كان من أهم معالم الفترة الأخيرة بروز نقاش فلسطيني حيوي واسع في شأن طبيعة الرد المطلوب على تحديات المرحلة الحرجة المقبلة، وخصوصاً في ظل إمكان عقد المجلس الوطني الفلسطيني وبعده مؤتمر السلام الإقليمي في المستقبل القريب. وقد كشف هذا النقاش عن تيارات ووجهات أساسية سيترك تفاعلها وتصادمها أثراً عميقاً في مستقبل العمل السياسي الفلسطيني، وفي مسار عملية السلام في المنطقة بصورة عامة. ويمكن القول إن النقاش الدائر قد أفرز عدة مدارس فكرية ـ سياسية داخل الجسم السياسي الفلسطيني، يمكن تصنيفها على النحو التالي.
مدارس فكرية ـ سياسية فلسطينية
"الواقعيون المغالون"
ينطلق أصحاب هذه المدرسة من فرضية أن الأوضاع المحلية والدولية الراهنة تستوجب أكبر قدر من الواقعية في التعامل مع عملية السلام التي ترعاها الولايات المتحدة، كون هذه العملية تشكل المدخل الوحيد المتاح، في المديين القصير والمنظور، إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من التراب الوطني الفلسطيني المهدد أكثر من أي وقت مضى نتيجة زحف الاستيطان والتهويد المستمر. ويرى "الواقعيون المغالون" أن لا بد من المشاركة الفلسطينية، بأي شكل من الأشكال، ومن دون التوقف عند القضايا الإجرائية الثانوية، في العملية الجارية لتسوية النزاع مع إسرائيل، لئلا تتكرر المأساة الفلسطينية التقليدية الكامنة في "إضاعة الفرص التاريخية"، وذلك في مقابل نجاح الطرف الآخر الدائم في استغلال المحطات التاريخية الفاصلة لانتزاع المكاسب الجديدة على حساب الشعب الفلسطيني وأرضه.
ويعترف "الواقعيون المغالون" بأن التسوية المطروحة بشكلها الحالي قد لا تكون "عادلة" أو "محقة" وفق المعايير الفلسطينية ـ العربية المطلقة المعهودة، كما أنها ربما لن تنجح في تلبية أكثر من أدنى حدود التطلعات الوطنية الفلسطينية، في المدى القصير على الأقل. غير أن أصحاب هذه المدرسة يدعون إلى نظرة قاسية ومتجردة إلى الأوضاع الفلسطينية الذاتية والتغيرات الموضوعية الإقليمية والدولية، التي تجعل من الحل المطروح أقرب الحلول منالاً، وأية حلول أو بدائل أخرى غير قابلة للتحقيق ضمن موازين القوى القائمة والمرئية. وبكلام آخر: إذا كان الحل المطروح يعكس بالضرورة الخلل في ميزان القوى العام لمصلحة إسرائيل، فليس هنالك ما يدعو إلى الاعتقاد أن هذا الميزان سيتحول نحو الأحسن، وخصوصاً في حال الرفض الفلسطيني، بل إن محصلة التجربة الفلسطينية عبر عقود طويلة من الزمن تدل على أن تكلفة الرفض تتصاعد مع كل دورة من دورات الصراع في المنطقة، وليس العكس.
هكذا، فإن شعار "الواقعيين المغالين" الأول هو أن تحقيق "شيء ما" في هذه المرحلة هو أفضل من المجازفة بخسارة "كل شيء"، وأن الهدف الآني الفلسطيني لا بد من أن ينصب على محاولة ضرب القيود حول الاحتلال الإسرائيلي الزاحف واحتوائه، الأمر الذي يتطلب الدخول في المفاوضات مع إسرائيل حتى لو كانت شروط المشاركة الفلسطينية قاسية وصعبة التقبل، وحتى لو كانت نتائج المفاوضات غير مضمونة أو غير مؤكدة من بداية الطريق. ومن جهة أخرى، يدعو "الواقعيون المغالون" إلى عدم الاستسلام لمشاعر الإحباط والعدمية، والى التحلي بالجرأة والثقة بالنفس، إذ إن من شأن مجرد الدخول في عملية التسوية أن يفرز تغيرات غير منظورة في المعادلات القائمة وفي العلاقات الفلسطينية بكل الأطراف المحلية والدولية المعنية بالنزاع. كما أن نتائج المفاوضات تتوقف، إلى حد كبير، على قدرة الفلسطينيين على إدارتها وبنفس طويل الأمد. ومن هذا المنظور، ترى هذه المدرسة أن عجلة التاريخ لن تتوقف عند نقطتها السلبية الحالية من وجهة النظر الفلسطينية، وأن المطلوب هو البدء بدق أسس كيان فلسطيني سياسي حي على الأرض الفلسطينية، على الرغم من أن حجم هذا الكيان سيكون متواضعاً على الأرجح في مراحله الأولى. أما فيما بعد، وإذا نجح الفلسطينيون في إيجاد موطىء قدم لهم على ترابهم الوطني، فسيصبح في الإمكان العمل على تعزيز عناصر القوى لديهم، وليس أقلها حقيقة أن الميزان الديموغرافي سيبقى راجحاً لمصلحة الجانب الفلسطيني في المدى غير البعيد، حتى مع استمرار تدفق اليهود السوفيات إلى إسرائيل. فالتوقعات الديموغرافية تدل على أن الفلسطينيين سيشكلون، خلال بضعة عقود من الزمن، أكبر تكتل وطني/قومي في المنطقة الواقعة بين الحدود العراقية إلى الشرق وبين البحر الأبيض المتوسط إلى الغرب، بما في ذلك إمكان الوصول إلى نقطة التكافؤ السكاني العددي مع اليهود داخل حدود أرض فلسطين غربي نهر الأردن.
وفي النهاية، تقول مدرسة "الواقعيين المغالين" أن الولايات المتحدة ـ وهذه الإدارة بالذات ـ باتت تشعر بأن الأوان آن لإنهاء النزاع العربي ـ الإسرائيلي، وأنها جادة في تحقيق هذا الغرض نتيجة موقعها العالمي والإقليمي المميز، واقتناعها بأن مستلزمات الحل باتت متوفرة فعلاً في الميدان. أما الوقوف الفلسطيني خارج هذا الحل (أو ضده)، فسيزج الفلسطينيين لا في مسار عكسي للتيار العالمي السائد الذي تقوده الولايات المتحدة فحسب، بل سيزجهم أيضاً في تناقض مباشر مع الأطراف العربية الرئيسية المتكيفة إزاء هذا التيار والسارية معه. وبما أن الفلسطينيين هم أكثر الأطراف معاناة نتيجة غياب الحل، فسيكونون أكثر الأطراف تضرراً في حالة قيامهم بالتعطيل عليه أو الابتعاد عنه.
"الواقعيون المتحفظون"
يشارك أصحاب هذه المدرسة "الواقعيين المغالين" في دعوتهم إلى ضرورة التعامل الإيجابي مع عملية السلام الراهنة. كما يشاركونهم في تشخيصهم للكثير من الأوضاع والصعوبات التي تواجه العمل السياسي الفلسطيني ضمن الأوضاع الدولية والإقليمية القائمة. غير أن "الواقعيين المتحفظين" يرون أن هنالك "خطوطاً حمراً" لا يمكن تجاوزها فيما يتعلق بإمكان أو استعداد الجانب الفلسطيني للدخول في المفاوضات مع إسرائيل، إنْ كان ذلك بالنسبة إلى الجانب الإجرائي للمفاوضات أو بالنسبة إلى مضمونيتها. ويذهب "الواقعيون المتحفظون" إلى أن الجانب الفلسطيني يملك ورقة حيوية مهمة تكمن في أن غياب الممثلين الفلسطينيين المصداقيين عن المفاوضات سيكون من شأنه التعطيل على الحل، باعتبار أن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي هو لبّ النزاع في المنطقة، كما أن الأطراف العربية الأخرى لن تشارك في المفاوضات في مثل هذه الحال، أو أنها ستكون ـ في حال شاركت ـ مكشوفة أمام الاتهام بأنها تخلت عن القضية الفلسطينية. ومن هذه الزاوية، يرى "المتحفظون" أنه يمكن استغلال الأثر المفترض أن يتركه الرفض الفلسطيني في الجانبين العربي والأميركي، من أجل تحسين شروط المشاركة الفلسطينية ومن أجل الحصول على "ضمانات" في شأن مسألة التمثيل الفلسطيني من جهة (وخصوصاً فيما يتعلق بتمثيل القدس العربية)، وفي شأن النتائج المتوقعة من المفاوضات فيما يخص "الحقوق الوطنية الفلسطينية الثابتة" من جهة أخرى. ويدعو "الواقعيون المتحفظون" كذلك إلى ضرورة العمل على تطوير العلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية والدول العربية، من أجل تصليب الموقف الفلسطيني ـ العربي المشترك، وبغية انتزاع ثمن عال نسبياً للموافقة الفلسطينية الرسمية على الدخول في المفاوضات؛ أي بكلام آخر: قيام منظمة التحرير بإعطاء الضوء الأخضر لصيغة ما من صيغ التمثيل الفلسطيني، بما في ذلك صيغة الوفد الفلسطيني ـ الأردني المشترك.
والواقع أن "المتحفظين" يختلفون عن "المغالين" فيما يتعلق بعدة نقاط أساسية: أولاً، يعطي "المتحفظون" أولوية للحفاظ على مركزية دور منظمة التحرير في العملية السياسية والمفاوضات المحتملة، ولو كان ذلك من وراء الستار وبصورة غير مباشرة. وبالتالي، يصر "المتحفظون" على ضرورة عدم تجاوز السياسات التي قد ترسمها المنظمة لنفسها. (أما في حال تبدل هذه السياسات فيبقى "المتحفظون" على استعداد للتكيف إزاء ذلك بصورة عامة). وفي المقابل، يرى "المغالون" أنه في حين لا بد من محاولة إقناع منظمة التحرير بالتعامل الإيجابي مع الحل، فإن على الفلسطينيين أن يميزوا بين الوسيلة والغاية. وبحيث لا تتحول قضية التمسك بالمنظمة إلى غاية بذاتها، بدلاً من مجرد أداة للعبور إلى الأهداف الفلسطينية الحيوية المتمثلة الآن في محاولة إنقاذ الأرض، ووقف الاستيطان، وإنهاء الاحتلال. فإذا كان هناك أدوات أفضل وأكثر نجاعة لتحقيق مثل هذه الأهداف، في المرحلة الراهنة، فإنه يجب ألا تكون مسألة دور المنظمة وموقعها عقبة أمام ذلك. ومن هنا، تبدو "الشكليات" والقضايا الإجرائية والرمزية أهم لـ "المتحفظين" منها لـ "المغالين"، وإنْ كانت المدرستان على اقتناع بأن طيف الخيارات الفلسطينية الأساسية بات محدوداً في الأحوال كافة. ثانياً، يختلف "المتحفظون" عن "المغالين" في أن المدرسة الأولى لا ترى مدعاة إلى التفاؤل بشأن مجرى المفاوضات أو مدى الاستعداد الإسرائيلي لـ "التنازل" لمصلحة الفلسطينيين (أو مدى الاستعداد الأميركي للضغط على إسرائيل في هذا الاتجاه). ويرى "المتحفظون" أن المشاركة الفلسطينية في التسوية مفروضة فرضاً على الجانب الفلسطيني، وذلك لأن ثمن الرفض المطلق في الأوضاع المحلية والدولية الراهنة هو أكثر من ثمن "القبول" المشروط. أما "المغالون" فيرون، في المقابل، أن المشاركة الفلسطينية الفعالة والنشيطة، ولو كانت في ظل أوضاع غير مؤاتية بصورة عامة، ستشكل في حد ذاتها وسيلة لفتح الباب أمام تبديل الموقف الأميركي، وربما حتى الموقف الإسرائيلي الداخلي، لما فيه المصلحة الفلسطينية العليا في نهاية المطاف. وفي حين يعتبر "المغالون" أن في الإمكان تحقيق الإنجازات الملموسة في الميدان في حال الأداء الفلسطيني الماهر خلال المفاوضات، يذهب "المتحفظون" إلى أن الغاية الأولى من المشاركة في العملية هي محاولة "حصر الأضرار"، وليس إلا.
ليس من السهل تقويم حجم المدرستين "الواقعيتين" داخل الساحة الفلسطينية، لكن لعله يمكن القول أنهما أصبحتا تشكلان معاً ثقلاً أساسياً ضمن إطار ما يمكن تسميته التيار المركزي في الحركة الوطنية الفلسطينية، داخل الأراضي المحتلة وخارجها. وبصورة عامة، يبدو أن "المتحفظين"ً من المستقلين والفعاليات الاقتصادية والتقليديين (مثل التيار الفلسطيني المؤيد للأردن)، بالإضافة إلى احتفاظهم بموطىء قدم داخل المؤسسة الفلسطينية الرسمية نفسها. لكن، بغض النظر عن الفوارق النظرية بين المدرستين، فقد يصعب من الناحية العملية رسم الخطوط الفاصلة والواضحة بين أنصار كل منهما، وذلك نتيجة التقاطع والتداخل بين مختلف التيارات "الواقعية"، وانزلاق بعض الكتل أو الأفراد في اتجاه أو آخر بحسب المتغيرات الميدانية والذاتية.
"الرافضون السلبيون"
في مقابل الطروحات "الواقعية" على اختلافها، هنالك مذاهب "رفضوية" لا يزال أثرها مهماً في الساحة. وفي هذا المضمار، تبرز مدرسة "الرفض السلبي" (بمعنى الهامد أو غير النشيط) التي تقول أن كل ما يطرح حالياً من حلول أو تسويات ليس من شأنه أن يحقق شيئاً للفلسطينيين، بل إن المشاركة في هذه الحلول أو التسويات تنطوي على تنازلات خطرة على حساب الحقوق الفلسطينية التاريخية. ويقر "السلبيون" بأنه قد لا يكون هنالك بدائل عملية لتحقيق التطلعات الوطنية الفلسطينية في المديين القريب والوسيط، غير أن لا بد من النظر إلى الصراع مع إسرائيل على أنه "صراع أجيال" يمكن أن يمتد أعواماً أو حتى قروناً. ويستشهد "السلبيون" بأمثلة تاريخية وخصوصاً تجربة الحملات الصليبية، ويشددون على رؤية مفادها أن مصير إسرائيل، مثلها مثل الدويلات الصليبية، هو نحو الذوبان والتفتت في نهاية المطاف، كونها لن تكون قادرة على الصمود ضمن بيئة عربية متناقضة بطبيعتها معها، ومتفوقة عليها من حيث طاقاتها الكامنة البشرية والمادية، إلخ. ويرى "السلبيون" أن على الفلسطينيين أن يتحلّوا بالصبر وبالنفس الطويل وبالبعد التاريخي في نضالهم، وألا يستسلموا للهلع أمام الهجمة الإسرائيلية الاستيطانية الجارية، وألا ينساقوا وراء الدعوات "الانهزامية" التي تعبر المذاهب الواقعية داخل الساحة الفلسطينية عنها. هكذا، يذهب "الرافضون السلبيون" إلى أن التاريخ والوقت يرجحان لمصلحة الفلسطينيين، وأن هزيمة إسرائيل في الصراع أمر "حتمي" بسبب استحالة إدامة التعايش العربي ـ الفلسطيني مع كيان توسعي عنصري غريب ومعاد، بغض النظر عما قد يمتلك هذا الكيان من قوة وجبروت في الحقبة التاريخية الجارية. وفي هذا السياق نفسه، قول "السلبيون" إن الولايات المتحدة الأميركية، التي تشكل السند الأساسي لإسرائيل والمصدر الحيوي لقوتها وقدرتها على البقاء، لن تكون دائماً القوة الدولية المهيمنة في المنطقة أو العالم، كما أن دعمها لإسرائيل قد يتآكل أو يتراجع مع مرور الزمن.
ومن هنا، وفي غياب الاستراتيجيات السياسية أو العسكرية القادرة على فرض تسوية عادلة على إسرائيل ضمن الأوضاع القائمة، يرى "السلبيون" أن من الحيوي حجب الاعتراف الفلسطيني المعنوي عن إسرائيل، وعدم الإقرار بشرعية المشروع الصهيوني في المدى القريب، والاعتماد على تطور "حركة التاريخ" لتطويق هذا المشروع ثم ضربه في المدى البعيد. أما في المرحلة الراهنة، فتذهب هذه المدرسة إلى أن كل ما يمكن أو يجدر القيام به هو التزام موقف "سلبي" لا يزج بالفلسطينيين في عملية سياسية "ملوثة"، يقوم أساساً على التمسك بالمبادىء السامية من جهة، والاحتفاظ بمجرد الوجود الفلسطيني البشري على أرض فلسطين التاريخية من جهة أخرى.
"الرافضون النشيطون"
تختلف مدرسة "الرافضين النشيطين" عن نظيرتها "السلبية" بكونها تعتبر أن هنالك فعلاً بدائل فلسطينية عملية وإيجابية (بمعنى فعالة ونشيطة) من خيار المشاركة في التسوية. ويشارك أنصار هذه المدرسة "السلبيين" في رأيهم فيما يتعلق بآفاق التسوية وخطورة التنازلات المطلوبة من الجانب الفلسطيني فيها. وهم، مثلهم مثل "السلبيين"، يعتبرون أن مؤتمر السلام المطروح سيفرز حلولاً غير مقبولة، تحمل في طياتها تفريطاً في "الثوابت" الفلسطينية وفي حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية. وفي حين أن "النشيطين" يرون كذلك أن لا بد من النظر إلى الصراع على أنه صراع مديد، وبالتالي عدم الرضوخ للضغوط والاعتبارات الآنية، فإنهم يشددون على ضرورة الحركية والعمل على التصدي للتسوية أو تفشيلها، والمشاركة في صنع الأحداث وخلق المتغيرات، بدلاً من الاكتفاء بالمواقف الرافضة الهامدة.
وفي مقابل ما يعتبره "الرافضون النشيطون" من نزعات استسلامية في المذاهب "الواقعية"، فإنهم يدعون إلى تطوير سبل النضال السياسية والعسكرية المتوفرة للشعب الفلسطيني، وتصعيده في مواجهة الطروحات الأميركية ـ الإسرائيلية الراهنة. ويمكن القول إن هذه المدرسة تضم تيارات ثانوية مختلفة الاتجاه: منها من يرى أن استراتيجية الكفاح المسلح لا تزال سبيلاً متاحاً قادراً على التأثير في الميزان القائم والمنظور؛ ومنها من يرى أنه يمكن إعادة الزخم إلى الانتفاضة كوسيلة لتحقيق الأهداف الفلسطينية السياسية؛ ومنها من يذهب إلى أن هنالك إمكانات لتثوير المحيط العربي في اتجاه الصراع ضد إسرائيل، بما في ذلك إحياء الخيار العسكري العربي؛ ومنها ما يجمع بين كل هذه الطروحات وما يشابهها.
وبصورة عامة، يرى "الرافضون النشيطون" أن من السابق لأوانه الاعتراف بالعجز الفلسطيني و/أو العربي في مواجهة إسرائيل، وأن أخطر ما في المدرسة الواقعية (التي يدعو بعضهم إلى التصدي المباشر لها) هو الإقرار بهذا العجز. وهنالك نزعة عند "النشيطين" إلى العودة إلى البدايات، أي الدعوة مثلاً إلى الاعتراف بإفلاس كل ما حققته حركة التحرر الوطني تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية حتى الآن، والنزول "تحت الأرض" للعمل على بداية جديدة في أوضاع لا تبدو لمثل هذه النزعة أصعب من الأوضاع التي أحاطت بانطلاقة الستينات من حيث المبدأ. ومن هنا، ينبذ "الرافضون النشيطون" شعار "لا بديل"، بل يؤكدون توفر البدائل إنْ وُجدت الرؤية والتصميم والإرادة الثابتة.
والواقع أن المدارس الرفضوية المختلفة تبدو أكثر تعقيداً، في تركيبتها وطروحاتها، من المدارس الواقعية. فهي تستمد قوتها من التيارات العقائدية ـ القومية ـ الدينية المتشعبة داخل الساحة الفلسطينية (قومي عربي، اشتراكي ثوري، إسلامي، إلخ)، ومن الفئات المحبطة أمام بطء العملية السياسية ـ الدبلوماسية وثمارها الظاهر المحدود. وكذلك فهي تستمد زخمها من مشاعر سائدة في الجسم السياسي الفلسطيني بأن "الاعتدال" و "البراغماتية" لم يؤديا سوى إلى تنازل تلو التنازل، في مقابل التصعيد المستمر في التشنج والتطرف الإسرائيليين. وهنالك اقتناع في صلب هذه المدرسة بأن الطرف الآخر "لا يفهم سوى لغة القوة"، وبأن كل ما يخرج عن ذلك عديم الفائدة أو المردود. هكذا، فإن بعض "الرافضين النشيطين" يستشهد بنتائج استراتيجية السلام التي تبنتها منظمة التحرير سنة 1988 قياساً بتجربة لبنان 1982 – 1985 ، كمثال لعدم تراجع إسرائيل عن الاحتلال إلا نتيجة الضغط العسكري المباشر. وهم يدعون، بالتالي، إلى ضرورة تطبيق "دروس لبنان" في الأراضي الفلسطينية نفسها.
ويشكل هذا الائتلاف العريض من رافضين عقائديين وقوميين وإسلاميين و"محبطين"، هو الآخر، تكتلاً مهماً مؤثراً في الموقف الفلسطيني الكلي. ومن الظواهر اللافتة والمهمة في الفترة الأخيرة، أن مركز ثقل الرافضين (على الأقل "النشيطون" بينهم) يبدو أنه بدا ينتقل إلى داخل الأراضي المحتلة نتيجة تقلّص إمكانات العمل "النشيط" من الخارج، وابتعاد سياسة منظمة التحرير الفلسطينية الرسمية عن الطروحات الرفضوية، من دون أن ينفي ذلك استمرار البؤر الرافضة داخل الفصائل المنتمية إلى المنظمة، أو في الشتات عامة.
مدرسة "اللاحل"
تعتبر هذه المدرسة أنه لن تكون هنالك تسوية مع إسرائيل في المدى المنظور، أي أن العملية الجارية ستصل عاجلاً أو آجلاً إلى الطريق المسدود أساساً، بسبب التعنت الإسرائيلي وعدم الاستعداد الأميركي للضغط على الطرف الآخر. وبناء على ذلك، يرى أصحاب هذه المدرسة أن من العبث إضاعة الوقت في النقاش بشأن التفاصيل الإجرائية أو مضمونية الحل، لأن إسرائيل لن تعطي شيئاً في الأحوال كافة. غير أن هذه المدرسة تدعو، في الوقت نفسه، إلى عدم وضع العراقيل أمام أولئك الذين يريدون المشاركة في المفاوضات، أو الإعلان الفلسطيني الصريح بعدم جدوى مثل هذه المشاركة. وبمعنى آخر: تحتفظ مدرسة "اللاحل" لنفسها بحق المقاطعة أو عدم المشاركة، من دون قطع الطريق أمام الآخرين المقتنعين بأهمية ذلك أو جدواه.
ويمكن القول أن أطراف هذه المدرسة تلتقي مع أطراف المدارس الرفضوية، غير أنها تعبّر كذلك عن طرح مستقل لا يحمل شعاراً رافضاً قاطعاً. وهنالك بعض الفئات الإسلامية التي تتبنى مواقف من هذا النوع، باعتبار أن الحل الوحيد في النهاية هو الحل الإسلامي الذي لا علاقة له بكل ما يطرح الآن، وبالتالي فإن العملية السياسية الجارية لا تستدعي اتخاذ المواقف الرافضة أو المؤيدة في الأحوال كافة. ومن هذه الزاوية، فإن الحلول المقترحة لا تعني الإسلاميين، غير أنهم لن يعارضوا أي شيء قد يؤدي إلى تقليص الاحتلال أو تراجعه، مع اقتناعهم بأن ذلك يبقى أمراً غير قابل للتحقيق. وهنالك دوائر أخرى تتبنى مواقف متشابهة تغطي طيفاً عريضاً من الرأي الفلسطيني في الداخل والشتات، وهي بطبيعة طرحها لا تشكل وجهة صدامية مع المذاهب الواقعية من جهة، أو الرافضة النشيطة من جهة أخرى.
"المهمَّشون"
يرى "المهمَّشون" أن التسوية المطروحة، بغض النظر عن شكلها النهائي، لن تؤدي إلى تحسن ملحوظ في أوضاعهم، كما أنها لن تلبي مطالبهم السياسية أو المعيشية الرئيسية. هكذا، فإن "المهمَّشين" يكشفون عن لامبالاة حيال التحركات السياسية أو الدبلوماسية الجارية أو إفرازاتها المحتملة، بافتراض أن لا صوت لهم فيها وأنها لا تنالهم مباشرة ولا تعكس رغباتهم أو تطلعاتهم. وبحسب وجهة النظر هذه فإن الحل أو غيابه هما وجهان للعملة ذاتها، في الوقت الذي تتناسى المدارس الفلسطينية الأخرى مصالح الفئات "المهمشة" أو تتجاهلها. ويمكن القول أن مدرسة "المهمشين" تلتقي مع أصحاب مدرسة "اللاحل" في كونها قد لا تعترض على التسوية من حيث المبدأ، لكنها لا تبدي حماسة شديدة لمثل هذه التسوية في المقابل.
وتعكس مدرسة "المهمشين" مواقف ومشاعر عدة تجمعات فلسطينية، منها سكان المخيمات في الشتات وفي لبنان بصورة خاصة، وبعض القطاعات في مخيمات الأراضي المحتلة، ولاجئو سنة 1948 الذين يتطلعون إلى "العودة"، وغيرهم من المسحوقين والمنسيين في الشعب الفلسطيني عامة. ومن غير الواضح بالنسبة إلى فلسطينيي لبنان مثلاً، أنه حتى في حال إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة الكاملة، في الضفة الغربية وقطاع غزة، سيؤدي ذلك إلى تبدل جوهري نحو الأفضل من وجهة نظرهم. هكذا، فإن "المهمشين" يتشكلون من أولئك الذين يعتبرون أنهم خسروا الكثير عبر أعوام النضال الفلسطيني، من دون أن تبدو لهم إمكانات التعويض من ذلك مقنعة أو قريبة المنال.
التشرذم والتقلب
ليس المقصود هنا رسم صورة شاملة أو متكاملة لمختلف وجهات النقاش الفلسطيني الجاري، إذ إن لكل من المدارس المصنفة أعلاه تفرعات وتشعبات قد يصعب تلمسها في بعض الأحيان. كما أن مفاصل النقاش تتقاطع وتتداخل على أكثر من مستوى وصعيد. لكن، لعل اللافت بصورة خاصة أن الجسم السياسي الفلسطيني يبدو مشرذماً وعرضة للتقلبات الحادة أكثر من أي وقت مضى، الأمر الذي يمحو الكثير من "خطوط المواجهة" التقليدية المعهودة في النقاشات الفلسطينية السابقة، حيث كانت الفصائل المختلفة تمثل مراكز الثقل في إدارة هذه النقاشات. وفي الوقت الذي تمحور الحوار السياسي بينها حول توجهات وطروحات واضحة نسبياً (نقاش فتح/الشعبية مثلاً في أواخر الستينات والسبعينات، أو النقاش بين الماركسيين والقوميين، أو الجدال بين "جبهة الرفض" ومنظمة التحرير، أو الطروحات المختلفة في شأن الدولة والكيان، إلخ)، وفي مقابل خطوط التباين المبلورة إلى حد بعيد، بات الفرز الآن يتم على أسس سياسية ـ اجتماعية أكثر تعقيداً جداً وخصوصاً في ظل انهيار أو تصدّع الكثير من الأطر المرجعية (العقائدية أساساً)، أو الطروحات الشمولية (مثل حرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد) المنبثقة منها. وإذا كان هذا التخبط وليد التآكل المتراكم في موقع وقوة الفلسطينيين كعامل "مستقل" وفعال على الساحة، فإن التحولات الطارئة على بنية الجسم الفلسطيني خلال الأعوام الأخيرة، وأهمها التبدل المستمر في العلاقة بين الداخل والخارج، وكذلك التغيرات الجذرية في بيئة العمل الفلسطيني العربية والدولية، من شانها أن تضمن استمرار النقاش الجاري وخروجه بالمواقف أو المدارس غير المألوفة أو المنظورة، مهما يكن شكل القرار الفلسطيني "الرسمي" حيال عملية السلام.