The Need for Cultural Renewal in the Arab World
Keywords: 
البلاد العربية
الثقافة العربية
الثقافة
التعددية الثقافية
العلمانية
الديمقراطية
Full text: 

     بعد كل هزيمة عربية كبرى، وبعد كل انفجار جائح لما يبدو أنه رغبة جماعية عارمة في تدمير الذات، تنطلق في العالم العربي دعوات تقول بضرورة التصالح مع العصر الحديث. وتتوالى هذه الدعوات بالوتيرة المضنية ذاتها التي تتوالى الهزائم بها. لكنها، على الرغم من تكرارها، لم تفقد شيئاً من راهنيتها وإلحاحها وخصوصاً بالنظر إلى الدمار الرهيب الذي لحق  أخيراً بالكويت، وكردستان، والعراق.

              لا شك في أن الفجوة بين العرب والعالم المتقدم هائلة الاتساع، وهي تزداد اتساعاً ساعة فساعة. ويبدو أنه كان من نتيجة ذلك أن سيطر على المخيلة العربية ضرب من ضيق الذرع بمجريات الدنيا. ويتبدى ذلك أكثر ما يتبدى في الغياب الملحوظ للتاريخانية عن الفكر العربي المعاصر، وكذلك في التوق إلى الحلول المتسرعة وإلى محاولات ابتسار التاريخ. غير أن هذه المحاولات تؤدي حتماً إلى عكس المقصود منها، دافعة العالم العربي بتسارع أكبر إلى قعر الهاوية. هكذا، تجدنا نحاول اختصار التاريخ بدعم أنظمة سلطوية وأخرة سلطانية، أملاً بأن تستطيع مركزياً تحقيق الوحدة الداخلية لبلادنا، فننتهي بدلاَ من ذلك إلى التحديق في احتمالات البلقنة واللبننة..وتجدنا نحاول تسريع التاريخ بتبني الحلول البسماركية لمشكلة التشتت العربي، فننتهي إلى جريمة  احتلال الكويت وما نجم عنها من تشرذم واقتتال للإخوة مريع، الأمر الذي سيكون له في المستقبل آثار كارثية في قضية الوحدة العربية، أفدح ضرراً من أية مؤامرات امبريالية، حقيقية أم متخيلة. أكثر من ذلك، تجدنا نحلم بأبطال يصنعون التاريخ بضربة رائعة تلو أخرى، لا لشيء إلا لننتهي إلى طبول تاريخ جوفاء كالقائد العراقي الذي لم تسعفه ساعة الهزيمة الساحقة المذلة حتى شجاعة الاستقالة.

              يبدو أن العالم المعاصر تصوغه وتشكله وجهتان متناقضتان ضمن الرأسمالية الراهنة: الأولى إدماجية، بمعنى أنها تميل إلى إدراج المزيد فالمزيد من بقاع العالم في النظام الرأسمالي. أما الثانية، فطاردة من حيث أنها تدفع إلى تهميش وإفقار، بل سحق الجزء الأكبر من البشرية القاطن في الدول المتخلفة. ويبدو أن هذه الوجهة الأخيرة انتصرت فأصبحت غالبة مسيطرة تدفع شعوباً كالعرب، ومناطق كالشرق الأوسط، عدا بضعة أقطار شحيحة السكان منتجة للنفط، إلى دوامة يأس وقنوط. ولعل من المتناقض، في ظاهر الأمر، أن الفرار من هذا المصير البائس رهن بدفع الوجهة الإدماجية وتعزيزها عبر التحديث بعزم وتصميم.

غير أن احتضان العصر الحديث، من دون أي لبس أو غموض، عملية هي بالضرورة تاريخية طويلة؛ ذلك بأنها مشروطة ببناء أسس تقاليد ثقافية مغايرة، بل معادية، للتقاليد الثقافية السائدة، فواقع الأمر أننا إذا أردنا ألا نظل نسحق تحت الأقدام، توجب علينا، عبر تجديد ثقافي شامل وناجز، أن نحتضن كمنظومة متكاملة العلمانية والإنسانوية والعلم والتعديدة والديمقراطية. ليس في وسعنا أن نظل إلى الأبد نختار بانتقائية بائسة عنصراً أو آخر من عناصر العصر الحديث، تاركين جانباً عناصر أخرى، مفضلين منحى ومشيحين عن مناح بدعوى أنها لا تتفق مع تقاليدنا ونظم قيمنا الموروثة. الحق أن العصر الحديث كل متكامل، منظومة لا مناص لنا من تبنيها بكليتها وشمولها.

ومن الواضح أنه إذا كان سيتوفر لمثل هذه العملية أدنى حظوظ النجاح، فلا بد من أن تُبنى على صدام واضح وعنيد على المستوى الثقافي مع الإسلام السياسي، وكذلك مع الاتجاه شبه الفاشي ضمن القومية العربية. وفي تقديري أن هذين التيارين ليسا سوى تعبيرين عن الارتداد عن العالم المعاصر، بفعل الألم الذي تسببه محاولة التناغم والتوافق مع أنظمة قيم غير مألوفة. ولا شك في أن في السهولة  التي يتنقل العرب بها اليوم من تبني أحد هذين التيارين إلى تبني الآخر سبيلاً إلى الخلاص, دليلاً على أواصر القربى بينهما. كما أن في مزج صدام حسين للنداءات القومية العربية بالدعوة إلى الجهاد، دليلاً آخر على ذلك. لكن إذا كان هذان التياران، بمعنى من المعاني، صرختَيْ إحباط، فإنهما في أحسن الأحوال لا يقدمان غير حلول وهمية مخادعة، ويؤديان في أسوئها إلى هزائم نكراء نوقعها بأنفسنا، وذلك أمر تقدم تجارب تاريخنا الحديث أدلة وافرة عليه. الحقيقة البسيطة هي أننا إذا أردنا أن نعيش في العالم المعاصر، لا أن نظل مهملين على قارعته، توجب عليها أن نضع حداً للانسحاب إلى الماضي والتقوقع فيه، وللتحرق إلى تاريخ كان مجيداً، لكنه تاريخ لم نصنعه بل صنعه أجدادنا، وكان في أية حال قصير الأمد.

              يعمد خصوم هذا النهج في العالم العربي، بحكم العادة، إلى شجبه بوصفه استسلاماً للغرب. غير أن في وسع المرء القول إنه، على العكس من ذلك، نهج الاستسلام لمنطق التقدم الإنساني. أكثر من ذلك، ليس الغرب فحسب ذاك الذي عرفه العرب جيداً: غرب الاستغلال، والتدمير، والقتل الجماعي، والرياء، والتآمر، والخديعة. إنه أيضاً غرب الاستنادة، والعقل، والعلم، والليبرالية، والفكر الاشتراكي.

فوق ذلك، كتب الكثير بشأن جدل الأصالة والتحديث، وتأوه كتاب كثيرون ألماً وهم يصارعون مسألة ما إذا كنا سنفقد أنفسنا بتبنينا طرائق حياة غريبة عنا. غير أن طرح المسألة بهذا الشكل يقوم، على ما يبدو لي، على فصام مضمر زائف. فمن جهة، الأغلب أن تؤدي أية محاولة لممالأة دعوات الأصالة إلى الاستسلام للوجهات الثقافية الانتكاسية السائدة، فيؤدي ذلك إلى رفض شمولية الفكر الإنساني، وقبول التمييز الخادع ما بين فكر محلي وآخر مستورد. ومن جهة أخرى، إذا أنجزنا التحديث نكون قد حققنا الأصالة في الوقت عينه؛ فما من أمة تتطور في فراغ تاريخي ثقافي. الحق أننا لن نستطيع، إلا بالتحديث، تحويل أنفسنا وتقاليدنا وتقديم مساهمة أصيلة متميزة إلى العالم الحديث.

ومن سوء الحظ أنه لا بد من التغلب على عقبة صعبة هي الارتباط، في الذهن العام العربي، ما بين التحديث وترهات الحكام، وخصوصاً ابتزاز الأموال العامة، لا لشيء إلا لإنفاقها على التوافه. ومن المفارقة أن هؤلاء الحكام أنفسهم يقفون في مقدم صفوف الدفاع عن التقاليد العريقة، في وجه هجمة الفكر المستورد الخطر.

غير أن الصراع من أجل العلمانية هو الذي يحتمل أن يكون الأشدّ والأصعب. ويبدو لي أن السلفيين هم الأكثر صدقاً وإخلاصاً بين خصوم العلمانية الكثيرين؛ فهم يذهبون إلى أن الإسلام دين ودولة في الوقت ذاته. لكن الإسلام، في الواقع، لا يقدم نفسه في القرآن الكريم كله إلا كدين توحيدي. وفوق ذلك، فإن موضوعة المماهاة بين الدين والدولة حديثة العهد، لم يطرحها أحد قبل سيد قطب، أول منظري حركة الإخوان المسلمين. أما أن يكون المسلمون بنوا دولاً إسلامية، فليس ذلك سوى مؤشر على ضرورة فصل إسلام التاريخ عن إسلام الدين: فالأول مشروط تاريخياً، ويمكن بالتالي نسخه؛ أما الثاني، فمطلق ملزم للمؤمنين به. بل يمكن القول أيضاً إن فصل الدين عن الدولة يحرر الإسلام، الدين الروحاني، من تبعات ما فعله المسلمون، وما فشلوا في فعله، وما سيفعلونه في النطاق الزمني.

وتسعى مدرسة أخرى في التفكير للتوفيق بين الإسلام والاستنارة، لاجئة – في سبيل ذلك – إلى ما يمكن وصفه من دون إجحاف أو تجن بأنه مجرد سفسطة. فهي تذهب إلى أن العلمانية تهدف أساساً إلى إقرار سمو العقل وسيطرته، وبما أن الإسلام دين عقل فإنه ليس بحاجة إلى عقلانية مستوردة من خارجه. غير أن هذا كله ليس غير تشويش متعمد للمسألة المركزية، مسألة فصل الديني عن الزمني. والواقع أن الإسلام يعترف بالفصل بين المجالين، لكن دعاة الإسلام السياسي يسعون لإخضاع الزمني للديني إخضاعاً كاملاً، بينما تقوم العلمانية كلها على إقرار العقل الإنساني والحرية الإنسانية أساساً للنشاط الزمني.

وهناك أيضاً حجة كثيراًُ ما تساق للتدليل على أن العلمانية غير ذات بال، عندما يتعلق الأمر بالإسلام. فيقال إن العلمانية تقوم على فصل الكنيسة عن الدولة، وبما أن لا كنيسة في الإسلام، فليس هناك من معنى للدعوة إلى العلمانية. لكن لا مراء في أن رجال الدين في الإسلام يؤدون دور حماة المقدسات؛ ومن هنا، فإن المؤسسة الإسلامية تؤدي دور سلطة دينية. ولا تستتبع العلمانية بالتأكيد تدمير السلطة الدينية، لكنها بالقدر ذاته من التأكيد تستتبع فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية، ومنع تدخل الواحدة في شؤون الأخرى. ولا شك في أن التشديد على هذا الفصل من الأهمية بمكان في وقت تقدم فيه ولاية الفقيه على أنها نموذج للحكم، وتصدر فيه دعوات في أرجاء العالم العربي إلى إخضاع الحياة العامة كلها للتشريعات الإسلامية كما يفسرها علماء الدين، ويسعى فيه الطغاة لاكتساب قدر من المشروعية بالحصول على الدعم العلني من رجال الدين، واختراع صلات قربى خرافية بالرسول الكريم.

وبالإضافة إلى مسألة العلمانية، لا بد من مواجهة ثقافة الإسلام السياسي، بالنظر إلى الموقف المشين من المرأة الذي أصبح سائداً باطراد في العالم العربي. إن من الدلائل المحزنة حقاً على مدى الانتكاس والتراجع، إن ستين عاماً مضت على حين ظنت فيه رائدات حركة تحرر المرأة العربية إنهنّ قطعن وإلى الأبد كل قول في مسألة حق المرأة في السفور، لكننا مع ذلك لا نزال نبحث في المسألة اليوم ونختلف فيما إذا كان يحق للمرأة قيادة السيارة!.

ولا يقل أهمية التأسيس لتقاليد تعددية. وهنا يجب أن تفهم التعددية على أوسع وجه، لا لتعني أنظمة حكم تقوم على تعدد الأحزاب فحسب، بل لتعني أيضاً وبالممارسة الاعتراف بتنوع العالم العربي. وكثيراً ما يصور العرب، وخصوصاً في الغرب، على أنهم كتلة صلدة لا تمايزات فيها، وفي أحيان أخرى يقال إنهم على العكس لا يعدون كونهم مجموعة من القبائل والشيع والطوائف. لكن الواقع أن وشائج ثقافية قوية وبعيدة الغور تربط العرب بعضهم ببعض. مع ذلك، وعلى الرغم من أن تقسيم القوى الاستعمارية للعالم العربي إلى دويلات كان مصطنعاً، ولا يزال بحق يثير الحنق في أغلبية العرب، فإن الأقطار العربية المختلفة تطورت بمرور الزمن لتصبح كيانات متميزة. ولا يمكننا بغير الاعتراف بتنوع هذه الأقطار، وكذلك بالتنوع ضمن بعضها، أن نأمل بالتوصل يوماً إلى التصالح مع أنفسنا، والتطور نحو أشكال من الوحدة.

وبالمثل، لا يمكن قصر إقامة تقاليد ديمقراطية على الدعوة إلى أشكال حكم ديمقراطية، بل يجب أن يوسع ليشمل الاعتراف بأن أقواماً غير عربية تعيش بين العرب، والاعتراف بحق هذه الأقوام في تقرير المصير، بما في ذلك حق الانفصال. وهذا أمر الحاجة إليه ملحة، وخصوصاً في العلاقة بالشعب الكردي الذي طالما عانى الأمرّين. إن عرب العراق دخلوا، ربما رغماً عن نيات ورغبات أغلبيتهم الساحقة، علاقة سلطة مع الأكراد، كانوا فيها وما زالوا يقومون بدور المضطهد. ومن هنا، فإن الواجب الخُلقي يفرض على جميع الديمقراطيين العرب الدفاع عن حقوق الأكراد بلا تحفظ، بما في ذلك حقهم في دولة خاصة بهم إذا رغبوا في ذلك. وقد يتوصل الأكراد إلى أن مصلحتهم تقضي بأن يقنعوا باستقلال ذاتي ضمن عراق ديمقراطي، لكن ذلك أمر يقررونه هم لا اي من العرب مهما تخلُص نياته. وفي تقديري، أن اتخاذ طيف عريض بما فيه الكفاية من الرأي الديمقراطي العربي لموقف كهذا، ربما كان الأساس الوحيد لاستعادة التضامن المفقود بين القوميتين الشقيقتين.

ولا شك في أن حل المسألة الفلسطينية، حتى بشروط تعتبرها أكثرية الفلسطينيين مجحفة بحقوقهم الثابتة التي لا تقبل النقض، سيكون خطوة رئيسية في اتجاه تحول العالم العربي. ذلك بأن استمرار محنة الفلسطينيين، والحصانة والحماية اللتين تتمتع إسرائيل بهما، والنزق الذي تواجه به المبادرات الفلسطينية السلمية، كلها أمور تحقن ملايين العرب بشعور مذلة ومهانة عميق. فهم يتساءلون لماذا يظل العالم أعمى حيال عذاباتنا، وأصماً تجاه استغاثاتنا؟ لماذا يعاملنا باحتقار مطلق؟ أهذا عالم يستحق التصالح معه؟ هذا هو الاستلاب الذي يجعل الجماهير العربية ضحية سهلة لتبجحات المهرجين المغامرين، والذي يفسر تهليل بعض الفلسطينيين المحبطين لهجمات الصواريخ على مناطق المدنيين الإسرائيليين.

لقد وضعت منظمة التحرير الفلسطينية، بتبنيها لحل يتمحور حول إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل والاعتراف المتبادل بين الدولتين، أساس مصالحة تاريخية. ما يقوله الفلسطينيون هو، ببساطة، أن ظلماً تاريخياً فادحاً لحق بالشعب الفلسطيني. على أنه ليس في الإمكان، في الأحوال كافة، عكس التاريخ من دون التسبب بعذاب وشقاء لا حدود لهما على كل من جانبي الصراع. ومن هنا تنشأ الحاجة إلى تسوية تقوم على حل وسط. لكن، حتى تكون تسوية كهذه منصفة بالحدود الدنيا وقابلة للاستمرار، لا بد من أن تستجيب لطموح الفلسطينيين إلى إقامة دولتهم.

إن الموقف الفلسطيني، بالإضافة إلى أنه عميق الإنسانية إذ يقوم على الرغبة في تقليل العذاب الإنساني، هو تقدمي تاريخياً لسببن: فهو، أولاً، يَعِد بشفاء جرح غائر متقرح في النفسية الجماعية العربية، الأمر الذي يسهل تصالح العرب مع العالم الحديث؛ وهو، ثانياً، يَعِد بحل صدام قومي عنيف شوّه التقدم الاجتماعي وأحبطه، إذ ساعد في إخضاع الإسرائيليين والعرب معاً للشوفينية والعسكرية.

في الختام، سأحاول الرد على انتقادين متوقعين: الأول هو أنني وقعت ضحية النزعة الاستشراقية. فمن سوء الحظ أن نقد الاستشراق القوي والمبرر تماماً، الذي كان لإدوارد سعيد قصب الريادة فيه، كثيراً ما يستخدم لأغراض غير تلك التي قصدها؛ فهو يُستغل لتدعيم شكل من النسبية الثقافية معتوه يصم كل نقد للمجتمع العربي بأنه استشراقي، أو بأنه يقوم على حجج استشراقية، ولذا فإنه باطل. كما أنه يستخدم أيضاً لإنكار مشروعية أي بحث أجنبي يتعلق بالعالم العربي، وذلك موقف قد يؤدي في نهاية المطاف إلى إنكار إمكانات التواصل والتفاعل بين الثقافات. ولهذه الأسباب يواجه المرء إغراء تجاهل تهمة الاستشراق. في أية حال، يكفي القول إن الموضوعة التي نقترحها لا تفترض مسبقاً وجود عقل عربي ثابت لا يتحول، منقوص بصورة ما ومتعارض بطبيعته مع العالم الحديث، بل إنها على العكس من ذلك تقوم على الاعتقاد أن طاقات الشعوب المضطهدة، وبينها العرب، قادرة إذا حُررت على الارتقاء إلى قمم التقدم الإنساني.

أما الانتقاد المتوقع الثاني، فهو أن الصدام على المستوى الثقافي مع الإسلام السياسي، ومع الاتجاهات شبه الفاشية ضمن القومية العربية، يستثني إمكانات العمل السياسي الفعال. وذلك انتقاد لا بد من أن يوجهه من ينادون بتحالف تاريخي بين القوميين والإسلاميين والليبراليين والماركسيين، لتشكيل كتلة تاريخية حرجة تواجه المصير العربي المشترك. ولا يتسع المجال هنا للبحث فيما إذا كان تحالف كهذا ممكناً، أو حتى مرغوباً فيه. غير أن الصدام على المستوى الثقافي لا يستبعد تشكيل تحالفات سياسية، بل يمكن القول إن التحديد الصارم للاختلافات والتمايزات يوفر قاعدة أصلب وأكثر ثباتاً لمثل هذه التحالفات. من جهة أخرى، طالما عانى الجهد الثقافي في العالم العربي ظاهرتين: الأولى خضوع أغلبية المثقفين الساحقة للدولة وخنوعهم تجاهها، وهذا بدوره أحد أعراض غياب يكاد يكون كاملاً لأي استقلال نسبي للمجتمع المدني عن الدولة. أما الظاهرة الثانية، فهي أن الجزء الصغير المتبقي من الأنتلجنسيا يُخضِع، في غالب الأحيان، النشاط الثقافي للاعتبارات السياسية المباشرة، فتتحول الثقافة إلى أيديولوجيا، أي إلى تشويه للواقع وتعمية عنه.

باختصار، إن سبيل تقدم العالم العربي هو سبيل تبني قيم حديثة وأنماط فكر وحكم حديثة؛ وشرط ذلك مواجهة التقاليد التي تحول دوننا والتقدم مواجهة لا لبس فيها، وذلك عبر عملية تجديد ثقافي. من هنا، فإن المهمة الملحة ثقافياً هي مهمة تحطيم الأصنام والأيقونات، وتنفيس الخرامات، وتحدي المحرمات، وتعرية الأبطال المزيفين. 

 

* كلمة أُلقيت بالإنكليزية في مؤتمر عقده في لندن، في 9 آذار/مارس 1991، إعلاميون وأكاديميون بريطانيون وعرب كانوا ناهضوا شن حرب الخليج.

**  محاضر في علوم الكومبيوتر والهندسة الكهربائية في معهد العلوم والتكنولوجيا في جامعة مانشستر، إنكلترا.