يتضمن هذا الملف أجوبة عدد من المثقفين الفلسطينيين (داود كتاب، سميح القاسم، داود تلحمي، رشيد الخالدي، بسام الشكعة) عن سؤالين وجهتهما "مجلة الدراسات الفلسطينية":
- ما هو، في رأيكم، أثر حرب الخليج في القضية الفلسطينية؟ وهل تبقى، في ضوء نتائج الحرب، قضية العرب المركزية أم تتحول إلى قضية هامشية؟
- ما هي الاستراتيجية الفلسطينية والعربية التي تقترحونها لاستمرار النضال من أجل تحقيق التسوية العادلة للقضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي؟ وما هو رأيكم في الاقتراح الأميركي لمعالجة المسألة في مفاوضات فلسطينية – إسرائيلية، وعربية – إسرائيلية متوازية؟
كما يتضمن مقالات مختارة لسياسيين وباحثين إسرائيليين (شمعون بيرس، أريئيل شارون، ميرون بنفنستي، غيئولا كوهين، أوري أفنيري، ألوف هار إيفين) تعكس اتجاهات إسرائيلية رئيسية في موضوعي التسوية والأمن.
داود كتّاب*: لمّ الشمل العربي، ودعم الانتفاضة،
وترسيخ البنية التحتية للدولة الفلسطينية،
والتعامل الذكي مع التحرك السلمي
- إن حرب الخليج أثّرت في القضية الفلسطينية بطرق متناقضة؛ فهي، من ناحية، أثرت سلباً في قدرة الجانب الفلسطيني على التفاوض، وأخلّت بموازين القوة في المنطقة، ووضعت القضية الفلسطينية – في الوقت نفسه – على قائمة أولويات الولايات المتحدة الأميركية وعدد من الدول العربية المتحالفة، لأن العراق استطاع بتضحيته الكبيرة فضح تعامل الغرب مع العرب بمكيالين، الأمر الذي أجبرها على محاولة إيحاد حل لقضية الشرق الأوسط.
كما أن حرب الخليج ربما عجلت التحرك السلمي لكنها كشفت، في الوقت نفسه، ضعف الموقف الوطني الفلسطيني والعربي، الذي كان معتمداً على دعم الاتحاد السوفياتي على أساس أنه ندّ قوي للأميركان، والذي كان معتمداً على العمق العربي العسكري والاستراتيجي والسياسي الذي أثبت ضعفه وتمزقه وارتباط قسم منه ارتباطاً كلياً بالولايات المتحدة.
لكن في الوقت نفسه، فإن هذه العلاقة لعدد من الدول العربية بالغرب تعطينا فرصة لإقحام قضيتنا في جدول أعمال هذه الدول مع الغرب، وذلك عن طريق الاستمرار في الحديث عن التعامل الغربي بمكيالين، والحديث عن حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية، وخصوصاً حق تقرير المصير.
أما بالنسبة إلى استمرار القضية الفلسطينية كقضية العرب المركزية، فإن ذلك يعتمد على كيفية مشاركتنا في اللعبة السياسية، وهو ما يعني أن علينا التعامل بذكاء مع التحرك السلمي، وذلك عن طريق إظهار مرونة معقولة من دون التنازل عن الثوابت الوطنية، الأمر الذي سيضع الدول العربية في وضع لا تستطيع فيه أن تتجاهلنا أو أن تتجاهل مطالب شعبنا الوطنية. وكان للتعامل الذكي خلال الأشهر الماضية مع جولة بيكر أثر جيد في هذا الموضوع، إذ خرج بيكر من لقائه الثالث مع الشخصيات الفلسطينية، متأثراً بأوضاع الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال وبالرغبة الحقيقية لدى الفلسطينيين في السلام الحقيقي، وذلك عكس ما خرج به من لقائه مع الإسرائيليين.
- إن على الاستراتيجية الفلسطينية والعربية أن تعمل على عدة مستويات:
أولاً، يجب العمل بأسرع وقت على لمّ الشمل العربي، وخصوصاً بالنسبة إلى دول المواجهة ومنظمة التحرير الفلسطينية، وذلك من أجل تنسيق الجهود، ولتكون هذه الوحدة خطة دفاع ضد أي تنازل في شأن الأمور الجوهرية، عربياً وفلسطينياً، في النزاع مع إسرائيل.
ثانياً، الانتفاضة. لا شك في أن الانتفاضة أثبتت أنها أقوى ورقة في يد منظمة التحرير. لكن هذه الورقة بدأت تفقد قدرتها على التأثير، بسبب عدة عوامل أهمها: غياب الابتكار والدعم، ووجود خلافات داخلية داخلية وبين الداخل والخارج، وابتعاد القيادة الموحدة عن التجاوب مع رغبات الشعب الفلسطيني. كما لا شك في أنه سيكون لإصلاح ديمقراطي داخل مؤسسات المنظمة، في الداخل والخارج، أثر كبير في تقوية الانتفاضة. أما بالنسبة إلى الدول العربية، فهناك غياب الدعم المادي والمعنوي، وعدم السماح للقيادة الفلسطينية باستخدام وسائل الإعلام العربية، المسموعة والمرئية، لدعم الانتفاضة.
ثالثاً، العمل على دعم البنية التحتية لدولة فلسطينية. لم يتجاوز إعلان دولة فلسطين في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 1988 أكثر من الكلمات والتأييد العلني. وهناك ضرورة ماسة أولاً من المنظمة، ثم من الدول العربية المجاورة (وخصوصاً الأردن)، لدعم البنية التحتية لدولة فلسطين عن طريق مركزة عملية الدعم العربي والدولي، ثم رسم خطط مستقبلية بالتعاون مع الداخل، وتسخير سفارات دولة فلسطين لهذه الغاية. فلا بد، مثلاً من أن يكون في كل سفارة فلسطينية ملحق تجاري مهمته الأولى دعم اقتصاد الأرض المحتلة عن طريق تشجيع الاستثمار من الفلسطينيين والعرب أولاً، ثم من الأجانب. كما لا بد من أن يساعد مثل هؤلاء الملحقين الاقتصاديين التجار والمزارعين في الأرض المحتلة لتسويق منتوجاتهم. كذلك يمكن لهذه السفارات أن تؤدي دوراً مهماً في تشجيع السياحة إلى فلسطين.
أما بشأن الاقتراح الأميركي بمعالجة النزاع في الشرق الأوسط عن طريق خطين متوازيين، عربي – إسرائيلي وفلسطيني – إسرائيلي، فلا يمكن أن يكون مفيداً إلا في حالة توضيح وضمان الربط بين الخطين المتوازيين. فمن المعروف أن إسرائيل معنية بسلام مع دول عربية معينة أكثر مما هي مستعدة للسلام مع الفلسطينيين، ولذلك فإن مدى نجاح هذه الخطة مربوط بضمان عدم الانزلاق إلى منزلق السادات، الذي قدم لإسرائيل سلاماً منفرداً من دون العمل على حل القضية الفلسطينية.
لذلك، من الضروري جداً أن يكون هناك تنسيق على أعلى المستويات بين الدول العربية والقيادة الفلسطينية، وعدم الاستعجال في دخول خط لمعالجة الصراع العربي – الإسرائيلي من دون وجود تقدم مماثل على خط النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. كما لا بد من إدخال وسطاء دوليين آخرين مثل أوروبا والأمم المتحدة (وخصوصاً أن قرارات الأمم المتحدة واضحة بالنسبة إلـى حقـوق الشـعب الفلسطيني ومبادىء حـل القضية الفلسطينية).
سميح القاسم: حرب الخليج لم تفعل أكثر
من إماطة اللثام عن الوجه الحقيقي للوضع الحقيقي
- لا ادعي القدرة أو الرغبة في اجتزاء أثر هذه الحرب في القضية الفلسطينية من أثرها الشامل في مجمل الوضع العربي والقضايا العربية. ولسنا بحاجة إلى جهد لمراقبة ما يجري على الأرض العربية نفسها من أمور تعيد إلى الأذهان أوضاع هذه الأمة عقب الحرب العالمية الأولى، حين كانت فرقة عسكرية أجنبية قادرة على أن ترسم الحدود والمصائر، وتنصب ملكاً وتخلعه على هواها، وتنشىء دولاً وتمحوها وفق مزاجها. وها هم اليوم يجولون في شمال العراق وجنوبه، وفي أعماق السياسة العربية، ليرسموا الخرائط ويقرروا المصائر. نحن في أسفل السافلين، ولم يكن ذلك جراء حرب الخليج؛ فهذه الحرب لم تفعل أكثر من إماطة اللثام، على حد التعبير الكلاسيكي، عن الوجه الحقيقي للوضع الحقيقي. والقضية الفلسطينية كانت، ولا تزال، وستبقى، القضية المركزية في الوجدان العربي الشعبي. أما على المستوى الرسمي، فهي لم تكن في أي وقت من الأوقات قضية العرب المركزية. وما زلنا نذكر تصريحات الرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر، بأن ما من مسؤول عربي من الذين قابلهم، وقد قابلهم كلهم بصيغة أو بأخرى، عبّر عن رغبته في نشوء دولة فلسطينية. وكان الرد العربي الرسمي آنذاك واضحاً تماماً؛ فلم يرد أحد على هذه التصريحات. وحلّت علينا حرب الخليج لتؤكد صحة أقوال كارتر. فالقضية الفلسطينية ثانوية تماماً في تحركات جيمس بيكر التي تنشأ عن اتصالاته العربية أيضاً. ثمة محاولة مكشوفة للالتفاف على منظمة التحرير، وليس ذلك بسبب ياسر عرفات أو الموقف من العراق – كما يدّعون – بل لأنهم يبحثون عن حل يريح إسرائيل من الانتفاضة، من دون أن يلبي ولو الحد الأدنى من المطالب الشعبية والرسمية الفلسطينية. إنهم لا يبحثون عن حل للقضية الفلسطينية؛ إنهم يبحثون عن حل للقضية الإسرائيلية. هذه هي الحقيقة، وليس ما عداها سوى "طق حنك".
- أميركا هي دولة عظمى بلا شك، بيد أنها دولة بلا تاريخ وبلا حضارة سياسية – إذا جاز التعبير. لذلك هي تنتهج سياسة تجريبية، لا مكان فيها لتعابير العدالة والحق والمنطق. وكان وزير خارجيتها الأسبق، جورج شولتس، قد أطلق نكتة سياسية هي في الحقيقة لب الجد السياسي الأميركي. فقد قال: يجب ألا نفاوض إلا من موقع القوة، وإذا كنا في موقع القوة فلماذا نفاوض. وفي مواجهة هذا المنطق، لن يستطيع العرب تحقيق مكاسب حقيقية إلا إذا كانوا أقوياء، ولن يكونوا أقوياء إلا حين تتحول كلمة عرب من لفظة تدل على عرق أو جنس بشري، إلى لفظة ذات مدلول سياسي اقتصادي عسكري اجتماعي حضاري، إضافة إلى المدلول الانثروبولوجي. وبما أن التاريخ لا ينتظرنا حتى نحقق الوحدة الشاملة والراسخة، فإن ما يبقى لا يتعدى المناورات من مواقع الضعف؛ ذلك بأن مصدر القوة العربية الأساسي – النفط – أصبح الآن، أكثر من أي وقت مضى، مرتهناً للأجانب. وجورج بوش لا يقرأ قصائدي، ولا يقرأ الشعر إطلاقاً كما أعتقد. وأعترف أخيراً بأن همي الأساسي والأكبر إلحاحاً ليس فض الصراع العربي – الإسرائيلي أو الفلسطيني – الإسرائيلي: إن همي الأكبر والأكثر إلحاحاً هو حل الصراع العربي – العربي. آنذاك فقط، ستواجه شولتس وبيكر وحلفاءهما مفاوضات جدية وصعبة لا يجوز أن تنتهي إلا بإحقاق الحق العربي.
وأستغرب الحديث عن ضرورة البحث في تشكيل استراتيجية عربية جديدة، فمثل هذا الطرح يوحي بوجود استراتيجية قديمة، وأعتقد أنه لم يكن هناك وجود لأية استراتيجية في العمل السياسي العربي الرسمي. قد نجد لدى كل حزب أو تيار سياسي استراتيجيته الخاصة به، غير أن واقع التجزئة حال دون نشوء استراتيجية شاملة قومية، ولذلك فأنا أكرر زعمي بأنه لن تقوم قائمة لأية استراتيجية قومية شاملة في غياب الوحدة السياسية والاقتصادية الشاملة. وأرجو أن يكون موضوع الوحدة العربية هو الموضوع الأساسي في الطروحات الفكرية العربية لما بعد حرب الخليج؛ ذلك بأن ابتعاد الأنظمة عن مشروع الوحدة يجعله أكثر إلحاحاً على المستوى الشعبي ومفهوم الوحدة ليس طرحاً استراتيجياً فحسب، لأنه يطال الحياة اليومية الراهنة لكل مواطن عربي. وأكثر من ذلك، فأنا ادعي أن غياب الوحدة العربية يؤدي إلى استمرار الخلخلة والبلبلة السياسية في منطقتنا، الأمر الذي ينعكس أيضاً على الساحة السياسية الدولية.
داود تلحمي* : الحل الشامل على كل الجبهات
وفي إطار مؤتمر دولي،
والحفاظ على وحدة الشعب الفلسطيني وإحباط
محاولات تقسيمه بين "داخل" و "خارج"
- لا شكل في أن تدمير قدرات العراق العسكرية والاقتصادية قد انعكس، من الزاوية الاستراتيجية، بإضعاف مجمل جبهة المواجهة العربية مع إسرائيل، وفي المحصلة بإضعاف قدرات الضغط العربية لتحقيق الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية (والعربية الأخرى) المحتلة، كما أن الانقسام العربي الذي وقع يشكل، إذا ما استمر، عامل إضعاف آخر.
ومن مظاهر هذا الانقسام السلبية المباشرة على الشعب الفلسطيني وقضيته، اتخاذ بعض الدول العربية موقفاً حاداً تجاه منظمة التحرير الفلسطينية وتجاه الجوالي الفلسطينية، بحجة تعاطفها مع العراق في أثناء الحرب الخليجية؛ وهو تعاطف لم يكن مصدره العداء لشعوب الخليج الأخرى، وتحديداً لشعب الكويت، بقدر ما كان مصدره العداء للسياسة الأميركية التي ارتبطت، في ذهن الشعب الفلسطيني، بالدعم المطلق والكثيف لإسرائيل، وبتعطيل كل محاولات المجتمع الدولي للوصول إلى حل عادل للقضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي، وخصوصاً في الفترة التي تلت قرارات المجلس الوطني الفلسطيني الأخيرة (تشرين الثاني/نوفمبر 1988)، وفي ظل مناخات التعاطف العالمي الواسع مع الانتفاضة الشعبية الفلسطينية.
وواضح من التحركات السياسية الأميركية بعد انتهاء الحرب، أن واشنطن تتصرف كأن منظمة التحرير الفلسطينية في المعسكر الخاسر، وأن عليها أن تدفع الثمن من خلال استبعادها عن أي دور مباشر في العملية السياسية التي تحاول الإدارة الأميركية أن تنظمها. ومن المؤسف أن بعض المسؤولين العرب أوحى في تصريحات له بتبنيه الموقف نفسه. وهنا، يبدو أن الأميركيين يعتقدون أن الانقسام والاحتراب العربيين في الحرب الخليجية، يفتحان المجال أمام تهميش القضية الفلسطينية، وإنهاء الإجماع العربي (المعلن) في شأنها، والإنهاء المعلن لطابعها المركزي كقضية العرب الأولى. ويحاول الأميركيون، من خلال جولات وزير الخارجية جيمس بيكر واتصالاتهم الأخرى بالأطراف المعنية في المنطقة وفي العالم، أن يفصلوا القضية الفلسطينية عن المشكلات بين كل دولة عربية وإسرائيل، وأن يؤمنوا ترتيب أوضاع المنطقة على قواعد جديدة، وفي إطار تحالفات وأولويات غير تلك التي كانت سائدة قبل الأزمة الخليجية. وهم، في نهاية المطاف، يحاولون دمج إسرائيل في نظام أمني إقليمي شامل، يقوم على أساس ضمان استقرار منطقة النفط واستمرار تدفقه بالأسعار والكميات التي تلائم المستهلكين الكبار (لا المنتجين، أو المستهلكين الفقراء)، وتحديداً الولايات المتحدة.
لكن هذه ليست أول مرة تجري فيها محاولات كهذه، تتجاهل معطيات أساسية في منطقتنا، وتتجاهل تحديداً المناخ الشعبي العربي الذي لم يسلّم بهذا الترتيب الجديد للأولويات في المنطقة، ولم يسلّم تحديداً بتهميش القضية الفلسطينية والصراع العربي مع إسرائيل وسياساتها العدوانية التوسعية (التي تفاقمت بعد الحرب في حملات الاستيطان المسعورة في الأراضي المحتلة، والتصريحات المتعنّتة المتواصلة للطاقم الإسرائيلي الحاكم). كما يجب أخذ عدد من العوامل الأخرى بعين الاعتبار، أهمها الاستمرار المؤكد للانتفاضة الفلسطينية، لا بل تجذيرها، وكذلك الضغط المعنوي الذي تفرضه على الإدارة الأميركية المقولات نفسها التي ساقتها لمحاربة العراق: مقولات الشرعية الدولية، واحترام قرارات الأمم المتحدة؛ وهي المقولات التي لا تحتمل، في نظر قطاع واسع من الرأي العام العالمي، وضمنه الأوروبي والأميركي، الكيل بمكيالين عبر التساهل مع الاستهتار الإسرائيلي المتواصل بهذه الشرعية الدولية وبهذه القرارات.
وواضح، بعد جولات جيمس بيكر، أن الوضع العربي بالنسبة إلى الصراع مع إسرائيل ليس بدرجة التضعضع و"السيولة" التي توقعها الأميركيون (وتحدث عنها وزير الخارجية الأميركي السابق، جورج شولتس، في أحد تصريحاته).
وعلى الرغم من الجرح الكبير الذي أحدثته الحرب الخليجية، فإن الوضع العربي يبقى قابلاً للتماسك. ومن المفيد هنا التذكير بأن انعكاسات الحرب الرئيسية في منطقتنا لم تظهر في الأمد المباشر بعد انتهائها، وقد ظهر بعض نتائجها بعد أعوام طويلة (حرب 1948 مثلاً).
- إن أية استراتيجية (أو سياسة) فلسطينية لما بعد حرب الخليج يجب أن ترتكز على عاملين أساسيين، بالدرجة الأولى:
- توفير كل مقومات الاستمرارية والدعم للانتفاضة الشعبية الفلسطينية، التي تشكل قلب المواجهة الفلسطينية لكل مشاريع تصفية وتهميش القضية والحقوق الفلسطينية.
- الحفاظ على وحدة الشعب الفلسطيني ووحدة منظمة التحرير في الأرض المحتلة وفي المنافي والمهاجر، وتعزيز وتطوير هذه الوحدة، وإحباط كل محاولات تقسيم الشعب بين "داخل" و"خارج" وكل محاولات الالتفاف على منظمة التحرير أو اصطناع البدائل منها.
وهذان العاملان كانا في صلب الاستراتيجية الفلسطينية قبل الحرب ومنذ انطلاقة الانتفاضة أواخر سنة 1987، لكنهما يكتسبان الآن أهمية أكبر وملحاحية أعلى. فإذا تماسك الجدار الفلسطيني فلا سبيل لاختراقه، ولا مجال حتى لترتيب تسوية ناقمة وعلى قاعدة الحلول الثنائية والجزئية التي توحي سياسة "المقاربة المزدوجة" الأميركية بها، أي سياسة الفصل أو التوازي بين المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية والمفاوضات العربية – الإسرائيلية (مع كل دولة عربية على حدة).
وعلى الصعيد العربي، من الضروري العمل على إزالة حالة الانقسام الحاد التي أحدثتها الأزمة الخليجية، وإعادة لملمة الموقف العربي من قضايا المنطقة الرئيسية، وخصوصاً من القضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي، وذلك على أرضية قرارات القمم العربية، والعمل من أجل فرض احترام الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة على الجبهات كافة، لا على الجبهة الخليجية فقط. وتكتسي إعادة توحيد الموقف العربي أهمية خاصة، لتفعيل الموقف الدولي الواسع الداعي إلى تطبيق مبدأ الكيل بمكيال واحد، وإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي يقوم على انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة منذ سنة 1967 وبعدها، وممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه الوطنية، وفي المقدمة حقه في الاستقلال.
ومن الضروري، على هذا الصعيد، إعطاء أولوية خاصة لتنسيق المواقف بين الأطراف العربية الخمسة المرشحة للمشاركة في أي مؤتمر دولي خاص بمعالجة المسألة الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي، وهي مصر وسوريا والأردن ولبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية، وبالتالي اتخاذ الخطوات الضرورية لتصفية كل ما يعيق الوصول إلى عملية التنسيق هذه.
وفي هذا السياق، لا يمكن القبول بصيغة "المقاربة المزدوجة" التي اقترحها الإسرائيليون والأميركيون، لأنها تكرس مبدأ الحلول الثنائية والجزئية، وتهمش القضية الفلسطينية ومركزيتها، بل يجب التمسك بالحل الشامل، وعلى كل الجبهات، وفي إطار مؤتمر دولي يعمل على تطبيق قرارات الأمم المتحدة ويحظى برعايتها. وذلك لا يلغي طبعاً إمكان القيام بخطوات تحضيرية لهذا المؤتمر. لكن الهدف يجب أن يكون واضحاً: تطبيق قرارات الشرعية الدولية، لا الاستسلام لموازين القوى العسكرية القائمة في المنطقة (وهي الصيغة التي يوحي بها الاقتراح الإسرائيلي بمفاوضات مباشرة).
وهنا، في الإمكان توظيف المواقف الدولية الضاغطة كلها، بما في ذلك - وخصوصاً الآن – المواقف الأوروبية، من أجل دفع الإدارة الأميركية إلى مراجعة أسلوبها في تعاطي مشكلة المنطقة، ووقف تساهلها مع إسرائيل وسياسات "الضم الزاحف" التي تتبعها، وممارسة أوسع الضغوط الدولية عليها حتى ترضخ للشرعية الدولية وقراراتها.
رشيد الخالدي*: الولايات المتحدة لن
تضغط على إسرائيل، والتسوية لا تزال بعيدة
- في الحقيقة، لم تكن القضية الفلسطينية قبل حرب الخليج القضية المركزية لدى الأنظمة العربية. من المستحيل القول إن الحكومات العربية الرئيسية كانت تركز جهودها على القضية الفلسطينية. وبالعكس، أنا أعتقد أن هذه الحكومات كانت قبل حرب الخليج، وستبقى بعدها، تصب جهودها واهتماماتها في أغراض الدول وأهدافها لا في الأغراض أو الأهداف العربية، ولا من أجل القضية الفلسطينية. والبرهان على ذلك أن أية حكومة عربية لم تستخدم نفوذها، خلال الأعوام الماضية، لدى الولايات المتحدة من أجل التأثير في السياسة الأميركية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. وبالعكس، كان تحسين العلاقات الثنائية بين هذه الدول والولايات المتحدة على رأس أولوياتها. لذلك من المستحيل القول إن القضية الفلسطينية كانت القضية المركزية للحكومات العربية، بينما كانت القضية المركزية للشعوب العربية.
والآن، بعد حرب الخليج، لا أرى تغييراً في ذلك، إذ لا تزال الشعوب العربية مهتمة بالقضية الفلسطينية وبحلها العادل، بينما للحكومات العربية اهتمامات أخرى.
الحقيقة أن الوضع كان سيئاً قبل الحرب، ولا يزال سيئاً؛ إنه سيىء لأن احتمال الحلول المنفردة الثنائية لا يزال احتمالاً وارداً؛ إنه سيىء لأن الحكومات العربية غير راغبة في أن تستخدم رصيدها لدى الولايات المتحدة – إنْ كان لديها أرصدة من هذا النوع – من أجل القضية الفلسطينية. وأنا أرى بعض الجوانب السلبية. فعلى سبيل المثال، يلاحَظ من خلال الحرب اعتماد بعض الأنظمة المتزايد على الولايات المتحدة، الأمر الذي يعني أن هذه الأنظمة أصبحت أكثر تجاهلاً للقضية مما كانت في الماضي. وغير ذلك، لا أرى تأثيراً مهماً في سياسة بعض الدول العربية البعيدة نسبياً؛ فهي لا تزال تؤيد، تأييداً لفظياً، القضية الفلسطينية. والحكومات الرئيسية القريبة من فلسطين لا تزال تقوم بالدور نفسه الذي كانت تقوم به في الماضي.
- بالنسبة إلى الاستراتيجية العربية والفلسطينية، هناك برهان وهناك عبرة في حرب الخليج بالنسبة إلى الجانب الفلسطيني: ضرورة الاعتماد على الذات، وضرورة التخلص من الوهم فيما يتعلق بالمنقذ الذي يجيء على الفرس البيضاء. هذا الوهم كان يجب أن ينتهي مع انتهاء عهد عبد الناصر. لكنه، للأسف الشديد، لا يزال موجوداً لدى البعض. يجب التخلص من الوهم فيما يتعلق بدور الأنظمة العربية عامة، واستعدادها للتضحية من أجل فلسطين. لذلك أرى أن على الاستراتيجية الفلسطينية في المستقبل، أن تعتمد – أساساً – على الشعب الفلسطيني لا على الآخرين. بكلمة أخرى، كنا نقول: حرب تحرير شعبية طويلة الأمد. أين أصبح تعبير طويلة الأمد؟ أصبحنا نفكر في أن الحل قريب، أو يمكن أن يكون قريباً. لذلك لم نعد نفكر – في المدى البعيد – في البناء وفي التحضير لما هو بعد خمسة أعوام أو عشرة أعوام، وفي المؤسسات، وفي الهياكل التي يمكن أن تستمر وتكبر وتقوى في مدى خمسة أعوام أو عشرة أعوام أو خمسة عشر عاماً. هذا هو أساس أية استراتيجيا. أصبحنا منذ مدة طويلة نعيش في زمن التكتيك. إن الاستراتيجيا تعتمد على التفكير الطويل المدى. ولا يوجد مثل هذا التفكير، لا على المستوى العربي ولا على المستوى الفلسطيني عامة. لذلك فالجواب الأولى عن السؤال هو أنه يجب، أولاً، أن نتخلص من وهم الاعتماد على الخارج، على غير قوانا وإمكاناتنا وطاقاتنا. ثانياً، يجب أن نبني في الداخل وفي الخارج، وطبعاً بالتعاون مع المخلصين في هذه الأمة العربية، الذين يفهمون العلاقة الجذرية بين القضية الفلسطينية والمصالح العربية الحيوية.
بالنسبة إلى المشروع الأميركي للتسوية، أنا في الحقيقة لا أرى مشروعاًً أميركياً في هذا الخصوص. أنا أرى أن الإدارة الأميركية غير جدية في هذا المضمار. وأرى خطورة لأمرين مما يطرح الآن: أولاً، الفصل بين فلسطينيي الخارج وفلسطينيي الداخل. فالاقتراحات الأميركية، بحسب فهمي لها، لا تشمل أي اشتراك لأي فلسطيني من خارج الأراضي المحتلة منذ سنة 1967. وهذا، في رأيي، يشكل خطراً كبيراً على وحدة الشعب الفلسطيني، وعلى وحدانية تمثيل الشعب الفلسطيني. وهو أمر خطر جداً فيما يطرح الآن. لكن ما يطرح الآن يتضمن خطراً آخر هو خطر الحلول المنفردة بين دول عربية وإسرائيل، وترك القضية الفلسطينية جانباً كما حدث في كامب ديفيد. لا أظن أن هذه المساعي ستنجح، لأن الإدارة الأميركية لن تمارس ضغطاً كافياً على إسرائيل. وإسرائيل أصبحت، استراتيجياً، أقوى كثيراً مما كانت بعد تصفية القدرات الاستراتيجية العراقية، وحصلت من جديد على هيمنة مطلقة في المجال الاستراتيجي لمدة خمسة أو عشرة أعوام. لذلك لا يوجد أي دافع لدى الطرف الإسرائيلي إلى التنازل أو حتى إلى تعاطي أية اقتراحات للحل. طبعاً، سنسمع احتجاجات وتعليقات وكلاماً من دون مضمون من الطرف الأميركي، وسيقول البسطاء منا ومن العرب أن هذا يشكل الضغط الأميركي، لكن بوجود قناة من الأموال التي تتدفق على إسرائيل، والتي تتجاوز 4 مليارات دولار، فإنه لا يمكن الحديث عن ضغط. لا يوجد ضغط ولا أرى إمكاناً للضغط، وبالتالي لا أرى إمكاناً للتسوية في المدى القريب.
بسام الشكعة: القضية الفلسطينية تبقى القضية المركزية،
والنهوض الشعبي العربي هو أساس الاستراتيجية
في مواجهة المخططات المعادية
- القضية الفلسطينية مرتبطة بأزمة الخليج منذ بدايتها. وهذه حقيقة تاريخية، باعتبارها القضية القومية المركزية. وقد عكست أزمة الخليج العسكرية نتائج على القضية الفلطسينية: آراء وموضوعات. فهناك من رأى سلبياتها الاقتصادية والسياسية، ويريد استغلالها كلياً للوصول إلى تصفية القضية ومنظمة التحرير والانتفاضة. وهو يعدّد المظاهر الضارة بالواقع الفلسطيني اليومي انسجاماً مع الواقع الإقليمي وأحكامه ومقوماته السلبية. وهناك من رأى في السلبيات براهين على ضرورة مسايرة هذا الواقع للاستفادة منه. وهذا يصب في قناة الاستسلام مهما يخفِ من حقائق. أما الاتجاه التاريخي الذي يرفض نتائج التآمر الإمبريالي الصهيوني، ويصر على حقائقه وحقوقه، فإنه يرفض التعامل مع المرحلة الرديئة التي تعيشها أمتنا العربية والعالم حالياً نتيجة اختلال التوازن الدولي والهيمنة الإمبريالية القائمة على مجلس الأمن والعالم في غياب الرأي العام العالمي وثقل الدول النامية والمتخلفة ومصالحها في التحرر والتقدم، وما اقترن بذلك من علاقات الدول الصناعية المعروفة وخلفياتها الاستعمارية، التي أنتجت هذا التحالف الواسع.
فالإمبريالية وحلفاؤها ينظرون إلى القضية الفلسطينية من خلال اهتماماتهم ومصالحهم وأهدافهم، متجاهلين مضمونها الوطني والقومي والإنساني، ومتجاهلين واقع الصهيونية العدواني. وهذا يعني أنهم ينظرون إلى القضية الفلسطينية باعتبارها عائقاً أمام استكمال مخططاتهم. وحلّها يجب أن يخدم هذه المخططات وما تتضمنه من مصالح وأهداف إمبريالية صهيونية وعلاقات حلفائهم بها.
لذلك، فسيظل الموقف الوطني الموحد قاعدة مركزية للموقف والمستقبل القوميين؛ ذلك بأن ما سبق يحدد طبيعة الاستراتيجية الفلسطينية الواجبة، كما يحدد الاستراتيجية العربية. فإذا كان من الصعب، وقد يكون من المستحيل الآن، وفي ضوء المعطيات الرسمية الحالية، رسم استراتيجية بل سياسة عربية في حال اعتماد المواقف الرسمية ضمن أوضاع ووقائع أزمة الخليج باعتبارها نتائج السلبيات التي سادت الوطن العربي، بل هي نتائج انتصارات الإمبريالية والصهيونية على الساحة العربية، فإن ذلك يحدد تاريخياً – وبكل وضوح – الاستراتيجية الوطنية الفلسطينية بأبعادها القومية والإنسانية وبمضمونها التحرري والتقدمي. فهي قضية عادلة لشعب سُلبت أرضه وحقوقه وهُددت شخصيته الوطنية والقومية والإنسانية، التي لا يمكن أن تلغى ولا يجوز تجاوزها أو إلغاؤها، لأنها لا تمس بنتائجها مصير الشعب الفلسطيني فقط، بل تمس أيضاً مصير ومستقبل الشعوب العربية والأمة العربية، والنظام العالمي الذي نتطلع إليه مع شعوب العالم جميعها.
فالتمسك بوحدة شعبنا وبمنظمة التحرير ممثلةً شرعية وحيدة، وإطاراً، بل أرضاً سياسية لشعبنا ووحدته، هو من أولويات أهدافنا، وهو تأكيد وتحسس لوجودنا وحقوقنا.
كما أن اعتماد سياسة الكفاح والنضال، التي جسّدتها انتفاضة شعبنا في أراضي دولتنا المحتلة، هو الأسلوب التاريخي الواجب متابعته. فالانتفاضة جاءت محصلة تاريخية لنضال وتجارب شعبنا وأمتنا العربية في نضالاتهما عبر القرن الحالي، وفي قمتها تجارب شعبنا في ظل الاحتلال، وما يعنيه ذلك من تجربة ميدانية لحقيقة الاحتلال وأهدافه وأساليبه ومخاطره. فانطلاقة شعبنا هذه لا يجوز فصلها، هدفاً وأسلوباً، عن قضية شعبنا في الشتات وأساليبه ووحدته.
ولا بد من التمسك بمضمون نضالنا باعتباره نضالاً تحررياً تقدمياً، والتمسك بالشرعية الدولية وقرارات هيئة الأمم المتحدة كأساس لتحقيق السلام ضمن مؤتمر دولي.
- من هنا، تتبيّن الاستراتيجية العربية الواجبة، وتتبيّن معها الصعوبات الكبرى أمام تطبيق ذلك، وخصوصاً بالنسبة إلى المستوى الرسمي للأمة العربية، وما أفرزته أزمة الخليج على الساحة العربية. إلا إن ذلك لا يمكن أن يحجب هذا النهوض الشعبي العربي العارم، ولا سيما في المغرب العربي وشمال أفريقيا والمشرق العربي. ولا شك في أن النهوض الشعبي العربي سيبقى أساساً لاستراتيجية عربية وطموحاً لها في وجه المخططات الإمبريالية وعملائها. وفي اعتقادي، لو أن الدول العربية التي عارضت دعوة الجيوش الإميركية إلى الخليج قد أقدمت على عمل موحد لحل عربي واضح، لاستطاعت تفادي المآسي والخسائر التي نتجت من حرب الخليج، ولاستطاعت أن تفكك التأييد الغربي وتأييد الدول الصناعية للسياسة الأميركية. وعلى كل، فإن الأوضاع القائمة حتى الآن تؤكد جدوى هذه القاعدة لتحقيق استراتيجية عربية تكفل معالجة السلبيات العربية وضمان المصالح القومية للأمة العربية، ومركزها القضية الفلسطينية، ولا سيما بعد النتائج العسكرية لحرب الخليج وظهور ما كان مخفياً، حيث لا وصول إلى الشرعية الدولية إلا بالتمسك بالمصالح القومية والوطنية. وهذا يوضح الدور الفلسطيني المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية وتحصينها بالاستراتيجية المطلوبة ووحدة شعبنا الشاملة، إذ لا شك في أن انعدام هذه الاستراتيجية قد ساهم في تفكك الموقف العربي وفي الأزمة العربية القائمة، ولا يزال!
إن المؤتمر الدولي هو الإطار المؤهل لحل القضية الفلسطينية ضمن قراراته وخلفياته الحضارية المكتسبة لاتجاه العالم نحو الانفراج والتعايش والسلام بناء على سيادة الحرية للشعوب والإنسان.
أما المؤتمر الإقليمي، فهو مؤامرة على الحل العادل والدائم والقائم على أسس الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم، وأنه ليس خطوة على طريق الحل، ولا سيما ضمن موازين القوى القائمة.
يقول المتعاملون مع هذه المخططات أن هذا هو الواقع، وعلينا التعامل معه أملاً بالمستقبل. وهذا كلام مفضوح، لأن ميزان القوى الذي فرض عليهم ذلك سيكون أقوى للتأثير فيهم من أجل كسب المزيد من التنازلات لا العكس.
إذاً، ينبغي للاستراتيجية العربية أن ترتكز على حقوق الشعب الفلسطيني ووحدته وعلى تحرير الأراضي العربية المحتلة، والاتجاه نحو التكامل الاقتصادي والتضامن السياسي والعسكري لتحقيق التحرر والتقدم العربي ولمواجهة المؤامرات من أجل الوصول إلى مجتمع التعايش والتقدم والسلام إقليمياً وعالمياً.
وإذا كانت الصهيونية والإمبريالية تهدفان إلى تهميش القضية الفلسطينية وتجريدها من مضامينها التحررية والتقدمية – وطنياً وعربياً ودولياً – فيجب الحفاظ على مركزيتها ومضامينها خدمة لحقوق شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية وللقيم الحضارية الإنسانية؛ وهذه مسؤولية وطنية وقومية ودولية لا بديل منها إلا تجديد المشكلات والتناقضات على هذه المستويات كلها، الأمر الذي يهدد الأمن والاستقرار والسلام.
آراء إسرائيلية في التسوية والأمن
بعد حرب الخليج
إمكانات بلا حدود
شمعون بيرس، "هآرتس"، 11/4/1991
إن المشكلتين الأمنيتين الملحتين اللتين تواجههما إسرائيل الآن – السكاكين والصواريخ – ليستا مسألة حدود فقط؛ فبين شاهر السكين وضحيته ليس هناك حدّ، وبين قاذف الصواريخ ومكان سقوطها لا معنى للحدود. وبالنسبة إلى هذين الموضوعين، فإن نظام العلاقات أهم من شكل الحدود. إن التغيير في المجال الاستراتيجي يتمثل في الوزن الذي يجب أن يعطى لنظام العلاقات بين الشعوب، في مقابل الوزن المعطى سابقاً لشبكة الحدود بين الدول.
وكذلك، فإن مدى الرؤية الاستراتيجية قد تغير؛ إذ لا يعقل أن يكون مكمن الخطر على بعد مئات الكيلومترات (مدى الصواريخ)، وأن يتركز الحل في مدى عشرات من الكيلومترات (البعد عن الحدود). والمشكلة الأمنية لا تتصل اليوم بالدول المتاخمة لحدودنا فحسب، وإنما تتصل أيضاً بالدول التي لا حدود مشتركة لنا معها.
إن سباق التسلح قديم، لكن الأسلحة جديدة؛ إنها تجد تعبيرها في الصواريخ، التي لا يقودها طيار، والتي لا تحسب حساباً لعامل المسافة، والتي يمكن إطلاقها من البر والبحر والجو، والقادرة على حمل رؤوس ذكية. إن صواريخ سكود التي أُطلقت على إسرائيل والسعودية نموذج قديم. وسيجلب سباق التسلح معه صواريخ أبعد مدى، وأكثر قدرة على التملص، وأكثر دقة، وأكثر دماراً. لكن التجديد في سباق التسلح لن يكون في الصواريخ فقط، وإنما أيضاً في الرؤوس التي تحملها. وفي سباق التسلح المقبل سيكون هناك مقدار أكبر من الرؤوس الكيماوية والبيولوجية، وربما النووية أيضاً. وينبغي لنا ألا نفعل أكثر من اللازم بشأن تدمير منشآت إنتاج هذه الصواريخ. فمن الممكن تدمير المنشآت، لكن من الصعب أكثر تدمير المعرفة التي تتيح إقامتها من جديد.
في مدى عشرة أعوام أو خمسة عشر عاماً، من الممكن أن تتكدس في الشرق الأوسط صواريخ ورؤوس غير تقليدية، تجعل أي تفكير سياسي في اتجاه السلام مدعاة إلى الاستهزاء، كما أن المغزى الاقتصادي للتسلح فيه جديد. إن الدروس المستخلصة من حرب الخليخ ستحمل دولاً كثيرة على إنفاق أموال طائلة لشراء جيل جديد من الأسلحة: طائرات أكثر قدرة على المراوغة بدلاً من الطائرات الحالية؛ أسطول من المروحيات المرتفعة الثمن في مواجهة الدبابات الحالية؛ رؤوس ذكية وغالية الثمن، لتركيبها على كل سلاح تقريباً.
إن الشرق الأوسط – بما في ذلك إسرائيل – وصل إلى خيار مصيري: إما أن يرهق اقتصاداً ضعيفاً بإنفاق أمني هائل فيعرض بذلك وجوده للخطر، وإما أن يستثمر [موارده] في الاقتصاد ويقبل بتوازن. أمني وأمل بالسلام.
وإسرائيل، التي تريد، ومن الضروري لها أن تستثمر [مواردها] في استيعاب الهجرة، ستضطر الآن إلى الإنفاق على جهاز استخبارات موجه إلى مسافات أبعد – ما وراء الدول المتاخمة لنا؛ وسيكون ذلك إنفاقاً بحجم لم نعهده من قبل، يضاف إليه الإنفاق الذي سيكون مطلوباً لتأمين حماية ملائمة للمؤخرة.
والعزاء الوحيد، في هذا الوضع الجديد، هو أن ما ذكر سيجثم على صدر كثيرين. إن اقتصاد معظم الدول العربية ليس اقتصاداً غنياً، والكرم السوفياتي فيما يتعلق بثمن الأسلحة وتسهيلات الدفع قد انتهى. ومن ثم، فإن الضائقة التي ستحل ستكون مزدوجة: ما سينبع من ثمن الخيار العسكري، وما سينبع من ثمن الضعف الاقتصادي.
في أيامنا هذه، لا يمكن إصلاح الاقتصاد بضخ أموال في أساس مزعزع، فكيف بالأحرى تطويره. إن الدولة بحاجة إلى اقتصاد ينتج ثروة، لا إلى اقتصاد يتطلب أموالاً ليست ملكه. إن معظم الدول أصغر من أن ينشىء اقتصاداً مغلقاً، والعالم الاقتصادي تنافسي إلى درجة لا يملك معها تجاهل اقتصاد كهذا. كما أن مصير الاقتصاد الوطني – من أسعار النفط إلى وسائط الاتصال – تتحكم القوى الاقتصادية العالمية فيه تحكماً حاسماً. وكذلك لم تعد الموارد الطبيعية – الماء، وطرق المواصلات – مرتبطة بالحدود السياسية.
إن الشرق الأوسط يشكو نقصاً في المياه أكثر مما يشكو نقصاً في المساحة. وهناك أنهار مهمة – النيل، الأردن، الفرات ودجلة – تقرر المستقبل الزراعي لثلاث عشرة دولة، تشكو أزمة مشتركة بينها: زيادة السكان، وتناقص مصادر المياه. فعدد سكان مصر كان، في مطلع القرن، 6 ملايين نسمة، وهو يبلغ الآن 54 مليوناً. ونهر النيل ليس أنه لم يتضاعف تسع مرات فحسب، بل أن مياهه نقصت. كما أن عدد سكان الدول السبع الأخرى التي يمر النيل بأراضيها ارتفع ارتفاعاً كبيراً، وهذه الدول ليست مستعدة للاكتفاء بحصص المياه القديمة.
ومن الممكن أن تنشب الحروب في المستقبل نتيجة الصراع بشأن المياه، لا بسبب مشكلات الحدود. إن الحصول على المياه يمكن أن يتم بوسائل عسكرية أو بوسائل علمية قائمة على تعاون مشترك. وفي الإمكان إنتاج المياه، أو الاقتصاد في استخدامها، إذا كان هناك مشاريع إقليمية لتحلية مياه البحر، أو لإعادة تنظيم دورة المياه الحالية، أو لتخزينها في بحيرات صناعية، أو لحجزها بواسطة السدود، أو لبيعها من بلد إلى آخر، أو لإنتاج مطر صناعي، أو لاستخدام أساليب ري حديثة. وفي إمكان مشاريع كهذه أن تنتج محاصيل زراعية تتيح توفر الغذاء للأجيال المقبلة، وتوقف زحف الصحراء.
ويمكن تحلية المياه بواسطة تبخير رخيص نسبياً توفره مفاعلات نووية. وفي الإمكان إقامة هذه المفاعلات على الحدود بين الدول، بإشراف دولي كامل، وهو ما يتطلب الحصول على أموال خارجية ومساعدة من الصناعات الأوروبية والأميركية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى السياحة، والطاقة، وإدخال الحواسب الإلكترونية، ومعالجة قضايا البيئة. وإذا كان الشرق الأوسط يريد الخروج من التخلف وبناء مستقبل جديد لنفسه، فعليه أن يقتفي أثر أوروبا: أن} يقيم بالتدريج سوقاً مشتركة؛ أنْ يخفض ارتفاع أسوارها الدفاعية؛ أنْ يبدد سُحب الحرب؛ أنْ يوجد شعوراً بالثقة لدى المستثمرين والمستهلكين معاً. وفيما يتعلق بالمهمتين – منع الحرب والنمو الاقتصادي – من الضروري معالجتهما على مستوى إقليمي. لكن، من أجل التقدم نحو تخطيط على مستوى المنطقة، يجب إزالة العقبة التي نشأت بسبب النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي. ويمكن التوصل إلى الحل بوسائل سياسية لا بوسائل عسكرية. فالفلسطينيون لا يستطيعون الانتصار على إسرائيل عسكرياً، وكل انتصار عسكري إسرائيلي لن يكون انتصاراً نهائياً. وينبغي أن يدركوا أنه من دون أخذ حاجات إسرائيل الأمنية المشروعة بعين الاعتبار، لن يكون هناك حل. كما أن على الإسرائيليين أن يدركوا أنه من دون أخذ الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني بعين الاعتبار، لن يكون هناك حل أيضاً.
ولأن جانباً من حاجات إسرائيل الأمنية يتمثل في أراض، وكذلك الأمر بالنسبة إلى حقوق الفلسطينيين، فإن لا مفر من حل وسط إقليمي. إن إسرائيل بحاجة إلى حد أمني ومنطقة أمنية، وإلى نزع السلاح في المناطق التي ستعاد. وإذا كانت لا تريد السيطرة إلى الأبد على شعب آخر على رغم منه، فيجب أن تتنازل عن سيطرتها على السكان وعلى المناطق التي يعيشون فيها.
من هو الطرف المفضل للتفاوض معه؟ مفاوضات مع وفد فلسطيني فحسب، أم مع وفد أردني – فلسطيني؟ إن المنطق يشير إلى تفضيل الحل الذي يدمج الفلسطينيين في الأردنيين. وليس من القسوة النظر إلى سكان الأردن والضفة [الغربية] وغزة باعتبارهم سكاناً ما يجمعهم أكثر مما يفرقهم. إن سكان الأردن وهم في معظمهم فلسطينيون، وسكان الضفة هم مواطنون أردنيون، وقد منح الأردن سكان قطاع غزة أيضاً عشرات الآلاف من جوازات السفر. والفوارق الموجودة بين البدو في الأردن وبين الفلسطينيين الموجودين على أراضيه، هي أقل من الفوارق بين التشيكيين والسلاف (...) وبين البروتستانت والكاثوليك.
إن الأردن دولة قائمة، لها جيش خاص بها. وليس من الضروري بالتالي إقامة دولة جديدة وجيش جديد. ويمكن إبقاء المناطق التي ستضاف إلى اتحاد فدرالي أو كونفدرالي، منزوعة السلاح.
يجب أن يؤخد في الاعتبار أن إسرائيل لن تعود إلى حدود 1967، ولن تتنازل عن القدس الموحدة كعاصمة لها؛ وإذا أخذنا في الاعتبار أيضاً غوش عتسيون ومناطق أخرى مختلفة في الغور ضرورية لأمننا، فسيكون من المستحيل رسم خريطة في الضفة تستوعب دولة إضافية.
عندما تبدأ المفاوضات السياسية في شأن حل المشكلة الفلسطينية، سيصبح في الإمكان البدء بمناقشة الموضوعات الإقليمية: مراقبة التسلح، والتطوير الاقتصادي.
في اليوم التالي لصواريخ سكود
أريئيل شارون، "يديعوت أحرونوت"، 8/3/1991
إن وزير الخارجية الأميركية أتى ليسمع مبادرات وأفكاراً جديدة. وفي الحقيقة جيّدٌ أن يسمع أنه قد انطبعت في ذهننا صور الفظائع والدمار اللذين ألحقهما العراقيون والفلسطينيون بأشقائهم العرب، وبدولتهم الكويت.
إن الحرب في الخليج قد أثبتت، بوضوح شديد، إن أية ضمانات أمنية دولية، بما في ذلك الضمانات الأميركية، هي بالنسبة إلينا مجرد وهم. فمن الواضح تماماً الآن أنه حتى لو كانت الولايات المتحدة مستعدة للمسارعة بكل قوتها إلى إنقاذنا، إذا هوجمنا، فإنها لن تستطيع تعزيز قوتنا في الوقت الملائم؛ وبالتأكيد لن تستطيع شن هجوم مضاد لتحرير إسرائيل المحتلة.
وكما هي الحال في أوروبا، وفي علاقات الولايات المتحدة بالاتحاد السوفياتي –بل أكثر مما هي الحال هناك – فإن من غير الممكن أيضاً إنشاء بنية تحتية حقيقية للاستقرار والسلام في الشرق الأوسط، إلا على أساس عملية تحقيق للديمقراطية ونزع للسلاح.
وما دام العالم العربي يتسلح، وما دام يوجد فيه نظم وحكام من نمط الأسد والقذافي – اللذين هما أسوأ من صدام حسين، وعلى الأقل الأسد أخطر منه – فإنه ليس من المنطق، ولا يجوز، إعطاء أية قيمة لوضع سياسي قائم على سلام رسمي.
لقد برهنت الحرب في الخليج مرة أخرى، لمن كان ما زال بحاجة إلى برهان كهذا، على أن كل من يعزو أهمية حقيقية – مهما تكن – لـ"المشكلة الفلسطينية"، فإنه يساعد فقط في زعزعة الاستقرار، ويقدم وسيلة إضافية لكل معتد. لقد اصبح واضحاً منذ فترة طويلة أن مصير عرب أرض – إسرائيل هو آخر ما يهم الحكام العرب كافة. لكن "ولاءهم" لهم يُستخدم ذريعة مدهشة لبناء آلات حرب جبارة على حساب الشعوب العربية الغارقة في فقر مدقع، وأيضاً لإقامة "نظم طوارىء"، وخنق كل خصم داخلي.
ومن هنا، فإن كل تنازل لـ"الفلسطينيين" ليس أنه لن يخفف الوضع فقط، وإنما سيجعله أشد حدة أيضاً. ويجب أن نتذكّر أن الدول العربية انقضّت، جميعها، على إسرائيل لإبادتها عندما كانت لا تزال ضمن حدود 15 أيار/مايو 1948، أي قبل أن "تضم" إليها "المناطق المحتلة" الأصلية – القدس (الغربية)، الممر [المؤدي إلى القدس]، يافا، الجليل الغربي والأوسط، بئر السبع، عسقلان، أشدود – والنقب الأوسط والجنوبي.
وهكذا وصلنا إلى الوضع المرعب، المذهل، الذي فيه تحتل دولة عربية دولة عربية (شقيقة) أخرى، وعندما تتعرض للهجوم، تبادر إلى شن حرب على إسرائيل. ولا يوجد أي عاقل يشك الآن في أننا حتى لو كنا خضعنا للضغوط وسمحنا بإقامة دولة فلسطينية ثانية، بالإضافة إلى الأردن، في أرض – إسرائيل، فإن صدام حسين ما كان سيتردد في إطلاق صواريخه علينا، لمحاولة الوصول إلى ما كان يريد الوصول إليه.
لذلك، فإن أي تنازل نقدم عليه لن يقلل، ولو بمقدار ذرة، من إمكان وخطر التهديد الموجه إلينا من جانب أية دولة عربية يحكمها، أو سيحكمها، شخص من نمط عبد الناصر أو الأسد أو صدام أو القذافي. وأكثر من ذلك: إن هذا لن يؤدي إلا إلى إذكاء نار العدوانية، ويزيد في فرص الحرب، وقبل كل شيء داخل العالم العربي.
ومن ثم، فإنه إذا وضعت "المسألة الفلسطينية" على رأس جدول أعمال الوزير بيكر، أو جدول أعمال علاقتنا بواشنطن، فإن هذا لن يكون بمثابة إعطاء جائزة لصدام حسين أو وارثه فحسب، وإنما سيؤدي أيضاً إلى صرف الجهد عن الطريق الصحيح من أجل إيجاد الأوضاع لاستقرار إيجابي في المنطقة، وسنعود إلى الطريق السياسي المغلوط فيه وقصير النظر، الذي قادنا حتى الآن إلى مصائب، وسيقودنا في المستقبل إلى كوارث أكيدة أشد ضرراً.
عندما لم تصغِ صديقتنا الولايات المتحدة إلى نصيحتنا، بعد أن طردنا م. ت. ف. وياسر عرفات من لبنان، دفعت ثمناً فادحاً نتيجة ذلك، وهذا ما فعله أيضاً لبنان الممزق والمفتت. يجب أن يتوقف انشغال الإدارة الأميركية الغريب والمهووس، وانجرار حكومات إسرائيل أيضاً وراءها، بالمسألة "الفلسطينية" وبمسألة "السلام" بدلاً من إيجاد الأساس الضروري للاستقرار والسلام الحقيقي؛ وهو الشرق المسبق والأساس الوحيد، لأنه يعني مفاوضات وحلولاً للمشكلات القائمة بيننا وبين عرب أرض – إسرائيل.
إن هذا الأساس وواضح، وبديهي أيضاً لكل من لديه نظر سليم؛ وهذا ما يجب أن يملي جدول أعمال وجدول أولويات كل جهد سياسي، محلي ودولي، فيما يتعلق بالشرق الأوسط.
وأول ما يجب فعله هو نزع أنياب سوريا السامة برئاسة الأسد، وأنياب ليبيا برئاسة القذافي. وليس إلا مصادفة أن صدام بدأ الحرب قبل شبيهيه هذين.
ويجب أن نتذكر (...) أن عدو إسرائيل الأول، والتهديد الأكبر للسلام في الشرق الأوسط، كانا ويبقيان حافظ الأسد السوري.وترسانة صواريخه وأسلحته الكيماوية أكبر وأكثر تهديداً وأخطر من ترسانة زميله العراقي. ومن الواضح أنه يتطلع إلى شن حرب إبادة ضد إسرائيل. وحجته، هو أيضاً، "الخطر" الذي يتهدده – زعماً – من ناحيتنا.
لذلك، نقترح أن يحصل على ضمانات أميركية لتدخل عسكري فعال ضدنا، إذا أقدمنا على مهاجمته. وينبغي لنا أن نوضح أنه قبل أن يتم تحييد هذا التهديد المخيف والذي يحوم فوق رؤوسنا، فإنه لا يحق لأحد حتى أن يقترح علينا أن نعتبر الأسد شريكاً في أية مفاوضات. ومن الجدير بالذكر، أننا احتللنا هضبة الجولان في حرب دفاعية، ومن أجل أن نؤمن حماية لشمال إسرائيل ولمصادر المياه.
إن زوال التهديد العراقي، أو اقتلاعه، يجب أن يؤدي أيضاً إلى إيقاف سباق التسلح الجنوبي الذي تمارسه السعودية، وأيضاً مصر – بل تقليص قوتهما العسكرية أيضاً. وبذلك تتمكن مصر خاصة من أن توجه أخيراً الجزء الأكبر من المساعدات الأميركية إلى البناء الاقتصادي، بدلاً من التعاظم العسكري (...).
ومن الملائم أن يبدأ وزير الخارجية الأميركي بسؤال السعودية والعراق عن كونهما لا يزالان في حالة حرب مع إسرائيل. إذ ليس لديهما أية مطالب إقليمية أو غيرها منا. ولم يحدث قط أن هاجمناهما مع أنهما كانا شريكين دائمين ومخلصين في كل هجوم علينا، منذ قيام الدولة. وحقيقة أنهما في حالة حرب معلنة ضدنا منذ سنة 1948 يجب أن تدل على تشوه جذري وغير معقول، ويجب تقويمه قبل أن يصبح التحدث معهما ممكناً أساساً، أو السماح لهما بالمشاركة في عملية سياسية تخصنا أو تمسّنا.
ويجب، طبعاً، أن نوضح تماماً أننا لا ننوي التهرب من ترتيب العلاقات بعرب البلد. بالعكس، فهذه مسألة لا يتقدم عليها إلا ضمان وجودنا إزاء التهديد من جانب العالم العربي المعادي. لكن لا يجوز أن نفقد الترتيب الصحيح [للأولويات] أو أن نسمح حتى لأصدقائنا بالاستمرار في الانحراف (...) عن الترتيب المنطقي والحتمي والصحيح.
يجب، كما قلنا أعلاه، أن نبدأ إيقاف سباق التسلح وتصفية مخزون الأسلحة التي تراكمت في دول المنطقة كافة. والهدف هو خلق توازن عسكري بين إسرائيل وجيشها وبين مجموع الدول العربية وجيوشها، بحيث تصبح القوة العسكرية لكل طرف صغيرة، وتضمن قدرة دفاعية، لا هجومية. ويجب أن تكون الخطوة الفعلية الأولى، كما ذكر أعلاه، "تخفيضاً" كبيراً وفورياً لمخزون الصواريخ والأسلحة الكيماوية الموجودة في سوريا (...).
ويجب ضمان ألا تستطيع دول عربية أن ترفع من جديد رأس وحش من نمط عبد الناصر أو صدام أو الأسد. لذلك على الولايات المتحدة، كشرط حتمي وملحّ جداً، أن تعمل فوراً، بكل قوتها، كي تخلق في كل الدول العربية الواقعة تحت نفوذها، على الأقل، بداية عملية سير نحو الديمقراطية.
والخطوة الحتمية الثالثة هي إنشاء أجهزة تضمن إغلاقاً محكماً ومطلقاً لسبل نقل التكنولوجيا ووسائل بناء القوة العسكرية عامة، والقدرة على الإبادة الجماعية خاصة، لدول المنطقة.
ومثل هذا الإغلاق ممكن، وخصوصاً ليس صعباً، إذا استخلصت الولايات المتحدة وحلفاؤها الدروس من الحرب الأخيرة، وأظهرت تمسكاً بهذا الأمر، وعناداً ومثابرة وتعاوناً على شاكلة ما أظهرته مؤخراً.
كواكب شارون
ميرون بنفنستي، "هآرتس"، 11/4/1991
في أثناء سَيْر أريئيل شارون في حياته المهنية، السياسية والعسكرية، شكك كثيرون في صدقه وفي براعته في الاستراتيجية. لكن، يخيل إليّ أن أحداً لا يستطيع أن ينكر براعته في التكتيك، ومهارته في قراءة الخريطة، وقدرته على خداع العدو واستغلال نقاط ضعفه. وقد تجلت هذه الخصال مرة أخرى مؤخراً مع نشر "خطة الكواكب" المتعلقة بالاستيطان اليهودي داخل الخط الأخضر. وقد نشرت هذه الخطة (وليس مصادفة) يوم وصول وزير الخارجية بيكر إلى إسرائيل؛ وبحسبها، سيتم حتى سنة 1994 توطين 200 ألف يهودي في 20 موقعاً في الجليل والوسط والجنوب.
إن مركز الثقل في الخطة يتمثل في إقامة سبعة "كواكب" على امتداد الخط الأخضر (إلى الغرب منه)، في رقعة تمتد من جيب اللطرون إلى سهل يزرعيل [مرج ابن عامر]. وستقام في هذه الرقعة عدة تجمعات سكانية مدينية كبيرة، الهدف منها "خلق حاجز بين السكان العرب واليهود... لاستباق خطر توحد تجمعات سكانية عربية صغيرة حالية، ستتحول بمرور الوقت إلى مدن عربية كبيرة وقوية." ويظهر التدقيق في الخريطة أن جميع المستعمرات في الخطة ستقام على خط الهدنة، وستبنى البيوت المتطرفة تماماً على الخط الأخضر.
إن خطة الكواكب ليست جديدة. وهي قائمة في أساسها على الطموح إلى خلق "حاجر" بين السكان العرب الإسرائيليين في المثلث الصغير ووادي عارة وبين السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية، وإلى "وصل" [المستعمرات] اليهودية في المناطق [المحتلة] بالتجمع السكاني اليهودي الكثيف في السهل الساحلي. وبالإضافة إلى ذلك، تثير "كتلة" التجمعات السكانية العربية التي تخلق أغلبية عربية – إسرائيلية إلى الشرق من خط روش هعاين – كفار يونا – عارة، قلق مَنْ وضَعَ الخطة طامحاً إلى تفتيت هذه التجمعات بدق أسافين يهودية وسطها.
وتقوم خطة شارون على أساس جغرافي – مديني صلب. إنه يريد أن يخلق حلقة خارجية جديدة مشكّلة من مدن تابعة، توسع الكتلة الكثيفة من سكان المدن في محور أشدود – ناتانيا. وستبنى هذه المدن التابعة على هضاب صخرية، وسيضمن قربها من مراكز الاستخدام والتجارة والتسلية والخدمات الموجودة في كتلة غوش دان، نوعية حياتها وحسن سيرها اقتصادياً. ويلائم طابعها المديني استيعاب المهاجرين من الاتحاد السوفياتي ومواليد البلد الراغبين في السكن على بعد مسافة سفر معقولة من مراكز المدن.
لكن، ما شأن كل هذه الاعتبارات المدينية بالبعد السياسي، ولماذا اختار شارون توقيت نشر خطته مع زيارة بيكر ومع الجدل في شأن البناء في [المستعرات]؟ لا مجال للاعتقاد أن هدف شارون هو إثبات تمسكه بقرارات الحكومة. فالعكس هو الصحيح؛ إنه يريد أن يخلق حقائق جيو – سياسية بطريقة تجعل معارضيه يفغرون أفواههم دهشة؛ إنه يريد أن يمزق ستار المراوغات وتجاهل الواقع، الذي يتلفع به معارضو الاستيطان في المناطق [المحتلة]؛ إنه يرمق بابتسامة ساخرة الانشغال بعدد البيوت الجاهزة التي أُقيمت في ألون موريه، وبالمنازل العشرين التي أُقيمت في [مستعمرة] براخا على جبل جرزيم؛ ويضحكه أيضاً الجدل الحسابي فيما خصّ نسبة المهاجرين الذين استوطنوا في المناطق. فلينشغلوا جميعاً بـ"تكثيف" [المستعمرات]، بينما يخلق هو حقائق ستمحو الخط الأخضر كلياً؛ إنه ينفذ خطة لا يستطيع حتى أشد معارضي الاستيطان في الضفة الغربية إلا أن يباركها، لأنه "في غرب الخط الأخضر". وبذلك يحصل على تأييدهم لعملية ستخلق حقائق سياسية ارسخ كثيراً من بيت جاهز هنا وهناك في الضفة الغربية.
إن أميركيين (وأكثر من ذلك – إسرائيليين) يعارضون الاستيطان ويؤيدون "مناطق في مقابل السلام"ـ ينظرون إلى الخط الأخضر كأنه نوع من مضيق جبل طارق، يفصل بين إسرائيل – الأم (المتروبول) وبين مستعمرتها التي هي المناطق. وبالتالي، تبدو عمليات الاستيطان في المناطق [المحتلة]، في نظرهم، مقطوعة الصلة بالجسم الإسرائيلي. لكن شارون يعرف أن الخط الأخضر ليس إلا خطاً وهمياً عفا عليه الزمن، وأنه لا يوجد بين [مستعمرتي] أريئيل وكفار سابا أي عائق طبيعي لا يمكن اجتيازه، بل هناك عقدة نفسية فقط. والآن ينوي شارون حلَّ هذه العقدة.
إن كل واحد من الكواكب السبعة الجديدة سيقام قبالة كتلة [مستعمرات] (...)، ومع تطور هذه الكواكب ونموها ستتصل [المستعمرات] في طرفي الخط الأخضر بعضها ببعض وتشكل امتدامدً مدينياً متصلاً واحداً. مثلاً، مدينة موديعين مخططة على نحو يتيح تحول "[مستعمرات] كتلة موديعين" إلى ضواح للمدينة، التي مركزها قائم "في إسرائيل، على الخط الأخضر." هل يصدق أحد فعلاً أن هناك مغزى للخط الأخضر الذي يخترق تجمعاً سكانياً مزدحماً نسبياً؟ ماذا سيقول معارضو الاستيطان في هذا الواقع الجديد؟ هل مهاجر جديد يستوطن في إسرائيل تماماً على الخط الأخضر هو مواطن صالح، وذلك الذي يستوطن في الامتداد المديني نفسه على بعد كيلومتر واحد إلى الشرق منه، هو "عقبة أمام السلام"؟.
إن شارون يريد أن يخلق حقائق منسجمة مع نظرته الأيديولوجية. إنه يستخدم تكتيكاً يحيِّد خصومه، بإرغامهم على مواجهة واقع لا يتيح لهم الاستمرار في التشبث بشبكة المراوغات وتضليل الذات التي يحتمون بها: إنكم لا تريدون الروس في [المستعمرات]، إذاً ستحصلون عليهم في الكواكب. والنتيجة واحدة؛ ذلك بأن المسألة الحقيقية هي ليس أين يوطن المهاجرون، وإنما الحقيقة التي يخلقها مجرد مجيئهم إلى أرض – إسرائيل. ومغزى هذه الحقيقة واضح تماماً بالنسبة إلى العرب. من هو اليهودي الذي يجرؤ على أن يضع جمع الشتات في مواجهة الحل الوسط الإقليمي؟
كما ذكرنا أعلاه، شارون سيىء في الاستراتيجية: خطة الكواكب تبعد كل فرصة لتقليص الاحتكاك بين اليهود والعرب، وتقضي على أية محاولة للتفاوض. لكن شارون بنى سمعته على هذا الاحتكاك، وما دام قادراً على ذلك فسيعمل على تأجيج أواره.
نعم – لنظام جديد
غيئولا كوهين، "يديعوت أحرونوت"، 1/3/1991
إذا كنا حتى الآن حكمنا على أنفسنا – وهذا لم يكن حكماً منزلاً – بأن نؤدي دوراً متواضعاً، كي لا نقوض التحالف العسكري بزعامة الولايات المتحدة، فإنه ينبغي لإسرائيل الآن أن تقوض أي تحالف لإيجاد نظام جديد في المنطقة، بزعامة الولايات المتحدة، إذا كان هذا سيتطلب منا دوراً متواضعاً من ناحية سياسية.
إنني لست ساذجة لأعتقد أنه لم تكن خلف هذه الحرب مصالح اقتصادية – سياسية (...) لكن لولا الحسّ الخلقي لما كانت الولايات المتحدة استطاعت أن تفرض على العراق الانسحاب من الكويت، وبذلك انتصرت في الحرب في المنطقة.
وإذا كان صَدَق من قال إن السياسة استمرار للحرب، لكن بوسائل أخرى، وإذا كانت الولايات المتحدة تريد حقاً الانتصار في معركة السلام في المنطقة، فإنه ينبغي لها بالحس الخلقي نفسه، ولكن أيضاً بوسائل أخرى، أن تفرض الآن على الدول العربية التخلي عن مطالبها الإقليمية من دولة إسرائيل.
لقد احتاجت الولايات المتحدة إلى وقت أطول من اللازم لتفهم وتقبل الشرط المسبق، الذي طلبت إسرائيل منها قبوله: م. ت. ف. – ولو تحت أي قناع تنكري – ليست شريكاً في المفاوضات. وإذا أرادت الولايات المتحدة الآن أن تضمن تحقيق السلام في المنطقة، فينبغي لها ألا تضع يوماً آخر كي تفهم وتقبل الشرط الحاسم والجوهري، الذي يجب أن تضعه إسرائيل قبل أية مفاوضات بشأن السلام، وهو قبول الدول العربية، التي تُعْتَبَر م. ت. ف. مجرد أداة في أيديها، بحدود دولة إسرائيل الحالية، من البحر إلى نهر الأردن.
إن قبول هذا الشرط سيقرب عملياً أيضاً حل المشكلتين المصطنعتين، اللتين تزعجان المنطقة – مشكلة الشعب "الفلسطيني" ومشكلة الدولة "الأردنية":
أ - بدلاً من انتخابات في "المناطق"، يشارك عرب يهودا والسامرة في انتخابات في دولة فلسطينية في الأردن، عاصمتها عمان، مع كل ما يترتب عن ذلك من حقوق وواجبات لهم وعليهم، بصفتهم مواطنين أردنيين.
ب - باستثناء جميع سكان مخيمات اللاجئين، الذين يجب أن تتم إعادة تأهيلهم خارج حدود إسرائيل (...)، فإن عرب أرض – إسرائيل الذين يعيشون الآن في يهودا والسامرة يستطيعون العيش، كل تحت كرمته وشجرة تينه بأمان وهدوء، ما داموا يسلمون بحكم دولة إسرائيل وسيادتها.
هذا، طبعاً، إذا كانت الولايات المتحدة تريد الوصول لا إلى مفاوضات بشأن السلام فحسب، وإنما أيضاً إلى وضع سلام...
الإجماع الحقيقي
أوري أفنيري، "هآرتس"، 17/5/1991
بحسب استقصاءات الرأي العام، فإن الشعب الإسرائيلي ليس يمينياً وليس يسارياً، بل هو مجنون. إنه مستعد، بأغلبية كبيرة، أن يتفاوض مع م. ت. ف. وهو يريد أيضاً – مرة أخرى بأغلبية كبيرة – أن يطرد العرب من البلد. وفعلاً، فإنه مجنون من يريد أن يفاوض م. ت. ف. في شأن طرد العرب.
في إحدى الأمسيات، تحدثت مع شخص معروف في مجال الاستقصاءات، ووجدته مرتبكاً؛ إنه لا يفهم نتائج استقصاءاته؛ إنه يعرف أن هناك خطأ ما. لكن ما هو؟
إنني بعيد جداً عن أن أكون من المتعصبين لاستقصاءات الرأي العام في إسرائيل. فهي لا تتمتع بالاحترام الذي تتمتع به استقصاءات الرأي في الولايات المتحدة. إنْ لم نقل في ألمانيا (...) وهناك أسباب وجيهة لعدم الثقة بها. لكنني واثق بأن النتيجتين المذكورتين أعلاه تعكسان، إلى حد ما، الرأي العام بصورة صحيحة. إذاً، ما هو تفسير التناقض البادي فيهما؟
ليس هناك تناقض. فالإجابتان متناقضتان ظاهرياً، لأن الأسئلة مغلوط فيها. إن الذين يجرون الاستقصاءات يصوغون الأسئلة بحسب الكليشيهات المتداولة في عالم السياسة والإعلام. لكن الشعب الإسرائيلي يعيش في عالم آخر، لا يوجد فيه تناقض بين الاستعداد لإجراء مفاوضات مع م. ت. ف. وبين حلم الترانسفير. ويوجد هنا منطق دفين في تسلسل الأمور. ولو عرضت الأسئلة عرضاً صحيحاً، لجاءت الإجابات على النحو التالي:
- إن الأغلبية الساحقة، في الجمهور اليهودي في إسرائيل، البالغ سن الرشد، تريد دولة يهودية، فيها أقل ما يمكن من غير اليهود.
هذا هو الطموح الأول، الأسمى، الذي يتغلب على كل الشعارات الأيديولوجية، مثل: أرض – إسرائيل الكاملة، والسلام الآن، و[المستعمرات]، وسلام في مقابل مناطق.
- إذا كان في الإمكان تحقيق هذا الطموح بطرد العرب، فهذا أمر جيد. والأغلبية مستعدة لذلك.
- إذا كان من غير الممكن تنفيذ الترانسفير، فمن الأفضل التنازل عن "المناطق" وعن سكانها أيضاً. فلتذهب المناطق، وليذهب سكانها. دولة فلسطينية، فدرالية، ما يشاؤون. المهم ألا يوجدوا في دولتنا.
وبما أن الشعب ليس أحمق، فإنه يعرف جيداً أن الترانسفير حلم غير قابل للتحقيق، لكن يمكن تجسيده فقط – إذا افترضنا أن ذلك ممكن أصلاً – عن طريق حرب قاسية طويلة، تبدو إسرائيل فيما كما لو كانت تدافع عن بقائها، كما حدث سنة 1948. وما عدا ذلك، فإن العالم سيهب ويوقف الجريمة وهي بعد في مرحلتها الأولى. وسيتخلى أصدقاء إسرائيل عنها، وسيصاب يهود العالم أيضاً بالصدمة. ولن يكون لردة فعل العالم إزاء طرد الأكراد أية أهمية قياساً بما سيحدث عندئذ. وستكون هناك أقلية صغيرة فقط في إسرائيل مستعدة لدفع ثمن الحرب في عصر الصواريخ الكيماوية.
وإذا حذفنا هذا الخيار لا يبقى إلا خيار واحد: إعادة المناطق مع سكانها. كيف؟ إلى من؟ الكل يعرف أن الطرف الآخر هو م. ت. ف.، بصورة أو بأخرى؟
ولا علاقة لذلك بـ"السلام الآن"، أو بـ"اليسار". إن معظم الجمهور الذي يريد التخلص من المناطق لم يتوصل إلى ذلك من خلال الإيمان بالسلام. لكنه مشمئز من الوضع الراهن. وهو لا يريد مليونين ونصف المليون من العرب في دولته. وهو مستعد (بصعوبة) للتسليم بوجود الأقلية العربية التي تعيش في إسرائيل، لأنه لا يوجد أمامه خيار آخر. لكنه ليس مستعداً لأكثر من ذلك.
هذا هو الإجماع الحقيقي – إنه ليس جميلاً بصورة خاصة، وليس خلقياً بصورة خاصة، ولا ينسجم مع أي تعريف أيديولوجي.
وكل ضحية تزيد في غضب الجمهور اليهودي على "المخربين"، وعلى الفلسطينيين عامة، وتعزز أيضاً هذا الإجماع، لأن مصدر الإجماع ليس الحب، وإنما ضرورة وضع نهاية لذلك. ومن ثم، فإن بيكر – شميكر، نعم للمؤتمر لا للمؤتمر، [المستعمرات] أو الاستقلال الذاتي، كلها لا تساوي في نظر الجمهور قشرة ثوم. وشمير – شارون – آرنس لا يمثلون إلا جمهوراً هامشياً، كما أن "السلام الآن" تبدو للجمهور كثلج السنة الماضية.
إنهم ببساطة يريدون نهاية. يريدون حلاً. يريدون أن يحيوا بهدوء، يهود وسط يهود. ولينطبخ الفلسطينيون بمرقهم في مناطقهم، وليهتم الجيش بأمننا، وليكن مستعداً لخبطهم على رؤوسهم إذ لزم الأمر.
هذا هو الإجماع، ولا يوجد حزب يمثله؛ ولا يوجد زعيم يعبر عنه؛ ربما دافيد ليفي يحس به، بهوائياته، وربما إيلي لنداو يحس به أيضاً. ولو كان حزب العمل موجوداً فعلاً، لربما كان حاول أن يركب هذه الموجة. لكن، حتى في نظامنا السياسي المشوه، فإنه عندما يوجد إجماع سيجد في نهاية المطاف القناة السياسية لتحققه: ربما في اليمين، ربما في اليسار، أو ربما بإنشاء قوة [سياسية] جديدة...
العمق أساس الأمن
أريئيل شارون، "يديعوت أحرونوت"، 26/4/1991
إن القول أن أهمية العمق في عصر الصواريخ تضاءلت أو بطلت، خطأ خطر. وينبغي لرئيس أركان الجيش الإسرائيلي أن يبدي تقديره المهني في شأن قيمة مناطق السامرة ويهودا وغزة بالنسبة إلى الدفاع عن مراكز إسرائيل.
هل هذه المناطق ضرورية لأمن دولة إسرائيل، وحيوية لضمان سلامها وسلامتها الإقليمية، أم أنها غير ضرورية؟ وقد حان الوقت لأن يتحدث المسؤولون عن هذا الأمر بوضوح.
ما أقصده هو أن على رئيس الأركان أن يحدد الخط الذي يستطيع الجيش منه، إذا كان في حالة استعداد عندما تبدأ الحرب، أن يحمي البلد من الاحتلال – أي من غزو قوات العدو البرية لمناطق القدس، وتل أبيب، وبئر السبع، وحيفا، والسهول الداخلية الشمالية، وأصبع الجليل، وكريات غات، وعسقلان، وأشدود. أي حماية مراكز البلد، التي تقع داخل الخط الأخضر.
وليس قصدي محاضرات وتقويمات فيما يتعلق بالوضع والتطورات السياسية العالمية والإقليمية، أو نصائح في شأن الطريقة التي يمكن بها التقليل من خطر الحرب، أو تأجيل وقوعها. إن المشكلة بسيطة، وهكذا يجب أن تكون الإجابة أيضاً.
عندما نفترض أن هناك مشكلة أمن، فمعنى ذلك أننا نفترض أن من الممكن أن تنشب حرب. ويمكن للترتيبات الأمنية أن تخدم هدف التقليل من خطر نشوب حرب، لكن الهدف من ورائها، أولاً وقبل كل شيء، هو ضمان أن في إمكان الدولة عندما تقع الحرب، أن تدافع عن نفسها وتمنع احتلال أراضيها أو تدميرها. ومهمة الجيش هي أيضاً أن يردع العدو عن شن الحرب، لكن قبل كل شيء أن يضمن سلامة إسرائيل الإقليمية عندما تنشب الحرب. وبالتالي، ما هو الخط الذي يجب أن يوجد الجيش فيه مستعداً لملاقاة جيوش عربية تقدم على مهاجمته.
والمقصود بذلك خط تنتشر القوات فيه من أجل الدفاع – وتلقائياً، مساحة خلف هذا الخط تكون لحظة نشوب القتال تحت سيطرة الجيش المطلقة والراسخة.
وأيضاً نحن لا نبحث في مسألة نزع السلاح، وطابعه، ووجوده أو قيمته؟ فمن الضروري أن نبحث في وضع تم فيه خرق نزع السلاح – إنْ كان موجوداً – ولم يعد قائماً.
ولا نستطيع الاستمرار في الدوران في حلقة مفرغة فيما عنى هذا الأمر المركزي الحيوي.
إلى أن حدثت خيانة حزب العمل لـ"مشروع آلون"، وقبل ظهور الكبار "المرنين" أيضاً في الليكود، لم يكن هذا السؤال موضوعاً للنقاش. فقد كان واضحاً تماماً، حتى لمن يفتقر إلى الخبرة، أن الخطر الرئيسي والأكبر على إسرائيل (طبعاً، بعد خطر الإبادة الكاملة بواسطة سلاح غير تقليدي) ليس خطر الإصابة بنيران بعيدة المدى بواسطة صواريخ أو طائرات، وإنما خطر الاحتلال الفعلي لأراضي إسرائيل من قبل قوات العدو البرية. وقوة الجيش الرئيسية – ومعظم النفقات الأمنية – موجهة إلى هذا الغرض: كل القوات الميدانية التابعة للجيش وأيضاً الجزء الأكبر، إنْ لم يكن الحاسم، من القوة الجوية.
ولذلك، قبل الجميع كأمر مسلم به أن على الجيش أن يوجد عند نهر الأردن، وأيضاً أن يسيطر على أعالي الجبال، وطبعاً أيضاً على محاور الطرق الرئيسية المتجهة من السهل الساحلي إلى غور الأردن.
وعندما أقول "الجميع" أعني بذلك هيئات الأركان ورؤساء الأركان، وجميع وزراء الدفاع ورؤساء الحكومة (هذا إذا لم نذكر، مثلاً، أيضاً الوزير السابق آبا إيبن، الذي كان دقيقاً في قوله عندما وصف الخط الأخضر بأنه "حدود أوشفيتز" [معسكر لإبادة اليهود في بولندا في أثناء الحرب العالمية الثانية]). ولا أتحدث هنا عن أقوال وتصريحات فقط، وإنما أيضاً، وفي الأساس، عن خطط عملياتية، كما وضعت وكما طبقت، وكما تطبق الآن.
وعندما يجيب رئيس الأركان على كل هذا – ولا شك لدي في أن إجاباته ستكون دقيقة ومستندة فقط إلى الحقائق العملياتية وإلى الخطط كما هي – سندرك كم هو سخيف، وبلا أساس، الادعاء العجيب الذي بحسبه لا أهمية للمناطق والعمق في "عصر الصواريخ".
إنني لا أشك في أن كل هؤلاء الأشخاص – من اليسار إلى "المرنين" في الليكود – الذين من خلال الجهل، وانعدام المسؤولية أو الطموح الشخصي الأعمى، يتنافسون في إطلاق تصريحات التأييد والولاء لكل اقتراح أو موقف عربي – أميركي (وأحياناً حتى قبل طرحه رسمياً أو توضيحه)؛ لا أشك في أنهم سيسارعون على الفور إلى شجب هذا المطلب ووصفه بأنه "تسييس" لرئيس الأركان وللجيش.
وسيكون هذا، طبعاً، نفاقاً ما بعده نفاق، وذراًَ للرماد في العيون. إن رئيس الأركان لن يكون مطلوباً منه إبداء موقف سياسي، وإنما تقديم معرفة فنية، لا يوجد ما هو أكثر حيوية لنا منها. وطبعاً، سيكون مطلوباً منه إبداء حججه وشرح أقواله، على أساس فني فقط: مذاهب القتال، تحليل طبيعة الأرض وطرق عمل العدو، وما شابه ذلك.
ليس أن مثل هذه التقويمات الفنية الموثوق بها غير موجود، وهذا ما جعل الجنرال سكوكروفت يمتنع من أن يشرح لنا، وللجميع، إلى أي حدٍّ العمق الأمني – الاستراتيجي ليس مهماً – طبعاً، فيما يخص إسرائيل وحدها. إنه، كما يبدو، ليس مطلعاً على الحجج التي بررت بها الولايات المتحدة، وتستمر في تبرير، وجود معظم قواتها البرية في أوروبا – للدفاع عن الولايات المتحدة. وهو أيضاً، كما يبدو، ليس مطلعاً على الادعاء التقليدي لجميع قادة حلف الأطلسي، بأن المشكلة الأخطر بالنسبة إليهم (على الأقل قبل التغيرات الأخيرة) هي ضيق الجبهة (shallowness of the front) – من 200 كلم إلى 400 كلم فقط!
وهو بالتأكيد ليس مطلعاً – أو لا يريد أن يطلع – على الخريطة أدناه، التي تحدد فيها أعلى هيئة في الجيش الأميركي ("رؤساء هيئات الأركان المشتركة") الخطوط والمناطق الحيوية للدفاع عن تل أبيب وباقي المناطق الحيوية في إسرائيل – داخل الخط الأخضر.
ولأغراض الحرب في أوروبا في عصر الأسلحة الحديثة – كما هو الأمر في نظر القادة الكبار في الجيش الأميركي – مطلوب عمق أكثر، أو أكثر كثيراً، من أجل التوصل إلى المقدار نفسه من الأمن. وهم أيضاً الذين يقولون إن الخطر الأكبر والأفدح، على الأقل في حرب تقليدية بخطوط برية، هو خطر الاحتلال من جانب قوات العدو البرية. وعلى الرغم من "الرأي" العجيب الذي أعرب سكوكروفت عنه، فإنه المعايير الحسنة بالنسبة إلى الولايات المتحدة وأوروبا هي حسنة للأغراض نفسها أيضاً بالنسبة إلى الدفاع عن إسرائيل.
أو، كما قال وزير الدفاع السوري طلاس في كتاب له: "إن المهمة الأساسية في تحقيق النصر النهائي على العدو الصهيوني ستنفذها القوة الضاربة الأساسية للقوات البرية – أي القوات المدرعة."
إن تجاهل خطر الصواريخ، صواريخ أرض – أرض والصواريخ التي تُطلق من بعيد من سفن أو طائرات – هو انعدام مطلق للإحساس بالمسؤولية. لكن الأخطر من ذلك أضعافاً مضاعفة، هو تجاهل حقيقة أن الخطر الأكبر والأفدح هو القوات البرية، التي تهاجم وتحتل.
والجيش أيضاً لا يخفي تقديراته؛ إنها تظهر، مثلاً، في نشرة رسمية للناطق بلسان الجيش الإسرائيلي، صدرت في نيسان/أبريل 1990، وموضوعها
"الأهمية الاستراتيجية ليهودا والسامرة:
"وفي حدود ما قبل 1967 لا يمكن الدفاع عن إسرائيل من ناحية عسكرية...
إن الدفاع عن هذه المنطقة (السهل الساحلي) ضد جيش عصري أمر مستحيل تقريباً... إن حدود ما قبل 1967 لا تمكن من احتواء اختراق معاد عندما تكون المبادرة في يده.. وهجوم مفاجىء تقوم به قوات مدرعة على حدود ما قبل 1967، يمكن أن يقسم إسرائيل إلى نصفين، في أقل من ساعة واحدة."
وفي الختام: "في التحليل النهائي، فإن الضمانة الأكيدة الوحيدة لأمن سكان إسرائيل هي وجود إسرائيل العسكري في يهودا والسامرة" (النشرة تعالج موضوع يهودا والسامرة فقط).
ولن يتوفر لدينا الأساس الضروري لتفحص قيمة أي سلاح، وللحكم على القيمة الحقيقية لفعالية أية ترتيبات أمنية وضمانات مقترحة، إلا بعد أن نعرف معرفة واضحة ودقيقة، أين يعبر الخط الذي إذا لم نتمسك به سنعرض كل مرتكز إسرائيل لا للدماء فقط، وإنما أيضاً لما هو أسوأ: للاحتلال.
لذلك نطلب سماع وجهات نظر الجيش الفنية والمحدَّثة، والمعللة والمشروحة. وكلما تم ذلك أبكر كان ذلك أفضل.
العمق فيها وراء الحدود
رد على مقال شارون "العمق أساس الأمن"
ألوف هار إيفين، "يديعوت أحرونوت"، 3/5/1991
إن أصعب وضع استراتيجي بالنسبة إلى إسرائيل هو عندما تحشد عدة دول عربية جيوشها في تحالف عسكري على طول الحدود. هذا ما حدث في 1948 و1967 و1973. وبالتالي، فإن من الطبيعي أن يطمح المخططون لأمن إسرائيل إلى أن يضيفوا إلى القوة العسكرية بُعداً آخر يعزِّز أمنها، وهو العمق الاستراتيجي.
يُفترض أن يشكل العمق الاستراتيجي، إضافة إلى مساحة إسرائيل الضيقة، وفي الأساس في المنطقة الواقعة بين البحر المتوسط ونهر الأردن. وهذه هي النظرة التي اشتق منها، منذ سنة 1967، مفهوم نهر الأردن كحد أدنى – أي، فلنبعد الخطر إلى الشرق من تل أبيب والقدس، عدة كيلومترات وحتى نهر الأردن.
لكن هذه النظرة سلبية وضيقة في أساسها؛ ذلك بأنها تفترض أننا سننتظر إلى أن تُحشد آلاف الدبابات وآلاف المدافع العراقية والسورية والأردنية والخاصة بدول أخرى، على امتداد نهر الأردن، وعندها نجابهها شرقي النهر أو غربيّه.
وفي الحقيقة، فإن هذه نظرة تقادمت، إذ إنها تعود إلى نحو عشرين عاماً خلت، لأن مفهوم العمق الاستراتيجي طرأ عليه تغير متناقض ظاهرياً. لقد بدا أن إسرائيل تمتلك عمقاً استراتيجياً عندما كان الجيش يتمركز على ضفاف قناة السويس، وبينه وبين تل أبيب والقدس 300 كيلومتر. لكن هذا العمق لم يمنع حرب الاستنزاف خلال 1969 – 1970، وحرب يوم الغفران [1973] التي كلفتنا حياة 2800 جندي خلال 18 يوماً.
وفي مقابل ذلك، فإنه منذ سنة 1979 حَوّل السلام مع مصر سيناء إلى عمق استراتيجي مهم لإسرائيل: ذلك بأن سيناء خالية في معظمها من الجيش المصري، وتفصل بينه وبين الجيش الإسرائيلي مسافة 200 كلم. وتشرف على تجريد سيناء من السلاح قوة دولية، تقوم الولايات المتحدة بدور رئيسي في تشغيلها. وكونها مندمجة في هذا الاتفاق يوفر استقراراً طويل المدى.
إن هذا العمق الاستراتيجي يمنح إسرائيل عدة مزايا، منها: أولاً، يتيح لها المحافظة على هذا الخط بعدد قليل من القوات، إذ لا توجد قبالتها قوات يمكن أن تشكل تهديداً واضحاً للدولة؛ ثانياً، تمنح الجيش فسحة للإنذار والعمل، في حال خرقت مصر الاتفاق وأدخلت قوات عسكرية إلى سيناء. وسيناء اليوم نموذج لمنطقة عازلة تمنح إسرائيل عمقاً استراتيجياً، حتى لو لم تكن تحت سيطرتها المباشرة.
ومن دون أن تنتبه أغلبية الشعب في إسرائيل لذلك، تحول الأردن منذ سنة 1967 إلى منطقة عازلة استراتيجية بيننا وبين الدول العربية. والجيش الأردني، في حد ذاته، أصغر من أن يشكل خطراً استراتيجياً على إسرائيل. ويمكن أن ينشأ مثل هذا الخطر فقط إذا دخلت جيوش عربية كبيرة، مثل الجيش السوري أو العراقي، أراضي الأردن.
لذلك، فإن الحد الأمني الحقيقي لإسرائيل (خلافاً للحد السياسي) ليس نهر الأردن، وإنما هو حدود الأردن مع سوريا والعراق والعربية السعودية. وما دامت جيوش عربية لم تعبر هذه الحدود، فلا يوجد خطر استراتيجي على أمن إسرائيل من ناحية الأردن. وإذا عبرتها فعلاً، فإن النظرة الأمنية الإسرائيلية تقول إننا لن ننتظر إلى أن تصل إلى نهر الأردن وإنما سنضربها بشدة وهي في بداية الطريق، وفي الأساس بواسطة سلاح الجو.
وبالنسبة إلى هذا الموضوع، إذاً، فإن نهر الأردن لا يقوم بدور حاسم – لا كحد أمني ولا أيضاً كقاعدة ستنطلق منها القوة لتحقيق الحسم؛ ذلك بأن القوات التي يفترض بها أن تحقق الحسم ستنطلق من قواعد سلاح الجو.
ومنذ سنة 1970، هناك مصلحة مشتركة بين الأردن وإسرائيل، وهي أن تبقى هذه الدولة دولة عازلة، لا تسمح لأي جيش بدخول أراضيها... وقد استمرت إسرائيل والأردن، سواء بسواء، في التمسك بها في أثناء حرب الخليج.
ومن ثم، فإن نهر الأردن كحد أمني ليس هو ما سيستمر في منحنا عمقاً استراتيجياً، وإنما دولة الأردن كدولة عازلة فيما وراء النهر. إن المصلحة المشتركة الموجودة منذ أكثر من عشرين عاماً يجب أن يجري الآن ترسيخها باتفاق سلام مع الأردن، على غرار الاتفاق مع مصر؛ اتفاق يلتزم فيه الأردن، بوضوح، عدم السماح بدخول قوات أخرى أراضيه، وتشرف قوة دولية، تكون الولايات المتحدة أساسية في تشغيلها، على تطبيقه.
لكن اتفاق سلام مع الأردن ممكن إذا عُقد اتفاق سلام مع الفلسطينيين، وحُلت مشكلة المناطق [المحتلة].
ومشكلة المناطق يمكن حلها، كمشكلة استراتيجية، إذا تخلينا عن الصيغ القديمة واستبدلناها بصيغة تمنحنا عمقاً استراتيجياً فيما وراء الحدود بواسطة مناطق عازلة، تشكل المحافظة عليها مصلحة بعيدة المدى للطرفين، بمشاركة الولايات المتحدة.