منذ احتلال الشطر الشرقي من مدينة القدس في حزيران/يونيو 1967، تبنّت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، العمالية منها والليكودية، سياسة منهجية ثابتة إزاء القدس، تمثلت في توطيد السيطرة اليهودية على المدينة ومحيطها، وتعزيز وحدتها المادية.(1) وكان الهدف الواضح لهذه السياسة، ولا يزال، الحؤول دون إعادة تقسيم القدس لاحقاً،(2) الأمر الذي شكّل ركناً ساخناً في "الإجماع القومي" الصهيوني.
تجسدت سياسة التهويد هذه في جملة القرارات والإجراءات التي اتخذتها القيادة السياسية على امتداد ربع القرن الماضي، وفي الخطط والمشاريع الاستيطانية المكثفة داخل القدس وحولها، وفي الاستيلاء المنظم على الأراضي والعقارات العربية فيها... إلخ. وقد بلغ التهويد مبلغاً خطراً في الآونة الأخيرة، وتعدّى المدينة نفسها ليشمل منطقة واسعة حولها، تعرف باسم "القدس الكبرى".
فرض الوقائع
بعد 18 يوماً فقط من احتلال القدس، كانت السلطات الإسرائيلية قد وضعت حجر الأساس للسيطرة على المدينة، بإصدارها قانوناً يسري بموجبه "قانون الدولة وقضاؤها وإدارتها" على القدس، وآخَرَ يشرّع لإلحاقها بمنطقة صلاحية مجلس بلدية القدس اليهودي. وتكرست هذه السيطرة "القانونية" بقرار ضم القدس، في 30 تموز/يوليو 1980، حين أقر الكنيست قانوناً أساسياً يعتبر "القدس الكاملة والموحدة عاصمة إسرائيل".(3) وكانت الحكومة الإسرائيلية اتخذت، فيما اتخذت، في 18 آب/أغسطس 1967، قراراً يفوض رئيس الحكومة تسريع عمليات البناء والإسكان في "القدس الكبرى".(4)
ترافق مثل هذه الإجراءات، باستمرار، ومنذ أيام الاحتلال الأولى، مع خطط ومشاريع استيطانية ضخمة تهدف إلى إيجاد أكثرية يهودية، حتى في القدس الشرقية نفسها: خطة يهودا تمير، نائب المدير العام لوزارة الإسكان في تموز/يوليو 1967؛ المخطط الرئيسي للقدس الذي أقر في تموز/يوليو 1970؛(5) وصولاً إلى "خطة تطوير القدس الكبرى حتى سنة 2010" التي أعلنها رئيس دائرة الاستيطان في المنظمة الصهيونية، متتياهو دروبلس، في أيار/مايو 1984.(6) كما رافق ذلك عمليات استيلاء على مساحات من الأراضي الفلسطينية، وإقامة ضواح استيطانية يهودية عليها. مثال ذلك قيام حكومات المعراخ، في السبعينات، بمصادرة نحو 17 ألف دونم، وإقامة أبرز الضواحي عليها: راموت، نفي يعقوب، رامات إشكول، سنهدريا الموسعة، غِفعات هَمِفاتير، التلة الفرنسية، قصر المندوب.(7)
وفي المقابل، تم فرض مختلف أنواع القيود على البناء العربي في القدس. فقد توصلت دراسة أعدها ثلاثة من الباحثين الإسرائيليين إلى أن المتوسط السنوي للوحدات السكنية التي بُنيت في القدس في الفترة ما بين 1977 و1983 مثلاً، كان نحو 2170 وحدة لليهود ونحو 320 وحدة فقط للعرب، أي تسع وحدات سنوياً لكل ألف يهودي، قياساً بـ 1,9 وحدة سكنية فقط لكل ألف عربي.(8) وذكر مصدر آخر لا يُخفي تعاطفه مع سياسة "الأمر الواقع"، أن مجموع الوحدات السكنية التي بُنيت لليهود في القدس، منذ احتلالها وحتى أوائل التسعينات، بلغ 72 ألف وحدة، كان 40% منها (أي نحو 29 ألف وحدة سكنية) في الضواحي الاستيطانية التي استُحدثت بعد سنة 1967، أمّا ما بناه الفلسطينيون فلم يتجاوز 7 آلاف وحدة سكنية.(9)
في أي حال، تصاعدت، في الأعوام الأربعة الماضية، حمى سياسة فرض واقع التهويد على القدس، وذلك بفعل متغيرين أساسيين: استقدام مئات الآلاف من يهود الاتحاد السوفياتي السابق، والكلام على التسوية السياسية للصراع العربي - الصهيوني. فكان أن تكثفت الخطط الإسرائيلية لإسكان المستوطنين اليهود، من المهاجرين القدامى أو الجدد، سواء داخل أسوار المدينة القديمة، أو في ضواحيها الجديدة، أو ضمن حدود "القدس الكبرى" (وفي الأراضي المحتلة الأخرى، طبعاً، وإن بوتيرة أقل نسبياً). ومن أبرز هذه الخطط:
ـ "الخطة الاستيطانية الخمسية الشاملة"، التي قدمها إلى الحكومة أريئيل شارون، لدى توليه منصب وزير البناء والإسكان، في حزيران/يونيو 1990، والتي حظيت بموافقة الحكومة آنذاك. وتضمنت هذه الخطة العمل على "البناء في القدس الكبرى، بهدف تعزيز وضع القدس بوصفها عاصمة إسرائيل الأبدية".(10)
ـ"خطة بوابات القدس"، وهي خطة سرية، تم كشف النقاب عنها في أواخر سنة 1991، أعدتها وزارة البناء والإسكان ومجموعة "عطيرت كوهانيم"، وتتضمن إقامة 26 نقطة استيطانية جديدة في القدس. وسيجري، بموجب هذه الخطة، إقامة 4 آلاف وحدة سكنية على أراض مساحتها 3345 دونماً، صودر معظمها سنة 1967.(11)
وكان أيضاً، في سياق تصعيد فرض الأمر الواقع، أن أصدرت الحكومة الإسرائيلية قراراً في 14 تشرين الأول/ أكتوبر 1990 يقضي ببناء 5 آلاف وحدة سكنية في القدس في العام الواحد (بدلاً من ألفّيْ وحدة)، وبمنح القدس مكانة منطقة تطوير أ،(12) مع كل ما تتضمنه هذه المكانة من حوافز وتسهيلات لكل من الاستيطان والاستثمار. وكان، طبعاً، أن تم استثناء القدس (ومناطق محتلة أخرى) من قرار الحكومة العمالية الجديدة، في تموز/يوليو 1992، "تجميد" الاستيطان.(13) وفي ظل هذه الحكومة، تألفت لجنة مشتركة من بلدية القدس ووزارتي الإسكان والداخلية، كلفت فريقاً من الخبراء إعداد خطة رئيسية لـ "تطوير منطقة القدس الكبرى". وقد أعدت اللجنة، فعلاً، اقتراح عمل يقوم على فرضية الانتقال الحر للسكان والعاملين ورؤوس الأموال في هذه المنطقة كلها، أيّاً كان الحل السياسي والتنظيمي الذي سيشملها.(14) وترتب على ذلك كله، أنْ استوعبت القدس من المهاجرين الجدد (32 ألف مهاجر خلال الفترة 1990 – 1992)(15) أكثر مما استوعبت أي مدينة أخرى في فلسطين المحتلة، وترتب عليه، خصوصاً، تمهيد الطريق إلى "القدس الكبرى".
القدس الكبرى
بعد احتلال القدس الشرقية، قررت السلطات الإسرائيلية توسيع منطقة صلاحية بلدية القدس ثلاثة أضعاف تقريباً، من 38 ألف دونم (هي منطقة القدس الغربية المحتلة منذ العام 1948)، إلى نحو 110 آلاف دونم، شملت أراضي جرى احتلالها سنة 1967،(16) وهذا يعني أن مساحة منطقة الصلاحية الجديدة تعادل 20% من مجموع مساحة الضفة الفلسطينية البالغة نحو 550 ألف دونم، وأن الأراضي التي ضُمت حديثاً تعادل 14% من مساحة الضفة.
ومنذ ذلك الحين، استطاعت سلطات الاحتلال أن توجد ضمن منطقة الصلاحية هذه عدداً من النقاط الاستيطانية (داخل أسوار المدينة القديمة) و12 ضاحية استيطانية، تحوطها مستوطنات مدينية، من بينها معاليه أدوميم - أكبر مستوطنات الضفة، ويستوطن هذه المنطقة نحو 140 ألف يهودي،(17) أي ما يفوق مجموع عدد المستوطنين في الضفة والقطاع المحتلين معاً.
يُلاحظ في توزع هذه الضواحي والمستوطنات أنها تنتظم في طوقين مُتَّحِدَيْ المركز. ويتكون الطوق الداخلي من الأحياء التي أُقيمت في القدس الشرقية، بهدف إيجاد أكثرية يهودية فيها نفسها، من خلال توفيرها السكن للمستوطنين اليهود، وتقييد البناء العربي ومنع زيادة السكان العرب في آن. وهي تشكل، أيضاً، حاجزاً مادياً متواصلاً، يفصل القدس عن الضفة الفلسطينية. أما الطوق الثاني، الخارجي، فيحوط القدس من جهات الجنوب والشرق والشمال، ويتكون من سلسلة مستوطنات تبعد أقصاها 11 ميلاً (أي نحو 17 كلم) عن مركز القدس. وهذه المستوطنات هي: بيتار، معاليه أدوميم، مخماس، أدام، أبير يعقوف، غِفعات زئيف، هار آدار، إضافة إلى كتلة مستوطنات عتسيون (المكونة من 16 مستوطنة). ويسكن هذه المستوطنات نحو 33 ألف مستوطن،(18) أي ربع مجموع مستوطني الضفة تقريباً.
تقع هذه المستوطنات الأخيرة خارج حدود صلاحية بلدية القدس. وهذا ما يطرح المشكلة التالية: إذا كان مفهوم منطقة الصلاحية محدداً وواضحاً (كما هو الحال)، فالأمر ليس كذلك بالنسبة إلى مصطلح القدس الكبرى (أو أنه، على الأقل، ليس كذلك دائماً). ذلك بأنه على الرغم من استخدام المصطلح - كما رأينا - منذ بداية الاحتلال حتى الآن، فإنه لم يكن يعني المنطقة نفسها دائماً، كما أن ثمة إيحاء بأنه مرادف لمصطلح آخر هو: القدس المتروبوليتانية (حاضرة القدس). فبعض المصادر(19) يتحدث عن منطقة لـ "القدس الكبرى تشـمل دائرة حول المدينـة يتراوح نصف قطرها بين 15 كلم و 20 كلم،
ثم يتحدث - في السياق نفسه - عن منطقة "متروبوليتانية" للقدس تشمل مستوطنات بيتار عيليت ومعاليه أدوميم وغفعات زئيف وكيدار - وهي مستوطنات تقع خارج حدود منطقة الصلاحية بالتأكيد، وخارج حدود القدس الكبرى بحسب تعريفات أخرى. كما أن مصادر أخرى(20) تتضمن حدوداً لـ "القدس الكبرى" هي رام الله شمالاً، والخليل جنوباً، والتلال المشرفة على أريحا شرقاً. وتضع مصادر غيرها(21) حدوداً لخريطة "متروبولين" القدس تبدو كأنها هي نفسها حدود القدس الكبرى.
لعل هذه التعريفات، المتباينة بوضوح، لمفهوم القدس الكبرى، هي مثال آخر على سياسة التضليل المتعمد التي تنتهجها سلطات الاحتلال الإسرائيلية في شأن كل ما يتعلق باستيطان الأراضي المحتلة عموماً وتهويدها. ولعلها، في الوقت نفسه، جزء من سياسة هذه السلطات في إبقاء الاحتمالات المستقبلية بشأن القدس مفتوحة أمامها، إلى حدها الأقصى. وهذا ما يؤكده وجود لجان وخطط متعددة لدراسة "توسيع" حدود صلاحية بلدية القدس.(22) وفي هذا ما يذكرنا بمرونة المفهوم الأساسي للمشروع الصهيوني وضبابيته، الذي قام، ولا يزال، على أساس فرض الأمر الواقع: مفهوم إسرائيل الكبرى.
المصادر:
(1) أنظر: يسرائيل كيمحي، "خطوط لتطور القدس في الأعوام الخمسة الأخيرة"، "سكيراه حودشيت"، العدد 6، أيلول/سبتمبر 1992، ص 29 – 36.
(2) مايكل دمبر، "الاستيطان اليهودي في القدس القديمة"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 8، خريف 1991، ص 31.
(13) أنظر نص القوانين الثلاثة في: سمير جريس، "القدس: المخططات الصهيونية، الاحتلال، التهويد"، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ص 227، 228، 256.
(4) المصدر نفسه، ص 117.
(5) المصدر نفسه، ص 118 – 123.
(6) أنظر: خالد عايد، "الاستعمار الاستيطاني للمناطق العربية المحتلة خلال عهد الليكود، 1977 – 1984"، نيقوسيا: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1986، ص 102 – 106.
(7) نداف شرغاي، "الديموغرافيا قبل كل شيء"، 31/5/1992.
(8) المصدر نفسه،
(9) كيمحي، مصدر سبق ذكره.
(10) أريئيل شارون، "الخلاف في شأن سياسة البناء: تحقيق أهداف قومية أم لا"، "معاريف"، 22/11/1991.
(11) أنظر: "هآرتس"، 4/10/1991.
(12) نداف شرغاي، "هآرتس"، 16/10/1990.
(13) أنظر: "هآرتس"، 21/8/1992.
(14) نداف شرغاي، "هآرتس"، 3/1/1993.
(15) كيمحي، مصدر سبق ذكره.
(16) نداف شرغاين "هآرتس"، 22/7/1992.
(17) هذا العدد بحسب: “Israel Creates Wall of Concrete Around Greater Jerusalem,” Report ofn Israeli Settlement in the Occupied Territories, Vol. 2, No. 1, January 1992, p. 6.
(18) Ibid.
(19) مثلاً ، كيمحي، مصدر سبق ذكره.
(20) مثلاً: “Israel Creates Wall of Conrete,” op.cit.
(21) نداف شرغاي، "هآرتس"، 3/1/1993.
(22) للتفصيلات، أنظر: شرغاي، "هآرتس"، 22/7/1992.