(1)
كان اسحق موسى الحسيني شيخ أدباء فلسطين: سنّاً، ومعرفة بالأدب القديم، وإحاطة بالأدب الحديث، وإدراكاً لدوره من حيث أنه مدرس لهذا الأدب وباحث فيه وفي غيره من موضوعات تَمُتُّ إلى الثقافة العربية الإسلامية.
وما الذي يمكن أن يُكتب عن مثل هذا الرجل في عجالة ضيقة الفسحة في هذه المجلة؟ وخصوصاً أنني ارتبطت بالدكتور اسحق موسى الحسيني برابطة الزمالة ( في القدس من سنة 1940 إلى سنة 1947، وفي بيروت من سنة 1949 إلى سنة 1957)، هذا إلى صداقة امتدت ما يزيد على أربعين عاماً.
وُلد اسحق موسى الحسيني في القدس سنة 1904، في أسرة كان لها في المدينة المقدسة دور كبير، إذ زودتها بفئة من علماء الدين والقضاة ونيابة الأشراف؛ وقد كان اسم أسرة اسحق "النقيب" قبل أن تُجمع على التبديل (على أن أخاه المرحوم محمد احتفظ بلقب النّقيب ولم يتخذ الحسيني له لقباً). وحتى من مجايلي اسحق موسى الحسيني كان هناك من الأسرة فئة خدمت الفكر في فلسطين: فإبراهيم موسى الحسيني كان عالماً كيماوياً، وإسحق عبد السلام الحسيني كان صحافياً لامعاً، وسالم الحسيني كان أحد علماء الآثار المبرّزين، وموسى عبد الله الحسيني (وهو أصغر سناً) كان مؤرخاً مرموقاً. هذا فضلاً عن الذين عملوا في السياسة من الأسرة الكبيرة.
وقد ورث اسحق موسى الحسيني، من جوّ أسرته الاجتماعي، الأدب الجم ودماثة الخلق والتواضع وعفة اللسان؛ على أنني لست أدري من أين جاءه العناد والصلابة في مواقفه.
تلقى اسحق تعليمه الابتدائي والثانوي في القدس، وأحسب أن مساق دراسته لا بد من أنه تعثر بعض الشيء بسبب الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918)، كما أصاب الكثيرين من أنداده. وبعد ذلك، التحق بالجامعة الأميركية في القاهرة. لكن الذي خطّط لإسحق مسيرته العلمية الطويلة كان دخوله الجامعة المصرية (جامعة القاهرة اليوم)، التي كانت قد أُنشئت جامعةً رسميةً سنة 1925.
في هذه الجامعات تتلمذ اسحق على فئة من أهل المعرفة والعلم كانت مصر يومها تُحسد عليهم: طه حسين، والشيخ مصطفى عبد الرازق (الذي كان يدرِّس الفلسفة الإسلامية)، وأحمد أمين، وجوزيف شاخْت (الذي كان يحاضر في فقه اللغة العربية)، فضلاً عن آخرين كانت القاهرة تزخر بهم، ومنهم الذين أنشأوا لجنة التأليف والترجمة والنشر، فيما بعد.
وقد كان لهذه الأعوام التي أمضاها اسحق موسى الحسيني في القاهرة الأثر الأول في تكوينه الفكري. وقد ظلت لها في نفسه ذكرى وفي قلبه شوق، لعلهما هما السببان الأساسيان في انتقاله سنة 1957 من بيروت إلى القاهرة.
بعد عودته من القاهرة عمل في تعليم اللغة العربية وآدابها، في المدرسة الرشيدية في القدس. ولعله يقوم ببعض التدريس في الكلية العربية أيضاً؛ فإن هذين المعهدين كانا متجاورين في حيّ باب الساهرة (الزاهرة) خارج سور القدس في الجهة الشمالية.
لكن الشاب اسحق لم يكن ليكتفي بهذا الذي ناله؛ بل لعل هذا الذي ناله كان هو الباعث له على الاستزادة. وقد أتيح له ذلك بعد عمل دام نحو ثلاثة أعوام في القدس. ذلك بأنه مُنح بعثة دراسية إلى جامعة لندن للعمل في سبيل الدكتوراه. وعاد سنة 1932 أو سنة 1933 ومعه الشهادة من جامعة لندن (وكان طالباً في معهد العلوم الشرقية – قبل أن يصبح فيما بعد معهد العلوم الشرقية والأفريقية – وكان في فِنْسْبِري سركس، حيث حضرت أنا فيه بعض الدروس خلال عام 1935 – 1936).
وكان يحمل إلى جانب الشهادة رسالته عن "ابن قتيبة"، وقد حلل فيها أعمال هذا العالم العربي الكبير.
عندها استقر اسحق موسى الحسيني أستاذاً للأدب العربي في الكلية العربية. (وقد انضممت أنا إلى الهيئة التدريسية في الكلية العربية سنة 1940، وهنا بدأت صلتي به وصداقتي الطويلة له).
لمّا لفَّتنا جميعاً نكبة فلسطين 1948 (كنت أنا يومها طالباً للدكتوراه في جامعة لندن، وفي المعهد الذي سبقني اسحق موسى الحسيني إليه)، خرج اسحق بأُسرته المكونة من زوجته عُلْويّة وابنته نَوَار وابنيه حاتم وبشْر؛ واتجه نحو حلب، حيث ظل هناك إلى صيف سنة 1949 (لكنه لم يعمل هناك في التدريس قط)، حين انضم إلى دائرة اللغة العربية وآدابها في الجامعة الأميركية في بيروت (والتحقت أنا بالجامعة في خريف تلك السنة).
وترك الجامعة الأميركية في بيروت سنة 1957 إلى الجامعة الأميركية في القاهرة. لكنه خلال إقامته في تلك المدينة (إلى سنة 1967)، كانت له نشاطات علمية أخرى: منها ما كان أيام تدريسه في الجامعة الأميركية هناك، ومنها ما انصرف إليه بعد تقاعده منها. فقد كانت له مسؤوليات علمية صرفة ثم علمية وإدارية في معهد الدراسات العربية (1 شارع الطلمبات، القاهرة) التابع لجامعة الدول العربية. فقد ألقى هناك محاضرات في الأدب العربي، وعُني بقسم فلسطين بعض الوقت. كما أنه اختير عضواً في مجمع البحوث الإسلامية، وكان عضواً عاملاً فيه: تخطيطاً وإعداد بحوث متعددة.
كان اسحق موسى الحسيني وزوجته يتوقان إلى تمضية ما تبقى من حياتهما في القدس. وقد أخذ نفسه، سنة 1966، ببناء بيت له في مدينته كي يقيما فيه. وجاءت حرب 1967 فعقّدت الأمور فضلاً عن وقف العمل. لكن الأمر سُوِّي فيما بعد، وأتمّ بناء البيت، وأقام فيه مع أمّ حاتم إلى أن توفاه الله، أواخر صيف سنة 1990. وقد قرأت خبر وفاته، وأنا في لندن، في جريدة "كل العرب" التي تصدر في الناصرة. فاغرورقت عيناي بالدموع. وكنت قد تلقيت منه رسالة قبل ذلك بمدة يقول فيها: "أنا يا أبا رائد انكسر القلم معي ولم أتمكن من إصلاحه." وكانت كتابته تدل على رعشة في يده. رحم الله أبا حاتم.
(2)
أمضى اسحق موسى الحسيني أكثر من خمسة وستين عاماً من حياته في عمل متصل. ويمكن القول إنه عمل في حقل التعليم نحو خمسة وأربعين من هذه الأعوام. لكن الصديق كان باحثاً دقيقاً، ومفكراً يتصيّد الأمور والمشكلات المتعلقة بأمته وجيله، ويعالجها معالجة الطبيب الأديب. ومن هنا جاء هذا التنوع في تراثه الذي خلّفه. ولا بد لنا من القول إن أعماله المنشورة لا تشمل نتاجه كله؛ فهناك بحوث لا تزال تنتظر الجمع والترتيب والتنسيق.
ولست أنوي أن أتحدث حتى عن جميع ما نُشر من آثار اسحق. بل جلّ ما أطمح إليه هنا أن أُلمّ إلمامة سريعة بالآثار المطبوعة، وأن أتوقف عند بضعة من هذه الآثار للفت النظر إليها، لا أكثر ولا أقل.
كانت مشكلة إصلاح قواعد اللغة العربية موضع عناية كبيرة في الثلاثينات. فهذه القضية يُعنى بها المدرسون في كل جيل، ثم توضع على الرف، من دون أن يتم شيء جذري فيها، إلى أن يأتي الجيل التالي فينزلها، وقد ينفض الغبار عما قيل قبلاً؛ إلا إنه قد يعتبر أن الأجيال التي سبقت لم تكن تعرف الألسنية (مثلاً) والنحو المقارن، لذلك فلم تنتج ما يستحق حتى نفض الغبار، فيبدأ من جديد، وينتهي أيضاً إلى لا شيء.
وقد أدلى اسحق موسى الحسيني بدلوه بين الدلاء، فوضع رسالتين قصيرتين نُشرتا في القدس، وهو بعدُ أستاذ في الكلية العربية، وهما: "رأي في تدريس اللغة العربية" (1937) و"أساليب تدريس اللغة العربية" (1947). والفارق الرئيسي بين الرسالتين أن الأولى كان فيها "رأي"، أما الثانية فقد جاءت بعد عشرة أعوام من الأولى، وبعد ممارسة طويلة للتدريس.
ومما يدخل في عداد كتب الصنعة (أي تدريس اللغة العربية) كتاب "فن إنشاد الشعر العربي" الذي نقله بالاشتراك مع الأب أسطفان سالم عن اللغة الفرنسية (القدس، 1945).
وثمة كتاب أصله محاضرة وُسَّعت فيما بعد عن علماء المستشرقين من الإنكليز (1940).
لكن اسحق موسى الحسيني الأديب بدأ في كتابين وضعهما وهو في القدس: "مذكرات دجاجة" (في سلسلة إقرأ، سنة 1943) و "عودة السفينة" (نشر سنة 1945). وإذا كان من المتيسر أن أذكر فصولاً في كتبه الأخرى، أو أن أشير إلى محتواها العام، فإنني لن أفعل ذلك في "مذكرات دجاجة" مثلاً؛ فهي تمثل وجدان اسحق موسى الحسيني وشعوره في مطلع الأربعينات. لذلك، فإنني أدعو القراء إلى قراءتها كاملة. و"عودة السفينة" فيما مثل تلك، لكن الدجاجة كانت أذكى من ربّان السفينة.
التحق اسحق موسى الحسيني بالجامعة الأميركية في بيروت (دائرة اللغة العربية وآدابها) سنة 1949، وأمضى فيها ثمانية أعوام (غاب في أثنائها عاماً واحداً، لمّا انتُدب للتدريس في المعهد الإسلامي في جامعة مكغيل في كندا)، انتقل بعدها إلى القاهرة.
كان العمل الأول المهم الذي تم على يديه في بيروت هو كتابه "الإخوان المسلمون" الذي وضع له عنواناً إضافياً هو "كبرى الحركات الإسلامية الحديثة"، وقد نُشر سنة 1952. هذا الكتاب كان أول محاولة يقوم بها باحث من خارج إطار الحركة، ولذلك فقد كان في استطاعته أن يكون موضوعياً – وقد كان. وقد صوّر المؤلف الحركة، نشوءاً وتطوراً وأفكاراً، تصويراً دقيقاً، وختم الكتاب بتحليل لما تم على يد أهلها حتى سنة 1952 (يجده القارىء في الصفحات 143 – 185). ولست أحسبني مبالغاً إنْ أنا قلت أن اسحق موسى الحسيني وضع اللبنة الأولى المنظمة للدراسات التي تلت عن حركة الإخوان المسلمين فيما بعد. (وقد نُقل الكتاب إلى الإنكليزية ونُشر في بيروت سنة 1956).
جمع صديقنا مقالات في قضايا متعددة نُشرت في مجموعتين "أزمة الفكر العربي" و"هل الأدباء بشر". وتناولت المقالات قضايا ومشكلات آنية في غالبها.
وفي أثناء وجوده في بيروت، نشرت الجامعة الأميركية كتابه / الرسالة عن ابن تيمية بالإنكليزية (1953) – وهو الكتاب الذي نقله تلميذه وصديقه هاشم ياغي إلى العربية فيما بعد.
الذي أعرفه من اتصال باسحق خلال إقامته في القاهرة، إذ كنت أزورها كثيراً، إنه "استراح هناك نفسياً". كان ثمة أمور يضيق بها، لكنه "على وجه العموم" وجد في القاهرة ما شحذ عزيمته، فانطلق يعمل، على نحو ما ذكرنا، في الجامعة الأميركية وفي معهد الدراسات العربية العالية (الذي سُمي فيما بعد معهد البحوث والدراسات العربية)، وفي مجمع اللغة العربية ومجمع البحوث الإسلامية.
وقد كتب اسحق المقالات القصار وأعد بحوثاً ذات قيمة قُدمت إلى مجمع اللغة العربية. وجُمعت هذه مع أخيّات لها فيما بعد ونُشرت في بيروت سنة 1978، بعد أن عاد اسحق وزوجته إلى القدس، بعنوان "قضايا عربية معاصرة". من هذه القضايا التي عالجها: رسالة الأدب وخاصة بالنسبة للمجتمعات الحديثة (ص 19 – 30). وقد توجه إلى دارسي الأدب والعاملين في حقله، طالباً منهم أن يعنوا بدراسة الأوضاع القائمة لأنها معدن مهم للبحوث والمقالات الأدبية؛ وفي الكتاب "مصطلحات النقود في البلاد العربية" (ص 69 – 88)، وهو بحث مفيد دقيق، يوضح للقارىء العلاقة بين القطع النقدية الكبيرة وأجزائها الصغيرة؛ وهناك بحثان مهمان يتعلقان بأسماء القدس (ص 89 – 100) وأسماء فلسطين ( ص 101 – 114). وأهمية مثل هذين البحثين واضحة، لأن اسحق جمع معلومات تاريخية تتعلق بالقدس وفلسطين كانت قليلة الانتشار حتى بين المتعلمين.
في هذه المقالات يبدو لنا الكاتب لا اسحق الباحث فحسب، لكن اسحق الذي أخذ يتجه إلى صميم قضية بلده، فيعالجها لا "بالخطاب السياسي" ولا بالمقالة العابرة، بل بالتنقيب الدقيق عن الأصول. وهو أمر نراه يقوى بعد عودته إلى القدس، على ما سيتضح لنا فيما بعد. على أننا نود أن نعود فنؤكد أن الكثير من بحوثه لم ينشر بعد.
على كلٍّ، بين يدينا محاضراته عن خليل السكاكيني ومحمد إسعاف النشاشيبي، الأديبين الفلسطينيين الكبيرين. وسنتحدث عن كتابه عن النشاشيبي فيما بعد؛ ففي حلته الجديدة وحجمه الكبير، هو من نتاج أيامه التالية في القدس. وكتابه عن السكاكيني صورة حية للأديب الحي.
إلا إن هناك كتابين هما، على قصرهما، حريّان بالحديث الوافي، لو أن المجال يتسع. لكن لنهتبل الفرصة ولنقل بعض الشيء.
"المدخل إلى الأدب العربي المعاصر" (القاهرة، 1963) هو مجموع محاضرات ألقاها اسحق على طلاب معهد الدراسات العربية العالية، وقد أراد منها أن تكون في واقع الأمر "مدخلاً" إلى دراسة الأدب العربي الحديث. ويبرر اسحق وضعه هذا الكتاب على أساسين: الأول هو تفسير الخطى الأولى التي فتحت أمام الناس مجالات جديدة في الأدب الحديث؛ والثاني التذكير بأن "أدب العرب أدب أمة واحدة، موحَّدة الوجدان واللسان والآمال والآلام." وأراد كتابَه أن يكون مقدمة للدراسات الأدبية في فنونها التي يقوم بها زملاء محاضرون في المعهد.
والكتاب الثاني هو: "النقد الأدبي المعاصر في الربع الأول من القرن العشرين" (وهو أيضاً محاضرات أُلقيت على طلاب قسم البحوث في معهد البحوث والدراسات العالية). وقد نُشر الكتاب في القاهرة سنة 1967.
تناول اسحق في "النقد الأدبي المعاصر" تطور النقد عند العرب في أسلوب جديد. لقد أدار موضوعه حول أفراد، متبعاً في ذلك التسلسل التاريخي.
فقد بدأ دراسته بمحمد عبده؛ فهذا الرجل وجّه الكتّاب إلى إصلاح لغتهم، ودعا إلى إصلاح اللغة العربية نفسها، وعُني بإحياء كتب التراث (التي لها صلة مباشرة باللغة) مثل "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز"، ودرّس كتابي الجرجاني المذكورين في الأزهر. ويختم اسحق حديثه عن محمد عبده بقوله: "إن محمد عبده وإنْ لم يؤلّف كتاباً في النقد الأدبي ولم يحبّر مقالة فيه، فهو – في رأينا – ذو فضل كبير في نشأة هذا الموضوع بالتمهيد له وإعداد الجو الصالح لظهوره." (ص 13)
ويعرض، بعد ذلك، مقالاً للشيخ نجيب الحداد (1867 – 1899) في "مقابلة بين الشعر العربي والشعر الافرنجي". ويقول عنه: "هذا البحث على جانب كبير من الأهمية في تاريخ النقد الأدبي لأن كتابه أنشأه على غير مثال، ونحا فيه نحواً غير مألوف يومذاك باعتماده على الموازنة بين الشعر العربي والشعر الافرنجي وبوصوله إلى إحكام مستنبطة من الموازنة وبريئة من العصبية." (ص 16)
وينتقل إلى "تاريخ علم الأدب عند الافرنج والعرب" لروحي الخالدي (1864 – 1914)، ويستخرج من دراسته أسلوبه وقواعده في النقد والأدي المقارن.
والمعْلمة التالية في فنون النقد الأدبي عند العرب المحدثين، في رأي اسحق، هي مقدمة ترجمة الإلياذة لسليمان البستاني (1856 – 1925). ففي هذه الصفحات، البالغ عددها نحو المائتين، دراسة نقدية بالمقارنة. وهنا يدخل الشعر اليوناني الكلاسيكي مجال النقد والمقارنة.
والموضوعات الباقية التي يطرقها هي: "منهل الورّاد في علم الانتقاد"، لقسطاكي الحمصي (1858 – 1941)، الذي كان أول كتاب أُفرد للنقد في العصر الحديث؛ و"الديوان" لعباس العقاد وابراهيم المازني؛ و"الغربال" لميخائيل نعيمة؛ و"ثورة الأدب" لمحمد حسين هيكل.
والمؤلف يستخرج عند كل من المتحَدَّث عنهم أسلوبه ونظامه وقاعدته في النقد (ولا يمتنع من الإشارة إلى الصرامة والشدة عند العقاد في نقده لشوقي).
(3)
كان اسحق موسى الحسيني لا يعدل بالقدس مكاناً آخر، لذلك اهتبل الفرصة وعاد إلى مدينته، وهناك عمل لها ومن أجلها: فـ "عروبة بيت المقدس" كُتب في القدس (ولو أنه نُشر في بيروت سنة 1969)؛ وجمْع مقالاته في "قضايا عربية معاصرة"، الذي أشرنا إليه قبلاً، تم هناك.
ووضع في القدس كتابه "أديب العربية محمد إسعاف النشاشيبي" (1987). هذا الكتاب، فضلاً عن أنه تمثال حيّ لإسعاف النشاشيبي الأديب الكبير، فهو أيضاً مرآة لنفس اسحق الوفية؛ فاسحق يشير إلى إسعاف على أنه أستاذه وصاحب الفضل عليه. وإني أظن أن اسحق تتلمذ على إسعاف في أثناء دراسته الثانوية في القدس، لكنه كان بعد عودته من دراسته الجامعية يعنى بالاتصال الدائم بالرجل، والإفادة من علمه وأدبه. واسحق، إذ يكتب عن إسعاف بهذا الشعور بالدَّين والرغبة في أن يوفيه حقه، فإنه لا ينسى أن إسعاف النشاشيبي هو، قبل كل شيء، وجه من وجوه القدس الكريمة. فاسحق عبّر في هذا الكتاب عن شعوره العميق نحو الاثنين: القدس، وإسعاف.
كان اسحق يتحدث دوماً عن "كتاب الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل" لمجير الدّين الحنبلي. وكان مما يلذّ اسحق أن يتحدث معي عن هذا الكتاب بسبب اهتمامي به ومعرفتي إياه. كان يود أن يرى للكتاب طبعة جديدة منقّحة ومفهرسة. لكن الذي حدث أن طبعة جديدة نُشرت في عمّان، وكانت منقولة عن الطبعة القديمة التي تعود إلى مطلع القرن.
أما والكتاب متيسر للناس في طبعتين، فليقدّم اسحق موسى الحسيني له، مستعيناً بالدكتور حسن عبد الرحمن سلوادي والآنستين منيرة الدغلاوي وميسّر اسماعيل غنام في إعداد فهرس للكتاب. وقد أُعدّ هذا ونُشر في القدس سنة 1988، والإشارة فيه إلى صفحات الطبعتين. وقد ورد تحت اسم موسى الحسيني أنه "عميد كلية الآداب للبنات" في جامعة القدس!
أمضى اسحق هذه الأعوام يُعنى بالقدس، محاولاً إحياء تراثها، وجمع مآثرها، وتدوين أخبارها، والدعوة إليها. وكم من مرة دعاني إلى العودة إلى القدس.
ثمة كثير من الكتب، حتى المنشورة، لم يتح لي مراجعته في أثناء إعداد هذا المقال. والذي أرجوه أن يُعنى من يعرف أكثر من هذا بالكتابة عن اسحق موسى الحسيني. فالرجل حري بأن يُكتب عنه أكثر من مقال مقتضب.
على كلّ، أكاد أجزم أن اسحق لم يكتب كثيراً بعد فهارس الأنس الجليل. فهو، كما كتب لي سنة 1989، قد انكسر قلمه وعجز عن إصلاحه.