تسلسل الأحداث
الحرم الشريف، القدس، الاثنين 8 تشرين الأول/أكتوبر 1990
ملاحظات تمهيدية
• يستند هذا الوصف لتسلسل الأحداث التي وقعت في الحرم الشريف يوم الاثنين 8 تشرين الأول/أكتوبر 1990، إلى ما يزيد على خمسين مقابلة أجراها، خلال أربعة أيام، بين الثامن والحادي عشر من تشرين الأول/أكتوبر 1990، فريق يضم ثلاثة عشر عضواً من مؤسسة الحق. يضاف إلى هذا أن الوقائع المبيَّنة أدناه قد أكّدتها شهادات شهود آخرين.
• المعلومات المبيَّنة هي أدق ما استطاعت "الحق" جمعه عن تسلسل الأحداث. وقد بُذل كل جهد ممكن من أجل الحصول على بيِّنات موثوق بها ومؤكَّدة؛ وفي أحوال عدة، استبعدت "الحق" جملة تفاصيل لم تتوصل إلى التثبُّت منها تثبتاً ترضى عنه.
• اشتمل جمع الذين جرت مقابلتهم على مصلِّين من النساء والرجال، وموظفين من دائرة الأوقاف، وعلى نفر من غير المصلين الذين كانوا في منطقة الحرم، وعلى سكان المنازل الواقعة داخل أسوار الحرم، وآخرين من المقيمين في المنطقة المتاخمة للحرم، وعلى أطباء وممرضين ممن حضروا إلى المكان، وحراس الحرم، وسائقي سيارات الإسعاف، وعلى بعض الجرحى من الرجال والأطفال.
• أُجريت المقابلات في موقع الحادث والمنازل المتاخمة له، وفي مستشفى المقاصد ومستشفى أوغوستا فيكتوريا ومستشفى القديس يوسف ومكاتب الأوقاف.
• إن المنطقة المعنية التي تبلغ مساحتها ما يقارب 140 دونماً (الدونم يساوي ألف متر مربع) معروفة بالحرم. وهي تضم المسجد الأقصى (الذي يصلي فيه الرجال عادة)، وقبة الصخرة (حيث تصلي النساء عادة). وفيها فضلاً عن ذلك متحف، ومدارس، وعيادة طبية، ومخفر للشرطة، ومكتبة تحوي وثائق أرشيفية، ومكاتب، وجنائن مزروعة صنوبراً وزيتوناً. ولم تزل منطقة الحرم منذ سنة 1967 تحت إشراف دائرة الأوقاف التي تقع إدارتها العامة على مسافة قريبة من باب الناظر (المعروف أيضاً بباب المجلس، وبباب حبس العبيد). والمنطقة كلها مسوَّرة، ويمكن ولوجها من ثمانية أبواب تظل مفتوحة عادة. وتسيطر الشرطة الإسرائيلية سيطرة تامة على الأبواب كافة التي تحتفظ الأوقاف بمفاتيحها (باستثناء مفتاح باب المغاربة).
• يحرس كل باب عادة حارس فلسطيني واحد من الأوقاف، وشرطيان إسرائيليان. ويتمركز حرب الحدود الإسرائيليون (وحدة خاصة من الجيش ملحقة بقوات الشرطة تحت قيادة وزارة الشرطة في مبنى يعرف بـ"المحكمة" يقع بين باب السلسلة وباب المغاربة. ويستطيع حرس الحدود دخول منطقة الحرم متى شاؤوا. وهم يقومون بدوريات رتيبة داخل الحرم في مجموعات من 15 عنصراً في العادة، من دون استئذان الأوقاف.
• إن منطقة الحرم مفتوحة عادة أمام السياح وغير المصلين. وقد يطلب حرس الحدود من الأشخاص الداخلين عبر أبواب المدينة القديمة أن يبرزوا بطاقات هوياتهم للتحقق منها، ولا سيما أيام الجمعة وأيام أُخر يتوقع فيها توافد جموع غفيرة.
• يقع الحائط الغربي (حائط المبكى)، المقدس عند اليهود، بين باب السلسلة وباب المغاربة. وهناك فوق هذا الحائط حائط آخر يشرف على منطقة الحرم، ويبلغ ارتفاعه نحو عشرة أمتار وسماكته عدة أمتار، يستطيع حرس الحدود تنفيذ دوريات من أعلاه، ويقومون بذلك أحياناً.
• يمكن دخول المركبات حتى الساحة الأمامية للمسجد الأقصى، من باب الأسباط إلى الجزء الشرقي من الحرم.
خلفية أحداث يوم 8 تشرين الأول/أكتوبر 1990
• أُسست جماعة "المخلصين لجبل الهيكل" اليهودية المتطرفة سنة 1967، وغايتها الأولى هي بناء الهيكل الثالث في موقع الحرم. وقد أُذن لأفراد هذه الجماعة في دخول منطقة الحرم في الماضي خلال بعض الأعياد الدينية الخاصة، فأُدخلوا في مجموعات صغيرة لا يتجاوز عدد أفراد كل منها الشخصين برفقة الشرطة الإسرائيلية. وقد سعوا هذه السنة للحصول على إذن لوضع حجر الأساس لبناء الهيكل الثالث في منطقة الحرم الشريف، في 8 تشرين الأول/أكتوبر 1990. فمنعتهم الشرطة من وضع الحجر، وسمنحت لهم بالدخول بين الساعة الثامنة والساعة الحادية عشرة. وقد اشتكوا إلى محكمة العدل العليا [الإسرائيلية] طالبين إلغاء المنع الذي فرضته الشرطة. ثم انهم تراجعوا عن الشكوى فيما بعد. لكن ساد صفوف الجمهور المحتشد في الحرم اعتقاد أنهم سيحاولون الدخول وأن حرس الحدود سيؤازرهم في ذلك.
•وقد حثَّت دعوات خطباء المساجد والمدارس يوم الجمعة المسلمين على المجيء إلى الحرم في 8 تشرين الأول/أكتوبر، للدفاع عنه وللحؤول دون استيلاء جماعة المخلصين لجبل الهيكل عليه. فلبى النداء جمع غفير.
صبيحة الاثنين، 8 تشرين الأول/أكتوبر 1990:
من الفجر حتى الساعة الثامنة صباحاً
• لم يكن ثمة حواجز تفتيش على طريق رام الله – القدس حتى ما بعد الساعة 8 صباحاً، ولم يكن ثمة حواجز تفتيش على طريق بيت لحم – القدس.
• في الساعة الخامسة صباحاً، كان هناك 500 شخص في الحرم. وفي وقت صلاة الفجر، كان ثمة ما يقارب الألف من المصلين في منطقة الحرم.
• في الساعة السابعة والنصف تقريباً، دخلت دورية من حرس الحدود، قوامها نحو عشرة رجال، من باب المغاربة، وتفقدت المنطقة المحيطة بالباب والمراكز الأساسية هناك.
• ابتداء من الساعة الثامنة صباحاً، منع رجال الشرطة وحرس الحدود، المرابطون عند المداخل، السياح من دخول منطقة الحرم.
من الساعة الثامنة صباحاً حتى الساعة العاشرة صباحاً
• توافد المزيد من المصلين إلى الحرم خلال هذه الفترة، وقد أُذن لهم في الدخول من دون تفتيش.
• شدَّد الشيوخ الذين خطبوا في الجموع المحتشدة في منطقة الحرم على أهمية ضبط النفس مع تشديدهم على واجب المسلمين في حماية الأماكن المقدسة. وكانوا يجولون بين الناس ويحثُّونهم على الهدوء.
• وقد حاول مسؤولو الأوقاف، القلقون من إمكان وقوع المواجهة مع تصاعد التوتر بفعل تزايد احتشاد الناس وبفعل شعورهم بما اعتبروا أنه موقف استفزازي من قبل حرس الحدود المسلحين في محيط باب المغاربة، حاولوا خفض التوتر وتأمين الهدوء والانضباط. فكان مما فعلوه بصورة خاصة أن:
- أَدْخَلوا النساء كلهن إلى محيط قبة الصخرة، والرجال كلهم إلى الساحة الأمامية للمسجد الأقصى؛
- انتدبوا بعض الشبان لتشكيل سلسلة بشرية للحؤول دون أية مواجهة في محيط باب المغاربة؛
- اجتمعوا مرات عدة بضباط الأمن الإسرائيلي، ومن جملتهم ضابط يمني الأصل في حرس الحدود يدعى شلومو قتابي ("أبو تاج") من أجل التأكد من أن سلوك حرب الحدود الحاضرين لن يستفز الجموع. ورد شلومو قتابي في مرات مختلفة:
- "نحن اليوم لا نلعب ولا نمزح؛"
- "إذا رُميت الحجارة اليوم فسنغرق المكان بالدماء."
• وقد ألقى الشيخ حامد البيتاوي الخطبة الأخيرة قرابة الساعة العاشرة صباحاً. وبعد الخطبة أنشد صبي في الثانية عشرة من العمر تقريباً قصيدة لمدة خمس دقائق. وكان عدد الناس الحاضرين عندئذ يتراوح بين ثلاثة آلاف وخمسة آلاف. وهذا العدد شبيه بعدد من يجتمع للصلاة عادة أيام الجمعة عندما يكون دخول القدس مسموحاً به. لكن الأمر الذي كان فوق العادة في هذا الحشد هو ارتفاع حدَّة التوتر بفعل توقع حدوث مجابهة في أية لحظة بينهم – وهم الذين جاؤوا لحماية مقامهم المقدس – وبين أعضاء جماعة المخلصين لجبل الهيكل.
من الساعة العاشرة حتى الساعة العاشرة والدقيقة الخمسين صباحاً
• كانت الجموع تدرك أن أفراد جماعة المخلصين لجبل الهيكل قد مُنِعوا من دخول المنطقة بعد الساعة الحادية عشرة صباحاً. ولذلك، فإن أي أمر يمكن أن يحدث، فإنما سيحدث قبل الحادية عشرة. وكان التوتر يتصاعد دقيقة بعد دقيقة، إلا إنه لم يقع أي حادث عنف قبل العاشرة والنصف، على ما جاء في شهادة الشهود الذين تمت مقابلتهم.
• وبين العاشرة والنصف والحادية عشرة إلا عشر دقائق (والأرجح الحادية عشرة إلا خمس عشرة دقيقة) رُشِقَت النسوة اللاتي كن حول قبة الصخرة بقنابل الغاز المسيل للدموع. وقد استفسرت "الحق" كثيرين من الرجال والنساء عن التسلسل الدقيق للأحداث، وحصلت على روايات مختلفة فيما يتعلق بالجهة التي أُطلقت منها قنابل الغاز المسيل للدموع، وبما سبق إطلاقها. إلا إن واقعة إطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع على الحشد ثابتة لا يرقى الشك إليها. لذلك كان من الواضح أن من أمر بإطلاقها أو بادر من تلقاء نفسه إلى إطلاقها من دون أوامر، إنما فعل ذلك من دون أن يأخذ في الحسبان حال التوتر السائدة، ولا ما سيخلِّفه إطلاق هذه القنابل من وقع في هذه الأوضاع. ولم يُبذل أي مسعى فيما بعد من أجل تهدئة النفوس والحؤول دون ما عقب ذلك من عنف. وقد ثبت أن ما حدث كان مؤشراً لبداية الرد.
فقد روى الرجال المتجمهرون في باحة المسجد الأقصى الأمامية سماعهم صيحة "جاء الجيش، الله أكبر" آتية من جمع النسوة. ولا بد من الإشارة إلى أن الجموع التي تقاطرت لحماية الحرم الشريف كانت تتوقع وصول جماعة المخلصين لجبل الهيكل قبل الساعة الحادية عشرة صباحاً. ركض بعض الرجال شمالاً، في اتجاه النسوة، إلا أن عدداً كبيراً منهم تحرك شرقاً نحو حرس الحدود المتمركزين عند باب المغاربة والذين كان عددهم نحو 15 – 20. فلما رأى حرس الحدود الجموع تقترب منهم بدأوا يطلقون النار عليهم، فرد الرجال عليهم بالحجارة. ولم يحاول حرس الحدود إذاعة أي تحذير أو إطلاق طلقات تحذيرية في الهواء، أو استخدام أية وسيلة أخرى أو تكتيك لتهدئة الجموع والسيطرة عليهم من دون إصابتهم إصابات خطرة. بل إنهم أطلقوا النار على الجموع وأصابوا عشرين شخصاً على الأقل.
• على الرغم من عدد الإصابات هذا، فقد تقدمت الجموع وتراجع حرس الحدود عملياً إلى ما وراء باب المغاربة.
• ومع استمرار إطلاق النار، سُمِعَ مشايخ الأوقاف يخاطبون الجموع بمكبرات الصوت صائحين:
أدخلوا المسجد. الحرم موضع عبادة لا موضع قتال. ثمة قتلى وجرحى. أطلبوا الشرطة لتكلّمنا لأن مجزرة تحدث في المسجد الأقصى. لا تقفوا أمام الجنود. لا تواجهوا الجنود. لا تعرضوا أجسامكم للموت إنقاذاً لأرواحكم وللأقصى الشريف. ابتعدوا عن جدران الأقصى وعن منطقة المحكمة والحائط الغربي حيث يرابط الجنود. على الرجال كلهم أن يتوجهوا إلى الأقصى. وعلى النساء كلهن أن أن يتوجهن إلى قبة الصخرة.
كما أنهم خاطبوا حرب الحدود قائلين:
كفى. كفاكم إطلاق نار. كفوا عن إطلاق النار.
من الساعة الحادية عشرة إلا عشر دقائق
إلى الحادية عشرة والدقيقة العشرين صباحاً
• ركض الشبان إلى باب المغاربة وأغلقوه. عندئذ أُطلق الرصاص على الجموع من نوافذ الغرف (المغطاة بشبكة من الأسلاك التي تتيح الرؤية والتي برزت منها فوهات البنادق) في المبنى المعروف بـ"المحكمة". وقذف الجمع الحجارة على مصدر النار وعلى باب المغاربة، فوقع بعضها على ساحة الحائط الغربي التي تقع في الجانب الآخر من المبنى الفاصل. وفي الوقت نفسه كان حرس الحود، المرابطون خلف باب المغاربة، يطلقون كميات كبيرة من قنابل الغاز المسيل للدموع. كما أنهم أطلقوا النار من بندقية كانت سبطانتها قد دُفعت عبر الثقب الذي كان موجوداً أصلاً في باب المغاربة. ومن البيِّن أن عدداً غير قليل من القتلى والجرحى قد أُصيب خلال الدقائق العشرين التالية؛ أي بين الساعد الحادية عشرة والساعة الحادية عشرة والدقيقة العشرين. وكان عنصر واحد على الأقل من عناصر حرس الحدود الذين فتحوا النار في الحرم قد أعدّ بندقيته للرمي الآلي (الأوتوماتيكي).
• وصلت سيارة الإسعاف الأولى في الساعة الحادية عشرة تقريباً، وعبرت باب الأسد إلى باحة المسجد الأقصى الأمامية. والطبيب الذي ترجل منها ليسعف أحد الجرحى، أُصيب فوراً في ساقه. كما سُدِّد الرصاص إلى السيارة نفسها، وإلى ممرضة أخرى تدعى فاطمة عبد السلام أبو خضير والبالغة من العمر 35 عاماً، فأصيبت إصابة بالغة. وتم اعتقال ممرضة أخرى.
• جُرح محمد حسن أبو ريّالا البالغ من العمر 25 عاماً، وهو ممرض في مستشفى المقاصد، بينما كان يحاول مساعدة أحد الجرحى، ومُنع بذلك من تقديم العناية الطبية المطلوبة. ثم أن الشخص الذي كان محمد يحاول إسعافه توفي لاحقاً.
من الحادية عشرة والدقيقة العشرين
إلى الحادية عشرة والنصف صباحاً
• قرابة الساعة الحادية عشرة والدقيقة العشرين، اقتحمت باب المغاربة قوة معزِّزة ضمت بين 40 و50 عنصراً، راحوا يطاردون الجمع حتى المسجد الأقصى وما يجاوره، ويطلقون النار بغزارة خلال الدقائق الخمس عشرة اللاحقة. كان عدد كبير من الشبان يقوم بإخلاء الجرحى والقتلى إلى المستوصف القائم إلى الشمال من المجمَّع، وكذلك إلى مسجدي الأقصى والصخرة. وقد روى نفر غير قليل ممن شاركوا في إخلاء الجرحى أن حرس الحدود قد أمرهم بترك الجرحى، كما أن منهم من أصيب بالرصاص في أثناء محاولته إنقاذ الجرحى. وثمة روايات أخرى عن إقدام حرس الحدود على ضرب الجرحى. وقد حاول كثيرون من الرجال والنساء الاحتماء بالمسجدين، بينما حاول آخرون غيرهم النجاة بالفرار شرقاً إلى بساتين الزيتون. ثم وصلت عناصر أخرى من حرس الحدود في سيارتي جيب عبر باب الأسد، وترجلت في القسم الجنوبي من الحرم، وقامت بقتل اثنين على الأقل في تلك الناحية. وقد مُنع الذين حاولوا الفرار عبر أبواب الحرم من الخروج. وفي هذه اللحظة كان مندوبو الصليب الأحمر الدولي والأونروا قد حضروا.
• نحو الساعة الحادية عشرة والنصف، شوهدت طائرة هيليكوبتر صفراء اللون تحلق فوق منطقة الحرم. وفي الوقت نفسه، كان المسجد الأقصى وقبة الصخرة مكتظين بالقتلى والجرحى، وبمن كان يحاول النجاة من الرصاص ومن قنابل الغاز المسيل للدموع. جرت المفاوضات بين حرس الحدود ومسؤولي الأوقاف ومندوبي الصليب الأحمر الدولي والأونروا في شأن إجلاء الجموع عن المسجد الأقصى وعن قبة الصخرة. كان الجنود يطاردون الشبان الذين يحاولون الهرب. أما الذين كانوا خارج المسجدين، فقد حاولوا المغادرة فراراً من الاعتقال، وكان حرس الحدود يطاردونهم. وقد وردت تقارير عدة عن أعمال ضرب شديد. كما وقعت عدة حوادث إطلاق نار، وعدد كبير من الاعتقالات. وقد قدر شهود عيان الجنود الحاضرين في تلك اللحظة بنحو مائة جندي.
من الحادية عشرة والنصف صباحاً
إلى الثانية عشرة والنصف ظهراً
• قُيِّد الخروج، إذ كان الجنود المرابطون عند الأبواب يعتقلون من يحاول مغادرة منطقة الحرم. استطاع البعض المغادرة. وثمة دلائل على أن الناس حاولوا دخول المنطقة من أحد الأبواب على الأقل. وقد حاول الجنود منعهم لكنهم أخفقوا. استمر إخلاء الجرحى، متقطعاً. كما ظل إطلاق النار المتقطّع يسمع في المناطق المجاورة، لكن من دون الإبلاغ عن سقوط قتلى. وروى الشهود أن الضرب الشديد والاعتقال الواسع النطاق استمرّا على قدم وساق. وبذلك توصل حرس الحدود والشرطة إلى السيطرة على الوضع سيطرة تامة.
الإحصاءات النهائية
كان عدد القتلى 21، منهم امرأتان. وقد جُرح 150، منهم 6 – 8 في حالة الخطر. كما اعتُقل 150 داخل الحرم نحو 120 خارجه. وقد أُخرج الجميع من منطقة الحرم في الساعة الخامسة عصراً.
ملاحظات ختامية
1- أعلن "المخلصون لجبل الهيكل" عزمهم على دخول الحرم الشريف في 8 تشرين الأول/أكتوبر 1990، ودعوا اليهود علانية إلى مرافقتهم. ورداً على ما اعتُبر تهديداً لقداسة الحرم، صدرت دعوات عامة إلى المسلمين للتجمع والدفاع عن الحرم في اليوم نفسه.
2- لم يكن ثمة دعوات إلى رجم اليهود المصلّين عند الحائط الغربي، ولم يكن هناك هجمات متعمدة على المتعبدين هناك. بل على العكس من ذلك، كان هناك دعوات واضحة ومحددة إلى التهدئة وضبط النفس من مكبرات الصوت في الحرم. والحجارة التي تساقطت في المنطقة الواقعة أمام الحائط الغربي، كانت تستهدف حرس الحدود الموجودين في جواره وخارج باب المغاربة.
3- خلافاً لقواعد فتح النار الرسمية، لم يوجِّه حرس الحدود أية تحذيرات إلى الجموع المحتشدة في الحرم، لا شفهياً ولا بإطلاق الرصاص في الهواء.
4- ما إن بدأ حرس الحدود إطلاق النار، حتى مضوا في ذلك من دون أن يضبطوا أنفسهم. كما إنهم استعملوا الرمي الآلي (الأوتوماتيكي).
5- لم تقدم أية معونة لمحاولات إنقاذ أرواح الجرحى؛ بل قامت "قوات فرض النظام" بعرقلتها عرقلة جدية.
6- لم تقم "قوات فرض النظام" بأية محاولة للتنسيق مع مسؤولي الأوقاف الحاضرين من أجل تجنُّب المواجهة ومن أجل بسط الهدوء وضبط النفس. بل إن حرس الحدود صدّوا مساعي مسؤولي الأوقاف لإيجاد الطرائق الكفيلة بخفض التوتر.
7- لم تُتّخذ احتياطات إضافية للتأكد من احتواء الوضع القابل للانفجار، من دون اللجوء إلى العنف. ولم تستخدم مدافع الماء ودروع مكافحة الشغب البلاستيكية، التي كانت قد استخدمتها بلدية القدس قبلاً للسيطرة على التظاهرات، ولا وُضعت في تصرف "قوات فرض النظام" لا قبل أحداث الاثنين في 8 تشرين الأول/أكتوبر ولا في أثنائها.
8- لم يكن حرس الحدود ورجال الشرطة في وضع خطر على أرواحهم قط، ولذلك لم يكن لهم عذر في اللجوء إلى استعمال القوة القاتلة استعمالاً مفرطاً. ولئن كان شيء من هذا التهديد قد أُدرِك في وقت من الأوقات، فمن غير المعقول أن يسوِّغ استعمال القوة القاتلة لمدة متطاولة كالتي جاء وصفها فيما تقدم.
9- لم يكن دور المراقبين المنتدبين من قبل المنظمات العالمية، كاللجنة الدولية للصليب الأحمر، فاعلاً في كبح جماح حرس الحدود ورجال الشرطة.
10- ومع أن الانتفاضة الفلسطينية قد قاربت الثلاثة أعوام، فالظاهر أنه لم تستخلص أية عِبَر من المواجهات السابقة، ولم تُستخدم الطرائق البيِّنة لخفض التوتر باستعمال وسائل فاعلة وغير قاتلة للسيطرة على الجموع.
تعقيب "مؤسسة الحق" على الوقائع
أثار عدد وخطورة الإصابات التي أُنزلت بالمدنيين العزَّل قلقاً واسع النطاق من جراء استعمال القوة القاتلة استعمالاً مكثفاً لا مسوِّغ له. إلا إن استقصاء مؤسسة الحق عن خلفية المجزرة، مشفوعاً بما خلصت المؤسسة إليه من ترتيب تسلسلها وما ارتكب من انتهاكات محدَّدة لاتفاقية جنيف الرابعة في أثناء المجزرة، قد أظهر نمطاً مقلقاً من تضافر العلل، يشترك فيه عدد كبير من الحوادث السابقة التي تنطوي على استعمال القوة التعسفية ضد المدنيين الفلسطينيين، والتي جمعت "الحق" الوثائق عنها في الماضي القريب. وتشتمل الاتجاهات المألوفة التي أبرزتها هذه المقابلات على:
1- التقصير عن التأكد من أن الأوامر الصادرة إلى القوات العسكرية الإسرائيلية، ولا سيما في أوضاع التوتر التي تسببت هذه القوات بها، تتفق – على مستويات القيادة كافة، العليا منها والوسطى والمحلية – مع الحد الأدنى من مستلزمات القانون الدولي، ومع السياسة الإسرائيلية الرسمية المعلنة. إن الإسراف في الضرب وفتح النار على المدنيين مباشرة من مسافات قصيرة من دون مسوِّغ، وكذلك إطلاق النار على سيارات الإسعاف والأطباء والممرضين، لهي أمور على جانب عظيم من الخطورة.
يضاف إلى ذلك أن تسلسل الأحداث الذي جمعته "الحق" يدل على أن الانتشار التكتي لقوات حرس الحدود الأساسية وسلوكها قبل المجزرة وخلالها، يتسمان بسمة هجومية ويدعوان إلى التساؤل الجدي عن الأهداف والنيات الحقيقية التي يصدر من يتولون إمرة هذه القوات عنها.
2- التبني العلني من قبل أعضاء الحكومة الإسرائيلية لبرامج وسياسات معيَّنة غير قانونية، تُخضِع السكان الفلسطينيين والمؤسسات في الأراضي المحتلة لمزيد من أعمال التجريد من الملكية والتغييرات في أوضاعهم القانونية والديموغرافية، وتوسيع نطاق الإكراه الذي ترعاه الدولة؛ فقد نقل مؤخراً عن رئيس الحكومة شمير قوله: "لن يمر وقت طويل قبل أن تقوم ضاحية يهودية في الطّور (القدس الشرقية)." كما أن رئيس لجنة الداخلية في الكنيست، يَهُوشواع ماتسا (من الليكود) قد حثَّ "على طرد المشاغبين" الفلسطينيين. وقد عقب هذه التصريحات سلوك السلطات في فرض سيطرتها على مجمع الأقصى، والاستيلاء على مفاتيح المسجد، واعتماد تدابير جديدة في شأن دخول المنطقة، ومنع دخول المصلين منعاً باتاً يوم الثلاثاء، ومنع دخول رجال الدين المسيحيين يومي الأربعاء والخميس.
3- التغاضي والتقصير عن الإدانة الرسمية للدعوات العلنية إلى أعمال غير قانونية من قبل هيئات غير رسمية، كجماعة "المخلصين لجبل الهيكل"، بما في ذلك الدعوات المستمرة إلى وضع حجر الأساس للهيكل الثالث، على الرغم من حكم المحكمة العليا في أول تشرين الأول/أكتوبر .
4- التسليح الواسع النطاق للمدنيين الإسرائيليين، والتقصير عن كبح أعمالهم المخالفة للقانون؛ وقد سجلت "الحق" عدة جرائم ارتكبها المستوطنون يوم الاثنين الفائت، منها قذف حجارة مطلية بالصمغ الحارق على منازل السكان العرب في المدينة القديمة.. وقد اشتكى هؤلاء إلى الشرطة لكنهم أُهملوا. كما وردت أنباء عن إطلاق بعض المستوطنين النار على المارة من الفلسطينيين في شوارع المدينة القديمة. وقد سجلت حوادث إقدام المستوطنين على أعمال عنف كهذه، تسجيلاً دقيقاً في الماضي، ومثلها تقصير السلطات عن وضع حد لها.
5- أخيراً، رفض إسرائيل تطبيق اتفاقية جنيف كبند قانوني في الأراضي المحتلة. وقد أدى ذلك إلى حرمان الفلسطينيين من إمكان اللجوء إلى وسائل الحماية المحلية القابلة للتنفيذ والمنصوص عليها في الاتفاقية، وإلى حرمانهم أيضاً من اللجوء إلى المراجع الدولية مثل قوة الحماية.
وقد عبّرت مؤسسة الحق بانتظام عن مخاوفها من أن يؤدي تقصير المجتمع الدولي عن إجبار إسرائيل على التقيد بالقانون الدولي إلى تعريض أمن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة وسلامتهم للخطر. ففي هذه السنة وحدها، برزت شواهد بيِّنة عدة على الإسراف في استعمال القوة: في 26 نيسان/أبريل قُتل ثلاثة فلسطينيين وجرح 184 في مخيم جباليا في قطاع غزة؛ وفي الأسبوع الذي عقب مقتل سبعة عمال فلسطينيين على يد مسلح إسرائيلي في ريشون لتسيون في 20 أيار/مايو، قُتِل 15 آخرون على أيدي الجنود والمستوطنين وجرح ما يقارب 2000. وبعد كل حادثة، قامت مؤسسة الحق بتحذير المجتمع الدولي من خطر التغاضي عن سلوك إسرائيل وإطلاق يدها من دون رادع.
وتلفت مؤسسة الحق النظر إلى عجز الوكالات الإنسانية والمسؤولين القنصليين عن حماية السكان المدنيين من هذه التعديات. فقد كان بعض ممثلي اللجنة الدولية للصليب الأحمر والأونروا حاضراً في مكان المجزرة وقت حدوثها، بل أن الأحداث استمرت نحو ساعتين على مسمع من المندوبين القنصليين. ولم تبدر أية بادرة تدخل فاعل، وقد قُلِّص دور أمثال هذه المؤسسات إلى مستوى جمع المعلومات بعد وقوع الحدث.
في ضوء ما تقدم، تكرر مؤسسة الحق دعوتها إلى تأمين حماية دولية للسكان المدنيين. ونحن الآن أيضاً في صدد جمع ملف من البيِّنات الأولية على انتهاكات فادحة لاتفاقية جنيف الرابعة، ارتكبها أفراد حرس الحدود وغيرهم في المسجد الأقصى يوم 8 تشرين الأول/أكتوبر، وذلك من أجل تسهيل ملاحقة ومحاكمة هؤلاء الأفراد في المحافل المحلية أو الدولية. فجرائم الحرب، التي قد يُتهم بها الأفراد الذين كانون في منطقة الأقصى، مذكورة في البند 147 من اتفاقية جنيف الرابعة. وهي تشمل:
القتل المتعمد (أي القتل مع النية في القتل، وبغياب الدفاع المشروع كالدفاع عن النفس).
المعاملة غير الإنسانية
إنزال الألم الشديد أو العطب الخَطِر في الجسم أو الصحة عمداً.
إضافة إلى ذلك، تنوي مؤسسة الحق أن تقدم بوساطة المؤسسة الأم (أي لجنة الحقوقيين الدولية) إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تفاصيل إضافية عن المجزرة، كما تنوي لفت المجلس إلى ضرورة معالجة الأسباب الأساسية للتمادي في انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، ولا سيما تعطيل الآليات الدولية لتطبيق القوانين الإنسانية.
تقرير أعدته مؤسسة "الحق/ القانون من أجل الإنسان" – رام الله.