين عن الأمن الإسرائيلي، الحديث عن "خطوط حمر" تتعلق بالحدود الأردنية مع العراق وحتى مع سوريا ـ خطوط إذا اجتازتها قوات أجنبية ودخلت إلى الأردن، فإن ذلك سيشكل لإسرائيل ذريعة للحرب (Casus Belli). وكذلك لم يذهب الأردن إلى الحرب ضد إسرائيل خلال هذه الفترة، بما في ذلك حرب يوم الغفران في تشرين الأول/أكتوبر 1973. وفي منعطف ما، هددت إسرائيل ضمناً، وبالتنسيق مع الولايات المتحدة، في أيلول/سبتمبر 1970، بانتهاك الأراضي الأردنية لردع القوات السورية الغازية. وهكذا طوّر الأردن، الذي لا يمكن لجيشه الصغير (أربع فرق) أن يهدد إسرائيل بمفرده، بمرور الوقت، نوعاً من وضع دولة عازلة.
هذا التطور تضخم، جذرياً، من جراء سلوك كل من العراق والأردن، والتفاعل الناتج عن ذلك بين إسرائيل والأردن، منذ أواخر 1989.
الأردن كعمق استراتيجي لإسرائيل
كان ظاهراً، في أواخر العام 1989، في كل من القدس وعمّان، أن نظام صدّام حسين استعاد عافيته بعد حربه مع إيران (التي انتهت في صيف 1988) وأن صدّام يسعى إلى تثبيت دور استراتيجي لبلده في مكان بعيد ربما يصل إلى لبنان وإسرائيل. وكان دور البطولة لصدّام في القضية الفلسطينية محط اهتمام خاص، فشمل إعادة تمركز عدد من المنظمات الفلسطينية في بغداد، ومهمات استطلاعية نفذها الطيران العراقي وبعض الضباط على طول نهر الأردن، وإشارات إلى تعاون عسكري مطرد بين الأردن والعراق. وفي أوائل سنة 1990، كان صدّام يهدد بـ "حرق إسرائيل". وبدأت تتكشف للعيان بشكل يومي تقريباً معلومات جديدة تتعلق بـ [برنامجه] لتطوير أسلحة غير تقليدية وصواريخ.
وفي هذه المرحلة بالذات أظهر يتسحاق شمير رئيس الوزراء ووزراء آخرون بارزون من الليكود في حكومة إسرائيل، تبدّلاً جذرياً في موقفهم من الأردن. تخلوا عن السياسية التي تمثّلت بشعار "الأردن هو فلسطين"، الذي دعا إلى "فلسطنة" النظام الحاكم في عمّان كوسيلة لتأسيس دولة فلسطينية يمكن، كما تمنّوا، إسرائيل أن تتفاوض معها من أجل ترتيبات الحد الأدنى للإدارة الذاتية للضفة الغربية وغزة. وعوضاً عن ذلك، بدأت قيادة إسرائيل السياسية تتبنى سياسة مؤيدة للهاشميين. ويبدو أن أحد العوامل المفعّلة لهذا الموقف كان الخوف من أن نظاماً فلسطينياً في عمّان [....] قد يُنشىء قضية مشتركة مع صدّام حسين ضد إسرائيل ويسمح بالتالي للجيش العراقي بالانتشار على طول نهر الأردن. وفي المقابل كان هناك اعتقاد أنه إذا جرى تطمين الملك حسين من نوايا إسرائيل، فإنه يمكن الاعتماد عليه في مقاومة مثل هذه المغامرة.
وقد يكون هناك اعتبار إضافي لعب دوراً في [تغيير الموقف ] هو التأثير المتراكم للانتفاضة على التقويمات المتعلقة بإمكانات تحقيق ترتيبات إدارة ذاتية محض فلسطينية. ويضاف إلى ذلك أن قرار الملك حسين في تموز/يوليو 1988 بإسقاط أي مطلب في الضفة الغربية حوّله إلى شريك مثالي يمكن الليكود (الذي يرفض خطابه السياسي أية سيطرة أجنبية على الأراضي المحتلة) أن يتفاوض معه على شؤون الإدارة الذاتية. وفي ربيع عام 1990، فيما تزايدت تهديدات بغداد، حذّر وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه أرينز من أن دخول القوات العراقية إلى الأردن سيشكل ذريعة للحرب. أما الملك، الذي أصبح الآن أقل خوفاً من نوايا الليكود تجاه نظامه، والذي من الواضح أنه لاحظ الأخطار المتمثلة باحتضان صدّام نظامه، فقد ردّ بتحذيرات تدعو إلى بقاء القوى الأجنبية خارج الأردن.
ومع تطور مأساة حرب الخليج 1990 ـ 1991، ومع تزايد خطر هجوم عراقي على إسرائيل، أصبح من الواضح، بشكل متزايد، أن وضع الأردن كعازل شكل لإسرائيل الفرق بين حرب بريّة كبرى مع العراق وبين هجمات الصواريخ العراقية الأقل إرهاقاً التي عانتها. وساعدت رسائل الدعم الإسرائيلية بعدم مسّ الأراضي الأردنية (....) [الأردن] في النجاة من العاصفة. وبانتهاء الحرب، ومع قيام الولايات المتحدة بتنظيم عملية السلام العربية ـ الإسرائيلية، كانت حكومة الليكود في إسرائيل هي التي أصرّت على مشاركة أردنية مكثفة في المفاوضات.(16)
وافقت حكومة رابين، لاحقاً على هذه المقاربة. وكان حزب العمل الإسرائيلي، في الواقع، يفضّل دائماً دوراً هاشمياً قوياً في أية تسوية فلسطينية. ويمكن رابين، بهذا المعنى، أن يقبل، أكثر من سلفه شمير الأبعاد الاستراتيجية لدور الأردن في أثناء الحرب فيما يتعلق بأمن إسرائيل البعيد المدى. إذا كانت المملكة الهاشمية تمكنت من إبقاء الجيش العراقي بعيداً عن إسرائيل، ومن النجاة من العاصفة السياسية المحيطة بها، فإنها بهذا أثبتت أن الضفة الشرقية، لا الضفة الغربية، هي التي تشكل العمق الاستراتيجي الحقيقي من ناحية الشرق. وفي الحقيقة، فإن إسرائيل لا تستطيع أن تعتمد على الضفة الغربية فقط لإنذار مبكر ولاستعدادات حربية حتى حالياً، فيما هي تحتل الضفة الغربية. وفي أية حال، إذا أمكن إقناع الأردن بأن يثبت، في اتفاقية ما، اعترافه الطويل الأجل، بأن دخول قوات أجنبية إلى أراضيه هو مبرر تلقائي (tripwire) شرعي لرد فعل عسكري إسرائيلي، فإن التوصل إلى نظام أمني فعال سيكون ممكناً.
أولاً: تضمن إسرائيل والأردن الحدود وعدم انتهاك سلامة أراضي الكيان السياسي الفلسطيني أساساً في الضفة الغربية وغزة، المنزوع السلاح.
ثانياً: تتعهد إسرائيل والأردن والكيان الفلسطيني عدم السماح لقوات أجنبية بدخول أراضيها باستثناء قوات إسرائيلية صغيرة للإنذار المبكر والطوارئ في الضفة الغربية. وتحتفظ إسرائيل والأردن بحقهما في طلب مساعدة خارجية إذا هوجمتا، كما تحتفظ إسرائيل بحقها في التدخل في الأراضي المحتلة إذا أخفقت عملية السلام. وترتبط هذه الأطراف الثلاثة بميثاق عدم اعتداء. كما يمكن أن تؤسِّس إجراءات لبناء الثقة، مثل إشعار مسبق بالمناورات.
ثالثاً: يُعتبر أي دخول لقوات أجنبية إلى أراضي أي من الأطراف الموقعة الثلاثة ذريعة للحرب. أما في حالة إسرائيل، فإذا دخلت قوات أجنبية إلى الأردن من دون تنسيق مع إسرائيل والفلسطينيين، فإن إسرائيل يحق لها إعادة احتلال الضفة الغربية وحتى احتلال أقسام من الضفة الشرقية، عند الضرورة، لحماية نفسها. ويضمن المجتمع الدولي، بما في ذلك الدول العربية المجاورة، هذه البنود ويوافق الأردن على نشر القسم الأكبر من جيشه على مسافة معينة إلى الشرق من نهر الأردن (مساوية لانسحاب إسرائيل من الضفة الغربية). مبقياً وحدات من الدوريات الحدودية فقط لمنع أي تسلل إرهابي. إن هذا الأمر سوف يقلّل خطر هجوم إرهابي مفاجئ من الأردن وحدها. وأخيراً فإن جميع هذه البنود تكون نافذة حتى إشعار غير محدد؛ ويمكن تغييرها فقط بإجماع الأطراف الثلاثة.
إن إضفاء صيغة رسمية على دور الأردن كعمق استراتيجي لإسرائيل سيزيل تخوف إسرائيل المشروع من أن انسحابها من الضفة الغربية يمكن أن يُستغل لحشد قوة عسكرية في الضفة الشرقية. وفضلاً عن ذلك، فإن هذا الإجراء يبدو مقبولاً للمملكة الهاشمية حيث استقر التفكير الاستراتيجي منذ زمن طويل على أن دور الأردن هو أن يكون منطقة عازلة تفصل بين الدول المحيطة به بما فيها سوريا والعربية السعودية.(17) وفي أية حال، فإن ثمة أربع مشكلات على الأقل يجب أخذها في الاعتبار وفقاً للمنظور الإسرائيلي.
أولاً: إن العديد من الإسرائيليين سيشكون في صدقية الضمانة الدولية التي ستؤكد حق إسرائيل في إعادة احتلال الضفة الغربية إذا بدأ الفلسطينيون بناء قوة عسكرية، أو إذا دخلت قوات أجنبية إلى الأردن لمقاصد عدوانية، أو إذا شن الأردن نفسه الهجوم. وهؤلاء يجب أن يُشار، في مواجهتهم، إلى أن إسرائيل قبلت ضمانات مماثلة فيما يتعلق بسيناء. ويمكن أن يجادل بعضهم قائلاً إن الضفة الغربية أقرب إلى قلب إسرائيل من سيناء، ويمكن سكانها أن يكونوا أكثر عدوانية في وقت الحرب. ومن أجل التخفيف من هذه الهواجس، في مراحل التطبيق الأولى على الأقل، يجب أن يكون القرار بالتدخل في الضفة الغربية محفوظاً حصراً لإسرائيل مع ضمانات أميركية مرفقة وفضلاً عن ذلك، ولأن هذه المسألة في غاية الأهمية، فإن أية حكومة إسرائيلية لن تؤيد أي تدخل خارجي في هذا القرار.
ثانياً: يكون نظام الأمن هذا ملزماً [للأردن] في حال حدوث أي تغيير في النظام الأردني. ويكون رفض أي نظام أردني جديد هذه المعاهدة سبباً مبرّراً لإعادة احتلال إسرائيل الضفة الغربية.
ثالثاً: ثمة سبب وجيه للشك في أن تنفيذ مثل هذا النظام سينظر إليه نظام حافظ الأسد باستحسان. حتى لو منحت سوريا بركتها للمراحل الأولى من هذه العملية، مثل إدارة ذاتية فلسطينية، فإنها تبقى عُرضة للنظر في القيود الدائمة على الأردن والفلسطينيين باعتبارها محاولة لفرض هيمنة عسكرية إسرائيلية في المنطقة، وانتهاكاً [لسيادة] أراض تسعى إلى إبقائها تحت سيطرتها.(18) ويجب أخذ هذا العامل المعقّد في الاعتبار، كما يجب حلّه في إطار ترتيبات السلام بين سوريا وإسرائيل.
أخيراً، على افتراض أن هذه الصيغة يمكن أن ترسي أساساً لانسحاب معظم القوات الإسرائيلية من الضفة الغربية، فيجب الاعتراف بأن إسرائيل ستواصل اتكالها على هذه القوات لضمان أمنها، وأن إعادة انتشارها ستكون معقّدة وباهظة التكاليف للغاية (وهذا بالطبع ليس مشكلة للفلسطينيين والأردن). ولن تكون إسرائيل قادرة على القيام بمثل هذا الانسحاب من دون الإضرار بأمنها إلاّ إذا توافرت لها مساعدات ببلايين الدولارات.
إن هذا النظام الأمني سيكون، دائماً، جزءاً من بنية إجمالية اقتصادية، وربما جزءاً من تعاون سياسي بين الأطراف الثلاثة. ومن الواضح أنه بقدر ما يثبت نجاحه في تخفيف مخاوف إسرائيل الأمنية، وبقدر ما يتكامل مع إجراءات ضبط السلاح وترتيبات السلام الإضافية بين إسرائيل والدول العربية مثل سوريا والعراق، فهو، بالقدر ذاته، سيقلل اعتماد إسرائيل على إجراءات أمن إضافية. وفي أية حال، فإن بعض الإجراءات التالية ستبقى ضرورية على المديين القريب والمتوسط (10 ـ 15 سنة على الأقل):
- نزع سلاح الضفة الغربية وغزة، باستثناء قوة شرطة فلسطينية للأمن الداخلي.
- طلعات جوية إسرائيلية فوق الأراضي المحتلة تمنح إسرائيل سيطرة حيوية على المجال الجوي فوق الأراضي [المحتلة].
- تأسيس محطات إسرائيلية للإنذار المبكر في الضفة الغربية، وانتشار قوات صغيرة قادرة على إغلاق معابر نهر الأردن أو عرقلة أي تقدم باتجاه سلسلة الجبال.
- غياب كامل لأية تحصينات في الضفة الغربية وغزة، يمكن أن تعيق إعادة الاحتلال الإسرائيلي.
- حضور دولي عسكري ذو محتوى أميركي قوي لمراقبة ضفتي الأردن والبحر خارج غزة، وكذلك الأراضي المحتلة نفسها، للتأكد من الامتثال لإجراءات نزع السلاح.
- تنفيذ متزامن لإجراءات الأمن الداخلية (ضد الإرهاب) كما هي مفصّلة أدناه.
الأمن الداخلي
يتمثل الاهتمام الأمني الثالث لإسرائيل في مسألة ضبط الإرهاب خلال الانتقال إلى تأسيس كيان سياسي يحكمه الفلسطينيون.
ما دامت مقاومة الإرهاب مسؤولية إسرائيلية، فإن إسرائيل مكلّفة القيام بكل ما هو ممكن لمنع الإرهاب، عربياً كان أو يهودياً. وإذا فشلت، فإنها لا تستطيع لوم القيادة الفلسطينية. وفي نهاية المطاف، وفي أية حال، فإن أية عملية سياسية تتصور تأسيس كيان سياسي فلسطيني لا يمكن أن تنجح إلاّ إذا حُولت مسؤولية الأمن في داخل هذا الكيان، أو القسم الأكبر منها على الأقل، إلى الفلسطينيين. وكما سبقت الإشارة، فإن اتفاقات كامب ديفيد تصف بالضبط مثل هذه العملية.
إن هذه المسألة متفجرة جداً: باستطاعة أفراد أو جماعات صغيرة القيام بأعمال إرهابية ذات مفعول مدمّر على الجمهور المطلوب دعمه لحكومة إسرائيلية، أو على سلطة حكم فلسطيني، من أجل المضي في عملية السلام. وفضلاً عن ذلك فإن مقاومة الإرهاب سوف تستدعي حتماً تعاوناً إسرائيلياً ـ فلسطينياً وثيقاً في مسائل الأمن الحساسة. ومن الصعب جداً أن يتصور أي من الفريقين هذا التطور في الوقت الراهن. لذلك فإن مسألة الأمن الداخلي قد تكون الجانب الأكثر صعوبة في أي نظام أمني مقبل. إن قلّة، مع الأسف، تناولت هذه المسالة في العمق. فمسؤولو الأمن الإسرائيلي يتحاشون التخطيط لعوارض أمنية كهذه، إلى أن تصدر توجيهات سياسية ملائمة بهذا الصدد. أما الجانب الفلسطيني فإنه يتصف، حتى الآن، بقصور يمكن فهمه في التآلف مع هذه المسائل، إلا أنه يتصف أيضاً بالتردد والارتباك في معالجتها، لئلاً تنظر العناصر المتطرفة إلى هذه المبادرة كمحاولة من الرفاق الفلسطينيين للضغط عليهم.
إن أهمية مسألة الأمن الداخلي لا تكمن في منع الجهود الرامية إلى نسف عملية السلام فقط، بل إن التعاون الفلسطيني ـ الإسرائيلي في هذا المجال، سيشكل، بالضرورة، اختباراً للنوايا الحسنة وللقدرة على "تنفيذ الالتزام" من الجانبين. إن النجاح الفلسطيني في منع الإرهاب سوف يولد، بالتأكيد، ثقة أكبر لدى الإسرائيلي العادي الذي يخشى من أن تقود التنازلات إلى مزيد من العنف.
ما هي شروط تأسيس نظام أمن داخلي ناجح؟ أولاً: وهو الأكثر أهمية، يجب أن تكون إسرائيل والفلسطينيون، وكذلك الدول العربية المجاورة، مثل مصر والأردن، مصممة على إنجاح التسوية الموقتة، بمنع كل أشكال الإرهاب والتخريب، ثانياً: يجب أن تكون الإدارة الفلسطينية مستعدة للظهور بمظهر التعاون مع إسرائيل، على الرغم من أن كلا الجانبين لديه مصلحة في عدم إبراز ذلك أكثر من اللازم؛ ثالثاً: يجب ألا تصل المستوطنات الإسرائيلية، على رقعة الأراضي المحتلة، إلى الحجم الحاسم الذي يحول دون التسوية السياسية؛ أخيراً: يجب أن تكون حكومة إسرائيل راغبة وقادرة على كبح العناصر المتطرفة بين المستوطنين.
نظام أمن انتقالي
وفقاً لذلك، فإن الصفات الأساسية لدخول ناجح في نظام أمني هي: أولاً، خطة شاملة تمهد لنقل تدريجي للسلطة والمخابرات والنشاط المعادي للإرهاب والسجون والمحاكم وعبور الحدود [إلى الفلسطينيين] في ضوء التقدم الناتج. وهذا يعني، ثانياً مرحلة حاسمة من تدريب مخابرات الشرطة الفلسطينية الناشئة ووحدات مكافحة الإرهاب. ثالثاً، فضلاً عن اشتراك إسرائيل في التدريب والارتباط، فإن ثمة دوراً هنا لفرقاء ثالثين معيّنين ـ مثل الأردن ومصر والمجتمع الدولي ـ لكي يقوموا به ما دام الارتباط الإسرائيلي ـ الفلسطيني المباشر قائماً. رابعاً: يقوم الأردن ومصر بدور أساسي في مراقبة الحدود. وأخيراً، يجب أن يكون ثمة استعداد لدى كل الأطراف، وأن ينعكس هذا في بنود المعاهدة، لمنح إسرائيل خيار الاستمرار في القيام بجمع معلومات استخبارية في الأراضي المحتلة، والتدخل في التصدّي لمرتكبي أعمال الإرهاب والقبض عليهم، وتأخير عملية نقل [السلطة والصلاحيات] إذا ثبت أن الجانب الفلسطيني يعاني مشاكل في التخفيف من الإرهاب.
الحدود
ستواظب قوات جيش الدفاع الإسرائيلي، مبدئياً، على ضبط نقاط العبور على الحدود بين الضفة الغربية والأردن وبين قطاع غزة ومصر، بالتنسيق، طبعاً، مع السلطات الأردنية والمصرية. وستدمج إسرائيل، تدريجاً، السلطات الفلسطينية في علاقة ثلاثية الجوانب. وفي النهاية، فإن دور جيش الدفاع الإسرائيلي يجب أن ينتهي. كذلك فإن خطوات مشابهة يجب أن تتخذ فيما يتعلق بمراقبة حدود الضفة الغربية ـ الأردن، وغزة ـ مصر لمنع أية غارات إرهابية ولاعتراضها. أما فيما يتعلق بالحدود بين الأراضي المحتلة وإسرائيل فيجب أن تبقى مفتوحة، لأن المخابرات الإسرائيلية لا تستطيع، في المدى البعيد، أن تبقى على اتصال وثيق بمجريات الأحداث والمواقف بين الفلسطينيين، إلا من خلال الحركة اليومية للأعداد الكبيرة من العمال الفلسطينيين. ويؤمل مع الوقت، أن تنجح جهود الإنماء الاقتصادي الفلسطيني إلى حد يقلل، بشكل ظاهر، من هذا السيل من العمال. وهذا ما يجب تشجيعه من منظور أمني أيضاً، لأن الازدهار هو الأفضل ضد الاستياء الشامل.
الشرطة
ستتعامل قوة الشرطة الفلسطينية، في المرحلة الأولى، مع [مسائل] القانون والنظام والنشاط الجرمي فقط وستبدأ، في المرحلة الثانية، بالتعامل مع الإرهاب. ومن أجل هذا الغرض يجب أن تعيّن وتُدرّب وحدات مخابرات ووحدات مكافحة الإرهاب. كما تبقى إسرائيل على اتصال وثيق بالكادرات الفلسطينية الأولى باعتبار أن القوتين ستعملان بعضهما مع بعض حتماً. وكذلك ستحوِّل إسرائيل، في مراحل معيّنة، المعلومات الأساسية إلى الفلسطينيين.
وفي أية حال يمكن لنوع من منظمة ـ مظلّة بقيادة دولية أو أميركية أن تساعد الفلسطينيين على إنكار التعاون الظاهر مع إسرائيل على مدى واسع. وبعد مرحلة تقويمية، تباشر القوة الفلسطينية عملها المستقل، مبدئياً، ضمن نطاق محدود وربما في إقليم جغرافي محدد. ويمكن، بالتدريج، وبقدر ما تثبت فاعليتها (وفقط إذا أثبتت هذه الفاعلية) أن تُحوّل [إلى القوة الفلسطينية] صلاحيات إضافية.
لقد حدث، بين آب/أغسطس وتشرين الأول/أكتوبر 1992، عدد من التطورات الإيجابية للمقاربة الفلسطينية في موضوع تشكيل قوة شرطة. لقد تم التوصل إلى صيغة اتفاق بين القائد الفلسطيني فيصل الحسيني والمسؤولين الأردنيين لتشكيل مثل هذه القوة وتدريبها في مرحلة الإدارة الذاتية الموقتة.(20)
وفي الوقت نفسه، اقترح ياسر عرفات ومسؤولون آخرون من منظمة التحرير الفلسطينية وجوب إدخال قوة دولية لحفظ النظام خلال المرحلة الابتدائية في الإدارة الذاتية، وخاصة لدى التحضير للانتخابات. ومع اكتساب قوة الشرطة الفلسطينية قدرات عملانية بعد سنة أو اثنتين من الإدارة الذاتية، يمكن الاستغناء عن وجود هذه القوة، وكذلك عن وجود معظم قوات جيش الدفاع الإسرائيلي.(21)
لقد كان المسؤولون الإسرائيليون منفتحين على فكرة قوة الشرطة، ولكن يبقى هناك عدد من نقاط الخلاف يجب حلّها؛ وبصفة خاصة، فإن إسرائيل ستصر على حصر تفويض الشرطة الفلسطينية بـ [المحافظة على] القانون والنظام، في المراحل المبكرة على الأقل، في حين أن الفلسطينيين سعوا إلى تفويض أمني أوسع يتضمن انسحاباً مبكراً لقوات الأمن الإسرائيلية. كذلك فإن إسرائيل لم تكن يوماً منفتحة على فكرة قوة دولية موضوعة بينها وبين الفلسطينيين؛ وهنا يمكن أن يكون مقبولاً [منح القوة] صفة مراقب موقت، [مهمتها] حصراً الإشراف على الانتخابات.
السجون والمحاكم
في أثناء المرحلة الابتدائية ستواصل إسرائيل اعتقال الإرهابيين ومحاكمتهم وسجنهم، ولن يحدث إفراج واسع النطاق عن المعتقلين. وسيتلو ذلك إفراج يتم التفاوض بشأنه عن معتقلين يعتقد أنهم مرتبطون بتيارات سياسية تؤيد عملية السلام، مع نقل على مراحل للسلطة فيما يتعلق بمرتكبي الإرهاب. وفي النهاية ستسلم كل السجون والمحتجزين إلى السلطات الفلسطينية. وسيبقى الإرهابيون اليهود خاضعين لسلطة القضاء الإسرائيلي حتى مرحلة متأخرة من العملية.
وسيُسمح للمستوطنين الإسرائيليين، حتى بعد المرحلة الابتدائية (مع الانسحاب التدريجي للمخابرات وعناصر القمع الإسرائيلية) بأن يحملوا سلاحاً خفيفاً في مستعمراتهم وحيث يسافرون من أجل الدفاع عن النفس. وإذا تورطوا في نشاط إرهابي، فيمكن قوات فلسطينية أو إسرائيلية أن تعتقلهم. ولكنهم، حتى فترة لاحقة على الأقل، سيحاكمون أمام المحاكم الإسرائيلية وسيسجنون في إسرائيل. وستُتّخذ تدابير مماثلة فيما يتعلق بالجرائم المدنية والجزائية. ومن المحتّم أن التمييز بين الجرائم الإرهابية والجرائم الجزائية سيكون، في بعض الحالات، صعباً.(22)
نشاط إسرائيلي مستقل
من الواضح أن الهدف من العملية هو الانتقال من الوضع الراهن، حيث تقوم إسرائيل، منفردة، بكل النشاطات الأمنية، إلى وضع يمكن الفلسطينيين أن يحلّوا فيه محل إسرائيل بأية طريقة ممكنة. وخلال المرحلة الانتقالية ستكون إسرائيل قادرة، في أية حال، على ممارسة حق انتقائي في الملاحقة في الأرض الفلسطينية، وممارسة الحق في القيام بنشاط استخباري تكتيكي مستقل للحصول على معلومات تنطوي على إنذار مبكر، مع ترك توقيت إشراك الفلسطينيين في هذه المعلومات لتقديرها. إن أية محاولة من المتطرفين الفلسطينيين للاستيلاء على السلطة، أو إعلان السيادة الفورية والشاملة على شؤون الأمن، أو لانتهاك الاتفاق الموقت، سوف تواجه باستعادة السلطة الإسرائيلية، مع دعم الأطراف الثلاثة كلها.
مصر والأردن
تبدو الأدوار الإضافية المصرية والأردنية ممكنة ومرغوباً فيها، في تدريب القوات الفلسطينية وتأسيس محاكمها الأمنية، ولكن بالتنسيق مع إسرائيل فقط.
التطبيق على مراحل
إن مسألة مدة كل مرحلة في العملية الانتقالية هي عملية معقّدة. فالفلسطينيون سيسعون، افتراضاً، إلى اختصار شديد لمراحل ذات حدود زمنية معينة، على الرغم من أن القادة الفلسطينيين الحصيفين يعترفون بأن انتقالاً سريعاً جداً يمكن أن يضعهم في مواجهة مشاكل أمنية صعبة الحل قد تنسف العملية بكاملها. سوف ترفض سلطات الأمن الإسرائيلية أي طلب فلسطيني باعتماد جدول زمني محدد وستطلب، بدلاً من ذلك أن يكون برهان الإنجاز هو العامل المقرر للانتقال إلى المرحلة الثانية من تسليم السيطرة إلى سلطات الأمن الفلسطينية. وبهذا المعنى، فإن مقياس التقدم يجب أن يكون وظيفياً ـ مدى إثبات قوات الأمن الفلسطينية نجاحها في فرض سلطتها على شعبها كله. وربما يمكن، هنا، تطوير آلية مختلطة، بحيث تُدمج العناصر الوظيفية والسياقية ـ المتعاقبة معهاً. ويمكن لتطبيق انتقائي، من الناحية الجغرافية، لهذه المراحل (البدء مثلاً بمواقع محددة بعيداً عن الخط الأخضر) أن يشكل مقاربة أخرى.
ويبدو، بالتأكيد، أن المرحلة الوحيدة المتاحة التي يقبلها كلا الجانبين، وسيكون الفلسطينيون قادرين على تنفيذها حالياً بمساعدة عربية ودولية، هي مرحلة تشكيل قوة شرطة فلسطينية مقتصرة على مهمة [حفظ] القانون والنظام مع بعض المساعدة من الأردن ومصر. وهذه هي، بالضبط الأداة التي يجب أن تبدأ العملية بها.
وتبدو مدة الخمس سنوات إلى السبع سنوات لإنجاز معظم أهداف العملية فترة واقعية. وفي هذه الأثناء يجب الانتباه إلى أن جوانب أخرى من الأمن ـ الأمن العسكري الاستراتيجي ـ ستستغرق، افتراضاً، إطاراً زمنياً أطول.
وبالنتيجة، لا يستطيع المرء أن يكون مبالغاً مهما شدّد على الحاجة إلى الصبر والشجاعة لدى الجمهور والسلطات في آن، وعلى الحاجة إلى قيادة قوية أيضاً، إن كان لانتقال ناجح بالنسبة لـِ [تفويض] الأمن الداخلي [إلى السلطة الفلسطينية] أن يحدث. من المحتم أن تقع أحداث وحشية من الطرفين، وفقط قادة أقوياء، يتمتعون بدعم شعبي عريض، هم من سيتمكنون من الحفاظ على زخم العملية في هذه الظروف.
مسائل أمنية إضافية
يبقى أخذ بعض مكونات التسوية السياسية والاقتصادية في الاعتبار. وأبرزها أنه إذا كان مستقبل المستوطنات في الأراضي التي سينشأ عليها كيان فلسطيني هو سؤال سياسي بالأساس، فإن له أيضاً انعكاسات أمنية. وكما لاحظنا أعلاه، فإنه إذا بلغت هذه المستوطنات حجماً حاسماً، فسوف يصبح من المحال وضع آلية فاعلة لنقل المسؤولية عن الأمن إلى الفلسطينيين؛ وقد سبق للسلطات الإسرائيلية أن تذرعت بالمستوطنات كسبب لتأجيل إعادة انتشار القوات الإسرائيلية.
ومع ذلك فإنه بمجرد انتقال العملية إلى أبعد من مرحلة الإدارة الذاتية، إذا حدث ذلك، فإن الرابط بين المستوطنات والقوة الأمنية سيستدعي المعالجة.
وقد يكون التعديل الإقليمي [تعديل الحدود] إحدى الطرق لتخفيف التأثير الأمني للمستوطنات. ويمكن أن تهدف تغييرات كهذه إلى توسيع شريط الحدود في منطقة الخضيرة ـ نتانيا (السامرة الغربية). وتوسيع ممر القدس، وتوسيع دفاعات القدس لجهة الشرق (منطقة معاليه أدوميم). وليس من قبيل الصدفة أن هذه المناطق تشتمل على أكثرية السكان المستوطنين. فسكانها العرب ليسوا كثُراً، ويشكلون، في بعض الحالات، أقلية إلى جانب المستوطنين الإسرائيليين. والتعديلات الإقليمية على طول هذه الخطوط يمكن أن تحل القسم المهم من المشكلة. وبقدر ما يصار إلى هذه التعديلات الحدودية بالسرعة الممكنة، يمكن ضمان تعاون أكثرية المستوطنين (الذين يعيشون على أراض ستُضم إلى إسرائيل).
وثمة مبرر إضافي لإسرائيل في أن تسعى للاحتفاظ بسيطرتها على السامرة الغربية هو: تأمين منفذ إلى موردها التقليدي من المياه السطحية. ومن الواضح، في المقابل، أن إسرائيل ستكون ملزمة اقتسام مياه السامرة الغربية بالتساوي مع فلسطينيي الضفة الغربية. ويمكن أن تتعهد أيضاً بالتعويض على الفلسطينيين عن هذه التعديلات الإقليمية، حتى ولو بشكل غير متماثل، من خلال منفذ إقليمي بديل: كإنشاء ممر بين غزة والضفة مثلاً، خارج نطاق السيادة الوطنية [الفلسطينية] (extraterritorial) ، وتأمين تسهيلات، خارج نطاق السيادة الوطنية أيضاً، في مطار إسرائيل الدولي وموانئها.
أما فيما يعود إلى المستوطنين الذين سيبقون ضمن الكيان الفلسطيني بعد التعديلات الحدودية، فإن مجموعة من المميزات السياسية والاقتصادية تشجعهم على المغادرة. ويمكن أن تختار قلّة منهم العيش بسلام تحت سلطة فلسطينية نهائية.
وفي أية حال، فإن نحو 10 آلاف منهم من المحتمل أن يقاوموا، بالقوة، عملية السلام بأكملها. وسيشكّل تحدّيهم اختباراً كبيراً للنوايا والقدرات الإسرائيلية.
كما أن الوضع النهائي للقدس داخل إطار التسوية السلمية مع الفلسطينيين هو مشكلة سياسية بالأساس. وقد تكون بعض الترتيبات الأمنية المحددة أعلاه قابلة للتطبيق. غير أن بعضها الآن يجب أن يفصّل وفقاً للوضع الفريد للقدس، بمجرد أن تُعرف الخطوط العريضة للحل السياسي لوضعها.
وبالانتقال إلى مسألة الحدود المفتوحة، فإن الفوائد الأمنية للانتقال الحرّ للفلسطينيين بين المنطقة الفلسطينية وإسرائيل جرت الإشارة إليها. فالحواجز لا تستطيع وحدها الدفاع عن إسرائيل ضد العداء الفلسطيني. وفكرة إعادة "الخط الأخضر" أو أي حاجز أمني آخر هي فكرة يستبعدها معظم الإسرائيليين.
فضلاً عن ذلك، فإن الإسرائيليين يجب أن يتمكنوا من العبور إلى الأرض الفلسطينية، وأن يحتفظوا بمنفذ لهم إلى الأماكن الأثرية ـ التاريخية، وأن يتجوّلوا ويتاجروا فيها. وهذه كلها من العناصر التي تبني الثقة.
والحدود المفتوحة، بالإضافة إلى أنها ستعطي إسرائيل إمكانية واضحة لجمع معلومات استخبارية. فإنها ستشجع أيضاً الازدهار الاقتصادي وتأمين مناخ للتطبيع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، الذين سيبنون معاً الأمن الأفضل.
وتفرض مسألة اللاجئين الفلسطينيين تحدياً إضافياً. ولكي يشعر الإسرائيليون بالثقة، فإن الحركة الوطنية الفلسطينية تخلت، منذ زمن، عن طلبها [حق] العودة إلى إسرائيل. ويجب على هذه الأخيرة أن تصرّ على أن تشمل عملية السلام خطة شاملة لتأهيل كل الفلسطينيين اللاجئين والمبعدين منذ العامين 1948 و1967. ويمكن أن يشمل هذا التأهيل إعادة هؤلاء إلى أماكنهم أو إلى أي مكان آخر خارج الحدود الإسرائيلية. وأية مقاربة إسرائيلية تدعو إلى أن تقتصر عملية السلام على إعادة تأهيل اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون داخل المناطق فقط (فلسطين الغربية) من شأنها أن تخلد استمرار مشكلة اللاجئين في لبنان والأردن وأي مكان آخر كمصدر محتمل وبعيد الأجل لمزيد من عدم الاستقرار.
ويجب أن تترافق عملية سلام ناجحة مع الفلسطينيين مع جهد إسرائيلي متناغم لمنح مواطنيها العرب حقوقاً وواجبات متساوية بصدق، وإلاّ فإن الجماعات الإسرائيلية العربية السياسية التي تدعو إلى إدارة ذاتية، ولكنها أقلية في الوقت الراهن، يمكن أن تحقق نفوذاً أكبر، وأن تتفاعل مع المتطرفين الفلسطينيين من أجل التسبب بالأذى للعملية بكاملها.
وأخيراً، وأبعد من حواجز الأمن الضيقة في الضفة الغربية وغزة، وحتى أبعد من الروابط الواسعة لنظام أمني إسرائيلي ـ أردني ـ فلسطيني، يبدو أن لدى الفلسطينيين، خصوصاً، مصلحة في رؤية إسرائيل تشعر بالأمن ضد تهديدات عربية وإيرانية بعيدة الأجل.
وفي الوقت الذي يتأرجح الشرق الأوسط فيه على حافة عصر نووي مسلح، تبدو هذه الاعتبارات نافرة بشكل خاص. وليس غريباً على العلماء والسياسيين الفلسطينيين أن يخبروا زملاءهم أنه، فيما يخص الفلسطينيين، يمكن إسرائيل أن تمتلك أسلحة نووية إذا جعلت الإسرائيليين يشعرون بأمن كاف يسمح لهم بالتنازل عن الأرض. ويبدو أن هذا يعكس فهماً إيجابياً لمشاعر التهديد لدى إسرائيل، وفي الواقع للتهديد نفسه.
ومن أجل أن يشعر الإسرائيليون بالراحة مع فكرة التنازل الإقليمي في الضفة الغربية وغزة، يجب أن يشعروا أن إسرائيل ستستمر في الحفاظ على تفوق عسكري نوعي على خصومها. وهذا هو ما سيمكّنها من ردع أي هجوم تقليدي أو غير تقليدي ومن الفوز في الحرب إذا دعت الضرورة.
الخلاصة
إن النظام الأمني لتسوية إسرائيلية ـ فلسطينية كما يعرضه هذا المقال، يقدّم إمكانية لتعزيز الأمن لكل الأطراف. فإسرائيل ستربح عمقاً استراتيجياً وقدرة إنذار مبكر من خلال التزام تعاقدي. وبالتالي ستربح قدرة معززة للدفاع عن نفسها ضد أعدائها المحتملين. وسيخفّ الإرهاب المنبثق من الضفة الغربية وغزة مع الوقت. وسيعزز الفلسطينيون أمنهم الشخصي، وللمرة الأولى، أمنهم الوطني في وطن قومي.
وسيعزّز الأردن وإسرائيل والفلسطينيون أمن بعضهم البعض، مع دعم دولي واسع. وستخفّ نوازع الحرب الإجمالية بين العرب والإسرائيليين، في حين أن الرابط بين هذه التهديدات وبين تسوية إسرائيلية ـ فلسطينية ـ أردنية سينفصم إلى حد كبير.
ومثل هذا النظام الأمني يقترح فهماً أفضل للرابط بين الأمن والأرض. ولن تلحق إسرائيل، بقبولها حلاً وسطاً إقليمياً، الضرر بأمنها.
وفي الواقع يمكن إسرائيل، مع اعترافها بأن الأردن هو عمقها الاستراتيجي الحقيقي، أن تنسحب من أراض، ومع ذلك تعزّز أمنها.
المصدر: Survival, Vol. 34, No. 4, Winter 92-93, pp. 49-67.
المصادر:
(1) من أجل مناقشة حديثة للترتيبات الأمنية المتعلقة بالتسوية الفلسطينية أنظر:
Ze’ev Schiff, Security for Peace: Israel’s Minimal Security Requirements in Negotiations with the Palestinians, Policy Paper No. 15 (Washington, D.C.: The Washington Institute for Near East Policy, 1989); Joseph Alpher, Co-ordinator & Co-editor, The West Bank and Gaza: Israel’s Options for Peace; and Israel, the West Bank and Gaza: Toward a Solution, Study Group Reports (Tel Aviv: Jaffee Center for Strategic Studies, 1989); Valerie Yorke, “Imagining a Palestinian State: an International Security Plan”. International Affairs, Vol. 66, No. 1, Jan. 1990, pp. 115-36.
(2) Schiff, op.cit., in note 1, p. 69.
(3) Aryeh Shalev, Autonomy-Problems & Possible Solutions, CSS Paper No. 8 (Tel Aviv: Tel Aviv University, Jan. 1980), Appendix B, p. 198.
(4) Ibid.
(5) Ibid.
(6) اتصال شخصي.
(7) Yehuda Lukacs, ed., Documents on the Israeli-Palestinian Conflict, 1967-1983 (Cambridge: Cambridge University Press, 1984), p. 41.
(8) أنظر، مثلاً، في "هآرتس" (بالعبرية)، 15/1/1992، ص 1، تصريح المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية يوسف هداس. وقد صرح رئيس الوزراء شمير في 7 شباط/فبراير 1992، في مؤتمر صحافي، أن إسرائيل لا تشعر بأنها "مقيدة بكل بند" في اتفاقية كامب ديفيد المتعلقة بالحكم الذاتي. أنظر Le Monde, 9-10/2/1992. ولا تشتمل الورقة الإسرائيلية غير الرسمية للمفاوضات مع الوفد الأردني ـ الفلسطيني على مسائل أمنية. أنظر:
Near East Report, 3 Feb. 1992.
(9) ورد الاقتراح الإسرائيلي تحت عنوان: "أفكار من أجل التعايش السلمي في المناطق خلال الفترة الانتقالية"، وحمل تاريخ 20/2/1992. وقد سلمه إلى رئيس الوفد الفلسطيني الدكتور حيدر عبد الشافي رئيس الوفد الإسرائيلي إلياكيم روبنشتاين، مع رسالة مرفقة به مؤرخة في 21/2/1992. ولم تكن الوثيقة ورقة تفاوض إسرائيلية رسمية كما لم تكن موقعة. ويمكن المرء أن يستنتج أن طبيعتها غير الرسمية تجعلها قابلة نسبياً للتفاوض.
(10) اتصال شخصي.
(11) أنظر على سبيل المثال:
Ze’ev B. Begin, “The Likud Vision for Israel at Peace,” Foreign Affairs, Vol. 70, No 4, Autumn 1991, pp. 21-35.
(12) أنظر على سبيل المثال حديث فيصل الحسيني لصحيفة "هآرتس" (بالعبرية)، 5/8/1992، وأيضاً:
Walid Khalidi, in Walid Khalidi and Ze’ev Schiff, The Saladin Syndrome: Lessons from the Gulf War, Occasional Paper No. 8 (Cambridge, MA: American Academy of Arts & Sciences, August 1991), pp. 29-30.
"يجب أن تكون قوة الدولة الفلسطينية بالتحديد في ضعفها: يجب ألا يكون أمنها في يدها، بل يجب أن يستند أمنها كلياً إلى ضمانات الدول الكبرى."
(13) Begin, op.cit., in note 11.
(14) أنظر، على سبيل المثال:
Khalidi & Schiff, The Saladin Syndrome., op.cit., in note 12.
(15) من أجل تصريح حديث جداً (ومثير سياسياً) في هذا المعنى أنظر مقابلة مع موشيه أرينز، "حداشوت" (بالعبرية)، 28/6/1992، الجزء 2، ص 17.
(16) اتصال شخصي. إن فقدان الواقعية السياسية في المقاربة الإسرائيلية الساعية إلى تحديد المطامح الفلسطينية الوطنية لا يجري استكشافها هنا. ولا تتعلق بالدور الأمني المرسوم للأردن.
(17) اتصال شخصي.
(18) حديث مع باتريك سيل في تشرين الثاني/نوفمبر 1991.
(20) "هآرتس" (بالعبرية)، 1 ـ 2/8/1992.
(21) المصدر نفسه.
(22) أنظر يوئيل سينغر، محكم ذاتي عبري"، "هآرتس"، 13/7/1992.