[.......]
إن قدر الشعب الفلسطيني أن يصرف سبعين سنة من عمره، حتى الآن، في الجهاد المتواصل، مدافعاً ومحارباً ومقارعاً أعتى قوة سياسية وعسكرية في التاريخ الحديث، ألا وهي قوة التحالف الغربي الصهيوني التي سلبته وطنه عنوة وقسراً، وشردته في أرجاء المعمورة ظلماً وقهراً. وإذا كان هذا الجيل من الشعب الفلسطيني يؤبّن اليوم صلاح خلف وهايل عبد الحميد، كما أبّن بالأمس خليل الوزير وسعد صايل وماجد أبو شرار ويوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر، فإن جيل آبائنا من قبلنا قد أبّن عبد القادر الحسيني وحسن سلامة وعز الدين القسّام وعبد الرحيم الحاج محمد، وغيرهم وغيرهم من المقاتلين الأشاوس والقادة الأفذاذ والشهداء الأبرار، الذين قضوا دفاعاً عن عروبة فلسطين ضد الوطن القومي اليهودي، ووعد بلفور، وصك الانتداب، والهجرة اليهودية، والكتاب الأبيض لعام 1930، والمجلس التشريعي لعام 1935، ومشروع التقسيم لعام 1937، وعصابات الهاغاناه وشتيرن وإرغون تزفي لومي، وقيام إسرائيل وتوسعها، واحتلال الضفة الغربية وغزة، وضم القدس، وإقامة [المستعمرات]، ومصادرة الأراضي، وتشريد السكان، وطمس الطابع العربي للوطن، وتدنيس المقدسات، واعتقال أهل البلاد، إلى ما هنالك من أعمال القمع والبطش والإبادة، التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني تحت سمع وبصر العالم المتمدن، وقد بلغ نضال الشعب الفلسطيني ذروته في انتفاضته البطولية التي جسّدت من جديد إرادة الشعب الفلسطيني وتصميمه على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي مهما كلفه ذلك من آلاف الشهداء، الذين سقطوا وسيسقطون من أجل تقرير المصير وإقامة دولة فلسطين، وما لديهم سوى إيمان وحجارة وسكاكين.
هذه هي سيرة الشعب الفلسطيني، وهذا تاريخه منذ سبعين عاماً. وأبو اياد ورفيقاه الشهيدان أبوا أن يشذّوا عن القاعدة، قاعدة الاستشهاد فداء لفلسطين، فأضافوا برحيلهم عطاء جديداً إلى عطاء الشعب الفلسطيني المستمر، حتى تظل الشعلة متوقدة في وجدان كل منا مهما كثرت التضحيات، وتكالب الأعداء، وتعاقبت المحن والنكسات.
أيتها الأخوات، أيها الإخوة،
ماذا عساني أقول في أبي اياد في ذكرى رحيله. وأستمحيكم عذراً إن اخترته تخصيصاً دون غيره من رفاقه الشهداء، الأبطال، لأنني عاصرته وعرفته وزاملته وخبرته أكثر من غيره، على مدى ربع قرن من الزمان.
إذا كانت الرجال مواقف، فإن أول ما يلفت النظر في أبي اياد أنه رجل موقف. لم يتردد في قول الحق مهما كلفه ذلك، ولقد كلفه ذلك كثيراً، فعاش طيلة حياته مهدداً من أعدائه، وما أكثرهم، ومنذ عشرين عاماً ورأسه مطلوب أميركياً وإسرائيلياً.
وعندما كنا نأتي على ذكر وضعه الأمني كان يضحك ضحكته المعهودة ويقول: إن هذه الثورة ليست نزهة، وكل من يتحمل مسؤولية قيادية فيها مهيأ للشهادة في أية لحظة [...].
ولعل الذين عرفوا ابو اياد شخصياً لاحظوا أن لهجته اليافاوية الدافئة المميزة ظلت تلازمه حتى آخر يوم من حياته، وكأنه هاجر من يافا بالأمس فقط، ناسفاً بذلك أربعين عاماً من الشتات والتنقل والعيش في عدة بلدان عربية دون أن تتأثر لهجته بأي منها. إن رفضه التسليم بالهزيمة وضياع فلسطين جعلاه يعتبر أن ساعة الزمن قد توقفت يوم أُخرج من فلسطين في يوم من أيام مايو [أيار] عام 1948. وهذا دليل آخر على صلابة الموقف لديه، ورسوخ العقيدة التي يؤمن بها. إن أصالته الفلسطينية الطاغية قد استحوذت على حواسه وشخصيته فجاءت لهجته اليافاوية العفوية تكريساً لهذه الأصالة وتعبيراً عنها.
ومن شمائل أبي اياد الوفاء. وقد عاش، رحمه الله، في مقدمة الصف القيادي للعمل الفلسطيني، وخاض المعترك السياسي الفلسطيني والعربي بكل تناقضاته. ولا يخفى على أحد الامتدادات السياسية للأنظمة العربية داخل الجسم الفلسطيني السياسي، وتأثير القضية الفلسطينية على مجمل السياسات العربية. وقد وقعت، كما تعلمون، خلافات كثيرة وخطيرة وعميقة بين منظمة التحرير وعدد من الدول العربية. وكم حاول البعض أكثر من مرة إغراء أبي اياد بالتمرد على أبي عمار والحلول مكانه. ولكن أبا اياد، رجل الموقف المبدأ، كان يطلع رفيقه وقائده أبا عمار على كل التفاصيل أولاً بأول. بل إن تلك المحاولات كانت أحياناً سبباً في إزالة جفوة، تكون عابرة، في العلاقات بينهما، فعاش ومات قائداً منضبطاً ملتزماً وفيّاً، لا يدين بالولاء إلا لقضيته ولشعبه وقيادته.
وإذا كان أبو عمار قد فقد في أبي اياد أخاً وزميلاً ومستشاراً ورفيق درب مدى أربعين عاماً، فإن أكثر ما سيفقده أبو عمار في أبي اياد هو دوره المتميز في جس النبض، واستكشاف الأجواء، وتمهيد الطريق لدى الحكومات والأفراد، قبل أن يقدم أبو عمار على خطوة سياسية هامة. لقد كان أبو اياد سياسياً محنكاً ومناضلاً مرناً يحسن الاستماع قبل الكلام، يساير دون تراجع، ويرضي دون انحناء، ويرطب الأجواء، إذا توترت، بطرفة أو فكاهة. وقد وهبه الله عقلاً نيّراً منظماً يتقن سرد الأحداث المتشابكة المعقدة بتسلسلها المنطقي، مع شرح واضح لموقف المنظمة من كل منها بأسلوب السهل الممتنع [...].
ومنذ أن خرج إلى العلن قائداً في فتح في أواخر الستينات، اشتُهر عن أبي اياد التصلب والتطرف، فأصبح زعيم الجناح اليساري في فتح، إنْ جاز التعبير. كان يؤمن بالعنف الثوري سبيلاً إلى إيقاظ ضمير العالم حول ما يجري لفلسطين والفلسطينيين، وبقي سنوات يمارس العنف الثوري ضد العدو الصهيوني بلا هوادة. فأسمته إسرائيل زعيم الإرهابيين، كما أطلقت عليه وسائل الإعلام الغربية لقب زعيم الصقور في فتح. وأذكر أنه عندما انتقل المناضل الشهيد الدكتور وديع حداد إلى الرفيق الأعلى، وقف أبو اياد على مسرح قاعة جامعة بيروت العربية يؤبّنه ويقول: "إذا كان وديع حداد إرهابياً، كما تدعي إسرائيل والغرب، فكلنا إرهابيون". ومع ذلك، فقد كانت نزعته الإنسانية الدفينة تغلب عليه أحياناً، فقال لي يوماً في بيروت، في لحظة تأمل: "هل كُتب عليّ أن أعيش، أنا الفلسطيني المشرد والمعتدى عليه، مع لقب الإرهابي." [...]
وبقي أبو اياد على تصلبه وتطرفه، رافضاً للقرار 242، ومعارضاً كل ما يوحي بالتفاوض أو الصلح أو الاعتراف بالكيان الإسرائيلي، إلى أن قامت الانتفاضة وما رافقها ونتج عنها من معطيات سياسية ودولية ونفسية جديدة. وارتأت القيادة السياسية الفلسطينية أن موازين القوى في العالم وتأثيرات الانتفاضة تتطلب منهجاً سياسياً جديداً يترجم إنجازات الانتفاضة في الداخل إلى واقع سياسي جديد في الخارج. واجتمع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في نوفمبر [تشرين الثاني] عام 1988، فأُعلنت دولة فلسطين، وتم القبول بالقرار 242. وفي ديسمبر [كانون الأول] من نفس العام، ذهب أبو عمار إلى جنيف، حيث انتقلت الجمعية العامة للأمم المتحدة للاستماع إليه بعد أن رفضت واشنطن منحه تأشيرة دخول، على الرغم من قبوله بالقرار 242 الذي ينص، ضمن أشياء أخرى، على حدود آمنة ومعترف بها لجميع دول المنطقة مقابل خروج إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967. وفي جنيف أعلن أبو عمار، استكمالاً لمسيرة السلام التي بدأت في الجزائر، قبول منظمة التحرير بحق إسرائيل في الوجود ونبذها للإرهاب بكل أشكاله.
لم يُسعد جزء كبير من الشعب الفلسطيني بهذه القرارات، ولم يُسر. ولكن القيادة السياسية وجدت أن المصلحة الفلسطينية العليا تتطلب ذلك، حتى نطرح أمام العالم، وواشنطن بالذات، صورة فلسطينية جديدة تعكس، لأول مرة، نهجاً واقعياً يقبل بالتعايش والسلام. ونجحت القيادة السياسية في إقناع قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني بسلامة هذه الرؤية السياسية الجديدة. ووقف أبو اياد بجانب أبي عمار، مدافعاٍ عن السياسة الجديدة ومؤيداً لها. لقد تخلى عن تصلبه وتطرفه، وانحنى احتراماً للانتفاضة، التي كان لا بد من فتح أبواب ونوافذ العالم أمامها، بدلاً من أن نصفق لها من بعيد، ونطالب شعبنا في الداخل بمزيد من التضحية والفداء. وهنا تكمن عظمة القائد الذي يستوعب روح العصر ويستقبل رياح التغيير ويتكيف معها. وأصبح أبو اياد من رواد مسيرة السلام الفلسطينية. بل إنه لم يتردد، وهو الصقر والإرهابي والمتطرف وما إلى ذلك من نعوت أُلصقت به، لم يتردد أبو إياد في أن يسجل حديثاً بصوته وصورته، ويرسله للعرض على قطاعات الرأي العام الإسرائيلي، يشرح فيه رؤية منظمة التحرير الفلسطينية وتصورها للسلام في المنطقة.
ومضت سنتان لم تتلق منظمة التحرير خلالهما من إسرائيل مجرد إشعار باستلام رسائل السلام الفلسطينية. أما واشنطن، وبعد أن لبت منظمة التحرير جميع شروطها، فقد أقامت مع المنظمة حواراً هزيلاً هامشياً شفوياً على مستوى السفراء في تونس. وما لبثت واشنطن أن أوقفت الحوار عند أول فرصة، متخذة من عملية أبي العباس ذريعة لذلك.
وبدا التململ على أبي اياد بسبب الموقفين الإسرائيلي والأميركي، ولكنه لم يسمح لليأس أن يتطرق إلى نفسه. فقد ظل مؤمناً حتى يوم رحيله أن منظمة التحرير خطت الخطوات الصحيحة نحو السلام، ولكن الطريق ما زال يتطلب الكثير من النضال والتضحيات.
[.......]
لقد قبل الشعب الفلسطيني، كما أسلفنا، القرار 242، ونادى بالأرض مقابل السلام، ورضي، ليس فقد بالحل الوسط، ولكن بالربع مقابل ثلاثة أرباع. فماذا كانت النتيجة حتى الآن؟ تشدُّد إسرائيلي، وهجرة يهودية سوفياتية، ودعم مالي أميركي إضافي للاستيطان الصهيوني، وتسويف أميركي، واستبعاد لمنظمة التحرير، وخطة لبيكر ما لبثت أن تلاشت بعد أن قبلها الطرف الفلسطيني، وتصريحات شارونية شميرية بضرورة التمسك بكامل فلسطين من البحر إلى النهر من أجل استيعاب السوفيات، وسطو إسرائيلي على المياه العربية، وبطش وتنكيل ومنع تجول في الضفة والقطاع، وشروط جديدة كإلغاء الميثاق الوطني وإلغاء المقاطعة العربية ووقف الانتفاضة، إلى آخر ما هنالك من تعجيز.
لقد فقدت الحكومة الأميركية ما تبقى لها من هيبة واحترام ومصداقية لدى الشعب الفلسطيني. وعليه، فإننا نتساءل هل تصريحات بوش [بشأن حل النزاع العربي – الإسرائيلي على أساس قرارات الأمم المتحدة والأرض في مقابل السلام] صادرة من وحي نشوة الإنجاز العسكري الذي حققه في الخليج؛ وبالتالي، فإن مفعول التصريحات يزول بزوال تأثير النشوة؟ هل تسعى الإدارة الأميركية إلى تخدير المشاعر العربية في أعقاب الأحداث الأليمة والمفجعة التي شهدتها منطقتنا العربية، والتي ما زالت ذيولها تتفاعل؟ هل تحاول الإدارة الأميركية تطويق أي تصعيد محتمل للانتفاضة، التي ستحاول حتماً تجاوز آثار محنة الأشهر السبعة الأخيرة؟ هل ضَمن بوش فترة رئاسة ثانية، وبالتالي فإن ما يقوله هو مجرد بلاغة سياسية وحِكَم مأثورة؟
كائناً ما كانت الدوافع الكامنة وراء خطاب الرئيس بوش، فإنه يجدر بنا، في ذكرى استشهاد أبي اياد وأبي الهول وأبي محمد، أن نعلن أنه لو أن الإدارة الأميركية تجاوبت مع مبادرة السلام الفلسطينية لعام 1988 في الجزائر وجنيف، وأجازت للقضية الفلسطينية أن تأخذ مسارها الصحيح على طريق التفاوض والتسوية السياسية، لو فعلت الإدارة الأميركية ذلك لما حدث اجتياح الكويت، لأن أوضاع المنطقة السياسية والنفسية عندئذ ما كانت لتسمح بحدوث زلزال الكويت في الوقت الذي تكون فيه القضية الفلسطينية، وهي قضية العرب المركزية، على طريق الحل وموضع اهتمام عالمي وعملي، بمشاركة جميع أطراف النزاع الرئيسية. واستطراداً، نضيف أنه لو لم يحدث اجتياح الكويت لما حدثت حرب الخليج بأهوالها ومآسيها واستنزافها للأرواح والأموال العربية. والتداعي المنطقي يفرض القول إن قضية فلسطين هي الحرب والسلام في آن، وأن استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، وتذبذب الموقف الأميركي وميوعته ورعونته، قد فسحت المجال لكارثة الخليج، ويقيناً لكوارث أخرى بعد بضع سنين ما لم تحسم حكومة الولايات المتحدة أمرها كما حسمته خلال محنة الخليج.
هذه هي سيرة أبي اياد من خلال سيرة شعبه. وهذه هي سيرة شعبه من خلال سيرته هو. لقد ولد أبو اياد فلسطينياً وعاش لفلسطين ومات من أجل فلسطين.
[.......].
* من كلمة أُلقيت في الاحتفال بذكرى أربعين الشهداء أبي أياد وأبي الهول وأبي محمد، الذي نظمه المركز الإسلامي في لندن يوم 8 آذار/مارس 1991.