Curfew Chronicles
Keywords: 
حرية الحركة
حرية التنقل
الضفة الغربية
Full text: 

مشهد زفاف في الضفة الغربية: خالد ذو الـ 25 عاماً، ونجاة التي تبلغ الثانية والعشرين، يمسك أحدهما بيد الآخر، ويجلسان على مصطبة أُعدّت في قاعة الاستقبال في شقة متواضعة في البيرة، وهي دسكرة قريبة من رام الله الواقعة على بُعد 25 كلم من القدس. على الحائط، خلف المقعدين، ثُبِّت بالسقف علم فلسطيني كبير بواسطة الشرائط اللاصقة ذات اللون البيج، التي تستعمل لإحكام سد الأبواب والنوافذ في البلد كله. لقد تمكنت مخيلة الفلسطينيين، خلال 17 يوماً من الحرب [حرب الخليج] و20 يوماً من حظر التجول، من استنباط استعمال متعدد لهذه الشرائط. فبعد أن كانت معدّة أصلاً من أجل عزل غرفة في كل بيت للوقاية من هجوم كيماوي محتمل، أصبحت مادة لا غنى عنها لربات البيوت والحرفيين؛ إذ نابت بنجاح عن المسامير والدبابيس واللِّحام وشرائط الصرّ الحديدية.

كان أمام العروسين بضع نسوة يرقصن ببطء، مردّدات كلمات أغنية تطلقها الأكبر سناً بينهن، وكن يرتدين أثواباً تقليدية طويلة، ويغطين رؤوسهن بشالات متعددة الألوان. وكانت الامرأة العجوز ترتجل الكلمات، تشجعها صيحات مستحسِنة مفعمة بالحنان. وشيئاً فشيئاً بدأت أغاني العرس المنتهلة من الذاكرة الشعبية تتحول، بصورة عفوية، إلى أغان متنوعة من وحي الانتفاضة. وراحت الكوفيات البيض والسود ترتفع عن أكتاف الشباب، وتسارَع الإيقاع الذي تعبّر ضربات أقدام الرجال وزغاريد النساء عنه.

تستمر العجوز في الإنشاد، وتتقدم أم العروس باكية وتضع أمام ابنتها الأوراق الخضر والعجين، رمز الخصوبة والرخاء، والتي كان قد تخطاها كل واحد من المدعوين وهو يدخل القاعة...

ويصفر الأطفال في الخارج منذرين بوصول الجيش. ومرت تحت النوافذ سيارة جيب عليها مكبّرات الصوت، بعدما قاربت الساعة الثالثة بعد الظهر، مؤذنة بقرب تطبيق حظر التجول مجدداً. فقد أقام أهل نجاة وخالد العرس في فسحة الساعات الثلاث التي يسمح الجيش للناس بالخروج خلالها من أجل التزود بالمؤن. وبعد ثلاثة أيام، أو ثلاثة أسابيع، عندما يرفع الحظر ثانية لبضع ساعات، تقام أعراس أخرى في البيرة. وستظهر الشرائط اللاصقة على صور الزواج كتأريخ لهذه المناسبة. وغداً، ستحدق الأنظار بهذه الصور الجامدة الباسمة، التي ستوضع على الخزائن في أُطر مذهّبة، وتعود إلى الذاكرة عندئذ الذكريات، والنكات، وأناشيد هذه الحرب، وحظر التجول هذا. ويعود معها العذاب، والغضب، والآمال، والإحباطات لهذه المرحلة الجديدة من الألم الفلسطيني.

 

*   *   *

"فَتَحوا!". ما دامت هذه الكلمة السرية لم تبلغك من قِبل صديق موثوق به في الضفة الغربية، فلا تحاولنّ الاقتراب من أحد الحواجز التي تمنع الدخول. الحصار محكم، ولا يخرقه سوى المستوطنين الإسرائيليين وبضعة عشر محظوظاً مزوداً بالتصريح الملائم: كبار موظفي الأمم المتحدة؛ الجسم الطبي لحالات الطوارىء؛ محامون معتمدون لدى المحاكم العسكرية (العادة الوحيدة التي يحافظ عليها في فترات حظر التجول هي المحاكمات المستعجلة بموجب القوانين الاستثنائية). وتمنحك بطاقة الصحافة الحق في أن يُبرز لك الضابط المسؤول عن الحاجز ورقة كتب عليها: "شتاح تسفاي ساغور" (منطقة عسكرية مغلقة). وعند أي اعتراض يجب مراجعة دوائر الناطق باسم الجيش، وقد اتصلتُ بهذه الدوائر هاتفياً:

- أنا صحافية أكتب لمجلة فرنسية، وأودّ الذهاب إلى الضفة الغربية. فهل هذا ممكن؟

- آسفون، إن المنطقة خاضعة لنظام حظر التجول الكامل، ودخولها ممنوع.

- إلى متى؟

- حتى تسمح الأوضاع.

- لكن يبدو أنه أُجيز لبعض الصحافيين دخول المنطقة، وقد ظهر بعض التحقيقات في الصحافة الأجنبية...

- لا شك في أنهم صحافيون يستفيدون من بضع ساعات رفع حظر التجول، الذي يُعلن من وقت إلى آخر في هذه المدينة أو تلك..

- أريد الذهاب إلى رام الله عند رفع حظر التجول المقبل، فهل يمكنني معرفة موعد حدوث ذلك؟

- إن حظر التجول يرفع للسماح للأهالي بالتمون، لا ليس..؟؟ الصحافيون في يهودا والسامرة.

- هل تقصد بذلك أنه لا يجاز للصحافيين دخول هذه المناطق، حتى وقت رفع حظر التجول؟

- أريد القول ببساطة أن دوري ليس إعطاء معلومات عسكرية، وأن رفع التجول يقرر لسد حاجات إنسانية لا وفقاً لرغبة الصحافة. أما إذا كنت تريدين الذهاب إلى غزة فيمكنني تسجيل اسمك على قائمة؛ إذ إننا ننوي تنظيم زيارة جماعية مع مواكبة خلال الأيام المقبلة. أما فيما يتعلق بالضفة الغربية، فالقرارات تتخذ محلياً، ويمكنك مراجعة الحواجز (...).

 

*   *   *

 

              الخميس، 31 كانون الأول/ديسمبر. شاع في القدس الشرقية نبأ عن فتحٍ محتمل صباح الجمعة. منذ ثلاثة أسابيع لم يستطع مسلمو المنطقة الذهاب إلى المساجد. ورفع الحواجز صباح الجمعة يمكن أن يكون وسيلة ممتازة لاختبار مدى حماسة الأهالي للنضال، وفي الوقت ذاته يعاد العمل، إعلامياً وبصورة موقتة، بحرية ممارسة الطقوس الدينية التي تكفلها معاهدة جنيف. لكن الشائعات تبقى شائعات؛ فعند ظُهر السبت الواقع في 2 شباط/فبراير، فقط، جالت مكبرات الصوت في شوارع البيرة ورام الله سامحة للأهالي كلهم، باستثناء الذكور الذين هم دون الخامسة والعشرين من العمر، بالخروج من المنازل حتى الثالثة بعد الظهر.

              إن اختيار هذا التوقيت لـ"فترة الاستراحة" ليس بريئاً؛ فمنذ أكثر من ثلاثة أعوام ينفذ تجار الضفة الغربية كل يوم، اعتباراً من فترة الظهر، أمر الإضراب الذي أعلنته القيادة الموحدة للانتفاضة. ورفع حظر التجول ظهراً لا صباحاً، بعد عدة أيام من الإقفال، يضطر الفلسطينيين إلى إحباط الإضراب. وصلتُ إلى وسط المدينة في الساعة الثانية تقريباً، فوجدتُ أن الحوانيت في معظمها أقفلت أبوابها الحديدية بعد تلبية طلبات الزبائن على عجل خلال أقل من ساعتين. فالساعة الباقية من "الحرية" تظل، على الرغم من كل شيء، ساعة إضراب متحدية، لكأنها حركة سخرية إزاء الجنود الذين يجوبون الشوارع العدائية بعصبية ظاهرة. وما لبث الجنود أن شرعوا، شيئاً فشيئاً، في دفع شبان دون الخامسة والعشرين إلى حافلة بعد أن ضُبط أولئك الشبان وهم يقومون بأعمال تخريب. واجتياز الشارع، لزيارة أخت أو جدة أو خطيبة، يمكن أن يكلف غرامة قدرها خمسمائة شيكل (مائتا دولار)، أو فَلَقا، أو بضعة أيام من الاستجواب، أو شهوراً طويلة من الاعتقال الإداري، ويمكن أن يكلّف في بعض الأحيان كل هذا معاً.

            يُجري بعض فرق الإذاعة والتلفزة مقابلات قصيرة عند زاوية شارع أو على إحدى الشرفات، ذلك بأن قرب البيرة ورام الله من جامعة بير زيت يجعلهما مدينتين جامعتين تعدّان عدداً من المتكلمين بالإنكليزية والفرنسية ليكون دائماً على أهبة الاستعداد للنطق باسم الأهالي أمام الصحافة الأجنبية. أما اليوم، فليس لدى أحد الوقت الكافي لخوض التفاصيل، أو لمرافقة الزوار إلى مخيمات اللاجئين، أو لتقديم تحليلات بارعة بشأن السياسة الدولية. فالكل، أكان متكلماً الإنكليزية أم لا، يستعجل التحرر من آلات التصوير ليستعلم عن قريب أو عن صديق لا يملك هاتفاً، أو لإصلاح تلفاز تعطّل، لسوء الحظ، أو لإيجاد بقّال متساهل مستعد لفتح باب حانوته الخلفي لإبدال قارورة غاز. في كل حال، ليس على لسان الصحافيين سوى سؤال واحد: "لماذا تؤيدون صدّام حسين؟ ألا تفهمون أن تصفيقكم لسقوط الصواريخ على تل أبيب يضرّ بكم؟" ويجيب أحد الرجال متبرماً: "وإذا قلت 'يعيش بوش' كلما أُلقيت قنبلة على بغداد، فهل يعطيني الإسرائيليون دولة؟". الساعة الثالثة بعد الظهر. "... حتى إشعار آخر، يمنع التجول بتاتاً في مدينة البيرة. ممنوع تجاوز حدود المنزل، أو الصعود إلى السطوح. ستطلق النار من دون إنذار على كل مخالف...". وعندما عادت سيارات الجيب ومكبرات الصوت لتجوب المدينة وهي تعلن بصوت كريه تعليمات حظر التجول، بدأ بالنسبة إليّ الوقت الفلسطيني. وبات باب المنزل أفقي الوحيد حتى يوم الخميس الواقع في 7 شباط/فبراير. مائة وخمس عشرة ساعة من الحياة المتوقفة في ظلال الحراب والخوف. والصحافيون في طريق عودتهم إلى فنادقهم حاملين أجوبتهم القصيرة الجاهزة في علبهم السود الصغيرة، وليلى تعرّفني إلى ريما وعمر وسيرين وياسمين. تكلمي وكُلي ونامي واحلمي وانتظري. مائة وخمس عشرة ساعة: مقابلة طويلة، وطويلة جداً، وكل الأسئلة من دون جدوى.

 

*   *   *

 

              الأحد صباحاً، حدث أمر غريب؛ فبينما كنا نتناول فطورنا، فُتح الباب مرات عدة، ودخل صبي، ثم دخل صبيان آخران، ثم فتاة صغيرة. ودخل بعدهم ولد صغير. وكانوا جميعاً يتأبطون كتباً ودفاتر. فسألتهم مندهشة: "كيف وصلتم إلى هنا؟ كيف يسمح لكم أهلكم بذلك؟" فضحكوا وسألوا: "وأنتِ من أين أتيت؟ - من فرنسا. – من فرنسا؟ إلى البيرة؟ نحن أتينا من المنزل الموجود في الخلف والمنزل الموجود في الأمام والمنزل المقابل. – لكن التجول محظور." فازدادوا ضحكاً: "حظر التجول لا يخيفنا، نحن أتينا للدرس." وتقود ليلى الصغار إلى غرفة، والكبار إلى غرفة أخرى، وتشرح لي: "نحن بعيدون عن وسط المدينة وعن مخيم اللاجئين، ولا يمر الجنود بشارعنا سوى ثلاث مرات أو أربع مرات في النهار، والشباب يصفرون لينذرونا بأي خطر. بعد دورية الصباح، يأتي أطفال الحي إلى هنا راكضين، فأُدرّسهم مع أولادي مدة ساعة أو ساعتين، ويعودون إلى بيوتهم بعد الدورية الثانية. هذا مكسب." إن إقفال المدارس الفلسطينية وسيلة عقاب جماعي محببة إلى السلطات الإسرائيلية. فمنذ بدء الانتفاضة، تبقى أيام التدريس في الأراضي المحتلة الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. ولم يذهب أولاد ليلى إلى المدرسة، منذ بدء العام الدراسي في أيلول/سبتمبر، سوى عشرين مرة. فإذا حسبنا العطلة الصيفية، نجد عندنا عشرين يوماً دراسياً خلال سبعة أشهر. وتقول ليلى: إذا لم نتدبر أنفسنا بما لدينا، سينمو عندنا جيل من الأميين. هل تودين إعطاء درس في اللغة الفرنسية؟" وتجلس سيرين وربى ذواتا الأعوام التسعة على السرير الذي غادرته للتو، وتفتحان كتاب الفرنسية عند الثالث. وبدوري أخذت أضحك؛ إذ كان الدرس الثالث رائعاً: "الكنار في القفص... السمكة في القمقم... الكلب في حجرته...". والفتاتان ترددان ما أقوله. وقد عقدت الفتاتان في شعرهما عقداً زهرية وفيروزية، ولهما عيون سود فاحمة ووجنات شاحبة شحوب الأطفال المحتجزين مدة طويلة. أني أعلّمهما التلفظ بصورة صحيحة كلمة "قفص"، بلغة فولتير. ثم بدأنا الارتجال. وفي نهاية الدرس، كان في استطاعة ربى أن تقول بالفرنسية بكل فخر: "إن أخي في السجن". وفتن بوجودي الأطفال المحرومون من معلمة. وكانوا يداعبون يديّ بين القراءة والإملاء، ويرفعون أصابعهم للإجابة عن أسئلتي، وكأنهم يستمتعون بالهمس: "أنا، أنا، مدام"، وكأن ذلك يمكن أن ينسيهم أن غرفة الصف – غرفة النوم مسدودة بالشرائط اللاصقة، وأن المعلمة غريبة، عابرة، وأن درب المدرسة سباق مرعب بين دوريتين لجنود مدججين بالسلاح.

*   *   *

 

              ريما "أميركية عربية". أب فلسطيني، وأم أميركية. أرادت التعرف على فلسطين واختارت أن تخص نساء غزة بأطروحة الدكتوراه في علم الإنسان (الأنثروبولوجيا). إنها منكبة على موضوعها منذ ثلاثة أعوام، لكنها لا تملك ترخيصاً. وفي غزة، وحتى خلال فترات الهدنة النادرة جداً (أكثر ندرة منها في الضفة الغربية)، إذ لم يرفع حظر التجول سوى ساعتين خلال ثلاثة أسابيع، تبقى المراقبة على الحواجز شديدة الصرامة. ولمّا لم تستطع ريما أن تكون مع "نسائها" خلال أقسى حظر تجول كن يعشنه، أتت إلى البيرة لتكون برفقة ليلى. وكانت تحصل على أخبار غزة عبر الهاتف، وتسجّل ملاحظات من النوع التالي:

              (...)

          في خان يونس، وهو مخيم للاجئين في قطاع غزة، لا تموت التقاليد بسهولة؛ فحين يرفع الجيش حظر التجول ولا يسمح بالخروج إلا للنساء، يرفض الأزواج أن تخرج نساؤهم، مفضلين الجوع على العار. وهكذا، لم ير أحد من سكان خان يونس الشمس منذ اثنين وعشرين يوماً (...).

           وأطروحة ريما لا تحقق أي تقدم. والغبار بدأ يعلو ملفاتها في القدس. لماذا يا ريما؟ "لأن الواقع شديد الوطأة، وشديد التعقيد، وشديد التقلب. لم أعد أملك إمكان التراجع. إني أحيا هنا، وهذا كل شيء...". وإذا كان لدى ريما نية تدريس علم الإنسان في جامعة أميركية في يوم من الأيام، فإن هذه الفكرة تبدو لها بمنتهى السخف؛ فريما لا تفكر في مستقبلها، وهي لا تريد أن تكون أميركية بعد اليوم، بل لا تريد أن تكون متخصصة بعلم الإنسان، إنها الآن تغسل كوسى، ويداها غارقتان في دست ماء بارد. فقد قررت أن تحشو الكوسى بالأرز واللحم، وتعدها لوجبة العشاء. واشتد بين ليلى وريما وبيني التنافس في الطهو؛ فحظر التجول يولد لدى النساء "المتحررات" نوعاً من التقهقر الناعم هو كناية عن فتح للخزائن والنهل من ذكريات الطفولة حركات ووصفات منسية. فالمسألة هي تحضير وليمة بما يتيسر  عند كل وجبة باستعمال المخزون، والحرص على تنويع قائمة الطعام كي لا يمل الضيوف. وينتابني بعض الهلع إذ أنتبه إلى أنه لا يمكنني الاعتماد على البقّال القريب، ولا على المواد المجلدة في المتجر الكبير، ولا حتى على تساهل مضيفتيّ الضاحكتين. وأفتش في السلال الموضوعة على الأرض وفي البراد ومعلبات المواد المحفوظة المصفوفة على رف، وأجد ثوماً، وليموناً، وزيتوناً مرصوصاً، وبطاطا، وفليفلة حمراء، وحبوب الكزبرة، فأتذكر "اليخنة" التي كانت أمي تطهوها. غداً سيعبق بيت ليلى بروائح طعام السبت.

            من لم ير ياسمين الصغيرة ذات الأعوام تتلمظ وهي تسكب مرة أخرى من طبق البطاطا على الطريقة اليهودية، لن يستطيع أبداً أن يفهم معنى تذوق هذه الوجبة. ولن يستطيع ان يفهم الفخر العميق الذي أحست به المدعوة التي كُلفت إعداد الطعام في اليوم الثالث والعشرين من حظر التجول في "غيتو" البيرة.

*   *   *

          وتتصل ليلى بأصدقائها الذين يعملون مثلها أساتذة في جامعة بيرزيت. وهذه الجامعة مقفلة منذ ثلاثة أعوام بأمر من الجيش، لكنها مستمرة في توزيع الشهادات. دخول المكتبة ممنوع، وكذلك دخول قاعات الدروس والمختبرات، إلا إن الأساتذة والطلبة يتدبرون أمورهم؛ فالكتب تنتقل من يد إلى يد، والدروس شبه السرية تعطى في أديرة، أو في منازل، أو في شقق مستأجرة. ويستغرق نيل شهادة الإجازة مدة تراوح بين ستة أعوام وسبعة أعوام، وذلك بصورة متقطعة. والشهادة هذه غير معترف بها لدى السلطات الإسرائيلية، لكنها مقبولة في الدول العربية.

           إن خطوط الهاتف عرضة للتنصت، ومن المستحسن عدم التكلم في السياسة، لكن كل شيء هنا مسيّس. "هل المعنويات جيدة؟ كلا. والصحة. كلا أيضاً." إن طلبة الآداب مصابون بالصداع، وطلبة العلوم مصابون بتشنج في الظهر، أما طلبة التاريخ فقد أصابهم الحكاك العنيف. إنه يوم الحظر الرابع والعشرون، والمثقفون متوترون. القراءة غير ممكنة، وكذلك التفكير والكتابة. ولا يوجد شيء يفعلونه سوى مراقبة المأساة الجارية مباشرة على التلفاز، وسوى إظهار القلق والعجز: سهاد، وتوتر، وخمول، ومشاحنات عائلية. الأطفال يتبرمون بالحجز، وقد بدأوا يكسرون كل شيء في المنازل، ولا أحد يعترضهم.

          في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر توجه زوج ليلى، الذي يعمل أيضاً أستاذاً في جامعة بيرزيت، إلى بلجيكا لمتابعة حلقة دراسية. وكمعظم أصدقائه، كان يظن أن الحرب لن تقع، وستحدث مساومة تؤدي إلى تفادي الأسوأ. في هذا الوقت، أقفل الإسرائيليون في وجه الفلسطينيين الذين هم دون الخمسين عاماً جسور نهر الأردن في اتجاه الأردن – الضفة الغربية، ولذا فإنه لا يستطيع العودة. وتحمد ليلى الله على ذلك:

           لو كان هنا لأصابه الجنون، ولأصابني أنا كذلك؛ فالرجال لا يطيقون هذا الاحتجاز ولا هذا العجز. لقد أُدخل السجن مرتين حيث ضُرب وأُذل، لكني أعلم أن ليس هناك، بالنسبة إليه، عذاب أقسى من حظر التجول الطويل.

*   *   *

           في الأسبوع الماضي أوقف في القدس الفيلسوف سري نسيبة، الذي هو من أكثر المثقفين اعتدالاً وتسامحاً، واعتُقل إدارياً بضع ساعات في إثر مقابلته قادة الحركة الإسرائيلية "السلام الآن". وقد اتهمته الشرطة بالتجسس لمصلحة العراق؛ وهو الذي تسخر ليلى ويسخر أصدقاؤه منه بنعته "اللورد الصغير". ولقد صرحت زوجة نسيبة للتلفزة الإسرائيلية قائلة: "لقد أُوقف زوجي لأنه رجل سلام، وأنتم لا تريدون السلام." وقالت أمه في تصريح لمجلة "هاعير":

              (...) عندما قيل لي إنه متهم بالتجسس أغمي عليّ بادىء ذي بدء، ثم انفجرت ضاحكة؛ فابني يصرخ هلعاً عندما يرى حشرة، أتتصوره يعمل لصدّام؟ عندكل إنذار بهجوم بالصواريخ، وهو يخشى الغازات، يرفض حتى لمس الهاتف في الغرفة المعزولة خوفاً من تسرب الغازات عبر الشريط. لقد أصبحتم مجانين تماماً! (...).

*   *   *

              في آخر السهرة استقبلنا زائراً؛ إنه ماهر، الموظف في الأونروا. وهو صديق للعائلة، وقد جلب معه لياسمين هدية هي كناية عن قناع واق. وبالنظر إلى حيازته على ترخيص، فإنه يستطيع أن يتجول في المدينة والمخيمات، فيطّلع بذلك على ما يجري فيها. وقد قبل أن أجري مقابلة معه، فأدرت مسجلتي:

             قبل إنذار الخامس عشر من كانون الثاني/يناير، أنهت السلطات الإسرائيلية توزيع الأقنعة في الأراضي الإسرائيلية كلها. وكانت السلطات تقول إن لا خطر على الأراضي المحتلة، لكنها زودت المستوطنين بها. عندها رفع بعض المحامين دعوى أمام المحكمة التي قضت، في 14 كانون الثاني/يناير، بأن توزع السلطات أقنعة على الأهلين جميعاً. ومنذ ذلك الوقت، سقطت ثلاثة صواريخ في الأراضي المحتلة. ولم يوزع الجيش خلال ثلاثة أسابيع سوى 30,000 قناع على قسم من السكان البالغ عددهم 1,7 مليون نسمة. وهو ما أدى إلى هلع حقيقي.

            عند رفع حظر التجول تنتظم صفوف طويلة أمام مراكز الإدارة العسكرية. وعندما يصل الفلسطيني إلى شباك توزيع الأقنعة ويطلب أقنعة له ولعائلته، يُخطر بأن عليه أن يثبت تسديده كل الضرائب والمكوس والغرامات، التي ترهق السلطات بها كواهل الأهالي. وهنا، فإما أنه لا يملك ما يدفعه وإما أنه لا يريد أن يدفع؛ وفي الحالين يُرد خائباً. وإذا كان وضعه سليماً، يُعطى قناعاً واحداً أو قناعين اثنين صالحين للبالغين، ولا شيء للأطفال، ولا تُقدم إليه أية حقنة أتروبين. تصوروا ردة فعل أب يعرض عليه أن يقي نفسه ويترك أطفاله معرضين للغازات السامة! طبعاً، ترفض الأكثرية ذلك، ولا تتسلم شيئاً. وفي مطلق الأحوال، يعاد بعد ساعتين أو ثلاث ساعات العمل بحظر التجول، ويصبح لزاماً على كل شخص العودة إلى منزله من دون أن يكون قد تسنى له الوصول إلى شباك التوزيع. وقد أعلنت السلطات أن ليس في متناولها سوى 173,000 قناع للبالغين، وأنها أوصت باستيراد 100,000 قناع إضافي من الخارج.

           ولقد تسلّمت الأونروا في الأيام الأخيرة 50,000 قناع قدمها بعض الحكومات الغربية (السويد والنروج وفنلندا وكندا). ولقد عرضنا على الجيش 7000 قناع لتوزيعها في معتقل أنصار في النقب، فرفضها. إنه لا يريد أن يستعملها المعتقلون في حماية أنفسهم من الغازات المسيلة للدموع التي تطلق عليهم عند كل محاولة تمرد. وقد قدمنا 3000 قناع للموظفين الفلسطينيين في الأونروا وعائلاتهم، ونحن ننتقل ليلاً من بيت إلى آخر لتوزيع الفائض. كنت أعلم أن ليلى تلقت ثلاثة أقنعة من عائلة فرنسية كانت قد غادرت إلى الخارج في الأسبوع الماضي، وأنها كانت لترفض استعمالها ما دام ليس هناك قناع خاص بياسمين. والآن أصبحت ليلى محظوظة ومطمئنة. إنها نقطة في بحر، لكن ما العمل؟

           لكن المشكلة الأهم ليست مشكلة الأقنعة: إنها الجوع؛ فعشرات الآلاف من العائلات تعيش يوماً بيوم من الأجر اليومي الذي يعود به العمال الذين يعملون في إسرائيل. وبعد ثلاثة أسابيع من منع الخروج والعمل، لم يعد لدى هؤلاء الناس ما يشترون به خبزاً. ولا يحق للمزارعين أن يسقوا حقولهم، أو أن يقطفوا الثمار: إنه حصار بالغ المكيافيلية. فالمواد الغذائية موجودة في الحوانيت المقفلة، لكن لا مال لشرائها. الأهالي مرهقون جداً: يخافون الصواريخ، والغازات، والجنود الذين يقتلون الرجال أو يضربونهم أو يعتقلونهم؛ يخافون الترحيل الذي يطالب الوزير الجديد زئيفي به، يخافون الموت جوعاً، يخافون أن تتخلى عنهم الأنظمة العربية والعالم كله. إن التخلي السياسي من جانب الاتحاد السوفياتي وأوروبا قد يكون نقطة الماء التي تطفح كأس اليأس بها.

وبينما كان ماهر يتكلم، كان الجيران يتسللون عبر باب المطبخ:

          اكتبي أننا تحملنا كثيراً من الآلام، وفي وسعنا أن نتحمل أيضاً. عندما نأمل بحل بعد العذاب، فالعذاب ليس مشكلة، لكننا اليوم بدأنا نفقد الأمل. إنهم يريدون موتنا، إنهم يريدون أن يتخلصوا منا. إن مصير طائر مغطى بالنفط يُبكي العالم، لكن نحن أقل من حيوانات.

          التلفزة الإسرائيلية تعيد بث صورة من الأرشيف. النائب رحبعام زئيفي، قبل أن يصبح وزيراً، يصيح من مقعده لأحد نواب اليسار: "نعم، يا عزيزي، يهودي واحد يساوي ألف عربي." وكان قد اتُّهم بذم الصحافيين الذين نقلوا قوله هذا، لكن شريط آلة التسجيل موجود فعلاً. وقمن عندها بحساب ذهني سريع على أساس الأرقام التي قدمها لي ماهر: 30 ألف قناع لـ 1,7 مليون فلسطيني تعني أن حياة يهودي واحد تساوي حياة 56 عربياً، ولا يغيب عن بالنا أن زئيفي دخل حكومة معتدلين.

 

*   *   *

          عقب عودتي إلى تل أبيب في اليوم التالي، اتصلت بليلى هاتفياً؛ فمكوثي عندها أثار السلطات، واتصالاتي من البيرة بوكالات الأنباء وباريس لم تقع في آذان صماء؛ ففي الليلة الماضية أتى الجنود إلى بيت ليلى، وطرحوا كثيراً من الأسئلة. علينا أن نضاعف الحذر في المرة المقبلةـ هكذا اتفقنا في أثناء تحادثنا بالهاتف.

*   *   *

          وبدوري، انقض أصدقائي الإسرائيليون عليّ بالأسئلة. فبينما كنت في البيرة، سقط صاروخان عراقيان على إسرائيل، وسقط صاروخ آخر على الأراضي المحتلة من دون وقوع ضحايا. يريدون أن يعلموا إذا كانت السطوح في البيرة مكتظة بالفلسطينيين المهللين في أثناء القصف. فسألتُ محاوريّ، وكلهم مناضلون أو مؤيدون لـ"معسكر السلام"، عما إذا كانت الساحات الإسرائيلية قد امتلأت بالمتظاهرين من أجل رفع حظر التجول وتوزيع الأقنعة الواقية على الفلسطينيين. سألتهم عما إذا كانوا قد شكلوا قوافل تموين حاولوا اختراق الحواجر لمساعدة اللاجئين الجياع في غزة. سألتهم عما إذا كانوا قد اتصلوا بنابلس هاتفياً لتعزية عائلة المرأة التي قتلتها رصاصات حقيقية بينما كانت تنشر الملابس المغسولة على شرفتها. سألتهم عما إذا كانوا وقّعوا العرائض للمطالبة بأن يكون للصحافيين الحق في القيام بعملهم في الأراضي المحتلة بدلاً من أن يكونوا مضطرين إلى ترداد أقوال الناطق باسم الجيش، الذي يعلن بعد سقوط كل صاروخ أن الفلسطينيين رقصوا وغنوا، من دون أن يأتي بصورة واحدة تثبت أقواله. فيجيبون أن ليست هذه هي المسألة، وأن منظمة التحرير الفلسطينية ترتكب جريمة في حق السلام بتأييدها صدّام حسين، وأن الفلسطينيين سيدفعون ثمن غبائهم. وتتهمني ساريت، الصحافية التي ترفض أية صحيفة إسرائيلية استخدامها نظراً إلى سمعتها كمؤيدة للفلسطينيين: "إنكِ تتعاطفين مع آلام الفلسطينيين والعراقيين، والعرب عامة، وتسخرين من آلامنا." ويتملكني الغضب، ويأتي الإنذار بالهجوم الصاروخي في الوقت الملائم لنغيّر الموضوع. فتركض ساريت وابنها إلى بيت الدرج، واقوم أنا بسد منافذ الغرفة التي سنقبع فيها بعد "البُوُمّ" [الانفجار]. (في تل أبيب، بادر الكثيرون من الناس إلى تحسين تعليمات الأمان التي تبثها الإذاعة: فبيت الدرج يحمي من الصواريخ التقليدية، وإذا ما سقطت الصواريخ، وخصوصاً إذا كان سقوطها في مكان قريب، فإن الغرفة المحكمة تحمي من الغازات السامة). وبعد انتهاء فترة الإنذار تصالحنا خجلتين من أنفسنا. وقرأت عليها نصاً لكريستيان بيرّو: "... الحرب تهوى المعسكرات، وأينما كنا، فإنها تختار لنا معسكراً وتشير إليه بالأصبع، فلننتزع هذه الأصبع...". فقالت لي:

         إنكِ الوحيدة بيننا التي جرؤت على فعل هذا: البقاء في الأراضي المحتلة في أثناء حظر التجول، والعيش بين الناس هناك. أتمنى أن تؤلفي كتاباً عنه. حاولي أن تفهمي: أعصابنا مرهقة، ونشعر بأن كل العمل الذي أتممناه من أجل الحوار والسلام ستدمره هذه الحرب. لم يعد هناك معارضة إسرائيلية، والفلسطينيون سعداء برؤيتنا نتلقى الصواريخ. لم يعد هناك سوى البغض والحقد والضغينة...

         ثم تتصل بغزة وتتناقش مطولاً مع صديقتها ماري، وهي فلسطينية مشهورة بـ"تصلبها"، فتقترح عليها ماري: "حاولي خرق أحد الحواجز وتعالي مع ابنك، فهنا آمن من تل أبيب...". وفي إحدى الليالي، عندما كنت في البيرة، استسلمت لفضولي. لا توجد صفارات إنذار في الأراضي المحتلة باستثناء صفارات القواعد العسكرية والمستعمرات، لكن الشباب يصفرون أو يطرقون أواني المطبخ إشارة إلى أن الإذاعة بثت الإنذار. وعلى الرغم من حظر التجول، خرجت إلى الحديقة وأنا أنظر إلى السماء. كان خلف النوافذ وعلى الشرفات كثير من الوجوه، وزغاريد متفرقة، وبعض الكلمات المتبادلة بين بيت وآخر. صيحات: "ها هو، ها هو!" ومر صاروخ "سكود" من دون أن يعترضه صاروخ "باتريوت"، وتابع سيره وهو يصدر حزمة من الشرر. "بُوُمّ" يصم الاذان كأنه رعد بعيد. ثم يسود صمت. ويتصاعد صوت عمر، ابن الحادية عشرة، من ناحية الباب: "أليس هذا اتجاه تل أبيب؟ - كلا يا عمر، هذا ليس اتجاه تل أبيب."

*   *   *

              حيفا، صباح الأحد، 10 شباط/فبراير. تجول امرأة شقراء بين مخازن الألعاب في الشوارع التجارية الواقعة في أسفل المدينة، قرب المرفأ. المرأة بدينة، ذات وجه متجعد لوّحته الشمس، ترتدي بنطالاً أسود وكنزة خضراء تبرز صفاء عينيها. إنها تكدس في كيس كبير من النايلون الأحمر أوراق الشدّة، والدومينو، و"البازِلْز"، والطبشور الملون، وزجاجات الصمغ. وبعد كثير من التردد تضيف إلى مشترياتها بضع عشرة من ألعاب الكبار: الداما، والشطرنج، والطاولة، إلخ. إنها آرنا مار – خميس، رئيسة الجمعية الإسرائيلية “Care and Learning” (العناية والتعلّم) للدفاع عن الأطفال الفلسطينيين وتعليمهم في ظل الاحتلال. وستُريني ماذا تفعل لتجعل أربعة آلاف طفل من مخيم لاجئي مدينة جنين يلعبون ويدرسون، على الرغم من حظر التجول، وعلى الرغم من ميزانيتها الضئيلة.

             عند الظهيرة، تركت آرنا كيسها الأحمر عند سامية، وهي عربية من حي وادي النسناس متخصصة بالصيدلة. وخلال بضع ساعات تنهي سامية وجاراتها، بمساعدة من أولادهن، ترجمة تعليمات ألعاب الكبار، ثم تقوم إحداهن بتسليم آرنا التعليمات القيّمة مطبوعة بأناقة وجاهزة للاستنساخ.

            في الساعة السادسة مساء، يشغِّل غودرون وغالي آلة النسخ الخاصة بآرنا. وقد اعتاد غالي، وهو شاب كيبوتسي، أن يخصص يوم راحته الأسبوعي للعمل في الجمعية المذكورة. وغودرون ممثلة مسرحية تأتي لمساعدة آرنا في أمسيات عطلتها. ولبثنا حتى ساعة متأخرة من الليل نستنسخ لوحات اللعب، والتعليمات، والصفحات العشر الأسبوعية لتمارين الخط والقراءة المستقاة من الطريقة المصرية التي اعتمدتها آرنا. أما مجموعات اللعب المصنوعة في إسرائيل، فممنوع تداولها بأمر من قيادة الانتفاضة، فتقوم آرنا بـ"فلسطنتها" قبل طباعتها على خمسين نسخة.

          وفي الصباح الباكر، شرعنا في تحضير المجموعات التربوية التي ستوزع هذا الأسبوع في جنين. وتحوي كل مجموعة: الدرس الأسبوعي، ولعبتين، وقلماً، وبضع أوراق بيض. ولحسن الحظ، مضت الليلة من دون أي إنذار على الرغم من أننا اعتدنا عليه. وعند آرنا لا نستمع إلى الإذاعة إلا لماماً. "كل الإسرائيليين مشدودون إلى الإذاعة والتلفزة كما لو أنهما مصل يدخل الهلع فيهم نقطة فنقطة. وهذا يمنع الناس من التفكير أو التعلم أو إعادة النظر في أوضاعهم. كل هذه الأكاذيب وأنصاف الحقائق والتحليلات الغبية لا تطاق. والأمور هكذا في المنطقة كلها. كلهم كاذبون." ومع ذلك، تركت التلفاز يعمل بصوت منخفض، متنقلة من وقت إلى آخر بين محطات إسرائيل وسوريا والأردن. وفي جميع المحطات صور الموت، ومعلومات متضاربة، وخطابات لا تنتهي. وتقول آرنا:

         لفك رموز دعاية حرب ما، يجب أن تحملي مثلي أربعين عاماً من الإحباطات السياسية، وأن تكوني قد قرأت كثيراً، وسافرت كثيراً. وفي هذه المنطقة من العالم، لم تتح هذه الفرصة إلا لقليل من الناس. يمكنك أن تجعليهم يصدقون أي شيء، أو يمكنك أن تتلاعبي بهم، أو أن تملئيهم بالقلق، أو أن تحيي فيهم الآمال، أو أن تجعليهم متوترين، أو أن تهدئيهم من دون عناء كبير. أما الحقيقة، فسيدوّنها اختصاصيون نقلاً عن اختصاصيين آخرين. أنا في الستين من عمري لا أصدق سوى الأفعال، لا الأقوال.

        عندما كانت آرنا في العشرين، كانت عضواً في البلماح. وقد أصابتها الصهيونية بخيبة مُرّة عندما فهمت ما كانت تخططه للفلسطينيين. بعد ذلك، آمنت بالشيوعية بكل جوارحها. ثم تخلت في الستينات عن الحزب [الشيوعي] وهي مفعمة بالمرارة، وتزوجت فلسطينياً، لكن الزوجين عجزا عن الاستمرار معاً. وهي تقول اليوم: "إذا رأيتِ طفلاً يتعلم القراءة تحسّين بأن هذا أمر عادل وطيب، وشيء حسي، ولن تصابي من جرائه بخيبة أمل. ستفهمين ذلك عندما ترين جنين...".

        [...] سألت غالي عن سبب فقر الجمعية المدقع، وعن سبب ندرة العاملين اليهود في جمعية ذات أهداف إنسانية بديهية بسيطة. أليس على شعب "الكتاب" أن يضم آلاف المتطوعين لمساعدة أطفال في الوصول إلى الثقافة؟ فيجيب غالي شارحاً:

         تقول آرنا أن لما نعمله هدفاً إنسانياً فقط، لكنني لا أوافقها هذا الرأي. فعندما أذهب إلى جنين للاستطلاع الميداني، أشعر بأني أقوم بعمل سياسي من الدرجة الأولى. وعندما أعطي طفلاً حُرم المدرسة، من قبل جيش احتلال، وسائل التعبير بالكتابة، أو اللعب، أو الرسم، فإني أعلمه في الوقت عينه رفض الخضوع. والإسرائيليون كلهم، ومنهم أولئك الذين يصفون أنفسهم باليساريين، يأملون في قرارة أنفسهم بإخضاع الفلسطينيين. ومعظم الذين ينعتون أنفسهم "معسكر السلام" يتحاشى في الحقيقة، أي تماس مباشر أو مادي بالفلسطينيين. كلهم يرغب في تعاطي السياسة، أو تنظيم التظاهرات، أو كتابة العرائض، أو عقد المؤتمرات الصحافية. لكن أن يعرضوا أنفسهم، من دون شبكة نجاة، لوحول مخيم للاجئين، فهذا شيء آخر. وبالنسبة إلى اليسار الإسرائيلي، أكثر منه بالنسبة إلى اليمين، فإن مثال المجتمع هو المثال الأميركي. إنه اليسار الأكثر تأييداً لأميركا في العالم. والعربي، في نظرهم، وسخ وعنيف ومشبوه. إنهم يخافونه ويرغبون في الابتعاد عنه. وفكرتهم عن السلام هي العيش بعيداً عن العرب. ولهذا السبب، يُنظر إلينا كمتطرفين.

هل يعرف أطفال جنين ما هو الكيبوتس يا غالي؟

        إن أطفال جنين يعتبرون الكيبوتس قرية لليهود الأغنياء، بُنيت على أراض سُرقت من أهلهم. إني أقول لهم إني أعيش في كيبوتس، لكنهم لا يصدقونني. وفي كثير من الأحيان يرفضون أن يصدقوا أني إسرائيلي. الإسرائيلي، بالنسبة إليهم، جندي يأتي إليهم ليؤذيهم باعتقال آبائهم أو إخوتهم الكبار؛ أما أنا الذي آتي للعب والرسم، فلا يمكن أن أكون إسرائيلياً.

*   *   *

         بعد عدة ساعات من النوم، أيقظنا الهاتف. "فَتَحوا!". لقد رُفع حظر التجول في جنين بعد ثلاث وتسعين ساعة. لم تعلن مكبرات الصوت مدة التجول، وإذا لم نسرع، فقد تفوتنا فرصة دخول البلدة، ويصبح علينا الانتظار عدة أيام. فملأنا حاويات كرتونية أربعمائة مجموعة اعددناها خلال الليل، واتصلت آرنا بسائقي سيارات أجرة موثوق بهم، وهم جماعة من عرب الجليل، فقبِل أحدهم بإيصالنا إلى وجهتنا لقاء مبلغ كبير.

         إن جنين مختلفة عن البيرة؛ فهي أفقر وأقسى وأعنف، وهي تبعد 50 كلم عن حيفا، وتقع شمالي الضفة الغربية، ولا تثير فضول الصحافة ولا تقصدها البعثات الإنسانية الدولية إلا قليلاً. هنا تعيش الانتفاضة بكل صفائها، من دون "مثقفين معتدلين" ومن دون زيارات مجاملة من حركة "السلام الآن". فدورة المقاومة – القمع هي جدول الأعمال الوحيد، مع ما يواكبها من إذلال وبؤس وأعمال اعتباطية. ففي يوم الخميس، 3 شباط/ فبراير، قُتل في آخر مرة رفع خلالها حظر التجول ثلاثة متعاونين في الشارع. وفي الناصرة، طعن أحد أهالي جنين جندياً إسرائيلياً كان موجوداً في المدينة على الرغم من إقفالها. ومنذ ذلك الحين، ساد الخوف الشوارع. فالجنود يجوبون المدينة حاملين قوائم اسمية، ويعتقلون الرجال مخلفين وراءهم أبواباً محطمة، وبيوتاً مخربة، وأطفالاً مصدومين؛ إذ إن ضرب الأب على مرأى من أفراد عائلته مقدمة لمعظم الاعتقالات. تعاني جنين الجوع والبرد، بعد ثمانية وعشرين يوماً من حظر التجول. وجدران الزنزانات الخالية من النوافد تخنق الصراخ وتحفظ الأسرار. على باب المجينة حاجزان، وعند كل حاجز أتظاهر بقراءة "معاريف" التي أفردها أمام وجهي. ولشقرة آرنا، وصحيفتي الإسرائيلية، وبشاشة وجه سائقنا الذي يدندن أغنية تبثها الإذاعة، تأثير ساحر؛ فقد ظن الجنود أنني وآرنا مستوطنتان عائدتان من جولة تسوّق في حيفا، فأشاروا إلينا بالمرور من دون أية إجراءات.

        عند وصولنا إلى وسط المدينة، استبدلنا سيارتنا ذات اللوحة الصفراء بسيارة ذات لوحة زرقاء؛ فالسيارة ذات اللوحة الصفراء الإسرائيلية إذ تتجول في شوارع جنين تجذب الحجارة كما يجذب العسل النحل. وبينما كان سائقانا مشغولين بنقل متاعنا، تقدم منهما شاب وأسرّ ببضع كلمات في أُذن أحدهما. لقد أُفرج عنه للتو من معتقل مجدّو القريب، ولا يملك المال اللازم للعودة إلى بيته في غزة. وعلى الفور، أُلّفت على الرصيف لجنة لجمع التبرعات بسرعة وحذر. وخلال وقت قصير أُجلس الشاب في سيارة أجرة جماعية، وبين يديه فاكهة وطعام.

        بدأنا تسليم ما لدينا من رزم إلى مختلف العائلات في جنين ومخيم اللاجئين، وراحت آرنا تدرب فتيات كبيرات أو نسوة أمهات على أسلوبها في "التعليم المدرسي في البيت". وأصر الجميع على تقديم القهوة أو الشاي، وقد جلسنا على حصر مدت بسرعة على الأرض الإسمنتية. وكلما توقفنا في مكان ما أتى رجال ونساء للترحيب بآرنا. وأبرزوا لها أوراقاً صادرة عن الإدارة العسكرية: أحكام، ودعوات إلى المحكمة، وغرامات، وبيانات بأوامر الهدم. إنها المحصلة الأسبوعية لبيروقراطية قمعية مكتوبة باللغة العبرية، لا يفقه المرسلة إليهم منها شيئاً. وهكذا، يتحول الزوار النادرون لهذه الأراضي المحتلة منذ ثلاثة وعشرين عاماً إلى مترجمين مساعدين لقوات الاحتلال رغماً عنهم.

       لقد حُكم على ابن أبي طاهر أمس بالسجن مدة سبعة أعوام. وقد أتى الجنود إلى أبيه برسالة من المحكمة. ناولني الأب الرسالة مع كوب الشاي. قرأت الرسالة، وشربت الشاي. وعلى الرغم من تمهلي الشديد في شرب الشاي كي أؤخر لحظة ترجمة الرسالة بقدر ما يمكن، بدأت أقرأ باللغة العربية بتردد وحلق جاف: سيُهدم بيت أبي طاهر بعد ثلاثة أشهر ما لم يصدر أمر مضاد من المحكمة العليا. إنها عقوبة جماعية.

       غادرنا الحي وصراخ أبي طاهر يملأ آذاننا: "إنهم يمنعوننا من رؤية الشمس! لقد حولوا وطننا إلى سجن!"

كانت آخر زيارة قمنا بها لأبي فادي (مدرس):

        عندما يسمح الإسرائيليون بفتح المدارس، لن يكون لدى الأهالي ما يشترون به دفتراً وأحذية لأطفالهم. عندي تلامذة في العاشرة من العمر لا يعرفون إجراء عملية جمع. لكننا أقوياء ومتحدون ومسؤولون. لو كنا ضعفاء هل تعتقدين أن صدّام حسين كان تذكر أننا موجودون؟ وإذا كان في استطاعة [صدّام] أن يحررنا فأهلاً وسهلاً، وإذا لم يتمكن من ذلك، فلا بأس. لقد علمتنا الانتفاضة ألا نعتمد إلا على أنفسنا. إننا لا نقبل ما يخطط لنا. لقد دُمرت المئات من منازلنا، ومُنعنا من إعادة بنائها، أما إذا دمر صاروخ عراقي بيت أحد الإسرائيليين فإن العالم أجمع يهرع ليبني له بيتاً أجمل من بيته السابق. ماذا حدث لفرنسا؟ كان الإعجاب بكم يملأ قلوبنا. لقد صنعتم ثورة حقوق الإنسان؛ لقد قدمتم روسو وسارتر، والآن تنصاعون لأوامر بوش؟

        وأصر أبو فادي على أن يقدم لنا غداء متأخراً، تكريماً لروسو، وما إن جلسنا إلى المائدة حتى بدأت مكبرات الصوت تجوب الأحياء معلنة انتهاء فترة رفع حظر التجول. وبين الآداب والقانون اخترنا الآداب. والآن علينا انتظار هبوط الظلام لنجتاز مسافة ثلاثمائة متر من الشارع الرئيسي التي كانت تفصل بيننا وبين البيت الذي نزلت آرنا به في جنين، بيت ريما وعدنان.

         اجتزنا هذه المسافة وأنفاسنا مقطوعة. وكنا نسير بمحاذاة الحائط ونستنير بولاعة. وعلى الشرفات كانت الأنظار اليقظة تتابعنا، والشفاه جاهزة لإطلاق الصفير تحذيراً من أي خطر. وصلنا والبسمة تعلو شفاهنا، لكن مفاجأة أليمة كانت تنتظرنا: فقد أتى الجنود منذ قليل واعتقلوا عدنان.

        السهرة ستكون طويلة؛ فالتضامن الذي تحدث أبو فادي عنه ليس تمنيات فحسب. جارات ريما كلهن هنا يحطن زوجة السجين وأولاده بالمحبة والحنان؛ فقمن بغسل [ابنها] وطن، البالغ من العمر خمسة أعوام، و[ابنتها] سماء، وأطعمنهما وهدهدن لهما ولاطفنهما. وبعد قليل سيصل المحامي ويرتجف الجميع؛ إذ تروي إحدى النساء أن الإسرائيليين لم يغسلوا الملاحف في سجن جنين منذ ثلاثة أعوام. إنه تذاكي الغيتو: فالحديث عن القذارة المنفردة، والبرد تحت الخيم التي يكدس الجيش فيها المعتقلين، وسيلة لعدم خوض ما يعلمه الجميع عن المعاملة التي يلقاها عدنان في هذه اللحظات. فالمحامون الذين وفّقوا برؤية بعض المعتقلين في الأيام الأخيرة يتحدثون عن رش بالمياه المثلجة، وعن الحرمان من الطعام والنوم، وعن ضرب بالعصي، وعن الاعترافات المنتزعة من شباب منهكي القوى: يكفي أن يعترف أحدهم بانتمائه إلى إحدى الحركات الوطنية حتى ينقل إلى سجن أكثر "إنسانية".

أعلنت الإذاعة الإسرائيلية القضاء على شبكة تابعة لـ"حماس"، يبلغ عدد أعضائها 360 عضواً. لكن المحامي قدر عدد المعتقلين لدى وصوله ليلاً بأكثر من 1500 معتقل في منطقة جنين وحدها، وذلك منذ بدء حرب الخليج (المنطقة تضم نحو 200,000 نسمة). وقد شملت الاعتقالات جميع التيارات الأيديولوجية للانتفاضة: فتح، والجبهة الديمقراطية، والجبهة الشعبية، والحزب الشيوعي، إلخ. وقد ركزت وسائل الإعلام على الأصوليين من "حماس". لكن، في الحقيقة، يكفي أن يلقي أكثر من عشرين شخصاً التحية على شخص ما في الشارع خلال رفع حظر التجول حتى يتهم هذا الشخص بأنه "قائد".

        مما لا شك فيه أن سبب اعتقال عدنان يكمن في نشاطاته التجارية؛ فهو يدير شبكة لتوزيع مواد غذائية مصنوعة وموضبة محلياً. فمقاطعة المنتوجات الإسرائيلية هي موضوع الساعة. وعدنان لا يخفي آراءه السياسية: لقد أمضى سبعة أعوام في السجن، من سنة 1975 حتى سنة 1982، بسبب انتمائه إلى الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. وما عاد منذ ذلك التاريخ منتمياً إلى أي تنظيم. وهو يعمل بجد. وفي سنة 1985 أمضى ستة أشهر في الاعتقال الإداري، وسًجنت زوجته خمسة أشهر سنة 1988. لم يعد عدنان شاباً. وهو مريض نحيل الجسم، لكنه رجل صلب، فهو لن يعترف بشيء، وسيتعرض مرة أخرى للاعتقال الإداري لمدة ستة أشهر منسياً من دون أية محاكمة. وستقوم زوجته بإدارة المكتب، وقد غاصت منذ اللحظة في الحسابات والفواتير، وفي يدها فنجان قهوة.

*   *   *

        مفاجأة ممتازة لليوم التاسع والعشرين من حظر التجول في جنين. كما حدث أمس، سيرفع الجيش حظر التجول من العاشرة صباحاً حتى الرابعة بعد الظهر. هدنة لمدة يومين، إنها نعمة. اختارت آرنا أرضاً بوراً قرب مدخل مخيم اللاجئين. والأرض فعلاً مزبلة للنفايات الجافة. قمنا بتنظيف مساحة بين كتل إسمنتية مكسرة، وفرشنا قطعة كبيرة من البلاستيك الشفاف. ووضعت آرنا عليها كدسة من الأوراق البيض، وبعض زجاجات التلوين المائي، وأقلاماً، وريشاً للرسم. ولم تمض لحظات حتى انقض على زجاجات التلوين خمسون طفلاً كما ينقض رف من الطيور الجائعة على كومة حبوب. إنهم شاحبون جائعون، وينتعلون أحذية مثقوبة، ويتقاطرون من كل ناحية. هذا يجر وراءه شقيقاً صغيراً، وذاك يجر شقيقة صغيرة تحمل اسم مدينة مفقودة: حيفا، يافا. بل إن إحدى البنات تحمل اسم "ثورة"، وكانت في عربة صغيرة. (منذ آب/أغسطس، سُمي 600 طفل من الأراضي المحتلة صدّاماً، منهم 200 طفل أُطلق عليهم هذا الاسم في أثناء حظر التجول). وعند الظهر أصبحت الأرض البور مكسوة برسمات تُركت كي تجف تحت شمس الشتاء، وقد وُضعت على زواياها حجارة كي لا تذروها الريح. لقد رسموا أعلاماً فلسطينية وعراقية، كما رسموا صواريخ وجنوداً وخياماً وأسلاكاً شائكة. ومن حين إلى آخر نجد زهوراً وهلالاً ونخيلاً.

        قريباً من الأرض، وضع رجلان على بسطة قنبيطاً وليموناً وبصلاً وبندورة،  إنهم يبيعون القنبيط الفاسد، وقد ظهرت عليه بثور، بنصف شيكل للقنبيطة الواحدة. ويبيعون السلع الأخرى بأسعار مرتفعة. ويمر بائع دجاج مع عربته، ويطرق كل باب، لكنه لا يوفق ببيع شيء على الرغم من تخفيضه للأسعار.  ويؤكد لي أحمد قاسم، مساعد مدير المخيم، عندما قابلته في مكتب الأونروا، أن الناس جياع. فبعد شهر من حظر التجول، لم يعد هناك فلس واحد مع سكان المخيم العشرة الآلاف، ومخازن الأونروا فارغة.

        أمس تمكنت من الحصول على شاحنة حنطة وسردين من نابلس. لكني أُوقفت عند أحد الحواجز. فرجال المخيم يعملون في إسرائيل، في منطقة حيفا. ومنذ بضعة أيام سمح الإسرائيليون لبضعة آلاف بالخروج للعمل، لكن في منطقة القدس والمنطقة الجنوبية فقط. أما هنا فلا شيء. ليس عندي ما أوزعه. إني أفتح المكتب، لكن ليس عندي ما أقدمه للناس حتى ولا قناع واق، مع العلم بأن صاروخاً سقط بالقرب من هنا. لم يسبق لنا، حتى في أحلك أيام تاريخنا، أن رأينا الكارثة قريبة منا إلى هذا الحد. لم يسبق أن تعرضنا قط لمثل هذا التخلي والنسيان. إنكِ أول صحافية أجنبية تدخل مخيمنا منذ أكثر من شهر.

        طرحت عليه سؤالاً أخيراً، فهو فلسطيني يعمل في وكالة الأونروا التابعة للأمم المتحدة، وهذه الحرب تخاض باسم منظمة الأمم المتحدة وتحت علمها. فما هي مشاعره تجاه هذا الوضع الدولي؟

        يبتسم، ويقدم لي الشاي، ويجيب بهدوء:

       إن الشعور الوحيد الذي يوحي هذا الوضع به إليّ هو العجز. إن موظفي الأونروا يفعلون ما يستطيعون، يعني لا شيء تقريباً. إذا استمر حظر التجول هذا، فسيحدث انفجار، وانفجار كبير. عندما يجوع الإنسان تنتفي العلاقات الإنسانية والعلاقات الاجتماعية، ولن يُحسب أي حساب للعلاقات الدولية. كل شيء ممكن الحدوث، ونحن ممثلي المؤسسات الدولية يمكن أن نكون بين ضحايا هذا الانفجار.

*   *   *

      في المدينة، تقوم أريج بتدريس بضعة عشر من الأطفال تتراوح أعمارهم بين ستة أعوام وثمانية أعوام، مستعملة علب الكرتون التي كانت تحوي الأدوات التي أحضرتها آرنا. يبلغ عمر أريج ستة عشر عاماً، وهي فتاة هادئة وناضجة وعنيدة وميالة إلى الحلم:

     إني أحب الأولاد الصغار. إذا رويتُ لهم قصة سندريلا فإنهم ينسون كل شيء. إنهم لا يزالون يعرفون كيف يضحكون ويحبون ويرقصون. أما نحن فعاجزون عن كل ذلك. الانتفاضة حياتنا منذ ثلاثة أعوام، وليس لنا أي سبيل آخر.

     أود أن أتعرف على العالم، على بلاد أخرى. أود أن يكون لي مهنة جميلة، شيء مهم. أود أن أكون صحافية مثلك، أن أسافر وأرى كيف يعيش الناس، لعله شيء رائع. ومهما يكن الحال، سأغادر بعد إنهاء دروسي الثانوية، لكن في ظل هذا الإقفال لن أنهي دراستي الثانوية قبل مرور أعوام كثيرة. لقد ذهبت إلى الأردن الصيف الماضي، وذهبت مرة إلى سوريا، لكنني لا أريد أن أدرس في بلد عربي آخر؛ فأنا أكره هذا البلاد، وأنا أكرههم جميعاً. لو كنا نفكر في أن تكون فلسطين بلداً عربياً كباقي البلاد العربية، لما قاتلنا  ليكون لنا دولة عفنة أخرى.

       لقد كنا نكره صدّاماً أيضاً. وهناك أشياء كثيرة لا أزال أكرهها فيه.  لكنه يقول لا. عربي يقول لا، لا يمكنني إلا أن أؤيده. إنه وحده ضد العالم أجمع، وضد أميركا، ويقول لا. تماماً مثلنا. أعتقد أننا نحن من علّمه قول كلمة لا.

إني أعرف أن حظه من النجاح والفوز ضئيل. إن ذلك مستحيل تقريباً، وأنا أستعد لأتلقى خيبة الأمل، وكي لا أتألم كثيراً يوم الهزيمة... 

 

Author biography: 

 سيمون بيتون: مخرجة سينمائية إسرائيلية تعيش في باريس، والمراسلة الخاصة للمجلة الشهرية L’Autre journal في إسرائيل والأراضي المحتلة خلال حرب الخليج. أمضت أكثر من عشرة أيام محتجزة، بفعل حظر التجول، مع عائلات فلسطينية في الضفة الغربية. ونشرت "مجلة الدراسات الفلسطينية" (بالفرنسية، العدد 40) هذه "الوقائع" بالاتفاق مع L’Autre journal التي نشرت مقاطع كبيرة منها في عددها الصادر في آذار/مارس 1991.