كُتب هذا المقال بالإنكليزية في تشرين الثاني/نوفمبر 1990، وحُدّث بعض الشيء في أوائل كانون الأول/ديسمبر بعيد إعلان الرئيس بوش نيته إرسال وزير الخارجية بيكر إلى بغداد. و"مجلة الدراسات الفلسطينية" تنشره مترجماً بنصه الكامل، لأنه يعبّر عن موقف متكامل لمفكر عربي تجاه اجتياح الكويت قبل البدء بالقصف الجوي على العراق بنحو شهر أو يزيد، على الرغم من أن بعض "تنبؤاته"، ومنها حتمية اشتراك إسرائيل في العمليات العسكرية، لم يتحقق.
إن لأزمة الخليج تعقيدات وأبعاداً شتى في أصولها وتطوراتها وعواقبها المحتلمة، إلى الحد الذي تجعل معه محاولة المراقب تقديم صورة شاملة لها، ولو مترددة، محاولة محفوفة بالصعوبات والتحديات. وفي سبيل رسم مثل تلك الصورة الشاملة، يُقسم بحثنا هذا إلى أربعة أقسام. يبدأ البحث، بعرض الخلفية التاريخية لهذه الأزمة ثم يبحث في الأسباب التي استقطب صدام حسين من أجلها هذا الحجم الكبير من الدعم العربي على الرغم من عدوانه على الكويت. ثم ينتقل ليفحص بعض السيناريوات التي قد تنشأ إذا نشبت الحرب، وينتهي إلى طرح بعض المقترحات بغية الوصول إلى تسوية سلمية لهذا النزاع.
الخلفية التاريخية
يقول المؤرخ البريطاني أ. ج. ب. تايلر (الذي توفي مؤخراً مأسوفاً عليه)، في معرض تحليله لأسباب الحرب العالمية الثانية، إن الحروب لا تختلف كثيراً عن حوادث السير، إذ لها أسباب عميقة وأخرى خاصة. ففي نهاية المطاف، أن سبب كل حادث سير هو اكتشاف المحرّك الداخلي الاحتراق، ونزعة الشر إلى الذهاب من مكان إلى آخر. لكن سلطات المدن والشرطة والقضاة لا يأبهون للأسباب العميقة، بل يتفحصون الأسباب الخاصة؛ أي تصرّف السائق وحالته النفسية ومدى استهلاكه للكحول، وإلى ما هنالك. ويضيف تايلر أن الأسباب العميقة، ولكونها تفسّر كل شيء، فهي لا تفسّر شيئاً. وهذه المقاربة، مع ما يواكبها من تحذير، ليست بالمقاربة السيئة للأخذ بعين الاعتبار لدى تحليل أسباب اجتياح الكويت.
ومن دون أن نلتزم حرفياً هذه المقاربة التي طرحها تايلر، يبدو أن ثمة أربعة أسباب لاجتياح الكويت تتعلق بالجانب "العميق" من مخطط تفسير تايلر. فهناك، أولاً، فشل النظام السياسي العربي كما تطور منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في المشرق كما في المغرب، في الوصول – وفي أية دولة من الدول ذات السيادة المكونة له – إلى مستويات دنيا من تقسيك السلطة الحقيقي أو إلى مبدأ المسؤولية عن الأعمال الحكومية، ناهيك بالوصول إلى مؤسسات برلمانية مستقلة تعمل ضمن قواني وضوابط ديمقراطية. وفي القرن الأخير، خاص بعض الأنظمة الديمقراطية، كما هو معلوم، حروباً عدوانية. لكن الأنظمة التي تحتكر القيادةُ العليا فيها السلطة من خلال إبادة منافسيها جسدياً، وتحشد الطاعة الجماهيرية حول عبادة الفرد من خلال الإرهاب هي، في الأرجح، أنظمة تنزع نحو المغامرة العسكرية والعدوان الخارجي. وفيما يختص بالعراق، فالحال ليس فقط أن "الدولة هي صدّام" بل أن طغايان شخصيته المغناطيسية، بسبب الطريقة التي عامل بها جميع منافسيه، من أفراد وجماعات، أوجد حالة لا يمكن وصفها إلا بأنها "حالة من الخصيان المَرَضي". وهذه الحالة المَرَضية موجودة طبعاً في شتى أرجاء الأرض، وعلى درجات متفاوتة في العديد من مجالس الوزراء (يقال، أن مارغريت تاتشر لم تكن متحمسة قط لمبدأ "الأول بين الأكفّاء")، ومن الشركات الكبرى وغيرها من الهيئات التي تصنع القرار. لكن هذه الحالة المَرَضية في عراق صدّام بدت أنها قد بلغت حجوماً نموذجية فأصبحت الحاجة الماسة إلى البقاء في قيد الحياة تفصله تماماً عن الواقع، وتشلّ أية مشورة مُعارِضة قد تأتي من مساعدي الرئيس ومستشاريه.
وهناك، ثانياً، النتائج الماركمة المسبّبة للتآكل والقلاقل والاضطرابات في النظام السياسي العربي، والناجمة عن نسخة عربية معاصرة عن "حروب الزهور" في إنكلترا في القرن الخامس عشر، أي الحرب الأهلية غير المعلنة في صفوف البعث، والتي ما زالت مستعمرة منذ أواسط الستينات بين بغداد ودمشق. وتركّزت هذه الحرب على التمايز الهائل في شخصيتي الرئيسين حافظ الأسد وصدام حسين، الأمر الذي غذّى التشرذم العربي وعمّقه. وفي العقود الأخيرة من الزمن، كان هذا هو العائق الأهم أمام قيام تضامن عربي في الدول التي تقع شرقي قناة السويس. وفي إمكاننا أن نلمح عمق الخلاف بين الزعيمين من خلال إيقاف إمدادات النفط إلى العراق، وذلك في ذروة تعرضه للهجوم الإيراني في إبّان الحرب العراقية – الإيرانية، ومن خلال رد صدام بدعمه لـ كلّ من قائدي الميليشيات المارونية في لبنان، سمير جعجع والعماد ميشال عون، حالما دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ مع إيران في آب/أغسطس 1988. وليس مصادفة أن أبا العباس (الذي اشتهر بحادثة السفينة "أكيلي لاورو") أصبح من أنصار صدّام: ألم يكن أحمد جبريل (الذي اشتهر بحادثة لوكربي) من أنصار الأسد؟ وليس مصادفة أيضاً أن شروط صدّام حسين للانسحاب من الكويت تشمل، فيما تشمل، انسحاب سوريا من لبنان. [....]
ثالثاً، هناك غياب تام، منذ أواسط السبعينات، لأي مركز معنوي للثقل في العالم العربي يستطيع أن يمارس نفوذاً في سبيل مداواة الجروح في أوقات الأزمات الداخلية الدامية (كما فعل عبد الناصر، مثلاً، عندما تدخل في الحرب الأهلية الأردنية سنة 1970). إذ، على الرغم من أوراق النعوة المبكّرة التي تنعي القومية العربية، وعلى الرغم من التشرذم العربي السائد في كل مكان، وعلى الرغم من تعزيز سيادة فكرة الدولة القطرية على فكرة القومية العربية المتضمنة لفكرة الأمة العربية الواحدة، فإن العالم العربي لا يزال يشكل، على الرغم من التناقض الظاهر، كتلة واحدة من الأصداء النفسية والعاطفية والفكرية التي تتعال فوق حدود الدول. وهذه ظاهرة لا يمكن لأي نظام قطري، مهما غلا في قطريّته، أن يتجاهلها تماماً كما يُلاحظ، مثلاً، في رغبة حسني مبارك الشديدة في أن تعود جامعة الدول العربية إلى القاهرة. وكانت القاهرة أيام عبد الناصر تمثل مركز الثقل المعنوي هذا. ثم انتقل هذا المركز، بعد وفاة عبد الناصر، إلى الرياض أيام الملك فيصل، حتى اغتياله سنة 1975. لكن القاهرة لم تستعد بعد دورها السابق. والسبب ليس صلح السادات مع إسرائيل في حد ذاته، بل لأن مصر بالمنظور العربي الشامل، وهي قبطان السفينة، قد هجرت ظهر المركب من خلال توقيعها صلحاً منفرداً مع إسرائيل، الأمر الذي أتاح لإسرائيل الفرصة والحافز والمبرر والقوة (بسبب فك الارتباط العسكري المصري) لتعزيز الاستيطان في المناطق المحتلة، وضمِّ القدس (سنة 1980) والجولان (سنة 1981)، والاعتداء على العراق (سنة 1981) وتونس (سنة 1985)، واجتياح لبنان وتدميره. ومما لا شك فيه أن حكومات عربية عديدة، ومنها العراق وسوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية، قد طلبت ودَّ مصر بقيادة مبارك منذ ذلك الحين، لكن السبب الواضح كان تكتياً ولم يسفر عن استعادة مصر لدورها المعنوي السابق. ويتضح هذا الأمر، إلى حد ما، في فشل مبارك قبل الأزمة في التوسط بين العراق والكويت، وفي فشله لاحقاً في حشد أغلبية أكبر من الدول العربية ضد العراق. وهذه الخسارة في المكانة المعنوي تعود، في الجزء الأكبر منها، إلى النظرة السائدة لدى الجماهير والمثقفين العرب في أن مصر منذ كامب ديفيد قد تطورت لتصبح نقطة ارتكاز غير مستقلة للسياسات الأميركية المحددة في المنطقة.
رابعاً، بروز العراق عقب حربه مع إيران قوة إقليمية لا تفوقها سوى قوة إسرائيل. إن انعدام التوازن العسكري الشديد بين الدول التي تتصف علاقاتها بالتوتر الناجم عن المطالبة بالأرض، والصراعات على الحدود، والتنافس الإقليمي، أمر يسبّب عدم الاستقرار في جوهره، وذلك لأن التفوق في القوة الذي تمتلكه الدولة الرئيسية بالنسبة إلى جيرانها يشكّل، في حد ذاته، حافزاً على العدوان. وهذا الأمر يكاد يكون بمثابة قانون من قوانين الفيزياء السياسية التي لا تتغيّر. والأمثلة عليه وعلى تطبيقاته تزخر على امتدام التاريخ البشري، ولا يخلو منها طبعاً تاريخ الشرق الأوسط. والمثال الأبرز هنا هو علاقات إسرائيل بالدول المجاورة لها، منذ سنة 1948. إن الفارق الشاسع في القوة بين العراق والكويت، مع ما يصحبه من لائحة شكاوى عراقية ضد الكويت، هو مثال آخر لهذا القانون.
* * *
ولنعد مجدداً إلى مقاربة تايلر (من دون التقيد بها حرفياً)، أي إلى حادثة السير، ولنركّز هذه المرة على الأسباب الخاصة الواردة على الجهة الأخرى من مخطط الأسباب، وأعني بها تصرّفات السائق – أي صدّام حسين نفسه. كيف كان "مزاج" صدّام خلال الفترة بين وقف إطلاق النار مع إيران في آب/أغسطس 1988 وبين اجتياح الكويت في 2 آب/ أغسطس 1990؟ لدى قراءة خطبه جدداً في مؤتمر القمة العربية في بغداد، في نهاية أيار/مايو 1990، ورسائله الدبلوماسية إلى جامعة الدول العربية والزعماء العرب في الأسابيع التي سبقت 2 آب/أغسطس وتلته، يمكن لنا أن نلخّص مزاجه من خلال تحديد عدد من الموضوعات المتكررة، والتي وإنْ كانت مصطنعة إلا أنها تلقي الضوء على نظرة صدّام إلى نفسه، وعلى موافزه وبواعثه. ويبدو أن الموضوعات الكبرى هي الآتية:
- بعد دفع ثمن باهظ من أرواح العراقيين (ولفظة صدّام المفضلة هي "أنهار الدم") وممتلكاتهم، استطاع صدّام أن يسدّ "البوابة الشرقية" للعالم العربي أمام جحافل الخميني. وهذا بالذات هو ما أنقذ دول الخليج العربي، وخصوصاً الكويت، من الدمار المحتم.
- هذا الإنجاز الذي يفوق قدرة البشر، والذي تم ضد كل الرهانات، قد برهن على دور بغداد التاريخي (والتي هي وارثة أمجاد العباسيين) كالعاصمة الإقليمية الأولى، وعزّز مكانة العراق الكبرة في سلم ترتيب دول الخليج.
- إن خلاص دول الخليج الأخرى، وذلك بفضل تضحيات العراق، يفرض على هذه الدول دَيْناً مادياً ومعنوياً للعراق يوازي حجم تضحياته في ظل قيادة صدّام.
- إن ما انتهت الحرب العراقية – الإيرانية إليه (أي رد المدّ الخميني) قد دفع بالعراق (لا بسوريا ولا بمصر) إلى مركز القيادة في العالم العربي، في الفترة التي تلت الحرب الباردة.
- وهذه النتيجة تفرض على العراق واجب ردع إسرائيل (وهو الواجب الذي تخلت الدول العربية الأخرى عنه)؛ فالعراق وحده قادر وعازم على القيام بهذا الواجب، بسبب تطور بنيته التحتية الصناعية والتقنية خلال الحرب.
- ولأن العراق قد تحمل مسؤوليات جديدة لردع إسرائيل، فإن الدول الغربية الكبرى، وخصوصاً الولايات المتحدة وبريطانيا، قد وضعت لنفسها، ومنذ وقف إطلاق النار مع إيران، جدولاً سرياً للعمل يرمي إلى رفض صدارة العراق بعد وقف إطلاق النار، وإلى مجابته بقوة موازية.
- ومن أجل التصدي لهذه المخططات الغربية، والحفاظ على قوة الردعم العراقية ضد الثأر الإيراني والمغامرة الإسرائيلية، يحتاج العراق وبصورة طارئة إلى إعادة بناء اقتصاده، وإلى تطوير بنيته التحتية الصناعة والتقنية.
- وهذا الأمر لا يتم إلاّ إذا نمّى العراق دَخْله النفطي، وتم شطب ديونه لدول الخليج التي خلّفتها الحرب، وأصبح العراق المستفيد الأكبر من "خطة مارشال" عربية تموّلها هذه الدول التي تدين بوجودها ذاته للعراق ولصدّام.
والله، سبحانه وتعالى، لم ينعم علينا للأسف بنعمة قراءة المستقبل من منظور الفحص عن الماضي. لكن في إمكاننا أن نرى بوضوح تام مكوّنات مزاج صدّام في الفترة التي تلت وقف إطلاق النار. ولا يلزمنا لا القراءة بين السطور ولا اللجوء إلى الاستنتاج، إذ تكفي كلماته بالذات للدلالة على الأمر، وخصوصاً في الخطاب الذي ألقاه في جلسة مغلقة لمؤتمر القمة أواخر أيار/مايو، وبحضور جميع أقرانه من الزعماء العرب. ولدى عرض الماضي، من المذهل كيف أن مزاج صدّام الملآن بالتفجر المحتمع غاب عن بال جميع الحاضرين في تلك الجلسة، وذلك على الرغم من التلميحات المتكررة التي وردت على لسانه وقتئذٍ، وعلى الرغم من اللائحة المتعاظمة من الشكاوى المزعومة ضد الكويت التي فصّلها وزير خارجيته في الأسابيع اللاحقة.
ماذا تضمنت هذه اللائحة؟ قد نقسّم هذه الشكاوى (من دون الحكم على صدقها وجدواها)، استناداً إلى الفترات التي عُرضت فيها، إلى ثلاث مجموعات.
هناك، أولاً، الشكاوى التي برزت إلى السطح قبل الحرب العراقية – الإيرانية، وهي في الغالب ثلاث:
(1) الزعم التاريخي أن الكويت كانت إحدى النواحي الإدارية من ولاية البصرة العراقية في زمن العثمانيين، وأنها لذلك جزء لا يتجزأ من العراق الحديث. وقد فُصّل هذا الزعم أول مرة في إبّان الحكم الملكي في العراق، أواخر الثلاثينات (قبل أن تصبح الكويت غنية بالنفط ومستقلة)، على لسان الملك غازي (1935 – 1939) ذي النزعة القومية المتوهجة. وبَعَثَها من جديد الرئيس العراقي "الثوري" عبد الكريم قاسم (1958 – 1963) بُعيد إلغاء الحماية البريطانية على الكويت، وإعلان استقلال الكويت في حزيران/يونيو 1961. ولم يرتدع عن اجتياح الكويت حينئذٍ إلا بسبب نزول قوات بريطانية في الكويت، وإلى درجة أقل بسبب معارضة جامعة الدول العربية. وقد قاطع العراق الجامعة العربية من سنة 1961 حتى سقوط قاسم سنة 1963، احجاجاً على موقف الجامعة. أمّا عودة العراق إلى الجامعة فقد واكبها اعتراف العراق باستقلال الكويت في خريف تلك السنة، وانتماء الكويت إلى عضوية الأمم المتحدة. وأما مطالبة العراق التاريخية بالكويت، فقد ظلت معلّقة في الواقع حتى 2 آب/أغسطس 1990. وفي تلك الآونة، أي في شباط/فبراير 1980، أعلن صدّام حسين ميثاقه القومي، وكانت إحدى دعائمه الرئيسية "رفض اللجوء إلى القوة من طرف أية دولة عربية ضد أية دولة عربية أخرى، وتسوية كل النزاعات بين العرب بالوسائل السلمية."
(2) رسم الحدود الدولية بين العراق والكويت. في سنة 1973، اجتازت كتيبة من الجنود العراقيين الحدود، واحتلت موقعاً عسكرياً كويتياً. وفيما بعد، أخلى الجنود هذا الموقع إلا أن تلك الحادثة جاءت دليلاً على استمرارية مشكلة رسم الحدود.
(3) موضوع الوصول إلى الخليج. العراق بلد تبلغ مستحته نحو 170,000 ميل مربع، لكنه بلا شواطىء تقريباً، إذ إن شاطئه على الخليج هو بطول 15 ميلاً فقط. أمّا ثغره الأكبر، وهو مدينة البصرة التي تقع إلى جنوب ملتقى الفرات ودجلة مباشرة، فيرتبط بالخليج بنهر وحيد (هو شط العرب)، هو أيضاً الحدود بين العراق وإيران. وإلى الغرب من شط العرب، وبدءاً من أقاصي الشمال الشرقي للكويت وعلى الحدود مع العراق، هناك مصب من الخليج يقع في اتجاه البصرة لكنه يقصر عنها بنحو عشرة أميال. وتقع قبالة هذا المصب مباشرة، وفي الخليج، جزيرتان كويتيّتان هما وَرْبَه وبوبيان. والحدود بين العراق والكويت تقع بين وَرْبَه ومدخل هذا المصب، وهي في بعض المواقع أقل من ميل واحد من الشاطىء العراقي.
وكان رسم الحدود بين العراق وإيران على شط العرب من أهم أسباب الصراع بين البلدين. واستناداً إلى اتفاقية الجزائر سنة 1975، قَبِل العراق بالخط الأدنى، أي بالخط الوسط بين الضفتين، حدوداً دولية. وهذه الاتفاقية هي التي رفضها العراق حين اجتاح إيران، ثم عاد فقبل بها بعد اجتياح الكويت.
لكن النظام البعثي في العراق كان يضغط على الكويت لاستئجار جزيرتي وِرْبَه وبوبيان الخاليتين من السكان حتى قبل اتفاقية الجزائر، وذلك منذ سنة 1973. أمّا القبول بالخط الأوسط سنة 1975، وبناء قاعدة بحرية في أم القصر في تلك الأثناء على مدخل المصب الغربي قبالة وَرْبِه، فقد زادا في اهتمام العراق بهذه الجزيرة وبجارتها بوبيان. وكانت الخطة العراقية تقضي بتوسيع هذا المصب الغربي وتطويره، كي يتصل شمالاً بالبصرة ويمنح العراق بالتالي منفذاً بديلاً إلى الخليج، وبالإضافة إلى شط العرب.
ثانياً، هناك الشكاوى التي نجمت خلال الحرب العراقية – الإيرانية.
وعلى الرغم من أن الشكاوى التي ذكرناها أعلاه ظلت معلّقة في الواقع بسبب انحصار الاهتمام العراقي بإيران، فإنها وفي الوقت ذاته كانت تتفاعل وتزداد حدة في الخفاء. فقد أصبح موضوع الوصول إلى الخليج أكثر إلحاحاً بسبب عدم وضوح نتائج الأعمال الحربية آنئذ، وانسداد شط العرب بدماء الحرب وتراكم الطمي. وللسبب ذاته، ازداد اهتمام العراق ببديل من شط العرب في الفترة التي تلي الحرب، ولذا بجزيرتي وَرْبَه وبوبيان. وفي الوقت ذاته، رأى العراق في الأعمال التي قامت الكويت بها على طول الحدود (بناء مواقع حدودية جديدة، مثلاً، وتجهيزات نفطية) خلال الحرب العراقية – الإيرانية، محاولةً كويتية من جانب واحد لتعزيز موقفها حيال موضوع رسم الحدود. كذلك، نجم موضوع جديد آخر للشكوى يتعلق برأي العراق، أو بزعمه أن الكويت كانت خلال الحرب مع إيران تضخ أكثر من حصتها من النفط من حقل الرميلة المشترك الجاري من الشمال إلى الجنوب، والذي يتقاطع في أطرافه الجنوبية مع الحدود إلى الداخل من الخليج.
ثالثاً، الشكاوى التي قُدّمت في الفترة بين وقف إطلاق النار مع إيران في آب/ أغسطس 1988 وبين مؤتمر جدة الذي عُقد عشية الاجتياح في 2 آب/أغسطس. وكان هناك سبع شكاوى رئيسية، كلها جديدة:
(1) الإنتاج الزائد عن حصص منظمة "أوبك". في الجلسة المغلقة لرؤساء الدول التي أشرنا إليها، والتي عُقدت في اليوم الأخير لقمة بغداد في 30 أيار/مايو 1990، زعم صدّام أن بعض دول الخليج بدأ، ومنذ أوائل سنة 1990، بضخ النفط بمقدار يفوق حصص منظمة "أوبك". وبلغ الأمر حداً جعل معه سعر النفط يتدهور في بعض الأحيان إلى 7 دولارات للبرميل، على الرغم من أن السعر المتفق عليه كان 18 دولاراً للبرميل. وزعم أن كل هبوط بقيمة دولار واحد في سعر البرميل يعني خسار للعراق مقدارها مليار دولار سنوياً. وقال بالتحديد أن مثل هذا الفائض في الإنتاج، ونظراً إلى حالة العراق الاقتصادية، هو "عمل حربي"؛ فالحرب، كما قال، قد تُشن بالوسائل الحربية مثل "إرسال الجيوش عبر الحدود وأعمال التخريب وقتل البشر ودعم الانقلابات، لكن الحرب قد تُشن أيضاً بالوسائل الاقتصادية... وما يحدث اليوم هو حرب ضد العراق." وقال أنه يأمل بأن تُصحَّح الأوضاع، ولمّح إلى أن سعر النفط قد يُرفع إلى 25 دولاراً للبرميل. وكانت تلك هي الشكوى الوحيدة التي أعلنتها صدّام في تلك الجلسة أمام أقرانه، بمن فيهم أمير الكويت. ولم يشر إلى أي بلد عربي بالاسم، لكنه أوضح أنه قد وصل إلى نقطة اللارجوع حين قال: "أقولها لكن بصراحة إننا وصلنا إلى مرحلة لا يمكن لنا من بعجها أن نتعرض لأي ضغط." ومع ذلك، بدا أنه أبقى الباب مفتوحاً أمام تسوية أخويّة، حين عبّر عن أمله بأن تصل مؤتمرات القمة في المستقبل إلى الاتفاق. وبعد ذلك التاريخ بستة أساسبيع، أرسل وزير خارجيته طارق عزيز مذكرة من 37 صفحة، ومؤرخة في 15 تموز/يوليو، إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية، يُسمي في وبالتحديد الكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة، على أنهما الدولتان "المذنبتان" في قضية الإفراط في الإنتاج النفطي. وفي المذكرة ذاتها، فصّل عزيز الشكاوى الست الأخرى الجديدة؛
(2) دَيْن العراق للكويت. لم يحدد عزيز قيمة هذا الدين، لكنه قال إن هذا "العون" من الكويت للعراق خلال حربه مع إيران يجب ألا يُعتبر "دَيْنا" ويجب إلغاؤه؛
(3) النفط المسحوب من حقل الرميلة كما قيل. زعم عزيز أن الكويب ضخّت، في الفترة بين سنة 1988 وسنة 1990، ما قيمته 2,4 مليار دولار من النفط الذي هو ملك للعراق من هذا الحقل. وقال إن الكويت تدين للعراق بهذا المال؛
(4) "حرب" الكويت على العراق. زعم أن الضخ الكويتي للنفط "العراقي" من حقل الرميلة كان "بمثابة عمل حربي". أمّا محاولتها "التسبب بالانهيار الاقتصادي" للعراق (من خلال الإفراط في الضخ)، فهي "ليست أقل من عمل حربي." وكان هذا الزعم بمثابة تغيير طفيف في الموضوع الذي طرحه صدام في 30 أيار/مايو؛
(5) تآمر الكويت المزعوم مع دول أجنبية. زعم عزيز أن الإفراط في الإنتاج، من جانب الكويت ودولة الإمارات، يتزامن مع محاولات تقوم دول أجنبية بها للحط من شأن العراق بسبب ازدياد دعمه للقضية الفلسطينية ودوره كرادع لإسرائيل؛
(6) "خطة مارشال" عربية للعراق. زعم العراق أن من حقه أن يتطلّع نحو دول الخليج للبدء بـ"خطة مارشال" تهدف إلى مساعدته للنهوض من الحرب، كما فعلت الولايات المتحدة في أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية؛
(7) تَرَدُّد الكويت المزعوم حيال التفاوض مع العراق. زعم عزيز أن العراق بلّغ الكويت، في حزيران/يونيو 1988 – أي حتى قبل وقف إطلاق النار مع إيران وغداة الانتصار العراقي في الفاو – استعداده للتفاوض من أجل تسوية جميع المشكلات العالقة بطريقة أخوية، إلا أن الكويت تلكأت. ولم تأت هذه المذكرة إلى ذكر العربية السعودية. كما أن عزيز لم يطرح لا موضوع مطالب العراق التاريخية في الكويت، ولا موضوع الوصول إلى الخليج وموضوع الجزيرتين. لكنه أشار إلى "موضوع رسم الحدود الذي يبقى عالقاً على الرغم من كل المحاولات لتسويته في الستينات والسبعينات." ويبدو أن عزيز كان مثل رئيسه يبغي إبقاء الباب مفتوحاً أمام التسوية. وعبّر عن أمله بأن تدرس القمة المقبلة في القاهرة هذا النزاع.
إن سرد هذه اللائحة من الشكاوى العراقية ضد الكويت لا يعني الموافقة عليها، أو أنه ليس للكويت ردّ مقنع على كل منها. فالعراق كان عليه أن يتلزم، من خلال عضويته في جامعة الدول العربية (وفي الأمم المتحدة)، ومن خلال اعترافه باستقلال الكويت سنة 1963، احترام هذا الاستقلال. وكان عليه أن يلتزم أيضاً معايير الأمة العربية التي كان يدعي الدفاع عنها، وأن يلتزم بالدرجة ذاتها الميثاق القومي لسنة 1980 الذي أعلنه الرئيس العراقي نفسه، والذي يدعو فيه إلى عدم اللجوء إلى أعمال العنف ضد أي بلد عربي. ولم يكن وارداً قط توقع أن تلجأ الكوتي إلى الانتحار بقبولها الرضوخ لغيابها التام عن الخريطة السياسية. فقد كان من حقها التام أن تدافع عن وحدة أراضيها وسياساتها الاقتصادية والنفطية والمالية ضد جميع محاولات الضغط عليها. لكن هذه اللائحة من الشكاوى العراقية تدل علة وجود تاريخ طويل، يمتد عبر عقود ثلاثة من الزمن، من التوتر في العلاقات العراقية – الكويتية، والذي هو بمثابة مقدمة طويلة لاجتياح الثاني من آب/ أغسطس. كما أن هذه اللائحة تدل على تصاعد جديد في التوتر بين البلدين عقب وقف إطلاق النار مع إيران، وذلك قبل عامين من اجتياح الكويت.
وإذا رجعنا إلى الأسباب الخاصة في المقاربة التي أوردها تايلر، نجد أن من المبكّر جداً أن نقوّم مغزى الخطوات التي اتخذتها الأطراف المختلفة في انزلاقها نحو الثاني من آب/ أغسطس في إثر وقف إطلاق النار مع إيران. ومهما تكن نتائج أزمة الخليج، فإن الباحثين سيناقشون ولعدة أجيال مقبلة هذا المسلسل من الأسباب أو ذاك، تماماً كما يناقشون إلى يومنا الحاضر مغزى الأحداث التي سبقت اندلاع الحرب العاليمة الأولى في ساراجيفو سنة 1914 وما تلاها. متى قرر صدّام شن الحرب على الكويت؟ هل حدث ذلك قبل قمة بغداد في أيار/ مايو 1990، أم لدى اختتامها؟ قبل اجتماع مع مبارك في 24 تموز/ يوليو، أم بعده؟ قبل اجتماعه مع السفيرة الأميركية إبريل غلاسبي في 25 تموز/يوليو، أم بعده؟ قبل مؤتمر جدة أواخر تموز/يوليو، أم بعده؟ ما الذي حدث بالضبط في جدة؟ هل كان صدّام ينوي منذ البداية البقاء في الكويت؟ هل كان ينوي اجتياح السعودية؟ هل نصدّق رواية حسني مبارك للأحداث بين 2 و 7 آب/أغسطس، أو رواية الملك حسين؟ ماذا كانت فرص النجاح لو لم يندد مبارك علناً بالاجتياح العراقي في 3 آب/أغسطس، وذلك عشية اجتماع مؤتمر وزراء الخارجية العرب؟ كيف نوزع اللوم على ما قام به أو لم يقم به من أعمال كل من اللاعبين العراقيين، والعرب من غير العراقيين، وغير العرب؟ هل احتكر صدّام بمفرده "الحماقة البشرية"؟
ثمة أمران ثابتان: فشلت الدول العربية في اكتشفا الاحتمال الشديد الانفجار والكامن في التجاور بين لائحة الشكاوى العراقية وبين "مزاج" صدّام بعد وقف إطلاق النار سنة 1988. وحتى لو اكتشفتها فعلاً، فقد فشلت (نتيجة الأسباب "العميقة" المشار إليها أعلاه) في نزع فتيل الأزمة التي كانت تتفاعل بسرعة. وثمة سبب "خاص" يبرز إلى العيان، وهو عناد "السائق" صدّام؛ وهو عناد بدأ يتعاظم في المناخ الخالي كلياً من الحكمة الذي حش نفسه داخله، وهو من دون غيره المسؤول عن ذلك.
تأييد صدام
يبدو من المستغرب، نظراً إلى وحشية الاجتياح العراقي للكويت، أن صدّام قد حظي بتأييد عربي ليس باليسير. ولم يأت هذا التأييد من الحكّاك فحسب، بل أتى أيضاً من المثقفين والجماهير، على الرغم من أن هؤلاء المؤيدين دانوا في معظمهم الأعمال العدوانية الفعلية ضد الكويت.
وإذا خضنا في هذا الموضوع فليس ذلك لمجرد البحث عن أسباب تخفيفية، أو تبريرات، أو تفسيرات عقلانية. إذ مهما تكن الأسباب التي أوردتها السلطات العراقية لما قامت به من أعمال، ومهما تكن الدوافع عند الدول الغربية الكبرى في ردّات فعلها على تلك الأعمال، فإن الاجتياح العراقي للكويت، في التخطيط وفي التطبيق، يشكل خرقاً للقيم الإنسانية الرئيسية في التراث العربي الإسلامي، وللقيم المتفق عليها في تصرّفات الدول.
ولا يمكن لأحد أن يتغاضى عن العدوان الذي تعرضت الكويت له على يد جار عربي. فاجتياح الكويت نزع حق تقرير المصير في الكويت من أيدي من هم أصحاب هذا الحق بصورة طبيعية، أي شعب الكويت ذاته. وهذا الاجتياح يكرّس مبدأ القبول باستيلاء بلد على أرض بلد آخر وممتلكاته وأرزاقه، ويُنزل بالضعيف عذاب الاحتلال والتهجير، ويعلن على الملأ غَلَبة القوة على الحق.
إن اجتياح الكويت محفوف بالعواقب الوخيمة وبالكوارث. فهو يزيد في تشرذم البنيان الاجتماعي العربي، ويؤجج النزعة نحو الانعزالية والاستقطاب؛ إنه يؤخر فرص التكور والتقدم في العالم العربي، ويرفع معنويات أعدائه، ويلطخ سمعته في الخارج؛ إنه يبدّد إرث العالم العربي، ويصرف الأنظار عن التحديات الحقيقية التي تواجهه على الصعيدين الإقليمي والدولي، في فترة ما بعد الحرب الباردة. وإضافة إلى كل هذا وذاك، هناك الثمن المدفوع من عذابات البشر الذي دُفع حتى الآن، وهناك أيضاً الخسائر التي ستكون بحجم الكارثة في أرواح الناس إذا شب أي نزاع عسكري كبير.
ومع ذلك، فإن سبر موضوع التأييد الذي ناله صدّام أمر مشروع وضروري، إذا اردنا أن نفهم المدارك السياسية والنفسية القوية، والمشاعر التي ترددت أصداؤها عبر حدود العالم العربي بأسره. إنه لأمر مشروع وضروري لأن هذه المدارك والمشاعر هي جزء من الوضع القائم، ومن السهل على بعض العرب من أنصار الكاتب الهندي نايبول، أو على من يطمح إلى الوصول إلى مثل تلك المنزلة، أن يستهزىء ويفضح زيف هذا الوضع، وأن يتبارى في إيراد البراهين على جذوره اللاعقلانية، وكأن اللاعقلانية ليست متأصلة في الطبيعة البشرية ذاتها، عربية كانت أو غير عربية. إن مثل هذا الآراء الاستعلائية لن يفضي إلى اختفاء هذا الوضع القائم، ولن يسهّل المهمة الشاقة جداً في سبيل حصر هذا الوضع ضمن حدوده.
الحكومات العربية
ثمة نواح في مسألة تأييد صدام جديرة بالانتباه. إذا سردنا الحكومات حكومةً حكومةً، نجد أن الانقسام بينها هو بنسبة 50 – 5- تقريباً. فدول مجلس التعاون الخليجي تقف بثبات ضد صدام، كما هو منتظر، وهي تشمل العربية السعودية والكويت والبحرين وقطر ودولة الإمارات وعُمان. أما الدول العربية غير الخليجية، في التحالف المناهض لصدام، فهي مصر وسوريا والمغرب ولبنان وجيبوتي والصومال. ولعلنا نبالغ في الخيال إذا افترضنا [....] أن لبنان وجيبوتي والصومال تملك فعلاً حرية القرار بنفسها. أما الملك المغربي الحسن الثاني، فعلى الرغم من أنه أرسل كتيبتين (2200 جندي تقريباً) إلى السعودية، فهو قد أعرب عن أسفه لأن جامعة الدول العربية فشلت في تسوية النزاع، وهو يساند بقوة تسوية دبلوماسية عربية. وإذا كان ثمة من مغزى خلقي لموقف مصر المناهض لصدّام بقوة (ولو فقط لأن مصر هي أكثر الدول العربية سكاناً) فإن هذا الأمر، في أعين الكثيرين من العرب، قد أضحى باطلاً لأن مصر في نظرهم هي المستفيدة من كامب ديفيد على حساب الأراضي المحتلة الأخرى، وعلى حساب اعتمادها الشديد على المعونة الأميركية.
أما الحكومات التي هي خارج الحلف المناهض لصدّام، فتشمل الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية واليمن والسودان وليبيا وتونس والجزاءر وموريتانيا. وباستثناء ليبيا، فإن هذه الدول كافة بحاجة ماسة إلى القطع الأجنبي، ولا تنتفع ظاهرياً من البقاء خارج الحلف المناهض لصدّام، أو من استعداء الولايات المتحدة. وعلى الرغم من الإجراءات والعقوبات التي اتخذت ضد هذه الدول، فإنها ما زالت تقف خارج التحالف المناهض لصدّام، مع أنها وافقت على العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة. ومن اللافت للنظر، فيما يختص بالأردن وتونس والجزائر، أن الاتجاه نحو الديمقراطية في الحياة السياسية (وخصوصاً في الأردن) قد ذهب إلى أبعد مما هو عليه في باقي أرجاء العالم العربي. كذلك، فإن هذه الدول كان لها علاقات من الصداقة الوثيقة مع الولايات المتحدة في الماضي.
وفي إمكاننا أن نسبر مواقف الدول التي لم تنضم إلى الحلف المناهض لصدّام، من خلال القرارات التي اتخذت في اجتماعين لمجلس جامعة الدول العربية في القاهرة، خلال الأسبوع الذي تلا الثاني من آب/أغسطس، أي اجتماع وزراء الخارجية في 3 آب/أغسطس، ومؤتمر القمة العربي في 10 آب/أغسطس. فقد دان الاجتماع الأول بشدة اجتياح الكويت، وطالب بانسحاب فوري وغير مشروط للقوات العراقية، وبعقد قمة عربية للتوصل إلى تسوية يتم التفاوض بشأنها. والأمر الذي يلفت النظر هو أن هذا الاجتماع أعلن رفضه التارم للتدخل الأجنبي. وعلى الرغم من ذلك فقد تمنعت سبع دول، من مجموع واحدة وعشرين دولة أعضاء في الجامعة، من تبنّي هذه القرارات. ومن تلك الدول السبع، عبرت خمس منها عن تحفظاتها (اليمن، موريتنانيا، منظمة التحرير، السودان، الأردن). أما ليبيا، فقد تغيبت عن جلسة التصويت، بينما عارض العراق هذه القرارات. أما تصويت هذه الدول، باستثناء العراق، فقد عكس وإلى درجات متفاوتة علاقات هذه الدول بالعراق قبل الاجتياح، وبدول الخليج (وخصوصاً الكويت)، كما عكس الرأي العام فيها وإدراك زعمائها لحسنات "القضيّتين" العراقية والكويتية، وتقويم هؤلاء الزعماء لفعالية قرارات الثالث من آب/أغسطس من أجل نزع فتيل الأزمة. ويبدو أن هذا الأمر الأخير هو الذي كان، في العلن على الأقل، العنصر الغالب في أذهاب أولئك المعارضين. وكانت حجتهم الرئيسية أن من شأن التنديد الجماعي والرسمي بالعراق أن يحبط فرص التوصل بنجاح إلى تسوية عربية في القمة العربية المنتظرة، إذ أنه يلغي دور القمة المحتمع كوسيط في الأزمة.
وبين الثالث من آب/أغسطس وقمة العاشر منه، طلبت السعودية وغيرها من دول الخليج العون من الولايات المتحدة، وبدأت القوات الأميركية بالوصول إلى المنطقة. وكان مجلس الأمن، ومنذ الثاني من آب/أغسطس، قد ندد بالاجتياح العراقي وطالب بـ"انسحاب كامل وفوري وغير مشروط" (القرار رقم 660). وفي السادس والتاسع من آب/أغسطس، فرض مجلس الأمن عقوبات على العراق وأعلن أن ضم الكويت باطل وكأنه لم يكن، وذلك في القرارين 661 و662 على التوالي. وفي العاشر من آب/أغسطس، وافق مؤتمر القمة على قرارات اجتماع وزراء الخارجية في 3 آب/أغسطس، التي تندد بالعراق، ووافق أيضاً على قرارات مجلس الأمن الثلاثة. ودعا مؤتمر القمة إلى عودة الحكومة الشرعية إلى الكويت، كما أنه – وهذا أمر لافت للنظر – دعم الخطوات التي اتخذتها السعودية ودول الخليج في سبيل "الدفاع عن النفس" (أي طلبها لقوات أجنبية). كذلك وافق مؤتمر القمة على إرسال قوات عربية من أجل مساعدة دول الخليج في "درء العدوان الخارجي."
وفي هذا الاجتماع تراجع عدد الدول المؤيدة لهذه القرارات، من 14 دولة إلى 12 دولة من مجموع 21 دولة؛ إذ انضمت الجزائر وتونس إلى صفوف الدول السبع المعارضة سابقاً. ومن هذه الدول التسع، عبّر كل من الأردن وموريتانيا والسودان عن تحفظات جدية، وامتنعت الجزائر واليمن رسمياً، وصوتت المنظمة وليبيا والعراق ضد القرار، وتغيبت تونس. وكان موقف المعارضين هذا ينبع من الاعتبارات المشار إليها أعلاه، بالإضافة إلى القلق المتزايد من وصول قوات أجنبية إلى الخليج، وخصوصاً القوات الأميركية والبريطانية. وكانت التظاهرات المؤيدة لصدّام قد اندلعت في بعض الدول المعارضة (وفي الأردن خاصة)، حتى قبل وصول القوات الأجنبية، لكن هذه التظاهرات عمّت هذه الدول بأسرها عند العاشر من آب/أغسطس.
ولم يكن ضغط الرأي العام في هذه الدول هو وحده الذي أملى تصويتها في العاشر من آب/أغسطس؛ فقد كانت كلها قلقة فعلاً حيال خطر المجابهة العسكرية بين التحالف بقيادة الولايات المتحدة وبين العراق، وتخاف من نتائج هذه المجابهة عليها وعلى المنطقة ككل. وعلى المستوى الحكومي، لم تكن أية دولة من هذه الدول المعارضة تؤيد اجتياح الكويت، أو انتهاك المبادىء الخلقية والقانونية الذي يستتبعه مثلُ هذا الاجتياح. فقد دانت هذه الدول بأجمعها هذا الاجتياح في اجتماعات شخصية مع صدّام، وفي بيانات رسمية متكررة من طرف واحد، لكنها امتنعت من التنديد الجماعي الرسمي. وكان هذا التنديد بالاجتياح، مع ما واكبه من قلق حيال الوجود العسكري الأجنبي، واضحاً أيضاً على المستوى الشعبي الديني. وعلى سبيل المثال، فإن الشيخ عباس المدني زعيم الجبهة الإسلامية الجزائرية، التي ساهمت آراؤها في في تصويت الحكومة الجزائرية في قمة العاشر من آب/أغسطس، لم يتردد في شجب الاجتياح ووَصْفِه – مستخدماً لفظة من القرآن الكريم – بأنه "بغي"، لكنه عبّر مع ذلك عن مخاوفه من أن يستغل الغرب هذه الأزمة لمآربه الخاصة.[1]
وقد بلغت الحيرة الخلقية والسياسية من جراء اجتياح الكويت أشدها وأكثرها إيلاماًً، لدى الأردن ومنظمة التحرير. وكان الملك حسين، وعلى امتدام عقود من الزمن، وعلى حسبا شعبيته ومكانته في الداخل، يؤيد التسوية السلمية للنزاع العربي – الإسرائيلي. وفي الوقت ذاته، كان الملك أشد المؤيدي العرب للعراق، وأعلاهم صوتاً في حربه مع الخميني، على الرغم من تزايد الخصومة في هذا الشأن مع سوريا. وقد ذهبت به الحماسة لقضية محاربة الخميني إلى الحد الذي بلغه في قمة عمان سنة 1987، إذ بدا في رأي معظم الفلسطينيين والعالم الخارجي أنه تناسى مصير الأراضي المحتلة، وساهم بالتالي وبطريقة عَرَضية في اندلاع الانتفاضة. أمّا العلاقات الاقتصادية واللوجستية التي قامت بين الأردن والعراق في إبّان أعوام الحرب الثمانية مع إيران، فقد جعلته يقترب إلى صدّام حسين شخصياً، كما جعلت الأردن يعتمد بصورة مطّردة على العراق اقتصادياً. وفي تلك الآونة، ذهبت جميع محاولاته السلمية لإيجاد تسوية مع إسرائيل أدراج الرياح، وكان جزاؤه من إسرائيل حديث شمير أن "الأردن هو فلسطين"، ومن الولايات المتحدة معارضة الكونغرس لدعم الأردن عسكرياً واقتصادياً. وفي الوقت ذاته، جهد الملك بلا كلل لـ "إعادة" مصر إلى الخظيرة العربية، لكن علاقاته الوثيقة بالعراق كانت، وحتى في الفترة التي سبقت الأزمة، قد أصابت علاقاته بدول الخليج بتوتر شديد.
أما موقف المنظمة، فقد كان أقل مدعاة للرضى. فالمبادىء التي خرقها صدّام في اجتياحه الكويت، هي نفسها المبادىء التي تستمد القضية الفلسطينية منها قوتها الخلقية. وصورة "الإرهابي" التي جاهد عرفات للتنصل منها، تعززت من جراء ارتباطه الوثيق بصدّام بعد اجتياح الأخير للكويت. ونظرياً، فإن موقف الأمم المتحدة بقيادة الولايات المتحدة ضد العدوان والاحتلال، هو بالضبط الظاهرة التي كان على المنظمة أن تسعى بلا كلل لكسبها.
وكان عرفات، وحتى قبل الأزمة، قج سمح لحركته بأن تتقرب من العراق، إلى أبعد من الحدود التي تسمح مصالحها بها في المدى البعيد. وبعد وقف إطلاق النار مع إيران، في آب/ أغسطس 1988، تودد صدّام لعرفات وكأنه عاشق متيم، مانحاً إياه التسهيلات والخدمات اللوجستية والدعم المالي والتصريحات في شأن ردع إسرائيل [....] ولم يكن في الإمكان، كما يبدو، مقاومة هذا الإغراء كله على الرغم من شطارة أبي عمار التكتية التي يضرب بها المثل. غير أن استسلامه لهذه الإغراءات قد يصبح أكبر خطأ استراتيجي اقترفه في حياته السياسية منذ تأسيس حركة فتح.
ولا ريب أن ثمة أسباباً تفسّر تصرف عرفات. فقد كان عليه، كما الحال مع زعماء الدول الأخرى المعارضة، أن يتعامل مع المشاعر الشعبية التي أثارتها أزمة الخليج. وخلال الأعوام التي سبقت الأزمة، كان قد أوصل علاقاته بالمتطرفين الفلسطينيين وبسوريا إلى أبعد حدود التوتر، من جرّاء استكشافه لأقصى محيط دائرة التنازلات لإسرائيل، آملاً بالوصول إلى حوار مع الولايات المتحدة. وما أن بدأ هذا الحوار حتى أصبح من الواضخ أن إدارة الرئيس بوش الجديدة، على الرغم من تأكيدات وزير الخارجية شولتس أن الحوار سيكون "جوهرياً"، مصممة على معاملة عرفات كأنه مجرم عُلِّقت عقوبته موقتاً، فمنعته من الحصول على سمة دخول لحضور الأمم المتحدة، وطاردت منظمة التحرير لإخراجها من هيئات الأمم المتحدة، ثم تجاهلته فترة ثمانية أشهر لتتحدث مع مصر عن خطة شمير الانتخابية من أجل إرضاء تل أبيب. وفي تلك الآونة، نجح عرفات في منع زعماء الانتفاضة من اللجوء إلى السلاح على الرغم من تصاعد وحشية الجيش الإسرائيلي والخطر المتفاقم من هجرة اليهود السوفيات؛ فكان جزاء كل هذا الاعتدال أن علّقت واشنطن الحوار بسبب غارة ضد إسرائيل خطط لها أبو العباس (وهو ليس من أنصاره).
وعلى الرغم من ذلك، فإن سياسة المنظمة منذ الاجتياح تبقى دون المطلوب بكثير. وقد نتفهم أن عرفات، كغيره من الزعماء العرب، شعر بأنه لا يستطيع الموافقة على قرارات جامعة الدول العربية في الثالث والعاشر من آب/أغسطس. لكننا قد لا نفهم السبب الذي من أجله لم يبتعد عن صدّام بعد اجتياح الكويت، وذلك من وجهة نظر المبدأ، ومن وجهة نظر المصالح البعيدة الأمد لحركته والقضية.
إن الحجة التي تطرحها الدول العربية الأخرى لتفسير عدم مشاركتها في التنديد الجماعي والرسمي، اي الحاجة إلى الحفاظ على دور الوسيط، هي أقل إقناعاً بالنسبة إلى المنظمة مما هي بالنسبة إلى الدول الأخرى. فالتأييد للقضية الفلسطينية في العالم العربي يعتمد على محافظة المنظمة على علاقات ودية بالدول العربية كافة. وحتى لو لم تكن الاعتبارات الخلقية موضع بحث (والعكس هو الصحيح)، فإن استعداء أكثر من نصف الدول العربية، وخصوصاً تلك التي مكّنت المنظمة من العمل على امتداد الربع الأخير من القرن، لا يخدم طبعاً المصالح الفلسطينية. ولا ريب أن عرفات قد تناسى عقيدة أساسية من عقائد حركة فتح منذ قيامها، وهي أن خدمة القضية الفلسطينية تقتضي إبعاد المنظمة عن الخلافات بين العرب. أمّا دور المنظمة كوسيط فلم يُحافظ عليه ولم يتعزز، كما دل على ذلك رفض دول الخليج لوساطة المنظمة. إن فشل المنظمة في الجهر بالتنديد بالاجتياح ولمصلحة الانسحاب العراقي علناً وتكراراً، استناداً إلى قرارات الأمم المتحدة، قد أصاب مصداقيتها السياسية ومكانتها الدولية بالضرر الفادح.
الدوافع على المستوى الشعبي
أمّا بالنسبة إلى التأييد الشعبي، فينبغي لنا في البدء أن نؤكد أن صدام لا يُنظر إليه على أنه عبد الناصر الجديد. ففي حين كانت المشاعر التي أثارها عبد الناصر هي، في الغالب الأعظم، مشاعر الحب والتقدير، فإن المشاعر التي يثيرها صدّام حتى في صفوف أنصاره من العرب هي الخوف. وبينما استقبل المثقفون والجماهير العربية تحقيق الوحدة بين مصر وسوريا تحت زعامة عبد الناصر في سنة 1958 بالفرح العارم، إذ لم يروا فيها غاية في حد ذاتها فحسب، بل رأوا فيها أيضاً نواة كيان عربي سياسي متعاظم، يصعب اليوم أن نجد الكثيرين من المتطوعين للعيش مواطنين في ظل نظام صدّام. ولا يُنظر إلى صدام أنه بسمارك آخر. فليس ثمة سوى قلة قليلة من العرب، في هذا اليوم والعصر، تعتقد أن الطريق نحو الوحدة العربية يمر من خلال العدوان على الكويت، أو ممن لا يزال يملك جذوة من الإيمان بقدرة البعث الذي يقوده صدّام في العراق على القيام بدور التوافق والانسجام في الشؤون العربية. إن التأييد العربي لصدّام، والذي لا يزال قائماً على الرغم من هذه الاعتبارات كلها، هو مؤشر على عمق الإحباط الشديد حيال الوضع العربي القائم السياسي واجتماعي والاقتصادي، وحيال سياسات الولايات المتحدة في المنطقة. وإذا كان هذا التأييد ينتشر عبر نطاق واسع هو في أحد أطرافه ذهني تحليلي، وفي طرفه الآخر يائس وعدمي، فإن القاسم المشترك الأصغر بين هذين القطبين هو التوق إلى التغيير، حتى لو حدث ذلك من خلال انتهاك صدام للوضع القائم (الستاتسكو).
وبكلام أدق، يبدو أن ثمة خمسة أسباب رئيسية، وراء هذا التأييد الكبير الذي أثاره صدّام.
هناك، أولاً، ردة الفعل الأميركية على الاجتياح في حماستها وحجمها والحجج المعلنة التي صدرت عنها، كما وفي قيادة وخلق مثل هذا التحالف ضد العراق. وأنه لمؤشر بائس إلى عمق هذا الانسلاخ بين قطاع واسع جداً في العالم العربي وبين الولايات المتحدة، إذ أن ردة الفعل الأميركية تسببت بحجب أية آراء سلبية تولدت من جراء عدوان صدام الذي هو السبب الأساسي. إن السبب من وراء ذلك هو ثمرة عقود عديدة من التدهور في مصداقية الولايات المتحدة الخلقية في نظر العرب، وهذا يعود في الغالب إلى سياستها حيال القضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي منذ سنة 1948.
الإنصاف، المساواة، عدم التحزّب؛ إنصاف الذي في ظل الاحتلال من المحتل، والضعيف من القوي؛ مناصرة مبدأ تقرير المصير، وقدسية قرارات مجلس الأمن، وحق عودة اللاجئين إلى ديارهم؛ السعي الحثيث طلباً للعدالة؛ مقاومة التعدي على الحدود الدولية، وضم الأراضي، والاستيلاء على أراضي الغير واستيطانها، وتهجير الأمم بالقوة واستبدالها بأخرى، كما ومقاومة الاستخفاف بالحقوق الإنسانية على شكل العقوبات الجماعية، وعمليات الطرد والقصف الكثيف للأهداف المدنية – هذه المبادىء وغيرها من مثيلاتها ليست مرتبطة، في الوعي العربي (ولا حتى لدى شعوب وحكام دول الخليج نفسها)، بسياسة الإدارة الأميركية والكونغرس في العالم العربي.
وهكذا، وخين تستشهد الولايات المتحدة فجأة، وفي الوقت ذاته، بكل هذه المبادىء وبنشاط وعزم غير معهودين، فإن ردة الفعل ليست فقط التشكيك العميق والغضب العارم والانفعالي حيال هذه العشوائية في الخيارات الخلقية، بل تتخذ أيضاً شكل الخوف العميق والشكوك حيال النيات المبيتة، وذلك على الرغم من المزايا الواضحة للقضية الكويتية.
ثانياً، ليس الأمر أن صدّام يبدو أنه "رون هود". فحين كان يمتلك أموالاً ضخفمة قبل حربه مع إيران، لم يكون معروفاً بالكرم تجاه إخوانه المحرومين. وفي المقابل، فإن نمط عيش الأسرة الحاكمة الكويتية والنخبة السياسية، لم يكن مفرطاً في الترف وفق مقاييس الخليج. كذلك، وعلى الرغم من تعليق المجلس النيابي سنة 1986، فإن الحياة السياسية في الكويت كانت تتمتع بمقدار من الحرية أكبر من معظم الدول العربية الأخرى، وكانت صحافتها مُلك أفراد، وكانت أكثر صراحة في كتاباتها الصحافية وفي تعليقات محرريها من أي بلد عربي آخر، ولربما باستثناء لبنان. أمّا نوعية بعض مؤسساتها العامة، كالمؤسسة الكويتية للبحث العلمي، فكانت ممتازة. وعلى مر الأعوام، وجد مئات الألوف من العرب، من ذوي الخبرات، عملاًَ نافعاً في القطاعين العام والخاص في الكويت. كما أن الكويت لم تكن تحجم عن بذل العون للدول التي كانت أقل حظاً منها. فالصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية (الذي أُنشىء سنة 1961) كان يمنح قروضاً بشروط مميزة (معدلات منخفضة من الفائدة، فترات سماح مريحة، استحقاقات دَيْن طويلة الأمد)، ومن دون شروط، لدول عربية وأخرى في العالم الثالث بحجوم مماثلة. وقد بلغ مجموع هذه القروض منذ سنة 1962 حتى سنة 1989، نحواً من 5,47 مليارات من الدولارات. وهذا المبلغ يضاف إلى العون الذي تمنحه الحكومة مباشرة إلى حكومة أخرى، والذي بلغ 12,6 مليار دولار في الفترة بين سنة 1974 وسنة 1987، بمعدل 900 مليون دولار سنوياً. وهذا العون الامتيازي فاق نسبة 7 في المائة من حاصل الناتج القومي في بعض السنوات، كما ظل يفوق كثيراً هدف الـ 0,7 في المائة من حاصل الناتج القومي الذي حددته الأمم المتحدة، كما تخطّى نسبة العون إلى حاصل الناتج القومي الذي بلغته أية دولة من دول العالم الصناعي.[2]
وعلى الرغم من ذلك، فإن السمة البارزة للوضع العربي الاقتصادي والاجتماعي القائم، هي انعدام التماثل بين جغرافيا الثروة وتوزيع السكان. وقد فتحت دول الخليج طبعاً أبوابها واسعاً أمام العمال العرب (وغير العرب) الوافدين إليها، من ذوي المهارة وغيرهم، الأمر الذي أدى إلى تحويلات نقدية مهمة إلى دول المنشأ. لكن هذا الأمر لن يغير الوضع القائم، وهو أن 8 في المائة من مجموع 200 مليون عربي يعيشون في دول النفط كانوا يملكون أكثر من 50 في المائة من الناتج القومي العام للعالم العربية، وأن مدخول سكان دول النفط الأصليين كان يتراوح بين 15,000 و 20,000 دولار للفرد الواحد، بينما كان المدخول الفردي لأغلبية الـ 200 مليون عربي أدنى من 1000 دولار. فعلى سبيل المثال، هناك مصر وسكانها 53 مليوناً (بمدخول 690 دولاراً)، والمغرب وسكانه 25 مليوناً (بمدخول 750 دولاراً)، والسودان وسكانه 24 مليوناً (بمدخول 310 دولارات)، واليمن وسكانها 9 ملايين (بمدخول 545 دولاراً).
وعلى الرغم من سجل الكويت، فهي كانت تمثل هذا الوضع القائم، وكان عمل صدّام يُرى بمثابة صعقة كهربائية لهذا الوضع قد تحثّ النظام على التوجه نحو مقدار أكبر من العدالة في التوزيع، وذلك بسبب إفلاس المؤسسات على المستوى العربي الشامل. لذا، فإن "التصويت" هنا لم يكن مؤيداً لصدّا أو معارضاً للكويت، بقدر ما كان يعارض الوضع الاجتماعي والاقتصادي القائم، وذلك على الرغم من المزايا التي تتمتع القضيّة الكويتية بها.
وفي الوقت ذاته، وإذا صح القول إن انعدام التوازن بين التوزيع الجغرافي للثروة وعدد السكان هو من خلق الله، ولهذا فهو لا يخضع للنقد والتهجم، فليس ثمة من تبرير مشابه للسياسة الاستثمارية للدول الغنية بالنفط التي تنحو نحو الغرب، والتي هي من صنع البشر. وحتى لو سلّمنا بأن عدم الاستقرار المحيط بأوضاع الاستثمار في العربية، ومنطق الاستثمار ذاته، يقتضيان سياسة استثمار تنحو نحو الدول الغربية الصناعية، فإن الحجة المقابلة تشير إلى انعدام التوازن بين الاستثمار في العالم العربي وفي خارجه، الأمر الذي يسبب – إلى حد ما – استمرار التخلف في الدول العربية التي ليس لها ثروة نفطية.
وهناك بعد آخر لكراهي الوضع الاقتصادي والاجتماعي القائم، وهو ذلك الذي ينجم عن فشل الدول المستثمرة، كما يبدو، في الحصول على معاملة سياسية بالمثل ضمن حدود مقبولة، وخصوصاً من الولايات المتحدة، لقاء "الخدمات" التي تقدمها هذه الدول إليها، إنْ بإبقاء أسعار النفط على مستوياتها المنخفضة، أو بتمويل العجز المالي الأميركي، أو بدعم الدولار، أو بالمساهمة في حيوية القطاعين الخاص والعام في الولايات المتحدة.
ولا تكمن المشكلة فقط في عجم وجود أية مبادلة سياسية منظورة، بل يبدو أن الدول المستثمرة رضخت لمستويات غير لائقة من الإهانات حيال موضوعات ذات أهمية حيوية للعالم العربي، على أيدي إدارات رئاسية ومجالس نواب أميركية متعاقبة. وعلى سبيل المثال، استخدما الولايات المتحدة حق القيتو 33 مرة ضد قرارات صادرة عن مجلس الأمن، في الفترة بين سنة 1972 وسنة 1990، وهي قرارات تندد بالأعمال الإسرائيلية في المناطق المحتلة، وفي لبنان.
من هنا، قد ندرك أن المخاوف من أن ردة الفعل الأميركية حيال اجتياح الكويت تنبع في الأساس من عزم الولايات المتحدة على الإبقاء على الوضع القائم الذي فيه مصلحتها. وهذه المخاوف، مهما تبلغ حدّتها، لا تقتضي بالضرورة اللجوء إلى تفسيرات مستمدة من حالات مرضية من التشكيك لها جذور عميقة في التراث العربي الإسلامي. من هنا، كذلك، ينبع هذا التصويت الذي ليس في مصلحة صدّام ولا ضد الكويت، بل هو ضد هذا الوضع الاجتماعي الاقتصادي القائم بأبعاده كلها، على الرغم من المزايا التي تتمتع القضية الكويتية بها.
ثالثاً، ليس الأمر أن صدّام يبدو في عيون الناس أنه صلاح الدين الأيوبي. فقد كان صلاح الدين مثالاً للمروءة والصفح والرحمة، وهذه صفات لا يمكن لأحد أن ينسبها إلى صدّام. ولن نشهد من جديد فتحاً جديداً للقدس، على غرار الفتح الأيوبي. ليس ثمة من حل عسكري للقضية الفلسطينية، ولا مكان لصالح الدين في العصر النووي، ولا مجال لوجود صلاح الدين في مواجهة مع إسرائيل متخمة بالسلاح النووري؛ فهي تملك، استناداً إلى المؤسسة الدولية للدراسات الاستراتيجية في لندن، ما لا يقل عن مائة قنبلة ذرية.
لكن العرب بأجمعهم، بمن فيهم عرب دول الخليج، كانوا قد ملّوا وضجروا من جُبن الزعماء العرب أجمعين حيال التهويلات والتهديدات الصادرة عن أمثال بيغن وشمير وإيتان وشارون في إسرائيل. وقَلَّ من يعتقد أن إسرائيل ستأتي إلى طاولة المفاوضات إلاّ إذا أدركت أن ثمة مقداراً ما من الردع المتبادل بينها وبين العالم العربي. ولم يزل العالم العربي يسعى للوصول إلى مثل هذا الردع منذ سنة 1948، وخصوصاً في مجابهة التزام أميركي بالمحافظة على تفوق إسرائيل الاستراتيجي على أية مجموعة من الدول العربية.
إن السعي للوصول إلى مثل هذا الردع قد أصبح أكثر إلحاحاً في الأعوام الأخيرة، وذلك بسبب تضحيات الانتفاضة وآلامها، وتعزيز نزعة التطرف في إسرائيل، وإبعاد معادلة "الأرض في مقابل السلام" عن الخطاب السياسي السائد، ورفض مبدأ تقرير المصير للفلسطينيين، وإعادة الاعتبار إلى أمثال شارون، والاستيطان المتواصل في الأراضي المحتلة، وتعاظم مقول طرد الفلسطينيين الجماعي ("ترانسفير")، ومعادلة "الأردن هو فلسطين". وقد اكتسب السعي للوصول إلى مثل هذا التوازن في الردع زخكاً من جراء موقف واشنطن المتسامح حيال خطة شمير الانتخابية، ومن إقدام واشنطن على تعليق حوارها مع المنظمة، وفوق كل هذا وذاك من التناغم (ولو عن غير قصد) بين واشنطن وإسرائيل في وضع حد لحصص هجرة اليهود إلى الولايات المتحدة، وفي تحويل هذا السيل البشري من المهاجرين اليهود السوفياتي نحو شواطىء البحر الأبيض المتوسط الشرقية. وهذا التطور الأخير، إذا ما وضعناه إزاء شعار شمير، أي "إسرائيل كبرى لاستيعاب شعب كبير"، وإزلء ما تكتنزه الذاكرة العربية عن الماضي غير البعيد، وقد ولّد شعوراً مبرراً من أن هذه الهجرة الجديدة الهائلة ستجلب في طياتها ما جلبته هجرات سابقة، وستكون بمثابة المقدمة لسيطرة إسرائيلية على المنطقة تفوق حتى ما كان قائماً من قبل.
لذا، فإن الكثيرين من العرب يرون أنه إذا كان من الضروري أن ينتصب إنسان، ولو كان على مثال صدّام وقسوته، ليطرح نوعاً من أنواع الردع في وجه إسرائيل، فليكن. من هنا تبرز الشكوك، والتي ليست تماماً من نسيج الخيال، في أن الحديث عن تدمير البنية التحتية التقنية والصناعية في العراق يهدف في الواقع إلى الالتفاف حول مثل هذه النتيجة بالذات، ويهدف أيضاً إلى إدامة احتكار إسرائيل للأسلحة النووية ومكانتها كقوة عظمى في الشرق الأوسط.
رابعاً، يعتقد الكثيرون من العرب أن قضية العراق ضد الكويت لا تخلو من بعض المزايا. وهذا طبعاً لا يبرر الاجتياح العراقي ونهب الكويت وشطبها من الخريطة السياسية، لكنها قضية كانت جديرة بالاهتمام الجدي من جانب دول الخليج، قبل الاجتياح وبعده.
خامساً، إن "خطة السلام" التي أعلنها صدّام في 12 آب/أغسطس، والتي تستند إلى مبدأ الترابط، أي الانسحاب المتزامن لجميع القوات المحتلة، إنْ كانت عراقية (من الكويت وإيران) أو سورية (من لبنان) أو إسرائيلية (من الأراضي الفلسطينية المحتلة والجنوب اللبناني والجولان)، هي خطة معقولة في نظر الكثيرين داخل الوطن العربي وخارجه. لكنها على الشكل الذي طرحها صدّام، وهي تفترض مبدأ القبول بانسحابات أخرى تتزامن مع الانسحاب العراقي من الكويت، فإن لا حظّ لها في النجاح مطلقاً. أمّا إذا أُعيد صوغها وتضمنت مبدأ الانسحابات المتتابعة على الجبهات الأخرى، وذلك بعد انسحابه هو من الكويت، فهي تحظى بإمكانات خلاّقة كبيرة لنزع فتيل أزمة الخليج ذاتها، وللشروع فيما يسمى "النظام الجديد" في العالم العربي فترة ما بعد الأزمة. إن مجرد طرح هذه الخطة قد أوجد انطباعاً عميقاً وإيجابياً لدى الرأي العام العربي (باستثناء دول الخليج) لأن هذه الخطة، ومهما تكن دوافع صدّام التكتية، قد أدرجت تلك النزاعات الإقليمية الأخرى، وخصوصاً القضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي، في جدول أعمال العالم، بعد أن تم إبعادها عنه منذ زمن بعيد. وحتى الآن، فالاتحاد السوفياتي وفرنسا ليسا الدولتين الوحيدتين اللتين تتكلمان بصراحة في الربط المتتابع، بل حتى الولايات المتحدة وبريطانيا قد لمّحتا إلى هذا الأمر.
والرفض المطلق الذي نجده عند البعض لأي ربط بين أزمة الخليج والصراع العربي – الإسرائيلي، لا يعدو كونه ضرباً من الحماقة. فحتى قبل أن يعلن صدّام خطته، كانت ردة الفعل الأميركية على أزمة الخليج قد ولّدت، في حد ذاتها وتلقائياً، ربطاً عاطفياً وخلقياً وعقلانياً انعكس تأييداً عربياً لصدّام. وإذ جعل صدّام مبدأ الربط جزءاً لا يتجزأ من خطته، فقد ضمن أيضاً أن هذا المبدأ سيصبح جزءاً من الخطاب السياسي والدبلوماسي بشأن تسوية الأزمة. وفي الوقت ذاته، فإن التحالف الاستراتجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل قد أوجد، حتماً، ربطاً بين أزمة الخليج والصراع العربي – الإسرائيلي مهما تعاظم أو تضائل الدور الإسرائيلي في هذه الأزمة. فالاعتراضات الإسرائيلية على صفقة الأسلحة مع السعودية بعد نشوب الأزمة، والهبة الأميركية على شكل معونة عسكرية بقيمة 700 مليون دولار إلى إسرائيل، للتعويض من صفقة الأسلحة مع السعودية، والحملة المنسجمة التي قامت بها الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل ضد قدرة العراق النووية، وإشراك إسرائيل في المعلومات الواردة من الأقمار الصناعية الأميركية حيال الانتشار العراقي العسكري، والزيارات التي قام بها مؤخراً وزير سلاح الطيران الأميركي إلى إسرائيل، والإشارة التي وردت على لسان رئيس هيئة سلاح الطيران الأميركي المعزول، الجنرال مايكل دوغن، إلى أن إسرائيل قد شحنت إلى الولايات المتحدة صواريخ إسرائيلية من طراز "هاف ناب"، تملك رؤوساً بحجم طن واحد لاستخدامها ضد العراق في قاذفات ب – 52؛[3] كل هذه الأمور مؤشرات تؤكد هذا الربط. ومهما تعاظم الدور الإسرائيلي أو تضاءل، فإن الولايات المتحدة وإسرائيل هما "على الموجة الجيدة نفسها" بالنسبة إلى العراق، كما جاء في تصريح للرئيس بوش.[4] وفي نظر بعض المراقبين، فإن ما يبدو أنه دور إسرائيلي ضئيل ما هو، في الواقع، سوى التأهب الذي يشابه تأهب الوحش قبل انقضاضه على فريسته – والبرهان على ذلك هو الحديث الدائر في الأوساط العسكرية العليا في إسرائيل بشأن ضربة أولى ضد العراق؛[5] وهذا سيناريو قد لا تجده الولايات المتحدة مستبعداً تماماً في أوضاع معينة.
سيناريوات الحرب
إن السيناريوات المختلفة التي نفحصها هنا تقسم إلى ثلاثة أقسام: (1) الفترة التي تسبق اندلاع الحرب؛ (2) فترة الأعمال العسكرية نفسها (هذا إذا اندلعت الحرب)؛ (3) الأجواء السائدة بعد الحرب. وسيستند التحليل إلى افتراضات وانطباعات مأخوذة من معلومات عن سيرة صدّام حسين، وتحليل دقيق لخطبه ومقالاته.
(1) يبدو أن استراتيجية صدّام المفضلة حتى اليوم، هي تفادي أي استفزاز عسكري للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة (ونشير إليه باسم "التحالف"). وفي الوقت ذاته، تقضي هذه الاستراتيجية بأن يصمد أطول مدة ممكنة في وجه العقوبات والتهديد بالحرب، آملاً بأن يفسّخ التحالف باللجوء إلى صفقات ثنائية أو محادثات أو مبادرات ودية حيال بعض الأطراف المنفردة في هذا التحالف، ومن خلال تعاظم المشاعر المعادية للحرب في صفوف الحكومات والرأي العام عند الشركاء في التحالف. إن الانطباع الذي يولّده هو أن يهيىء نفسه لفترة طويلة قد تمتد شهوراً عدة، وربما أعواماً (إذا كان في استطاعته أن ينجح في ذلك). ومن شأن خبرته من الحرب مع إيران أن تعزز عزمه على السير في هذا المنحى، على الرغم من الاختلافات الواضحة بين الحالتين. إلى متى يستطيع أن يسير في هذا الطريق؟ الجواب، طبعاً، يعتمد على ممدّخراته من الغذاء، وقدرته على إنتاج الغذاء، ومدى نجاحه في تفادي العقوبات، ومخزونه من قطع الغيار والمكوّنات الصناعية الدقيقة، ودرجة التماسك عند دول التحالف. والجواب يعتمد، أيضاً، على قدرته على الحفاظ على السيطرة والانضباط في الداخل، على الرغم من فقدان مداخيل النفط، وقدرته على تفادي الاغتيال وعلى سحق أية محاولات للانقلاب ضده. وبالنظر إلى سجلّه منذ وصوله إلى سدة الحكم الأولى سنة 1979، وإلى السقوف العليا جداً التي بلغتها المجتمعات العربية للصمود في ظل أوضاع العذاب الكبير (حالة لبنان مثلاً منذ سنة 1975، والفلسطينيين في الأراضي المحتلة منذ سنة 1967، والشعب العراقي نفسه خلال أعوام الحرب الثمانية مع إيران)، فإن إمكان ثباته على هذا المنحى كبير. وباختصار، فمن الممكن أن صبر الرئيس بوش هو الذي سينفد أولاً حيال هذا الوضع المجمد.
وفي هذه الآونة، هل يلجأ صدّام إلى حرب استنزاف خفيفة الأبعاد؟ هذا الأمر بعيد الاحتمال لأنه يعلم تماماً، بسبب دهائه، أنه إذا فعل ذلك فهو يقع في الشرك الذي نصبه بوش له.
هل من الممكن أن يشن ضربة وقائية ضد قوات التحالف، حين يقتنع بأن الولايات المتحدة على وشك تسديد ضربة أولى له؟ من المستبعد أنه يملك جهازاً متطوراً للرصد يمكّنه من التقاط إشارات تنم عن وقوع هجوم وشيك. وفي الوقت ذاته، من المرجح أنه – وبالنظر إلى ما يعلمه عن أنظمة الرصد المتطورة جداً التي يملكها التحالف (بواسطة الأقمار الصناعية وإلى ما هنالك) والتي استفاد هو نفسه منها خلال حربه مع إيران – يعلم أيضاً، ولا بد، أنه يستطيع تأهيل أنظمة القصف التي يملكها (وخصوصاً صواريخه) ضمن الوقت المطلوب. وإذا فعل ذلك فهو كمن يمنح التحالف، وبكل بساطة، التبرير اللازم لشن ضربته الوقائية الأولى.وفي الوقت ذاته، من الممكن جداً أنه يفضّل ألا يعرض مدرّعاته للقتال في العراء (وهو أمر لا بد من أن يقوم به إذا شن هجوماً) نظراً إلى التفوق الجوي لدى التحالف.
وباختصار، من المرجح إن صدّام قد اختار النمط الدفاعي، حتى لو تعرض لخطر تلقي الضربة الأولى.
هل من الممكن أن ينسحب من الكويت قبل اندلاع المعارك، لعلمه الأكيد أنه سيهاجَم إذا لم يفعل ذلك، يبدو أنه لم يصل حتى الويم إلى هذا الحد من التيقن. ولعل مرد ذلك إلى تقدويمه لميزان القوى على الأرض. فبعد أن توقفت عملية تبديل الجنود الأميركيين، وبعد تعزيز القوة العسكرية الأميركية مؤخراً بحيث تصبح جاهزة في كانون الثاني/يناير، فإن تقويمه لقدرة التحالف على الأرض قد يتغيّر. وإذا أفرج عن جميع الرهائن قبل الموعد النهائي المحدد في 15 كانون الثاني/يناير، فقد يعني ذلك أنه في صدد إعادة تقويم مماثل على الرغم من أن قرار بتعزيز الجبهة الكويتية، والذي أعلنه في 19 تشرين الثاني/نوفمبر، قد يعني أنه لا يزال يعتقد أن في إمكانه الحفاظ على قوة دفاعية رادعة على الأرض. ومع ذلك، فإن إعلان الإفراج عن الرهائن، والذي يصحبه تخطيط نفسي يرمي إلى اتقاء ضربة أولى من جانب التحالف، يشير إلى أنه قد بدأ يعتقد أن التحالف قادر، بل مستعد لتسديد الضربة الأولى بعد 15 كانون الثاني/يناير.
لكن إذا تيقن أن التحالف سيوجه الضربة الأولى، فهل يسنحب من دون شروط و"طوعاً" ومن طرف واحد؟ وهل ينسحب كلياً من الكويت؟ إذا لجأنا إلى الاستبصار، فالجواب الذي نختاره للسؤالين معاً هو الجواب السلبي، وخصوصاً بعد أن وُجِّه إليه الآن إنذار أخير على صورة الموعد النهائي في 15 كانون الثاني/يناير. وما يساند هذا الرأي ليس اعتبارات حفظ ماء الوجه (على الرغم من أهميتها) فحسب، بل أيضاً لأن صدام لم يعلم يقيناً أن انسحابه سيكون آخر "التنازلات" التي عليه أن يقدمها، ولأنه يُضعف موقعه العسكري إذا ما تخلّى عن مواقع حصينة للغاية، الأمر الذي قد يعرّض قواته للهجوم إذا استمر التحالف في تسديد ضربة أولى له على الرغم من انسحابه. وفي الوقت ذاته، كلما ازداد الحديث عن إطاحته وعن تدمير بنية العراق التحتية، تقلّصت دوافعه إلى الانسحاب، حتى لو كان يرغب في ذلك. (وليس من المستحيل طبعاً أن مثل هذه التهديدات يهدف بالضبط إلى التسبب بردة الفعل هذه).
(2) إذا وجّه التحالف الضربة الأولى، فمن المرجح أن يرد صدّام علة جبهتين: ضد قوات التحالف، وضد إسرائيل أيضاً. ومن شأن هجومه على إسرائيل أن يضاعف حجم الهجوم على العراق، لكنه يأمل بأن يتصَهْيَن النزاع فوراً، الأمر الذي يقوّض موقف شركاء التحالف من العرب وغيرهم، ويجعل الحرب حرباً بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة، وبين العرب والمسلمين من جهة أخرى، أي حرباً ليست بشأن الكويت بل بشأن فلسطين.
لكن الحرب قد لا تنشب، بالضرورة، من جراء ضربة أولى يسددها التحالف أو صدّام. فإذا اقتنعت إسرائيل بأن بوش يماطل "على نحو غير ضروري" أو أنه، ولأي سبب ما، يبتعد عن خيار الحرب، فقد تقرر أن السبيل الوحيد لإرغام بوش على الحرب هو أن تسدد هي نفسها ضربة تساعد في بلورة الأمور وتسريعها. وإذا لم يسارع بوش إلى طمأنة صدّام، وهو أمر مستبعد، إلى أن التحالف غير متورط في الأمر (وهو تأكيد لا يقبل صدّام به في كل حال)، فصدّام في الحالة هذه أيضاً سيرد على الجبهتين معاً. إن حافز إسرائيل على دخول حرب كهذه هو وجود هذا التحالف الضخم المناهض لصدّام، والذي تنضم جحافله إليها في القضاء على صدّام وعلى قوته العسكرية والصناعية، وهي فرصة فريدة لا يمكن تفويتها، وقد لا تتكرر مثل هذا الشكل المغري.
أما قدرة صدّام على تسديد الضربة الثانية، فإلة اي حد قد تتأثر من جراء ضربة أولى على يد التحالف؟ وما الوقت المطلوب لذلك؟ وماذا يتبقى من قدرة صدّام على توجيه ضربة ثانية؟ واين سيوجه هذه الضربة؟ وما مدى الدمار الذي ستلحقه، وبمن؟ وما هي مكوّنات الأسلحة البيولوجية والكيماوية التي في إمكانه أن يستخدمها؟
من المستحيل معرفة هذه الأمور معرفة يقينية، حتى لو تم تدمير قدرة صدام على توجيه ضربة ثانية خلال أيام، أو حتى خلال ساعات محدودة. والأمر الذي يصعب تقويمه أكثر من كل هذا وذاك، وهو معرفة مكوّنات ما تبقى من قدرته وكيفية استعماله لها استعمالاً فعّالاً. والأهم، حتى من هذا هو تقويم عدد الضحايا الأبرياء في صفوف العراقيين ودول التحالف العربية وإسرائيل، من رجال ونساء وأطفال، ومدى تأثير هذه الأعداد من القتلى في شركاء التحالف وفي الرأي العام العالمي إجمالاً.
إن ضربة التحالف الأولى ضد أنظمة القصف التابعة لصدّام قد تلاقي نجاحاً باهراً ضمن فترة زمنية قصيرة نسبياً، وقد لا توقع إلا عدداً قليلاً نسبياً من الضحايا لدى مختلف الأطراف. لكن الأمر قد يختلف. وحتى لو حدث ذلك وأصبح العراق ذاته يرزح تحت وطأة الهجمات، فقد يلجأ صدّام إلى الخيار الانتحاري، فيدعو قواته وشعبه إلى القتال حتى النهاية دفاعاً عن الوطن. وهذا قد يعني أن التحالف سيضطر إلى ملاحقة قواته في الكويت، وجنوب العراق، ولربما أيضاً في وسط العراق. وإذا تم تدمير أو إنهاك أنظمة القصف التابعة لصدام (أي طائراته وصواريخه)، فقد يوجّه التحالف قوته النارية صوب قوات صدام البرية (الدبابات، والصواريخ قصيرة المدى، والمدفعية) في الكويت وجنوب العراق، بالإضافة إلى المنشآت الصناعية والاقتصادية في العراق ذاته. وبالنظر إلى الحاجة إلى الحفاظ على أرواح الأميركيين وغيرهم من قوات التحالف، فقد ينتظر التحالف حتى يدمر ما فيه الكفاية من قوات صدّام البرية قبل القيام بمحاولة مباشرة لإخراج تلك القوات من الكويت. وستجري طبعاً محاولات، في الوقت ذاته، للالتفاف حول القوات العراقية البرية في الكويت، من خلال اقتحامات التفافية بالمدرعات وإنزالات بحرية تهدف إلى قطع الكويت عن العراق، بالإضافة إلى قصف كثيف لهذه القوات في مواقعها في الكويت، ولخطوط اتصالاتها بالعراق.
كم من الوقت سيستغرق تدمير هذه القوات البرية؟ هل هو أسابيع؟ هل هو شهر، أو شهران، أو ثلاثة أشهر، أو أربعة أشهر؟ إذا شن التحالف حرباً في النصف الثاني من كانون الثاني/يناير، فهل ستنتهي الحرب قبل حلول رمضان، شهر الصيام المبارك الذي يبدأ أواسط آذار/مارس؟
إذا لم يسارع الإسرائيليون إلى توجيه ضربة أولى قبل التحالف، فإنهم سيشاركون في المعارك بعد هجوم صدّام عليهم، وعقب ضربة التحالف الأولى. لذا فمن المحتم أن تشارك إسرائيل إذا باشر بوش الحرب. وبكلام آخر، ليس ثمة من حرب في الخليج لا تتورط إسرائيل فيها.
هل يستغل الإسرائيليون هذه الفرصة التاريخية لحرب نظامية إقليمية واسعة النطاق، فيحققون حلمهم الذي طالما دغدغ خيالهم بطرد الشعب الفلسطيني جماعياً، من إسرائيل نفسها ومن الأراضي المحتلة؟ هل يجتاحون الأردن فيجعلون منه "فلسطينياً"، وذلك من أجل فسح المجال لاستيعاب الهجرة اليهودية الكثيفة بين "البحر المتوسط ونهر الأردط"، كما جاء على لسان شمير؟[6]
ما الدمار الذي تسببه، في تلك الآونة، الأسلحة البيولوجية والكيماوية؟ هل تتقدم قوات التحالف إلى داخل العراق؟ وإلى أي مدى؟ هل يلحق القصف المكثف من جانب إسرائيل والتحالف بالعتبات الشيعية المقدسة والواقعة بين الكويت والعراق؟ وكم من المدنيين الشيعة سيلاقون حتفهم؟ وهل تقف إيران جانباً تنظر إلى ما يجري؟ وماذا يحدث لو اعتمدت القوات العراقية، خلال انسحابها، أسلوباً قتالياً طويل الأجل في المؤخرة، ومارست سياسة الأرض المحروقة ضد المنشآت النفطية ومعامل تحلية المياه مع خزّانات الكلورين التابعة لها في الكويت، وأخلت الأرض فقط بعد تلويثها بمواد بيولوجية أو كيماوية؟ وما النتائج على البيئة من تدمير شامل لحقول النفط الكويتية، ومن قصف التحالف للمنشآت العراقية الكيماوية والبيولوجية والنووية (كما يُزعم)؟
وفي تلك الآونة، ماذا سيجل بالرأي العام في الدول العربية، وخصوصاً في دول التحالف العربي، أي مصر والمغرب وسوريا؟ وكا حجم السقف النفسي للاحتمال عند الزعماء العرب المشاركين في التحالف، إذا تصاعدت أعداد الضحايا بين المدنيين العراقيين والعرب؟ وما هي الأعمال الإرهابية التي ستُنفذ انتقاماً ضد الشركاء الغربيين والعرب، وما نتائجها؟ وكيف ستكون ردة الفعل لدى الرأي العام الأميركي والغربي عندما تبدأ جثث الجنود بالوصول إلى أوطانها، وتبدأ شاشات التلفزة عرض ما خلفه هذا الدمار الرهيب في صفوف المدنيين في الشرق الأوسط؟ وهل تبقى الأمم المتحدة بلا حراك؟
ولدى تأمل كل هذه الأمور وغيرها كثير، من الصعب أن لا تُستعاد إلى الذهن كلمات الشاعر وليم بتلر ييتس في قصيدة "الرجعة الثانية":
الأشياء تتبعثر؛ والمركز لا يستطيع الثبات؛ فالفوضى بعينها قد أُطلق لها العنان في الأرض؛ والمد الذي صبغه الدم القاتم يسري جارفاً، وفي كل مكان غاصت طقوس البراءة...
(3) إذا أجِلنا النظر فيما بعد الحرب، ماذا سيبقى من الكويت وبنيتها التحتية، وكم سيبقى من سكانها الأصليين (ناهيك بغيرهم)، وماذا سيبقى من ممتلكاتها؟
ومن الذي سيعيد العراق المفسخ إلى سابق عهده، وما مغزى دمار العراق فيما يختص بميزان القوى في المنطقة؟ وما هي القوات غير العراقية المطلوبة لاحتلال جزء من العراق أو كله، وإلى متى، وما النتائج المترتبة على ذلك؟ وما شكل العراق الجديد القائم من بين الأنقاض، وماذا سيشعر هؤلاء الملايين السبعة عشر من العراقيين وعلى امتداد أجيال في المستقبل حيال جيرانهم العرب، وخصوصاً في الكويت والسعودية؟ وما مدى المصداقية التي ستبقى لدى زعماء العرب المشاركين في التحالف حيال شعوبهم.؟ وحتى إذا مات صدّام، ما الذي يضمن أن يُدفن شبحهُ معه وألا يطارد هذا الشبحُ العلاقات العربية – الغربية والعلاقات الإسلامية – الغربية إلى القرن الحادي والعشرين؟ من الذي سيردع إسرائيل في نشوة نصرها وهي تزخر بمئات الألوف من المهاجرين السوفيات، ما يولّده ذلك من ضغظ على موارد محدودة من الأرض والماء؟ ماذ سيحل بعملية السلام وبالاستقرار الإقليمي، إذا تم فعلاً طرد الفلسطينيين المشار إليه أعلاه؟ كذلك، ماذا ستكون نتائج اختفاء الأردن كما نعرفه اليوم، كدولة معتدلة حاجزة تمتد عبر هذا المجال الوسيط الاستراتيجي، أو ماذا ستكون نتائج تحوله نحو الرايكالية؟ وما نتائج حرب كهذه على الرأي العام في أوساط الأصولية الإسلامية على امتداد الوطن العربي الذي سيبلغ عدد سكانه نحو 500 مليون نسمة في سنة 2025؟
قد يقول الرئيس بوش أن هذه الحرب هي بين العراق والعالم. وهذا صحيح؛ فثمة قلة قليلة من الناس، بمن فيهم العرب (وحتى بين أنصار صدّام)، تؤيد عدوانه على الكويت. وبالنسبة إلى هذا التنديد الذي يكاد يكون عالمياً بالعدوان، فالأمر فعلاً هو أن العالم يقف ضد صدّام. لكن إذا اندلعت الحرب، وخصوصاً إذا بدأها التحالف، وحتى لو لم تطن إسرائيل متورطة (وهو أمر مستحيل)، فلا يشكّن أحد في أن هذه الحرب سيُنظر إليها مستقبلاً، صواباً أو خطأ، على أنها حرب بين الولايات المتحدة والإسلام – أي حرب ستتردد أصداؤها بصفتها أم الحروب الصليبية في ذاكره العرب الجماهية للفترة نفسها التي ترددت فيها أصداء سابقتها. فما فرص قيام نظام عربي جديد في مثل هذه الأجواء؟
نحو تسوية سلمية
لعل الوقت لم يفت بعد للتفكير في أن اندلاع حرب شاملة سيمثّل الانتصار الأجوف للولايات المتحدة في هذا القرن ولحلفائها العرب والغربيين، وخصوصاً إذا أدت الحرب إلى دمار العراق.
فالحكمة والمصلحة، وحتى الأخلاف (بسبب النتائج التي لا يمكن توقعها لحرب شاملة) تقضي، على ما يبدو، أن تُستخدم الحكمة إلى أقصى حدودها للبحث عن حل وسط بين المواقف المعلنة لكل من صدّام حسين وجورج بوش.
إن مكوّنات تسوية سلمية لا بد من أن تشمل الأمور التالية:
- انسحاباً عراقياً من الكويت؛
- إعادة السيادة إلى الكويت؛
- عودة الحكومة الكويتية الشرعية؛
- تقرير المصير في الكويت على أساس أهلية الناخبين الكويتيين الأصليين للانتخاب؛
- إعادة الممتلكات الكويتية المسروقة؛
- انسحابات متتالية، لا متزامنة، على كل الجبهات في الشرق الأوسط؛
- الحفاظ على وحدة أراضي الدولة العراقية.
وفي الوقت ذاته، فإن الشكاوى العراقية جديرة بالاهتمام الجدي، كما هي المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي التي أبرزتها هذه الأزمة. وعلى الرغ من أن تزامن الانسحابات قد يكون أمراً غير قابل للتطبيق، فإنه لا يمكن لأي نظام عربي جديد أن يقوم من دون انسحابات متتالية، وخصوصاً انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة، والجنوب اللبناني، والجولان.
ومن أجل تحقيق الانسحاب العراقي من الكويت، يجب الحفاظ على جهوزية القوات المسلحة، وعلى التهديد بالحرب. كذلك، يجب الحفاظ على العقوبات وتعزيزها. إن تضافر هذه المكوّنات الثلاثة من شأنه، ولا ريب، أن يكون له تأثيره في صدّام إذا مُنح الوقت الكافي للقيام بذلك، ولو بسبب خسارة موارده النفطية فقط. فالعقوبات تستلزم في تعريفها بالذات، الوقت اللازم كي تصبح فعّالة. وفي عالم يعيش فترة ما بعد الحرب الباردة، وينحو نحو الأمن الجماعي، تشكل العقوبات البديل العقلاني من الحرب، والتخلي عنها بسبب فقدان الصبر أو قبل الأوان، وخصوصاً في حالة كالعراق حيث تبدو هذه العقوبات أنها ناجحة بصورة مثالية، أمر ينذر بالسوء للمستقبل.
لكن العقوبات، وما يواكبها من حشد عسكري ومن تهديدات بالحرب، على الرغم من أنها شروط ضرورية، ليست في حد ذاتها كافية من أجل إيجاد تسوية سلمية لأزمة الخليج. ففي الوقت ذاته، وبصورة مواكبة، يجب القيام بمبادرات دبلوماسية جدية وصادقة ومبتكرة. ومن الحمة بمكان إبقاء هذه المبادرات خارج الضوء، وتركيزها على الثلاثي الأهم في هذه الأزمة، أي بوش وصدام وفهد. وفي هذه العملية يجب أن يكون الحافز طرفاً خارجياً، له بعض المصداقية لدى هؤلاء الثلاثة. وليس من الضروري أن يعمل هذا الطرف الخارجي وحده، بل قد يعمل في البدء وراء الستار قبل انعقاد أية قمة عربية، "مصغّرة" أو موسعة. وثمة بعض الاحتمالات الخلاّقة في خطة ميتران ذات الأطوار الأربعة، وحتى في كلام بوش بشأن "الفُرص"، كما في استعداد صدام للتفاوض على ما يبدو. إن قرار الرئيس بوش إرسال وزير الخارجية بيكر إلى بغداد خطوة مبدعة في هذا الاتجاه، شرط ألا يتخلّى صدّام عن غريزته الكبيعية المتكورة جداً للبقاس في لحظة الحقيقة هذه. أما فيها يختص بالنظام العربي الجديد، فثمة احتمالات لا تقل عن تلك إبداعاً في فكرة جورج بول الداعية إلى "إجماع عالمي" (على غرار "الإجماع الأوروبي" في القرن التاسع عشر)، لمعالجة المشكلات المتداخلة في الشرق الأوسط عقب انسحاب العراق من الكويت.[7] وقد يعالج هذا الإجماع الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة، والسيطرة الإقليمية على الأسلحة غير التقليدية، وتقرير المصير للفلسطينيين، ومبيعات الأسلحة للمنطقة، وأسعار النفط، وسلاماً عربياً – إسرائيلياً شاملاً.
* * *
هناك اليوم أكثر من نسمة في الجو من نسمات حرب السويس (سنة 1956) لمن عاصر تلك الحرب. وهناك في الكلام المضخّم بشأن تهديد صدّام للاقتصاد العالمي، أصداء مألوفة جداً: هل نسينا الكلام عن عبد الناصر وعن "أصابعه التي تضغط على شريان التجارة العالمية"؟
إن النماذج المبنية على نظريات بافلوف وغيرها من المنهجيات، وكذلك الخطاب المأخوذ من كلام مؤسسات العقاب وصلاتها بالمجرمين، والإصرار على الاستسلام غير المشروط، كلها أمور تؤدي إلى عكس ما يُرتجة منها.
من المفيد أن نبدأ بنزع الطابع الشخصي عن الخلاف بين بوش وصدّام. فالسيناريو القائم أكثر تعقيداً من "شريف" في الغرب الأميركي ورجل شرير يقتربان أحدهما نحو الآخر خارج "الصالون" شاهرين مسدسيهما.
لا يمكن للمرء إلا أن يرحب بعودة النشاط إلى الأمم المتحدة في أزمة الخليج، وبالتقارب المتزايد بين واشنطن وموسكو، وبإحياء فكرة الأمن الجماعي، وبتركيز العالم على آلام الشرق الأوسط، وبالتزام الولايات المتحدة تحدي العدوان.
لكن لا يمكن لأي نظام جديد أن ينشأ في الشرق الأوسط على أنقاض كويت مدمرة، كما لا يمكن له أن يقوم على أنقاض العراق. فالعراق ليس صدّام فحسب.
إن سمعة العدالة لم تَعُق لا الامبراطورية الرومانية، ولا حتى الامبراطورية البريطانية، ولن تعوق أيضاً الولايات المتحدة في دورها العالمي الجديد. لكن لا يمكن لسمعة كهذه أن تُكتسب إذا فرضت واشنطن سُلّماً من الآلام بين ضحايا العدوان في عالم لا يُعالّج مصيره إلا بطريق عشوائية.
لنرسم، وبكل تأكيد، خطاً في الرمال على امتداد الحدود الدولية بين الكويت والعراق. ولنرسمه أيضاً في جنوب أفريقيا وكمبوديا، وفي كل مكان آخر يجب رسمه فيه. وفي الشرق الأوسط، دعنا نرسمه حتى حيث لا ينبت سوى شجرة الخروب المتواضعة، أي عبر هضاب الجنوب اللبناني والجولان، وعلى امتداد الخط الأخضر على سفوح جبال فلسطين.
[1] "الحياة"، 9/9/1990.
[2] Bader al-Humaidhi, “Twenty-Eight Years of Development Cooperation,” American-Arab Affairs, No. 31 (Winter 1989-90), p. 11.
[3] Washington Post, September 16, 1990.
[4] New York Times, November 9. 1990.
[5] Lally Weymouth, “Would Israel Strike First?” Washington Post, November 11, 1990.
[6] Washington Post, November 20, 1990.
[7] George Ball, “How to Resolve the Crisis,” New York Review of Books, December 6, 1990.