Prospects for Peace Between Syria and Israel
Keywords: 
العلاقات الخارجية السورية
محادثات سلام بين سورية وإسرائيل
مؤتمر مدريد 1991
حرب الخليج 1991
الحرب الباردة
Full text: 

المقدمة

يطرح اشتراك سوريا في محادثات السلام منذ مؤتمر مدريد سنة 1991 سؤالين رئيسيين: الأول، هل هناك تغيير في موقف سوريا من إسرائيل، أم أن هذا الموقف خطوة تكتية في ضوء ضعف الموقف العربي العام بعد حرب التحالف الدولي ضد العراق؟ والسؤال الثاني هو إلى أي حد تأقلمت سوريا مع المتغيرات الاستراتيجية في البيئتين الإقليمية والدولية منذ انتهاء الحرب الباردة؟

وطبعاً، يتبع ذلك مجموعة من الأسئلة الفرعية: هل تبدل الوضع السوري الاستراتيجي إلى المستوى الذي تطلب الانتقال من سياسة المواجهة إلى قبول التسوية مع إسرائيل؟ وإذا كانت قد استجابت للعوامل الإقليمية والدولية الجديدة، فهل هناك تحول أساسي في توجهات سياستها الخارجية، أم أن ذلك عبارة عن تعديل موقت لملاءمة أوضاع غير متوقعة؟ وما هو مفهومها الدقيق للتسوية السلمية؟ وإلى أية درجة طرأ عليه تعديل، إذا حدث؟

هذا المقال سيحاول الإجابة عن هذه الأسئلة، وأطروحتها الأساسية هي كالتالي: إنه منذ تولي الرئيس حافظ الأسد مقاليد الحكم عام 1970 – 1971 أُعطيت الأولوية لكبخ جماح توسع إسرائيل، وذلك بإجلائها عن الأراضي المحتلة منذ سنة 1967، وتمكين الشعب العربي الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير المصير على أرضه، وهما العنصران الأساسيان في أية تسوية شاملة وعادلة للنزاع؛ وهذا ما يتطلب التعامل مع إسرائيل كواقع ضمن حدود ما قبل سنة 1967. إلا إن طريق الوصول إلى هذه التسوية، وطبيعتها، وشروطها الشكلية، خضعت للتغيير بفعل ضغط العوامل المتغيرة، سواء كانت داخلية أو إقليمية أو دولية. 

أولاً: العوامل الخاصة المحددة للمواقف السورية

يشترك السوريون مع باقي العرب في النظر إلى إسرائيل كونها كياناً دخيلاً وتوسعياً زُرع في وسطهم من قبل الدول الاستعمارية السابقة، بريطانيا وفرنسا، وبمساعدة الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي. فالذرائع التاريخية والدينية التي تدعيها إسرائيل تنهار أمام الحق الفلسطيني العربي الثابت في ملكية أرض فلسطين لأكثر من ألف عام. وحتى شرعية قرار الأمم المتحدة رقم 181 لسنة 1947، القاضي بالتقسيم، يُطْعّن فيه نظراً إلى اتخاذه بسبب الضغط الأميركي. إلا إن هناك ثلاثة عوامل خاصة أعطت التصورات والمواقف السورية طابعها الخاص:

  • العامل التاريخي، ويستند إلى الآمال التي لم تتحقق بإقامة الدولة السورية المستقلة الواحدة والشاملة لفلسطين ولبنان (الأردن لم يكن قد أُنشىء بعد) "ضمن حدودها الطبيعية"، بحسب قرار المؤتمر السوري العام في 8 آذار/مارس 1920*.
  • يعتبر السوريون أنفسهم بصورة عامة، وخصوصاً حزب البعث العربي الاشتراكي، حَمَلَةَ راية القومية العربية. وإضافة إلى ذلك، ينظر حزب البعث إلى نفسه أنه الوارث والخليفة لحركات القومية العربية التي ازدهرت في سوريا ولبنان أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

ج) منذ حرب 1973، ومع نمو القوة العسكرية، أصبحت سوريا أكثر نفوذاً في شرقي المتوسط وعلى المستوى العربي. وهذا التحول من كونها دولة خاضعة للتنافس العربي، بين مصر والعراق، إلى دولة عربية رئيسية متنفذة، أعطاها إحساساً متناسباً من الشعور بالمسؤولية لقيادة الصراع ضد إسرائيل، وخصوصاً بعد الصلح المنفرد بين مصر وإسرائيل سنة 1979.

إن هذه العوامل الخاصة تولّد، بدورها، ثلاث نتائج مهمة تؤثر في المواقف السورية عامة:

1  -  تنظر سوريا إلى النزاع مع إسرائيل أنه صراع طويل الأمد، نظراً إلى ميل ميزان القوى إلى مصلحة إسرائيل. وهذه النظرة ليست محصورة في طريق الوصول إلى تسوية تستجيب للشروط العربية فقط، ولكنها تتعلق أيضاً بالحل النهائي للنزاع بالمعنى الدقيق.

2  -  تعتبر سوريا أن الصراع مع إسرائيل يتمتع بأولوية على أية نزاعات جانبية أُخرى. وهذا، بالتالي، ما يدفعها إلى رفض الانتقادات المحلية، وازدراء الآراء الغربية فيما يتعلق بسلوكها تجاه النزاع. وطبيعي أن يسبب هذا الموقف بعض الخلاف في وجهات النظر مع الدول العربية الأُخرى في شأن الأولويات، كما حدث في لبنان، أو خلال الحرب العراقية  -  الإسرانيلية وحرب تحرير الكويت.

3  -  على الرغم من بعض الخلافات بين سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية، فإن سوريا تعتبر الشعب العربي الفلسطيني جزءاً من "العائلة" نفسها، وهناك شعور عميق بالتعاطف مع قضيته ومع ما يحل به من مآس، وخصوصاً ما حدث في الأردن ولبنان والكويت، وما يتعرض له الآن من قمع في الأراضي المحتلة. 

ثانياً: تطور الموقف السوري

اعتبرت حرب 1967 عامة أنها منعطف أساسي في الصراع العربي - الإسرائيلي، بسبب تحويله من صراع يهدف كل طرف فيه إلى فناء الآخر، أي عدمي (a zero-sum game)، إلى صراع يجمع النزاع مع القبول بوجود الطرف الآخر كواقع (a non-zero-sum)، من دون الاضطرار إلى الدخول في علاقات سلمية. ولكن ما هو أهم من ذلك هو ما أحدثته الهزيمة من أثر نفسي ناجم عن تصحيحها التنافر في التصور العربي لإسرائيل (على الرغم من أن البعض لا يزال يرفض التعامل مع واقع وجود إسرائيلي)، إلا إن الأغلبية في الأردن وسوريا ولبنان ومصر وبين الشعب الفلسطيني مالت إلى قبوله، لكن مع احتوائه. وبكلمات أخرى: كان هناك قبل الحرب تنافر في الإدراك العربي سببه الهوة بين إنكار الواقع الإسرائيلي وانعدام الوسائل لإطاحة الشيء المحسوس، ولكن غير المرغوب في وجوده. ومن المتناقضات التي أفرزتها الهزيمة أنها أثبتت شكوك العرب في أهداف الكيان الصهيوني التوسعية، لكنها في الوقت نفسه دفعتهم إلى التسليم بها واقعاً قائماً مفروضاً عليهم.

ولا شك في أن هذا التحول في التصور الذهني، العربي والسوري، مكّن الرئيس الأسد من بدء عملية تحديد الأولويات في المفهوم الأمني السوري تجاه إسرائيل، فرفض، أولاً، مفهوم "حرب التحرير الشعبية" كوسيلة ناجعة لمحاربة إسرائيل، ووضعها في موقعها الصحيح ضمن التقاليد العسكرية؛ وهي كونها استراتيجية مساندة للحرب التقليدية.

وثانياً، بدأ يفصل بالتدريج الجوانب السياسية والعسكرية للنزاع التي تتطلب معالجة في الأمد القريب عن البعد العقائدي لهذا النزاع، أي الصدام بين الحركة الصهيونية والقومية العربية الذي يتوجب التعامل معه في الأمد الطويل.

وثالثاً، أكد أن المهمة المستعجلة هي احتواء التوسع الإسرائيلي من خلال تحرير الراضي العربية المحتلة منذ سنة 1967. وعلى ذلك أشار في خطب عدة وأحاديث صحافية، في سنة 1971 وسنة 1972،  إلى استعداده لقبول قرار مجلس الأمن رقم 242 شرط ضمان الحقوق العربية**. وهذا ما دلّ على تحديد أهداف حرب 1973 التي شُنت بالاشتراك مع مصر كمقدمة لتسوية شاملة.

ورابعاً، شرع في تحسين علاقات سوريا بالدول العربية تحقيقاً لسياسة "التضامن العربي"، ونبذ التفريق بين أنظمة "ثورية" وأنظمة "محافظة".

بعد الحرب، قبلت سوريا قرار مجلس الأمن رقم 388، المتضمن القرار رقم 242. كذلك وافقت على قرار مؤتمر القمة العربي السادس في الجزائر سنة 1973، الذي حدد الأهداف المرحلية بتحرير كامل الأراضي المحتلة منذ سنة 1967، بما فيها القدس العربية، والتزام استعادة الحقوق الوطنية للشعب العربي الفلسطيني وفق ما تقرره منظمة التحرير الفلسطينية، بوصفها الممثل الشرعي الوحيد للشعب العربي الفلسطيني. وبالتالي، أصبح الموقف الرسمي أنه في مقابل الانسحاب الإسرائيلي الكامل يجري إنهاء حالة الحرب فقط، أي عدم ضرورة إقامة علاقات سلمية؛ فإنهاء حال الاحتلال لا يعني زوال جميع أبعاد الصراع، وخصوصاً البعد العقائدي. فالصراع سيستمر، وإن كان بوسائل سلمية، لتحديد ماهية الوجود الإسرائيلي وقابلية تعايشه ضمن المنظومة العربية. فالحل "النهائي" يمكن أن يأخذ أشكالاً عدة، منها: دولة ديمقراطية تجمع الشعبين الفلسطيني واليهودي؛ أو دولة ثنائية القومية؛ أو تجمع إقليمي في المستقبل البعيد ينفي الصبغة التوسعية الصهيونية عن وطن يهودي، ويخضعه لأولوية المصالح العربية العليا.

وفي سنة 1982 وافقت سوريا، أيضاً، على قرارات مؤتمر القمة العربي الثاني عشر في فاس، الذي أقر مفهوم قيام دولتين على أرض فلسطين.

 ثالثاً: الانضمام إلى عملية التسوية السلمية

على الرغم من أن سوريا تقبلت بالتدريج فكرة الحل بالتفاوض مع إسرائيل، فإنها كانت تصرّ دوماً - حتى وقت قريب - على الشروط الإجرائية للتوصل إلى تسوية. فهي قبلت فكرة عقد مؤتمر سلام دولي برعاية الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية واشتراك الأمم المتحدة، سنة 1973. لكنها رفضت الاشتراك في مؤتمر جنيف في السنة نفسها بسبب عدم توقيع اتفاقية لفصل القوات في ذلك الوقت، والتي وُقِّعت لاحقاً سنة 1974.  ومع ذلكن تابعت الولايات المتحدة جهودها مع سوريا لعقد مؤتمر ثان في سنة 1977. لكن هذا المؤتمر لم يلتئم بسبب قيام إسرائيل بإفشال الاتفاق الأميركي - السوفياتي لعقده في تشرين الأول/أكتوبر من السنة نفسها. وتبع ذلك توجه مصر إلى عقد صلح.

إن الأساس المنطقي الكامن خلف معارضة سوريا لهذا الصلح يستحق إعادة بيانه لإلقاء الضوء على العملية السلمية الراهنة. إن السبب المبرر للمؤتمر الدولي هو أنه نظراً إلى ضعف الموقف التفاوضي العربي الذي لا يسمح بإكراه إسرائيل على قبول المطالب العربية، فإن الطرف العربي يحتاج إلى توازن دولي يكمل التوازن الإقليمي للتعويض من ضعفهم. وإضافة إلى ذلك، فإن الصلح المنفرد لم يؤد إلى إضعاف الموقف العربي فقط، بل إنه فشل أيضاً في تسوية جوانب النزاع كلها، وخصوصاً مسألته المحورية: المشكلة الفلسطينية وكل تشعباتها؛ فهناك أيضاً لاجئو في الردن وسوريا ولبنان، ولا بد من إيجاد حل مرض لوضعهم؛ ولهذه الأسباب أصرّت سوريا دائماً على الحل الشامل.

ومع الصلح المصري - الإسرائيلي المنفصل تراجع الموقف السوري إلى ما وُصف، بدقة، "الرفض التكتي". فوقعت سوريا اتفاقية صداقة وتعاون مع الاتحاد السوفياتي سنة 1980، وأصرت على إعادة "التوازن الاستراتيجي" من خلال تبنّي عقيدة "التعادل العسكري أو الاستراتيجي". وإضافة إلى تصدع التوازن العربي ضد إسرائيل، نشبت الحرب العراقية - الإيرانية سنة 1980 التي دمرت ما بقي من "التضامن العربي". كما زاد الأمر تعقيداً عندما اجتاحت إسرائيل لبنان سنة 1982 واصطدمت مع القوات السورية لفترة قصيرة، تكبدت سوريا خلالها خسائر كبيرة في العتاد والرجال لإحباط أهداف الاجتياح الإسرائيلي بفرض حكومة لبنانية تخضع للهيمنة الإسرائيلية.

وتحسن الوضع نسبياً عندما سجلت سوريا نصراً في لبنان سنة 1984 بإبطال الاتفاق اللبناني - الإسرائيلي لسنة 1983، وإجبار إسرائيل على الانسحاب إلى الشريط الحدودي بفعل ضغط عمليات المقاومة اللبنانية والفلسطينية. وعلى الرغم من ذلك، فإن سوريا لم تكن في مزاج للكلام على السلام وهي ترى نفسها في وضع حصار من كل جانب عربي وإسرائيلي. وجاء الإنقاذ مع انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية سنة 1988، الأمر الذي سمح لسوريا بالتحرك لإعادة ترميم التضامن العربي. وفي الوقت نفسه، أبدت الولايات المتحدة الرغبة في إعادة إحياء محادثات السلام، مع اشتداد الانتفاضة الفلسطينية في الأراضي المحتلة.

لكن بالتوازن مع هذه التطورات بدأت تباشير انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي تلوح في الأفق، وهو ما عنى اختفاء التوازن الدولي الذي اعتمدت سوريا عليه لدعم وضعها الاستراتيجي. فالاتحاد السوفياتي، بزعامة غورباتشوف، قرر إعادة رسم مصالحه الإقليمية في الشرق الأوسط، والتوجه من المجابهة إلى التعاون مع الولايات المتحدة. وكذلك نصح غورباتشوف للرئيس الأسد أن يجعل هدفه "توازن المصالح" عوضا من "التوازن الاستراتيجي"، وهو أمر لم يلق الترحاب الكثير في سوريا.

وكردة فعل تجاه هذه التطورات، عملت سوريا على إحياء التحالف الثلاثي من السعودية ومصر وسوريا سنة 1989، كركيزة للتضامن العربي - على غرار ما كان الأمر عليه في السبعينات - وذلك من أجل كبح جماح إسرائيل، علماً بأنها قد أحرقت أصابعها في لبنان بإعادة إشعال الحرب الأهلية.

وما أن وضعت حرب الخليج أوزارها حتى بادر الرئيس الأميركي بوش إلى إعلان مبادرته في آذار/مارس 1991، المتضمنة صيغة معدلة للمؤتمر الدولي للسلام. فالمبادرة تستجيب لبعض الطلبات السورية، مثل السعي لتسوية شاملة طبقاً لقراري مجلس الأمن رقم 242 و 338، وتؤكد مبدأ "السلام في مقابل الأرض"، كما أنها تعترف بالحقوق السياسية المشروعة للشعب الفلسطيني. لكن الصيغة المقترحة بعيدة كل البعد عما كانت سوريا تصر عليه فيما يتعلق بالدور الإجرائي للمؤتمر. فالأمم المتحدة أُعطيت دور مراقب، والمؤتمر مجرد مظلة لمفاوضات فردية من دون التزام إسرائيل بشروط مسبقة. لكن، واقعياً، كان من غير المجدي الإصرار على وجوب أن يفرض المؤتمر تسوية بسبب عطالة الوزن السوفياتي المقابل للثقل الأميركي.

وكانت سوريا تنظر إلى موقف أميركي متوازن من خلال استغلال العلاقة الأميركية - العربية الجديدة، الناجمة عن توافق المصالح في حرب الخليج الثانية.

فمن الواضح، إذاً، أن سوريا وافقت على المبادرة بفعل ضغط المتغيرات الإقليمية والدولية، التي لا يمكن السيطرة عليها. بمعنى آخر، فإن الشروط المثلى لإيجاد تسوية ببساطة لا يمكن تحقيقها مادياً في الوقت الراهن، وهي تحقيق التوازن الإقليمي والدولي. وعوضاً من ذلك، استغلت سوريا إلى أكبر قدر ممكن ما تقدمه العوامل الجديدة، بما في ذلك الموقف الأميركي الجديد. فما هي، إذاً، فرص التوصل إلى تسوية في نطاق "النظام العالمي الجديد"؟

 رابعاً: المواقف التفاوضية لسوريا وإسرائيل

عندما وافقت سوريا على حضور المؤتمر الدولي في مدريد لم يكن لدى قيادتها السياسية أوهام بشأن فرص النجاح في الأمد القصير، وإنما اعتبرت المفاوضات معركة أُخرى في صراع طويل الأمد لاحتواء التوسع الإسرائيلي واستعادة الحقوق العربية. على أنه يجب الأخذ بعين الاعتبار أن المفاوضات بدأت في ظل حكومة الليكود. وعقب الانتخابات الإسرائيلية في حزيران/يونيو 1992، التي أوصلت حزب العمل إلى الحكم، لم تكن ردة الفعل السورية متفائلة جداً أيضاً؛ ومرد ذلك إلى اعتبار التيارين السياسيين الإسرائيليين الأساسيين وجهين لعملة واحدة.

وفي كل الأحوال، بيّن الرئيس الأسد في ثلاث مقابلات صحافية قبل عقد المؤتمر سنة 1991 أن لعملية التسوية فرصة من النجاح، وإنْ كانت تتطلب وقتاً. ويستند تحليله - على ما يبدو - إلى توفر المصالح الإقليمية والدولية، وخصوصاً الأميركية، في التوصل إلى تسوية لضمان الاستقرار في المنطقة. وإضافة إلى ذلك، فمع إصرار الرئيس الأسد على الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة وعلى السلام الشامل العادل، أوضح أن العملية ستنتهي "باتفاق سلام". وفي الوقت نفسه، قال إن أية إجراءات لبناء الثقة يمكن دراستها بحسب جدارتها، لكنه لم يعتبر الانسحاب الجزئي كافياً للسلام الشامل.

ومع قبول الحكومة الإسرائيلية الجديدة اعتبار القرارين رقم 242 و 338 أساسين للتفاوض، قدم الجانب السوري ورقة عمل في أيلول/سبتمبر 1992، اعتبرت خرقاً في المفاوضات. وعلى الرغم من عدم نشرها رسمياً، إلا إن عناصرها تسربت، في معظمها، إلى الصحف من مصادر سورية؛ فهي توضح الموقف السوري الأساسي القائم على التزام إسرائيل الانسحاب الكامل طبقاً لجدول زمني محدد، والاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، والأمن المتبادل. وفي المقابل تُوقِّع سوريا اتفاق سلام، ضمن نطاق السلام الشامل على الجبهات الأخرى، يضع حداً لحالة الحرب، ويعترف بواقع دولة إسرائيل والحدود الدولية.

أما فيما يتعلق بتطبيع العلاقات، أي إقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية كاملة، فإن وجهة النظر السورية بقيت على حالها، وهي أن القرار رقم 242 لا يتضمن مثل هذا الالتزام. وهذا الموقف يوضح السبب في استخدام سوريا تعبير "الاتفاق" لا تعبير "المعاهدة". وتعتبر أن مثل هذا الوضع سيتم البحث فيه، مستقبلاً، بعد أن تلتزم إسرائيل الانسحاب الكامل وتنفذه في مرتفعات الجولان، وبعد أن يُعبّر الفلسطينيون عن رضاهم تجاه التقدم في حل مشكلتهم لنيل حقوقهم.

لم يقبل الجانب الإسرائيلي حتى الآن مبدأ الانسحاب الكامل. وإنما يعطي إشارات فقط إلى إمكان الانسحاب الجزئي. وما يمكن استشفافه من التصريحات الأخيرة لرئيس الحكومة الإسرائيلية، يتسحاق رابين، هو أن إسرائيل يمكن أن تنظر في إمكان انسحاب كامل من الجولان في مقابل سلام بالمعنى الشامل لجوانبه كافة؛ ويمكن تفسير هذا الموقف من قوله إن "البعد الجغرافي للانسحاب" يعتمد على نوع السلام الذي تعرضه سوريا، وإن "معاهدة السلام يجب أن تنفصل عن بقية المفاوضات."(1)     ورسالة رابين واضحة: إذا قبل الرئيس الأسد الصلح الانفرادي وفصل صلة سوريا عن المعضلة الفلسطينية، فإنه يمكن أن يحصل على هدفه مثل مصر. والجدير بالذكر أن رابين أعاد ترتيب أولوياته، وهو الآن يركز على سوريا علماً بأنه، خلال الحملة الانتخابية، قال أنه سيوجه اهتمامه الأول إلى الحكم الذاتي الفلسطيني. لكنه، بحسب اعترافه الأخير، قال أنه أخطأ في تقدير حجم المشكلات التي يتضمنها هذا الموضوع.(2)  في ذاك الوقت انتقدت سوريا وعارضت بشدة، ولا تزال تعارض، أية محاولة للتوصل إلى توقيع اتفاق منفصل على أية جبهة، انطلاقاً من موقفها الثابت أن السلام يجب أن يكون شاملاً، وإنْ كان هذا لا يعني التقدم على مختلف الجبهات بوتيرة متفاوتة نظراً إلى اختلاف طبيعة المسائل المطروحة.

 خامساً: تقويم عملية السلام

إن إحدى الطرق المفيدة، لتقويم فرص التوصل إلى تسوية، هي مقارنة عملية السلام الحالية بما حدث بين مصر وإسرائيل. وقد قدمت إحدى الباحثات في شؤون النزاع العربي - الإسرائيلي نموذجاً تعليلياً يساعد في فصل وتفهم دور العوامل المختلفة لعقد اتفاق سلام؛ فهي تفترض توفر عاملين بيئيين متغيرين هما: شدة تنافس الدول الخارجية وامتقات الحرب؛ توفر دور الوسيط وهو الولايات المتحدة.(3) ثم أضافت عاملاً آخر هو الضغط الاقتصادي، وإنْ كانت غير متأكدة من فعالية دوره.(4)  

هذا التحليل يغفل الإشارة إلى عاملين متغيرين آخرين، لكنهما مهمين جداً في تسهيل التوصل إلى اتفاق بين مصر وإسرائيل، وهما: الفوائد المترتبة لإسرائيل من جراء عقد معاهدة صلح منفصل مع مصر، الأمر الذي أدى إلى إضعاف القوة التفاوضية للأطراف العربية الأخرى؛ القيمة التفاضلية لصحراء سيناء بين كونها منطقة امتصاص لهجوم عسكري مصري، وبين اعتبارها عازلاً جغرافياً للإنذار المبكر.

وإذا ما أُخذت هذه العوامل كلها بعين الاعتبار، يمكن استنتاج فرص نجاح المفاوضات الحالية من خلال التأكد من وجودها أو عدمه. وإذا وُجدت هذه العوامل، ما هو الدور الذي تؤديه.

       1) يؤكد النموذج التحليلي المشار إليه أنه حين قام الرئيس السادات بإبعاد الاتحاد السوفياتي عن المفاوضات، تمكن من عزل العلاقة الاستراتيجية بين مصر وإسرائيل عن تنافس القوى الخارجية. وقد وجدت هذه المقولة تأييداً لها في الحكم العام الذي توصل غليه باحثان آخران، وفحواه أن "فرض النزاع أسهل من فرض التعاون على أعضاء نظام دولي خاضع" لقوى النظام الدولي الأولي، أي الدول الكبرى.(5) كذلك هناك رأي آخر توصل إلى الحكم نفسه، وهو أن "... القوى الخارجية المتنافسة تعزز عادة النماذج السائدة للنزاعات المحلية أكثر من أن تغيرها." لكن هذا الرأي الأخير يقدم استثناء لهذه القاعدة، وهو حالة "لجوء القوى الخارجية إلى الاحتواء المباشر للمجموعة [الأمنية] المحلية"، بهدف تغيير هذه النماذج. ويضرب مثلاً في ذلك، السلام بين مصر وإسرائيل.(6) فإذا كانت النتيجة المنطقية لهذه القواعد سيطرة أميركية كاملة، فمن غير الممكن أن تقبل سوريا بها ثمناً لإنهاء النزاع.

على أن السؤال الرئيسي هو: هل تنطبق هذه الأحكام العامة حقاً على النزاع العربي - الإسرائيلي؟ وبما أن التنافس الاستراتيجي للدول الخارجية انتهى طبيعياً - في الوقت الراهن على الأقل - مع زوال الحرب الباردة، فهل يساعد ذلك عملية التسوية؟ إن المشكلة في هذه التعميمات أنها لا تأخذ في الحسبان ميزات النزاع الخاصة:

أ  -  هناك تحيز غربي ذاتي عامة، وأميركي خاصة، إلى مصلحة إسرائيل نابع من الروابط الحضارية.

ب  -  يعتبر العرب عامة معادين، أو توفر إمكان معاداتهم، للمصالح الغربية، على الرغم من وجود بعض الحالات التخفيفية لهذه النظرة، كالحرب العراقية - الإيرانية وما بين الغرب من جهة والدول العربية الخليجية ومصر وسوريا خلال تحرير الكويت من جهة أُخرى. وعلى ذلك، فمقولة إن إسرائيل فقدت قيمتها الاستراتيجية لحماية المصالح الغربية هي سارية المفعول فيما يتعلق بالسياسات السوفياتية السابقة فقط.

ج  -   المشكلة الفلسطينية ليست نزاعاً بين الدول، وإنما هي نزاع له صفة داخلية يطالب فيه الشعب الفلسطيني بحقه الطبيعي في بناء دولته ضد مغتصب. وهذا النزاع جزء لا يتجزأ من النزاع العربي - الإسرائيلي العام بين الدول.

د  -  في المعادلة الإسرائيلية - العربية، يتصف الجانب العربي عامة بالضعف على المستوى الدولي السياسي والعسكري، ولذلك يحتاج إلى دعم توازني كي يستطيع التفاوض من منطلق المساواة.

وعلى ذلك، فمن المبكر جداً التوصل إلى نتيجة نهائية فحواها أن اختفاء التنافس الاستراتيجي، بين القوى الخارجية في المنطقة، سيكون عاملاً سببياً في التوصل إلى تسوية تستجيب للمطالب العربية. وكل ما يمكن قوله إن ذلك يمكن أن يشكل عاملاً مساعداً إذا رغبت الولايات المتحدة في موازنة مصالحها.

2) فيما يخص الشعور بالنفور من الحرب وانعدام المنفعة المتوخاة واستخدام القوة، ليس هناك موقف واضح. فالفلسطينيون لا يملكون القدرة على شن حرب عسكرية تقليدية، وأقصى نضال يمكن أن يقدموه هو نوع من حرب الاستنزاف. غير أن هناك مطالبة إسرائيلية باستخدام وسائل أكثر قسوة وأكثر عنفاً لقمع انتفاضة الشعب العربي الفلسطيني.

بالنسبة إلى سوريا، يمكن تصنيف ثلاثة مواقف إسرائيلية: الأول لا يرى مانعاً في خوض حرب أُخرى مع سوريا لإجبارها على التنازل عن الجولان نهائياً. وفي مقابل ذلك، يرى بعض الإسرائيليين - وخصوصاً في المؤسسة العسكرية - أن هذا الهدف لا يبرر الخسائر المتوقعة من جراء مثل هذه الحرب. وفي الوسط بين هذين الموقفين هناك موقف - ويبدو أن الحكومة الحالية تتبناه - يرى أنه نظراً إلى أن سوريا لا تستطيع وحدها شن حرب في الوقت الحاضر، فإنه يمكن الانتظار حتى انتزاع التنازلات المطلوبة منها.

أما سوريا، فنظراً إلى كونها في موقع أضعف عسكرياً من إسرائيل، فمن الطبيعي أن تفضل الحصول على أهدافها بالوسائل الدبلوماسية. إلا إن هناك خطاً أحمر لا يستطيع أي نظام تخطيه، وهو استعادة مرتفعات الجولان كاملة. والبديل طبعاً هو استمرار النزاع الذي يحمل في طياته إمكان نشوب حرب أُخرى. ومن الحكم على استمرار الجهود السورية لتحديث إمكاناتها العسكرية، وتنميتها، فإنه يبدو ان المنفعة المتوخاة من التهديد باستخدام القوة، أو من استخدامها، لم تطرح كلياً من الفكر الاستراتيجي حال فشل المفاوضات الحالية. فالحرب المحدودة المسؤولية لتحرير الجولان ليست خارج التوقعات، وإنْ كانت روسيا الاتحادية لا تزود جميع المعدات التي ترغب سوريا في الحصول عليها، أو أنها تزودها ببطء لتحصل على القَطْع النادر وتسوية مشكلة الديون السابقة.

وسواء دُعي المذهب الاستراتيجي "التعادل"، أو "الكفاية الدفاعية"، فالأمر سيّان. إذ إن ما يهم هو توفر قدرة عسكرية ملائمة للهدف المطلوب إنجازه، إضافة إلى وجود ترتيب قوى إقليمية مساندة، الأمر الذي يسمح لسوريا بشن حرب قصيرة الأمد لبضعة أيام، وحتى لأسبوع، بغض النظر عما إذا كان ذلك لن يؤدي إلى انتصار حاسم لأي من الجانبين. فتملّك سوريا للقدرات الملائمة، واستعدادها لاستخدام القوة العسكرية، هما اللذان سيؤديان، على الرغم من التناقض الظاهري، إلى أن تعيد إسرائيل مرتفعات الجولان، لأنه في مثل هذا الوضع فقط يمكن خلق شعور عام في إسرائيل بالنفور من الحرب. ويعود سبب ذلك إلى القيمة النسبية للسيطرة على الجولان؛ فهي بالنسبة إلى سوريا مصلحة جوهرية ذاتية، وستقاتل من أجلها مهما يَطُل الزمن. أما بالنسبة إلى إسرائيل فهي ورقة تفاوضية في مقابل السلام، بغض النظر عن الاعتبارات العسكرية والأمنية غير الصحيحة التي تتذرع بها.

3) لا تقدم مرتفعات الجولان، بمتوسط عرضها البالغ عشرين كيلومتراً، أية منطقة عمليات لامتصاص هجوم مفاجئ، كصحراء سيناء، إذا كانت سوريا تنوي، وبشرط تملكها القدرة الضرورية، مهاجمة إسرائيل ضمن حدود 1967. كما أن قيمة هذه المرتفعات كعازل جغرافي للإنذار المبكر محدودة أيضاً، ما لم تجرّد من السلاح بصورة شاملة، وتزود بمحطات إنذار مبكر متطورة تقنياً، إضافة إلى وجود قوات دولية تابعة للأمم المتحدة. ويبدو أن سوريا تقبل بمثل هذه الإجراءات.

4) لا ينطبق العامل الاقتصادي على وضع سوريا، حتى لو كان ذلك صحيحاً بالنسبة إلى مصر. والأسباب، باختصار،هي أن سوريا لا تعاني مشكلة تضخم سكاني، ولديها الموارد الكافية لإعالة ما يقارب 13 مليون نسمة، إضافة إلى الاكتشافات النفطية الجديدة  -  وخصوصاً الغاز الطبيعي. وما تعانيه سوريا جرّاء مشكلات النمو الاقتصادي شبيه بمعاناة أية دولة في العالم الثالث. صحيح أنها عانت من جراء فترة جفاف في منتصف الثمانينات، لكنها استعادت الآن نشاطها الاقتصادي إلى حد كبير. والأهم من ذلك، أن سوريا تولي القضية الفلسطينية والاعتبارات الأمنية الاستراتيجية - بالضرورة لا بالخيار - أولوية على أي اعتبار اقتصادي، وذلك بسبب كونها في قلب النزاع الذي يؤثر في استقرارها وأمنها.

5) ليس هناك أي مجال كي تخضع سوريا لإغراء توقيع اتفاق منفصل، كما جرى بالنسبة إلى مصر. والأسباب الجوهرية لذلك ثلاثة مترابطة: أولها عقائدي؛ فالرئيس الأسد مدفوع بإيمانه القومي، واعتباره السياسي مبني على أنه المدافع عن الحقوق العربية ضد إسرائيل، إذ إن لقضية الشعب العربي الفلسطيني الأولوية في تفكيره وسياسته. وثانيها يعود إلى العامل الداخلي، كما أشير أعلاه؛ فالإيمان بعدالة القضية الفلسطينية أساسي وتاريخي في سوريا، ولا يتزعزع أمام أية خلافات. وثالثها وجود مليونين ونيف من الفلسطينيين يعيشون في الأردن وسوريا ولبنان، ويشكلون عاملاً ذا شأن في استقرار هذه الدول الثلاث، الأمر الذي يوجد ترابطاً موضوعياً في عناصر النزاع وأطرافه. لذلك، فإن تشديد الأطراف العربي المتفاوضة على التقيد بالتسوية الشاملة يأتي تحصيل حاصل لما هو واقع وموضوعي لا يمكن تجاهله، أو القفز فوقه.

بيد أن هذا لا يعني أن الأطراف العربية المتفاوضة متقيدة بعضها ببعض تكتياً، على الرغم من كون الهدف الاستراتيجي واحداً. فالعملية السلمية الحالية مبنية على تنسيق مختلفة المسارات؛ وهذا يعني إبقاء الترابط بين المسائل المعروضة للتفاوض، لكن مع احتفاظ كل طرف بحرية المناورة طبقاً لطبيعة المشكلات. ومن الممكن الافتراض، إذاً، أنه عندما يعلن القادة الفلسطينيون المفاوضون اقتناعهم بما أنجزوه، فإن ذلك يُعتبر كافياً لإعطاء سوريا حرية التصرف لعقد اتفاق. على أن هذا الاتفاق يجب أن يكون، طبعاً، ضمن نطاق التزام إسرائيلي بالانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة، لا من الجولان فقط، وضمان حل لوضع القدس العربية.

6) يختلف دور الولايات المتحدة كوسيط في المفاوضات الجارية عما قامت به بين مصر وإسرائيل، في عدة مجالات. ففي تلك المفاوضات قبل الطرفان نفوذها وقوتها للتوسط والإكراه وعرض المكافآت المالية. وحتى الآن لا تزال إسرائيل ترد بسلبية على الدعوات العربية للولايات المتحدة كي تؤدي مثل هذا الدور الفعّال. ويبدو أن تعقيدات المشكلة الفلسطينية، ووجود نفوذ صهيوني قوي في واشنطن، سيعرقلان دوراً أميركياً فعالاً وقوياً مشابهاً لما حدث بين مصر وإسرائيل. من الممكن نظرياً، في التفاوض مع سوريا والأردن ولبنان، أن تقبل إسرائيل  -  إذا رغبت  -  بوساطة أميركية ناشطة. لكن مثل هذا الإمكان يبقى إمكاناً افتراضياً. ولقد تعهدت إدارة الرئيس كلنتون بأن تكون "الشريك الكامل" في أي "دور قوي ونشيط"، وبأن تكون "الوسيط الصادق"، لكن لن تكون "حَكَماً"، أو تحاول "إملاء" الشروط. ماذا يعني ذلك عملياً، من الصعب الجواب عن هذا السؤال، ويبدو أنه سيبقى خاضعاً للظروف. أما الرئيس الأسد فذكّر الإدارة الجديدة بحاجة الولايات المتحدة إلى موازنة مصالحها في المنطقة، ومدح الرئيس السابق بوش ووزير خارجيته بيكر لجهودهما في العملية السلمية.

 خلاصة

يتبين مما سبق أن سوريا تقبلت، بالتدريج التعامل مع الواقع الإسرائيلي، وأبدت استعدادها لإنهاء حالة الحرب والاعتراف بالحدود الدولية، في حال تحققت تسوية شاملة وعادلة، وتم تنفيذ الانسحاب الكامل من الجولان. لكن مقارنة عملية التسوية الحالية بما حدث بين مصر وإسرائيل مضللة إلى حد كبير، بسبب اختلاف العوامل والمسائل المطروحة. فالمفاوضات الجارية تتعامل مع لب النزاع وقضيته المركزية  -  المشكلة الفلسطينية ت إضافة إلى الاحتلال.

فالسؤال المحوري هو، إذاً، هل النزاع ناضج للتسوية؟ والجواب هو نعم بتحفظ. وسبب هذا التفاؤل الحذر هو أن القوى الداعمة لإنجاز التسوية في الجانب العربي تثبّتت أقدامها، لكن قد تأخذ بعض الوقت لتكسب التأييد الواسع في إسرائيل، مع إمكان نشوب حرب أُخرى لإقناع الإسرائيليين بعدم جدوى الاحتلال. والعامل الرئيسي الذي سيحدد نجاح الجهود السلمية الحالية هو حين تقرر إسرائيل أن تخلّص، في مقابل السلام، مفهومها الأمني التوسعي الشامل من بعده الأرضي. حينئذ فقط يمكن للأطراف العربية الشعور بالأمن ونبذ أسباب الاستمرار في النزاع وتحدي الردع الإسرائيلي من وقت إلى آخر.

ومن استقراء الاستراتيجية التفاوضية الإسرائيلية يظهر أن إسرائيل تعاني من جراء اعتقادين مغلوط فيهما: الأول، أن العرب هم في وضع استراتيجي رديء جداً، الأمر الذي سيدفعهم إلى التنازل عن بعض مطالبهم؛ والثاني، أن إسرائيل تأمل، مع مرور الوقت، بأن يقوم طرف عربي بالارتداد عن التزام التسوية الشاملة، ويوقع معها اتفاقاً منفصلاً.

بالنسبة إلى سوريا والأطراف العربية الأُخرى المتفاوضة، فإنها تعتبر أن التزام إسرائيل الانسحاب الكامل وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني هما الحدّان الأدنيان لتحقيق السلام، على الرغم من أن التنفيذ قد يكون متدرجاً وفق برامج زمنية مختلفة. وأي تنازل عن هذين الشرطين يعني الانتحار السياسي للقادة وللأنظمة العربية المفاوضة.

وسيكون من المأساة إذا خَدع القادة والاستراتيجيون الإسرائيليون أنفسهم بالضعف العربي العسكري العابر، بسبب المتغيرات الإقليمية والدولية. فموازين القوى كانت دوماً، عبر التاريخ، دينامية لا ساكنة. والمسألة المطروحة لم تعد تدمير إسرائيل في حد ذاتها، بل أصبحت حروباً محدودة لأهداف معينة، وهي ليست خارج نطاق القدرات العربية  -  وخصوصاً سوريا. وعلى ذلك، فسيكون ثمن الفشل في العملية السلمية استمرار النزاع، وهذا لا يخضع لضوابط التفوق العسكري فقط. إذ من المسلّم به أنه قد يبقى لدى إسرائيل القدرة على إلحاق هزائم عسكرية محدودة بالعرب. لكن فيما عدا استخدام السلاح النووي، فإن إسرائيل ليست في موقع يسمح لها بفرض الاستسلام الاستراتيجي.ويعود ذلك إلى سببين متلازمين؛ فهي لا تستطيع حشد موارد عسكرية تقليدية كافية لتحقيق مثل هذا الهدف، إضافة إلى معارضة المجتمع الدولي لذلك  -  وخصوصاً الدول الكبرى صاحبة المصالح الحيوية في المنطقة. وبسبب هامش المناورة الناجم عن هذه المعضلة الأمنية الإسرائيلية، والتي يدركها معظم الاستراتيجيين الإسرائيليين، يتمكن العرب من الاستمرار في النزاع.

يضاف إلى ذلك أن الدرس المهم الذي يستخلص من الحروب العربية  -  الإسرائيلية السابقة، أن تلك الحروب لم تخضع بالضرورة للتحليل العقلاني فيما يتعلق بالموازين العسكرية. فالعاملان المحركان الرئيسيان كانا الضغط السياسي الشعبي الداخلي، وتصور العرب لتهديد إسرائيل لمصالحهم الجوهرية، أخذاً بعين الاعتبار فعالية المؤثر الحضاري في تحديد عقلانية حساب الأرباح والخسائر إلى حد ما. وبإيجاز، يمكننا القول إنه لن تكون هناك تسوية ما دامت إسرائيل متمسكة بمفهوم مبني على أن الوضع الراهن مثالي للحفاظ على أمنها. فالسلام يتطلب الخروج من المعضلة الأمنية بين الطرفين، الناجمة عن المفهوم الأمني الإسرائيلي في حده التوسعي الأقصى على حساب الأمن العربي؛ وبذلك يمكن للردع العام واستراتيجية إعادة الطمأنينة توفير الاستقرار وضبط النزاع، الأمر الذي يضعه على طريق الحل النهائي.

 

المصادر:

*  هذا العامل التاريخي لا يمثل عقيدة توسعية كما يدّعي، خطأ، الكاتب دانييل بايبس في كتابه: Daniel Pipes, Greater Syria: the History of an Ambition (Oxford: Oxford University Press, 1990).   فسوريا تقبل بشرعية الأردن ولبنان وهدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة.                                                                                                           

**  حتى ذلك الوقت كانت سوريا ملتزمة، رسمياً، قرار مؤتمر القمة العربية في الخرطوم لسنة 1967، القاضي بعدم الاعتراف والتفاوض والسلام مع إسرائيل.

(1)  "الحياة" (لندن)، 2 و 11/2/1992:

International Herald Tribune (Paris), March 13-14, 1993, p.3.     

(2)  International Herald Tribune, February 17, 1993, p. 5.

(3)  Janice Gross Stein, “The Alchemy of Peacemaking: The Prerequisites and Corequisites of Progress in the Arab-Israeli Conflict,” International Journal, Vol. 38, No. 4 (Autumn, 1983). Pp. 531-555                                         

(4)  Richard Ned Lebow and Janice Gross Stein, “Preventing War in the Middle East: When Do Deterrence and Reassurance Work?,” in Steven Spiegel (ed.) Conflict Management in the Middle East (Boulder, Co.:        

Westview Press, 1992), pp. 41-43.                                                                                                                            

(5)  Louis J. Cantori and Steven L. Spiegel, The International Politics of Regions: A comparative Approach (Englewood Cliffs, N. J.: Prentice-Hall, 1970), p. 33.                                                                                                                    

(6)  Barry Buzan, People, States and Fear (London: Harvester Wheatsheaf, 2nd. Ed., 1991), pp. 214-215.                       

Author biography: 

محمد زهير دياب: باحث في قسم الدراسات العسكرية ـ جامعة كينغز، لندن.