حدود الخيارات الفلسطينية
Keywords: 
النزاع العربي - الإسرائيلي
عملية السلام
الرأي العام
سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط
Full text: 

     بغض النظر عن النتائج المباشرة للتحركات الدبلوماسية الأخيرة الهادفة إلى عقد مؤتمر سلام عربي ـ إسرائيلي، يبدو أن الجانب الفلسطيني (بشقيه في الداخل والخارج) بات أمام وضع صعب ودقيق للغاية. والأرجح أنه في حال انعقاد مثل هذا المؤتمر في المستقبل القريب، فإن المطروح على الفلسطينيين لن يتجاوز صيغة مستحدثة للحكم الذاتي لفترة انتقالية، الأمر الذي سيترك مسألة السيادة النهائية على الأراضي المحتلة خاضعة للمفاوضات اللاحقة والمطولة، من دون أن تمس مظاهر الاحتلال الأساسية، مثل: المستعمرات، والوجود الإسرائيلي العسكري على الأرض الفلسطينية. أما إذا تعثرت مساعي السلام الجارية، فسيؤدي ذلك إلى إرجاء تحقيق حتى مثل هذا القدر المتواضع من التطلعات الفلسطينية إلى أمد غير مسمى، في حين أن إسرائيل ستستمر في خلق الأمر الواقع وتبديل الواقع السياسي ـ الديموغرافي القائم، بغية إحكام سيطرتها على الأراضي المحتلة، وجعل شروط العودة إلى المفاوضات أقسى وأشد، من وجهة النظر الفلسطينية.

                وأمام مثل هذا المأزق تبدو الخيارات الفلسطينية محدودة على الصعيدين العسكري والسياسي.

  • الخيار العسكري: لم يعد الخيار العسكري الفلسطيني "المستقل" خياراً مصداقياً، سواء بالانطلاق من الأراضي المجاورة لإسرائيل، أو من داخل الأراضي المحتلة نفسها. وقد أصبح الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، آخر معاقل هذا الوجود المستقل، مضطراً إلى مراعاة التحولات الجديدة على الساحة اللبنانية. بل إن المسألة الأساسية في هذا المضمار ليست كيف يمكن إحياء العمليات العسكرية عبر الحدود اللبنانية، وإنما كيف سيتم ضبط السلاح الفلسطيني في لبنان، وبأية صيغة توازي بين متطلبات السيادة اللبنانية من جهة، وبين الرؤية السورية لدور العامل الفلسطيني في المعادلة اللبنانية الداخلية وفي المعادلة السورية ـ الإسرائيلية الأوسع من جهة أخرى وحتى في حال التوافق السوري ـ اللبناني على منح الفلسطينيين قدراً من الوجود المسلح المستقل لأغراض "الدفاع عن النفس"، فلن يترك ذلك مجالاً حقيقياً لاستخدام هذا الوجود في الضغط العسكري على إسرائيل، وذلك علماً بأن جبهة لبنان لم تكن ناشطة في هذا المجال منذ سنة 1982 وما قبل في الأحوال كافة. وما ينطبق على الساحة اللبنانية، ينطبق بصورة أكثر صرامة على فرص العمل الفلسطيني المستقل عبر الحدود العربية الأخرى. ولا تدل الأوضاع القائمة في دول الجوار على إمكان فتح الحدود العربية أمام العمليات العسكرية الفلسطينية، أو على استعداد الدول المعنية للمجازفة بصدام مع إسرائيل بسبب النشاطات الفلسطينية المسلحة؛ بل إن الوجهة العربية السائدة منذ أعوام هي نحو منع الجانب الفلسطيني من القيام بدور "مفجّر" في هذا السياق، وهي وجهة تزداد صلابة وليس العكس.

أما العمليات المسلحة داخل الأراضي المحتلة فتبقى، بدورها، أسيرة التفاوت الحاد في ميزان القوى مع قوات الاحتلال، وحسابات التكلفة/ المردود السلبية من وجهة النظر الفلسطينية، علاوة على غياب القاعدة المحلية المجهزة والقادرة على خوض أي نوع من المواجهة المستمرة مع الجيش الإسرائيلي. ولا سبيل هنا للخوض في أسباب فشل استراتيجية الكفاح المسلح المنظم داخل الأراضي المحتلة طوال أعوام الاحتلال، غير أن ليس هنالك ما يشير إلى أن المعطيات التي حالت دون ذلك في الماضي، ستتبدل لمصلحة الجانب الفلسطيني في المستقبل المنظور. وإذا كان من الصعب التكهن بإمكان الانطلاق بكفاح مسلح منظم ومنهجي، يدفع نحو إنهاء الاحتلال، أو يساهم في تثبيت قوام الاستقلال الفلسطيني السياسي، فإن الأعمال الفردية (مثل الطعن والخطف، إلخ) لا تشكل بديلاً عملياً من ذلك في المقابل. فالعمليات الفردية، على الرغم من أثرها المعنوي والإعلامي المباشر في الطرف الآخر، ليست ـ بطبيعتها وبحكم فرديتها ـ أداة عسكرية متكاملة يمكن السيطرة عليها أو التحكم في مسارها. والاعتماد على مثل هذه العمليات العشوائية هو أضعف الإيمان، كون الأوضاع والدوافع الكامنة وراء العمل الفردي غير قابلة للتوجيه الخارجي، أو للربح في إطار استراتيجية هادفة ومدروسة.

وإذا ألغينا احتمال "الإرهاب الدولي" من الخيارات الفلسطينية العملية، لأسباب سياسية وتنظيمية مختلفة (من أهمها أن "الإرهاب" الفعال يعتمد في الدرجة الأولى على الدعم المباشر أو غير المباشر من قِبَل طرف دولي، ذلك في وقت باتت أكثر القوى الناشطة في هذا المجال سابقاً غير مستعدة للقيام بمثل هذا الدور)، فإنه يبدو أن الخيار الفلسطيني العسكري المتبقي هو محاولة الالتحاق بما يتوفر من خيار عربي على هذا الصعيد. غير أن احتمالات المبادرة العربية العسكرية ـ سواء بغرض "التحرير" أو "التحريك" ـ تبدو ضئيلة في ظل التفوق الإسرائيلي المستمر على الجبهة الشرقية، وخصوصاً بعد ضرب القوة العسكرية العراقية التي شكلت السند الأساسي لهذه الجبهة منذ خروج مصر من دائرة الصراع مع إسرائيل. وعلى الرغم من أن سوريا تمتلك قدرات دفاعية/ رادعة مهمة، فإن وقوفها وحيدة في وجه القوة الإسرائيلية لا يترك مجالاً واسعاً للعمل السوري النشيط ضد إسرائيل، بعد أن تم رفع الغطاء الاستراتيجي السوفياتي عن الجانب السوري إلى حد بعيد، وفي غياب القدرة العربية الحقيقية على توفير الدعم العسكري الملائم للقوات السورية، وضمن أوضاع دولية تجعل من الصعب بمكان لجوء سوريا إلى القوة لفض النزاع مع إسرائيل، مهما تكن مبررات ذلك من حيث المبدأ. والواقع أن إسرائيل تدرك تماماً أنها لن تواجه كوابح أو عقبات سياسية أو دولية تذكر، وخصوصاً من قِبَل الولايات المتحدة، في حال تعرضها لما ستصوره بأنه "عدوان" سوري، بل إنها قد تنتهز حجة أي عمل سوري عسكري للقيام بحملة مضادة عنيفة تهدف إلى إنهاء "الخطر" السوري ـ ومعه "الخطر" العسكري  العربي ـ بغية إتمام عملية فرض نزع السلاح على الجانب العربي من طرف واحد. ومهما يكن الأمر، فإن الدور الفلسطيني في أية مواجهة سورية ـ إسرائيلية سيكون محدوداً نظراً إلى الحكم المتواضع للقوة الفلسطينية قياساً بقوة الطرفين المتنازعين. وليس هنالك ما يشير إلى أن مثل هذا الدور الهامشي نسبياً سيساهم في خروج الفلسطينيين بمكاسب سياسية أو معنوية تذكر، في الأحوال كافة.

وباختصار يمكن التساؤل عن دور ووظيفة السلاح الفلسطيني في المرحلة الراهنة والمستقبل المنظور، وإن كان هذا لا يعني أن على الجانب الفلسطيني التخلي كلياً عن كل أشكال الدفاع عن النفس أو القوة المسلحة. غير أن الحقيقة تبقى أن آفاق العمل العسكري الفلسطيني باتت أضيق من أي وقت سابق، من دون أن يكون من الواضح كيف سيتم تجاوز محدوديات هذا العمل، أو كيف يمكن تطويره بصورة أساسية لخدمة الأهداف السياسية الفلسطينية العليا.

  • العمل السياسي ـ الدبلوماسي: ليست مسألة انكماش فرص واحتمالات العمل العسكري الفلسطيني جديدة على الساحة: إذ إن التوجه الفلسطيني المتزايد نحو العمل السياسي ـ الدبلوماسي في الأعوام الأخيرة قد عكس إدراك القيادة الفلسطينية لهذا الواقع، ومنذ الخروج من بيروت سنة 1982 على وجه التحديد. وبعد اندلاع الانتفاضة في الأراضي المحتلة، اكتسب العامل الفلسطيني "المستقل" مكانة بارزة جديدة، وهو ما ساهم في تطعيم الوجهة السياسية ـ الدبلوماسية في العمل الفلسطيني العام، وأصبح الفلسطينيون في موقع مُبادر على هذا الصعيد قياساً بالأطراف العربية الأخرى كافة. حتى أن الجهود الدبلوماسية الأميركية في فترة 1989 ـ 1990 انصبت على تحريك عملية السلام أساساً عبر معالجة الجانب الفلسطيني ـ الإسرائيلي الثنائي من النزاع، وكأنه أصبح بين الطرفين نوع من التكافؤ (المعنوي على الأقل). لكن فرص العمل الفلسطيني السياسي ـ الدبلوماسي المستقل تبدو في طور الانحسار والتراجع في المرحلة الراهنة. كما تبدو الصفحة التي بدأت مع الانتفاضة سنة 1987 ومقررات المجلس الوطني سنة 1988 في قيد الانطواء إلى حد بعيد.

والعامل الأساسي المؤثر في هذا الوضع هو فقدان الانتفاضة للكثير من قدرتها الفاعلة، ومن أهميتها كعامل محرك في حلبة النزاع مع إسرائيل. وقد استطاعت إسرائيل التأقلم مع مختلف مظاهر الانتفاضة، والحد من تكاليفها السياسية والإعلامية والمادية. في حين أن الإجراءات القمعية المضادة ساهمت في إنهاك وتقويض الكثير من الزخم الشعبي الذي رافق انطلاقة الانتفاضة في الأساس. وإذا كانت الانتفاضة قد نجحت في تحقيق ما يمكن وصفه بانفصال نفسي ومعنوي بين جانبي خطوط وقف إطلاق النار سنة 1967، فإن هذا الانفصال لم يفرز تحولات سياسية أساسية إيجابية من وجهة النظر الفلسطينية حتى الآن (بروز تيارات إسرائيلية شعبية مركزية تضغط في اتجاه الانسحاب الفوري من الأراضي المحتلة مثلاً). وفي المقابل، لم تتراجع عملية التهويد ومصادرة الأرض العربية، بل إنها ازدادت تسارعاً بحيث ارتفعت نسبة المستوطنين بنحو 20% منذ سنة 1987 لتصل حالياً إلى نحو 225 ألف مستوطن في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، علاوة على الخطط الراهنة الهادفة إلى دفع نحو 50 ألف مستوطن جديد إلى الأراضي المحتلة، في غضون السنتين المقبلتين. ويضاف إلى هذا، التآكل في نهج وإدارة الانتفاضة من الجانب الفلسطيني، إنْ كان ذلك من حيث تفشي عمليات قتل "المتعاونين" بشكل شبه عشوائي، أو من حيث إضعاف سيطرة القيادة وقاعدتها النظرية، تحمل في طياتها انعكاسات سلبية وخطرة بالنسبة إلى آفاق النضال ضد الاحتلال. أما من ناحية أخرى، فلا بد من الأخذ بعين الاعتبار تعاظم تكلفة الانتفاضة، من الناحيتين الاقتصادية والمعيشية، في ضوء نتائج حرب الخليج، والثمن الذي بات يدفعه أهل الداخل نتيجة مواقف منظمة التحرير الفلسطينية خلال الحرب (علماً بأن القاعدة الشعبية الفلسطينية كانت تضغط بنفسها في اتجاه مثل هذا الموقف). ومهما تكن الدوافع والمبررات الكامنة وراء سياسة المنظمة حيال أزمة الخليج والحرب اللاحقة، فلا شك في أن الشعب الفلسطيني في الداخل ـ كما في الشتات ـ هو من ضحايا غزو العراق للكويت، الأمر الذي ينعكس بدوره على وضع الانتفاضة وفرصها. وضمن مثل هذه الأوضاع، يبدو أن مجرد الاحتفاظ بالحد الأدنى من الحركية في الانتفاضة لن يكون أمراً سهلاً، وبالتالي فإن الاعتماد على الانتفاضة كخيار فلسطيني استراتيجي، أو كبديل من الكفاح المسلح (كما بدا في لحظة من اللحظات)، يبقى رهاناً غير مؤكد ومحفوفاً بالكثير من عدم اليقين.

هكذا، فقد تولّد هنالك تفاعل ما بين الصعوبات التي تواجه الانتفاضة، وردات الفعل السلبية المحلية والدولية إزاء موقف منظمة التحرير من حرب الخليج، والقدرة الفلسطينية على المبادرة المستقلة في المجال السياسي ـ الدبلوماسي، وحصيلة هذا التفاعل هو أن الموقع الفلسطيني المميز، المكتسب في المرحلة السابقة، قد خسر الكثير من صفاته المميّزة كما انعكس ذلك بوضوح خلال التحركات الدبلوماسية الأخيرة التي رعتها الولايات المتحدة، والتي لم تتركز على المعادلة الفلسطينية ـ الإسرائيلية الثنائية كما في السنة الفائتة، وإنما على المعادلة العربية ـ الإسرائيلية الأوسع، وبحيث لم يعد الرقم الفلسطيني هو "الرقم الصعب" في المعادلة، قياساً بالأطراف العربية الأخرى، وخصوصاً سوريا.

ولعله يمكن القول أنه لم يكن مطروحاً، في يوم من الأيام، أن ينجح الخيار السياسي ـ الدبلوماسي الفلسطيني المستقل وحده في تغيير أصول اللعبة في النزاع مع إسرائيل، وذلك لغياب القدرة الفلسطينية الحقيقية على اتخاذ القرارات أو المضي في سياسات منفردة بمعزل عن المحيط العربي العام. وحتى عندما كان الجانب الفلسطيني لا يزال يتمتع ببعض هوامش المناورة المستقلة، القائمة على زخم الانتفاضة والانفتاح الدولي والأميركي النسبي على المنظمة (أي في فترة 1987 – 1990)، كان لا بد من إيجاد قناة عربية للعمل الفلسطيني الفعال في الساحة السياسية ـ الدبلوماسية. وقد تم ذلك آنذاك عبر التنسيق الوثيق مع مصر في الأساس. وفي المقابل، عندما انعطفت السياسة الفلسطينية في اتجاه مغاير، انطوى العامل الفلسطيني تحت لواء العراق، باعتبار أن القوة العراقية قادرة على التأثير في ميزان القوى العام مع إسرائيل، وهو ما يدعم بالتالي الموقع التفاوضي الفلسطيني ويربط ما بين قدرة الضغط الناجمة عن الانتفاضة في الداخل من جهة، وبين الرادع العراقي الخارجي المفترض من جهة أخرى. وقد سقطت هذه السياسة كلياً مع غزو العراق للكويت وهدر القوة العراقية في الحرب الأخيرة وفي ظل موقف فلسطيني رسمي من الأزمة كانت من أخطر نتائجه إضافة، ولأول مرة، أصوات عربية رافضة للتعامل مع منظمة التحرير، إسوة بالمواقف الإسرائيلية والأميركية.

ومن اللافت أن الفترة الأخيرة قد شهدت محاولات فلسطينية جديدة لإعادة ربط الموقف الفلسطيني بالموقف العربي، عبر سلسلة من التحركات الهادفة إلى بناء شبكة من العلاقات الثنائية مع دول المواجهة في الأساس. أما العلاقات الفلسطينية ـ الخليجية، فتبدو مجمدة حتى إشعار آخر. وإذا كانت الهوة بين منظمة التحرير ودول الخليج قد أدت إلى التعطيل على مصدر دعم مادي وسياسي حيوي للفلسطينيين، علاوة على التخريب على الأوضاع الفلسطينية المعيشية في الكويت، فإن محاولة إحياء الخيار الفلسطيني ـ العربي السياسي قد تصطدم بعقبات أخرى. وحتى مع الإقرار أن "استقلالية القرار" الفلسطيني طالما كانت أقرب إلى الشعار منها إلى الواقع، فإن الدخول في علاقات مميزة الآن مع سوريا أو الأردن أو مصر سيستتبعه بالضرورة مراعاة فلسطينية شديدة لمصالح الأطراف العربية  المعنية وتطلعاتها، وذلك من موقع ضعف نسبي نتيجة خفوت الانتفاضة، وآثار حرب الخليج، ومحدوديات العمل في لبنان، إلخ. ومن غير الواضح كذلك أنه سيكون في الإمكان الاحتفاظ بعلاقات متوازية مع مختلفة دول المواجهة، التي قد تكون لديها دوافع متناقضة إلى شد الورقة الفلسطينية إليها، أو الابتعاد عنها، في أي وقت من الأوقات.

لكن في الأحوال كافة، وحتى على افتراض إمكان إيجاد سياسة فلسطينية متوازنة نسبياً ما بين مراكز الثقل العربية، وافتراض قيام أرضية مشتركة للعمل بينها، يبقى السؤال ما إذا كان ذلك سيساهم في التعجيل في عملية السلام الملحة بصورة خاصة من وجهة النظر الفلسطينية. فالسياسات العربية الجماعية قلّما تخرج عن نطاق الحد الأدنى المشترك، وهي معادلة قد لا تكفي لكسر الجمود على صعيد التسوية مع إسرائيل. وفي حين أن الدول العربية كافة، تقريباً، باتت على استعداد لإنهاء النزاع مع إسرائيل من حيث المبدأ، فإن الجانب الفلسطيني أحوج ما يكون إلى رفع كاهل الاحتلال والتهويد عن أهل الداخل، والى توفير مقومات العيش الكريم لفلسطينيي الشتات بعد عقود طويلة من التشرد وعدم الاستقرار. فإذا كان الجمود السياسي ـ الدبلوماسي يصيب الجميع، يبقى أنه يصيب الفلسطينيين بصورة أكثر مباشرة وأكثر حراجة نتيجة كونهم أضعف الحلقات في الساحة وأكثرها انكشافاً أمام تقلباتها.

هكذا، فعنصر الوقت يؤدي دوراً حاسماً في التأثير في الخيارات الفلسطينية، وهذا بالذات ما تدركه الحكومة الإسرائيلية الحالية في تصورها لكيفية التعامل مع طروحات التسوية الحالية. وحتى العامل الديموغرافي العربي الذي كان يساهم، إلى حد بعيد، في دعم التيارات الإسرائيلية الداعية إلى تسوية إقليمية، أصبح مهدداً نتيجة دفق المهاجرين الجدد من الاتحاد السوفياتي وغيره، وفي ظل استراتيجية "استيعاب" إسرائيلية تهدف لا إلى الاستيطان في الأراضي الفلسطينية فحسب، بل أيضاً إلى خلق تواصل يهودي ديموغرافي ما بين هذه الأراضي وإسرائيل نفسها، وهو ما يترك التجمعات السكانية العربية في جيوب معزولة، ويجعل من الصعب جداً إعادة رسم خطوط فاصلة بين الجانبين، كونها ستشطر التكتلات المدينية اليهودية الواقعة على طرفي الخط الأخضر.*  أما في الأمد القريب، فإن فرص التسوية ستتأثر من جراء قرب موعد انتخابات الرئاسة الأميركية في آخر سنة 1992، علماً بأن الدورة الانتخابية الأميركية تبدأ عملياً في الخريف المقبل. ومهما تكن اهتمامات الإدارة الأميركية بإيجاد تسوية في المنطقة، فإن أولوياتها ستنصب قريباً على إدارة حملتها الانتخابية، وما يرافق ذلك من اعتبارات تحد من حرية عمل الرئيس الأميركي، ومن قدرته أو استعداده للمبادرة بالنسبة إلى النزاع العربي ـ الإسرائيلي. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الانتخابات النيابية الإسرائيلية المقررة لآخر سنة 1992 (كحد أقصى) تشكل نقطة مهمة أخرى في الجدول الزمني المؤثر في أوضاع المنطقة، فإنه يبدو أن تعثر عملية السلام في الأشهر القليلة المقبلة سيؤدي إلى التعطيل عليها وإرجائها إلى موعد آخر غير محدد.

  • ومن هنا، فإن المصلحة الفلسطينية تقتضي إيجاد سبل جديدة لدفع عملية السلام إلى الأمام، بما يضمن استمراريتها ويحول دون ضياع فرص دعمها، مهما تبدو هذه الفرص محدودة ضمن الأوضاع القائمة. والواقع أن منظمة التحرير الفلسطينية قد أظهرت ليناً لافتاً في التعامل مع الجهود الأميركية الأخيرة، غير أن ذلك قد لا يكفي لتفتيت المواقف الإسرائيلية الرافضة، أو لتصليب الإدارة الأميركية في وجه إسرائيل. وإذا كان الاهتمام الفلسطيني قد تركز على رفع اللوم عن منظمة التحرير كـ "عقبة أمام السلام"، فإن ذلك لا يشكل بديلاً من تطوير سياسة فلسطينية مُبادَِرة تعيد بعض الاعتبار إلى العامل الفلسطيني "المستقل" وتتفادى احتمال الانشداد نحو سياسة الحد الأدنى المشترك العربية، غير المبادِرَة بطبيعتها. ويبدو أن أية حركة من هذا النوع لا بد من أن تعتمد على منح أهل الداخل مزيداً من حرية العمل والحركة باعتبارهم الوجه الفلسطيني الأساسي في المرحلة الراهنة. والشرط اللازم لتحقيق أي أهداف لاحقة، بما في ذلك السيادة والاستقلال، فإن المطلوب هو البحث عن أفضل سبيل للبدء باحتواء الاحتلال وضرب القيود حوله، حتى لو لم تتحقق المطالب الفلسطينية الوطنية المشروعة دفعة واحدة. وعلى سبيل المثال، فإن من شأن الدعوة الفلسطينية العلنية والصريحة إلى إجراء الانتخابات الحرة في الأراضي المحتلة تحت الإشراف الدولي، أن تحرج إسرائيل وتستجلب الاهتمام الأميركي في آن واحد. كذلك، فإن الخروج بموقف واضح إزاء العلاقة بين الضفة والقطاع والأردن، ولربما الموافقة على إعطاء الجانب الأردني دوراً متقدماً ـ بالتنسيق مع أهل الداخل ـ في التفاوض مع إسرائيل، سيساعد بدوره في سحب البساط من تحت الرفض الإسرائيلي. وبالمقدار نفسه، لا بد من البحث الدقيق في مختلف الصيغ الانتقالية والطروحات بشأن "الحكومة الذاتية" والخروج بتصور متكامل لدورها المحتمل في التخفيف من وطأة الاحتلال. وفي النهاية، يظل الموقف الفلسطيني محكوماً بحقيقتين: دور وثقل الولايات المتحدة في عملية السلام، ودور وأهمية الرأي العام الإسرائيلي في تقرير فرص التسوية. ومن دون سياسة فلسطينية تهدف إلى التأثير في هاتين الحلقتين الحيويتين، ستبقى كل الخيارات الفلسطينية الأخرى فاعلة في هوامش القضية، لا في صلبها.

 

*  راجع "خطة الكواكب" التي طورها أريئيل شارون في ملف هذا العدد من المجلة.