منذ أن قبلت المجموعة العربية (بأغلبيتها العظمى) مبدأ إنهاء الصراع مع إسرائيل على أرضية قراري مجلس الأمن الدولي رقم 242 ورقم 338، وبالتالي وضعت لنفسها هدف تحقيق تسوية تقوم على مبادلة صريحة بين الأرض والسلام – أي الانسحاب الإسرائيلي في مقابل الاعتراف العربي بإسرائيل – وقف العرب عاجزين عملياً عن إيجاد الآلية الملائمة لتطبيق هذين القرارين، وتحقيق أهدافهم المنبثقة منها. وكان السبب الأساسي الكامن وراء ذلك رفض إسرائيل الدائم للمفهوم العربي (والدولي) للتسوية، وغياب القدرة العربية على دفع إسرائيل نحو حل لم تكن الدولة العبرية على استعداد له، أو راضية به.
وفي حين أن المفاوضات التي بدأت في مدريد لم تكشف، حتى الآن، عن أي تغيير ملموس في الموقف الإسرائيلي، فإنه يمكن القول إن هذه العملية قد تشكل، في حال استمرارها، الفرصة الأفضل – ولربما الوحيدة – المتاحة أمام الجانب العربي لتحقيق الحد الأدنى من أهدافه المعلنة، بغض النظر عن التشنج الإسرائيلي المستمر في المرحلة الراهنة، وإصرار حكومة شمير على أنها لن تتخلى عن شبر واحد من الأراضي المحتلة. ومن هذه الزاوية يبقى أن أي تقدم مهما يكن بطيئاً، في اتجاه تكثيف الضغوط المحلية والدولية على إسرائيل لتبديل موقفها، سيشكل مكسباً عربياً، ويزيد في احتمالات الاقتراب من الأهداف العربية، باعتبار أن الحل الدائم لا بد من أن يقوم في النهاية على أساس القرارين رقم 242 ورقم 338، وما يستتبع ذلك بالنسبة إلى تنازل إسرائيل عن الأرض العربية، وتحقيق السلام الشامل في المنطقة في المقابل.
التبدل في علاقات القوى
والواقع أن السنة الفائتة قد شهدت تبدلاً في علاقات القوى السائدة في المنطقة (وليس ميزان القوى بالمعنى العسكري الضيق)، وهو ما أفرز تحسناً نوعياً في الموقف العربي العام على حساب إسرائيل. وقد عكس مجرد عَقْد مؤتمر السلام هذا التبدل في علاقات القوى، على الرغم من كونه جاء أول وهلة ليلبي الشروط التي حددها شمير بذاته للدخول في مفاوضات مع الجانب العربي، في "المبادرة" التي أعلنها في أيار/مايو 1989:
- فمن الواضح أن إسرائيل كانت، ولا تزال، أكثر الأطراف تردداً أمام بدء مسيرة محفوفة بالأخطار من وجهة نظرها، كما ظهر ذلك طوال فترة المباحثات التمهيدية التي أجراها وزير الخارجية الأميركية، جيمس بيكر، بين ربيع سنة 1989 وخريف سنة 1991. ويجدر التذكير بأن شمير نفسه كان قد أسقط مبادرة بيكر الأولى (ومعها حكومة الائتلاف الوطني الإسرائيلية، في مطلع سنة 1990)، كما أنه بقي متحفظاً تجاه عقد مؤتمر السلام، الأمر الذي أتاح الفرصة لسوريا "المتشددة" تقليدياً بأن تأخذ المواقف الأكثر إيجابية تجاه الدبلوماسية الأميركية من الحكومة الإسرائيلية التي يفترض أنها صاحبة فكرة المؤتمر، في الأساس. ويمكن القول إن الولايات المتحدة حاولت "اختطاف" الطروحات الإسرائيلية حيال عملية السلام، ثم مواجهة إسرائيل بأمر واقع جديد، الأمر الذي أغلق الباب أمام إمكان استمرار شمير في الرفض والتملص في نهاية المطاف. ولم يكن شمير قد أخفى عن حزبه اعتقاده أن "العرب لن يقبلوا"، وبالتالي ليس هناك ما يدعو إلى التخوف من إمكان "الانزلاق" نحو وضع قد تضطر إسرائيل فيه إلى التفاوض جدياً في شأن مستقبل الأراضي المحتلة.
- أما من ناحية أخرى، ومع بدء المفاوضات، فإنه لم يعد في الإمكان إخفاء حقيقة أن تصور شمير للسلام يتعارض تعارضاً جوهرياً لا مع التصور العربي فحسب، بل أيضاً مع تصور الولايات المتحدة والمجتمع الدولي برمته – بما في ذلك قسم لا يستهان به من الرأي العام الإسرائيلي الداخلي، ومن الآراء النافذة لدى الجوالي اليهودية المركزية في الخارج. ولم يتبنّ أي من الأطراف المعنية الأخرى مفهوم "السلام في مقابل السلام"، أو الحجج الإسرائيلية الداعية إلى رفض فكرة المساومة الإقليمية – بمعنى الانسحاب الإسرائيلي – من حيث المبدأ. هكذا، فقط اضطر شمير إلى الدخول في مفاوضات مع الجانب العربي في وقت بات حليفه الاستراتيجي الأكبر – الولايات المتحدة – ينطلق من تصور للحل أقرب للتصور العربي منه للتصور الإسرائيلي – الليكودي. ويدرك شمير جيداً أن من شأن زخم عملية التفاوض أن يزيد في احتمالات إما التنازل الإسرائيلي وإما التصادم مع الولايات المتحدة، وليس بالعكس.
- وفي حين نجحت إسرائيل في فرض أكثر شروطها الإجرائية على الجانب الفلسطيني (وعلى أُطر عملية السلام ككل)، بقي ذلك النجاح رمزياً ومحدود الأثر بصورة عامة. فمن ناحية، مثّل الفلسطينيون أنفسهم، على الرغم من انضوائهم تحت لواء الوفد المشترك مع الأردن، بل إن الهوية الفلسطينية المستقلة برزت بصورة لا سابق لها أمام الرأي العام العالمي والرأي العام الإسرائيلي. ومن ناحية أخرى، وعلى الرغم من الإصرار الإسرائيلي على إقصاء منظمة التحرير الفلسطينية عن العملية، فقد كان للمنظمة وجود مباشر وراء الستار، علاوة على تمثيلها الفعلي من خلال الوفد الفلسطيني المفاوض نفسه. والأكثر من ذلك، فقد ساهمت موافقة المنظمة على صيغة التمثيل الفلسطيني المطروحة في رفع العديد من القيود السياسية والدبلوماسية التي فُرضت على المنظمة في إثر موقفها من حرب الخليج، وهو ما أتاح لها حرية عمل جديدة على الساحتين العربية والدولية، وصولاً إلى التحول الذي طرأ على موقف حزب العمل الإسرائيلي من مسألتي الحقوق الوطنية الفلسطينية وقانون حظر الاتصال بمنظمة التحرير الفلسطينية. ومن اللافت أن الإدارة الأميركية لم تأخذ موقفاً علنياً سلبياً من بروز "العامل الفلسطيني"، بل إنها ساهمت في تشجيع ذلك ضمنياً عبر فتح قنوات الاتصال المباشر بالمفاوضين والممثلين الفلسطينيين، والقبول الصامت بدور منظمة التحرير كصاحبة القرار الفلسطيني النهائي. وهكذا، كان من أهم نتائج العملية السلمية حتى الآن إمكان بلورة "تناغم" جنيني" بين الجانبين الفلسطيني والأميركي، ليس من شأنه أن يؤثر في جوهر التحالف الأميركي – الإسرائيلي السياسي الاستراتيجي العميق، لكنه يمثل بطبيعة الحال مكسباً فلسطينياً تكتياً على حساب إسرائيل.
خلفية التبدل
جاءت هذه الآثار الأولية للتبدل في علاقات القوى بين العرب وإسرائيل على خلفية من المتغيرات الحيوية في البيئة السياسية الاستراتيجية المحيطة بالنزاع خلال الفترة الأخيرة، وأهمها:
هزيمة العراق في حرب الخليج
أدت هزيمة العراق الحاسمة في حرب الخليج إلى تحرر الجانب العربي، إلى حد بعيد، مما يمكن تسميته "سياسة الأوهام" التي طالما تحكمت في الفكر والعمل العربيين فيما يتعلق بالصراع مع إسرائيل (وقضايا حيوية أخرى)، منذ حرب 1948 وما قبل. وقد أفرزت "سياسة الأوهام" هذه مدارس أو رؤى شوهت الواقع العربي، وأوجدت فجوة واسعة ما بين اللغة والطرح السياسي العربي من جهة، وبين حقيقة القدرات العربية الذاتية والموضوعية من جهة أخرى. ولم يعد هناك ما يميز بين الممكن والمعقول في الأهداف والغايات العربية، وبين "الحلول" غير الممكنة وغير العقلانية. كما أنه لم يكن هناك استعداد، في المقابل، للاعتراف بالقصور أو العجز أمام تحديات لم يكن في الإمكان تجاوزها. وبقيت "سياسة الأوهام" تفرض على الخطاب السياسي العربي عدم الصدق أو عدم المصداقية مع الذات أو مع الغير، وعدم اكتراث فعلي للمصلحة العربية العليا – على الصعيدين الفردي والجماعي – إلى أن بات من المستحيل الاستمرار في طمس حقيقة الفشل في احتواء إسرائيل أو عكس واقع قيام الدولة العبرية على الأرض العربية. وقد رافقت هزيمة 1967 صحوة عربية جزئية – وخصوصاً فيما يتعلق بمحدوديات الوسيلة العربية العسكرية – غير أن "سياسة الأوهام" لم تتبدد كلياً إلا حين جاءت حرب 1991 لتشكل صحوة ثانية قاسية أنهت أكثر رواسب حرب 1967 المتبقية. وبات واضحاً أن الغلبة ليست للطرف الذي يدّعي المواقف البطولية، أو لمن يحتمي وراء الشعارات الرنانة، أو لمن يَعِد بما لا يمكن تحقيقه. هكذا، وعلى الرغم من مشاعر الإحباط واليأس، وعلى الرغم من كل الجروح التي فتحتها حرب 1991 داخل الجسم السياسي العربي، فقد كان من شأن الحرب الأخيرة أن تساهم مساهمة رئيسية في تصحيح اختلالات أعمق وأخطر داخل هذا الجسم، والمساعدة في "تطهير" الفكر العربي من الكثير من الأوهام المزمنة التي كانت تشكل تهديداً للمستقبل العربي برمته.
وعلى صعيد آخر، أكدت هزيمة العراق محدوديات الخيار العسكري العربي، حتى لو بلغ أحد الأطراف العربية ذروة عسكرية لا يستهان بها؛ فإذا كان العراق، أعظم قوة في المشرق العربي، قد فشل في تحقيق أهدافه ضد الكويت الضعيفة نسبياً، فماذا تبقّى للأطراف العربية الأخرى – بمن فيها سوريا – في مواجهة إسرائيل، أكبر القوى الإقليمية على الإطلاق، وأكثرها مناعة على الصعيد الدولي؟ وكما بالنسبة إلى "الأوهام" في الرؤى السياسية العربية، كشفت حرب 1991 عن آخر "الأوهام" العربية، ولم يعد في الإمكان التنكر لحقيقة أن الخيار العسكري العربي، بمختلف أشكاله وممارساته، قد فشل في كل امتحان جدي له تقريباً (مع استثناء جزئي مهم، سنة 1973)، وأضحى في النهاية أضعف سبل المواجهة مع إسرائيل وأقلها فعالية، وليس العكس. وبغض النظر عن ظاهرة الحماسة لسقوط الصواريخ البعيدة المدى على إسرائيل (وهي ظاهرة لها ما يفسرها في كل الأحوال)، فقد كان الدرس الأساسي من حرب الخليج الأخيرة، أن الثغرة النوعية ما بين القدرات العسكرية العربية والقدرات العسكرية الغربية – الإسرائيلية، أوسع مما يمكن ردمه بالحصول على نظام سلاحي معين، أو مجموعة من النظم، أو تحسن نسبي في الأداء والإدارة العسكريين. وهذه الهوة النوعية التي برز بعض مظاهرها في معارك 1982 بين سوريا وإسرائيل، عادت لتواجه الجانب العربي بحقيقة أن الفارق بينه وبين القوى الغربية أو الغربية الاتجاه، قد تزايد بدلاً من أن يتقلص، كما أن من شأنه أن يستمر في التزايد على حساب الجانب العربي في المستقبل المرئي والمنظور. وهكذا، فإذا كانت حرب 1967 قد دفعت العرب نحو الأهداف السياسية المحدودة في الصراع مع إسرائيل، فقد جاءت حرب 1991 لتؤكد أن الحرب كوسيلة حتى لتحقيق الأهداف المحدودة، لم تعد ممكنة أو قابلة للتنفيذ ضمن أي تقويم واقعي لميزان الربح والخسارة المتوقعين.
وفي الوقت نفسه، وللمفارقة، فإن هزيمة العراق ساهمت في تفنيد بعض جوانب الحجة الأمنية الإسرائيلية التقليدية؛ إذ إن إنهاء "الخطر العراقي على إسرائيل" قد أدى تلقائياً إلى تحييد التهديد العربي الكلي لإسرائيل، الأمر الذي جعل بالتالي من الأصعب عليها الادعاء أنها لا تستطيع :المجازفة" بأمنها عبر التوصل إلى مبادلة معقولة بين الأمن والأرض من جهة، وبين السلام من جهة أخرى. وبغض النظر عما يقوله بعض الأوساط الأمنية الإسرائيلية، من أن هزيمة العراق لا تعني بالضرورة أن تهديداً عربياً جديداً لن يطرأ في المستقبل، فالواقع أن مصداقية الحجة الأمنية الإسرائيلية قد تآكلت، بل أن التوجه العربي العام نحو الحل بالتفاوض أصبح يشكل بذاته سبيلاً لتحييد الخطر العسكري الإسرائيلي على الجانب العربي، بل أنجع الوسائل المتاحة لاحتواء القوة الإسرائيلية وردعها.
ويستخلص من هذا أن حرب الخليج ساعدت في تسهيل المشاركة العربية في عملية السلام، في حين أنها صعّبت على إسرائيل رفض هذا المسار في المقابل. وإذا انطلقنا من فرضية أن السلام المطروح أقرب إلى المفهوم العربي منه إلى المفهوم الإسرائيلي – الليكودي، فإنه يصبح في الإمكان القول إن التحولات التي طرأت على الساحة الإقليمية عقب هذه الحرب، ليست بالضرورة سلبية في مجملها – بل إنها قد تنطوي على دعم للجانب العربي في سعيه لتحقيق أهدافه في الصراع مع إسرائيل، على الرغم من جروح الحرب العميقة والتكلفة العالية التي دفعها الجسم العربي بسببها.
انهيار الاتحاد السوفياتي
أدى انهيار الاتحاد السوفياتي إلى تغييرين جوهريين في المعادلة السياسية الاستراتيجية العربية – الإسرائيلية القائمة:
أولاً: لم تعد هناك قوة حليفة مؤيدة للجانب العربي، قادرة أو على استعداد لتوفير الغطاء الخارجي السياسي أو العسكري المطلوب لبعض اللاعبين الأساسيين في الساحة العربية، وخصوصاً سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية. وهكذا، فقد جُرِّدت القوى العربية الرئيسية على خط المواجهة مع إسرائيل من "عمقها" الاستراتيجي التقليدي، الأمر الذي دفعها نحو ضرورة إعادة النظر في موقعها وعلاقاتها بالولايات المتحدة من جهة، وبإسرائيل من جهة أخرى. وإذا كان من الصحيح أن الاتحاد السوفياتي طالما كان يعارض السياسات العربية "المغامرة" (وخصوصاً فيما يتعلق بالعمل العسكري)، كما أنه كان يدفع باستمرار نحو إيجاد تسوية سياسية للصراع مع إسرائيل، فإن مجرد وجود السوفيات كقوة موازية للولايات المتحدة، قد أعطى الجانب العربي هامشاً للمناورة أمام إسرائيل والولايات المتحدة، باعتبار أن السوفيات يشكلون مظلة رادعة / واقية أمام احتمالات التصعيد الأميركي و/أو الإسرائيلي المبرح، ومصدراً آمناً للسلاح والتكنولوجيا العسكرية، بالإضافة إلى الدعمين السياسي والمعنوي شبه المؤكدين عند الحاجة وفي وقت الضيق. ومن هنا، فإن التراجع في دور وموقع السوفيات (وتفكك الاتحاد السوفياتي نفسه في النهاية) أدى إلى ضرب ما تبقّى من مصداقية للخيار العسكري العربي، وإلى البحث الجدي بالتالي عن سبل أخرى لتحقيق الأهداف العربية. لكن، للمفارقة، وكما بالنسبة إلى حرب الخليج، فإن تقلص التهديد العربي لإسرائيل لم يصب بالضرورة في مصلحة الدولة العبرية، كما أنه لم يؤد إلى زيادة التفهم الدولي لمطالب إسرائيل بالاحتفاظ بالأراضي العربية في مقابل السلام. ومن هذه الزاوية، يمكن القول إن تحييد الاتحاد السوفياتي ومن ثم غيابه عن الساحة الإقليمية، لم يضعفا موقف الجانب العربي حيال مطلبه الأساسي بل إنهما، وبصورة غير مباشرة، قد يدعمان هذا الموقف ويزيدان في فرص تحقيقه.
ثانياً: لم يعد الاتحاد السوفياتي قادراً أو معنياً بمنافسة الولايات المتحدة في المنطقة، أو بنشر نفوذه فيها على حساب المواقع والمصالح الأميركية. وهذا الفراغ قد ساعد في إطلاق يد الولايات المتحدة في الشرق الأوسط (وعلى الصعيد العالمي بصورة عامة)، لكنه في الوقت نفسه ساهم في تجاوز إحدى أهم العقبات أمام انطلاق عملية السلام بين العرب وإسرائيل؛ فغياب "الخطر الشيوعي" أو"التهديد السوفياتي" زاد في الاستعداد الأميركي للعمل والمجازفة، من دون التخوف من ردات الفعل السوفياتي السلبية أو المعرقلة، أو من قدرة السوفيات على استغلال الأوضاع على حساب المصالح الأميركية المرئية، أو من احتمالات الصدام المباشر مع القوات السوفياتية أو وكلاء السوفيات في المنطقة. وبكلام آخر: أصبح المجال مفتوحاً أمام سياسة أميركية نشيطة حيال الصراع العربي – الإسرائيلي، لا تحمل مخاطر عالية من حيث تهديدها للسلام العالمي، ولا مخاطر عالية من حيث تهديدها للمواقع والمصالح الأميركية الإقليمية. ويجدر التساؤل عما إذا كانت عملية السلام ستنطلق فعلاً لو لم يتوفر هذان الشرطان من وجهة النظر الأميركية.
وبالتضافر مع تنشيط الدور الأميركي، كان لانحسار الوجود السوفياتي في المنطقة أثر إيجابي آخر بالنسبة إلى الجانب العربي؛ فذوبان "التهديد السوفياتي" أضعف موقع إسرائيل في المنظومة الاستراتيجية الأميركية الإقليمية، وقلّل من أهمية إسرائيل كـ"ذخر" في مواجهة هذا التهديد المفترض. ولم يعد من الواضح أن هناك حاجة أميركية ملحة إلى الاعتماد على إسرائيل – من دون سواها – في مواجهة الأخطار المحلية، وخصوصاً أن حرب الخليج بدورها أثبتت محدودية القدرة الإسرائيلية على ردع مثل هذه الأخطار، أو العمل المباشر في دعم المصلحة الأميركية عندما تبرز التهديدات الحيوية الفعلية لها، بل إن خدمة إسرائيل الكبرى للولايات المتحدة في حرب الخليج اقتصرت على امتناعها من عرقلة التدخل الأميركي الذاتي في أسوأ أزمة شهدتها المنطقة منذ سنة 1948، وقبولها للحماية الأميركية العسكرية المباشرة لها، في خطوة استثنائية أوضحت مدى الاعتماد الإسرائيلي على الدرع الأميركي، بدلاً من العكس.
وبكلام آخر: ساهم كل من التقوقع في دور الاتحاد السوفياتي، والاعتماد الإسرائيلي على الولايات المتحدة خلال حرب الخليج، في زيادة التساؤلات بشأن طبيعة العلاقات السياسية الاستراتيجية التي تربط بين إسرائيل والولايات المتحدة، ومدى ثبات نظرية "الذخر الاستراتيجي" في الأوضاع العالمية والإقليمية الجديدة. وكان من شأن ذلك بلورة المواقف الأميركية الأكثر توازناً حيال الصراع العربي – الإسرائيلي، وبالتالي الأقرب إلى المصلحة العربية من المصلحة الإسرائيلية. وإذا كان هذا لا يعني أن الولايات المتحدة قد "تخلّت" عن إسرائيل أو أنها باتت منحازة إلى الجانب العربي، فإنه يمكن وصف حصيلة التغيرات في علاقات القوى السائدة في المنطقة بأنها أفرزت "تعديلات" إيجابية من وجهة النظر العربية، لكنها "سلبية" عامةً بالنسبة إلى إسرائيل.
إدارة بوش وبيكر
من الصعب تجاهل حقيقة أن إدارة الرئيس بوش، ومعه وزير الخارجية بيكر، قد برهنت جدية في التعامل مع مسألة السلام في المنطقة. وإذا كانت هذه الجدية تعكس مزيجاً من الاعتبارات الذاتية ("تحرر" بوش النسبي من ضغوط الجماعات المؤيدة لإسرائيل، واهتمام بيكر الشخصي بعملية السلام، إلخ)، والموضوعية (القدرة على استغلال التحولات الأخيرة في المنطقة)، فإنه يبقى الأساس من وجهة النظر العربية أن السياسة الأميركية تبدو أنها بدأت تعكس قاعدتها التقليدية، وتتحرك أول مرة في اتجاهات لا تتناقض مع المصلحة العربية، وإنْ كانت لا تتفق معها اتفاقاً كلياً.
والواقع أن أكثر الأطراف العربية (بمن فيها سوريا والفلسطينيون) بات يقر بهذا الانعطاف النسبي في السياسة الأميركية، وخصوصاً في ظل تشديد الرئيس الأميركي على ضرورة تطبيق القرار رقم 242 ومبادلة الأرض بالسلام، وموقف الإدارة من الاستيطان وقروض الإسكان لإسرائيل، إلخ. غير أن المطروح على الجانب العربي هو عدم الوقوع بين "مطبّين": الأول، المبالغة في مدى الاستعداد أو القدرة الأميركية على دفع إسرائيل رغماً عنها نحو التسوية؛ والثاني، التقليل من التزام الولايات المتحدة تجاه الحل، واستعدادها بالتالي لسحب يدها من العملية. فالموقف الأميركي، وموقف هذه الإدارة بالذات، يقوم أساساً على السعي نحو تحقيق حل "طبيعي" يأتي نتيجة تفاعل وتصارع الأطراف نفسها خلال عملية التفاوض، وهو ما يتطلب الرعاية الأميركية الدائمة للعملية والحرص على استمرارها، لكنْ عدم فرض الحلول من الخارج التي لا يمكن ضمان ديمومتها. وهذا لا يعني أن الولايات المتحدة لن تضطر إلى ممارسة الضغوط على الأطراف المعنية كافة. غير أنه يبدو أن النهج الأميركي العام هو الابتعاد عن "طرح الحلول الخالصة" (على الأقل في مراحل المفاوضات الأولى)، وخصوصاً فيما يتعلق بقضايا الجوهر، والاكتفاء بالدفع غير المباشر نحو ما تعتبره الولايات المتحدة "ممكناً ومعقولاً" في الأوضاع السائدة.
ومهما يكن الأمر، فإن أكثر المؤشرات يدل على أن الإدارة الأميركية الحالية تمثل أقصى ما يمكن للجانب العربي أن يصبو إليه، من حيث توفر النية والاستعداد لإيجاد تسوية مقبولة من وجهة النظر العربية. وهذا يفرض على الجانب العربي خياراً حيوياً هو إما التعامل بإيجابية مع السقف الأميركي ومحاولة رفعه برفق وبطء عبر التزام أصول اللعبة كما تضعها الولايات المتحدة نفسها، وإما إعادة النظر في الأهداف المزمع تحقيقها من الأساس. فإذا كان السبيل الأول لن يؤدي إلى "الأرض في مقابل السلام"، فليس من الواضح أن مثل هذه الصفقة سيكون قابلاً للتحقيق، على الأقل في المستقبل المنظور.